http://www.iraqiparty.com/ar/modules...rder=0&thold=0

التأصيل الشرعي لموقف الحزب الاسلامي العراقي من مسوّدة الدستور


-------------------------------------------------------




بسم الله الرحمن الرحيم

التأصيل الشرعي

لموقف الحزب الاسلامي العراقي من مسودة الدستور



مقدمة:



الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحق هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيراً وآتاه الحكمة ((ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)) [1] ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا محمد القائل: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها))( [2])، ورضوان الله على آله وأصحابه ومن سار على هديه الى يوم الدين .

أما بعد:

فإن السياسة فن الممكن كما يقول السياسيون وهي ادارة شؤون الناس. ومصالحهم مقدمة على ما سواها في أولويات القبول والرفض عند التعامل مع مخالف أو عدو والجلوس على طاولة فيها للأخذ والرد سجال وصولات وجولات، والنتائج هي التي تحدد من حقق مصلحة أو أدى الى مفسدة، هذا من جانب، ومن جانب آخر السياسة سفينة في أمواج متلاطمة تحتاج الى ربان هادئ صابر ثابت حازم جازم غير متردد أو مهزوم لا مجال عنده للعواطف والدموع والمناظر مآسيها ومحزناتها عندما يضرب الموج الجهات الأربع بل ربما ترفع أمواج الأعاصير سارية السفينة أو تزيد، والموقف الشجاع الثابت عندما يثبت الربان العاملين المفزعين من شدة الإعصار أو غبار المعركة إذا حمي الوطيس وولى بعضهم الأدبار متبعين فلول المهزومين.

والحزب الإسلامي العراقي يعمل في الساحة العراقية من أجل حل قضايا البلد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً من منظور إسلامي يستند الى الوحي الإلهي المتمثل بالكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة وعمله محكوم بنصوص هذين الاصلين مع مراعاة مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد الذي أقره العلماء، وذلك بتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وارتكاب أخف الضررين درءاً لأعظمهما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت ادناهما، وتدفع أعظم المصلحتين باحتمال أدناهما))( [3]) .

ومن القضايا المهمة التي تصدى لها الحزب الإسلامي هي مسألة الدستور الذي هو القانون الأساس والذي يتضمن القواعد الأساسية التي تقرر نظام الحكم في الدولة وسلطة الحكومة، وتوزيع هذه السلطة، وفيه ضوابط لاستخدام صلاحيات الدولة وتقييد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وينص على حماية الحريات العامة والحريات الخاصة للمواطنين... وتنقسم الدساتير الى قسمين: دساتير دائمة، ودساتير مؤقتة، وتنقسم الدساتير الدائمة من حيث تعديلها الى قسمين: دساتير مرنة، ودساتير جامدة، أما الدساتير الجامدة فهي الدساتير التي لا تعدّل ولا تلغى إلا بشروط وضوابط معقدة، ومسودة الدستور العراقي هي من هذا النوع من الدساتير الجامدة التي لا تعدل -إن كُتِبَ لها التعديل- إلا بعد ثمان سنوات من الآن، وكل من يتأمل في مسودة الدستور يرى ان مآله الى تمزيق العراق وتقسيمه الى أقاليم فضلاً عن اضرارها الكبير بمستقبله! ولا عجب في ذلك فقد كتب باسلوب يرضي المحتلين لذلك كان موقف الحزب الاسلامي حازماً في حملته الاعلامية ضده، وتهيئة كثير من العراقيين ليرفضوه وليصوّتوا بـ (لا) عند الاستفتاء عليه، ولكن الذي حدث ان اللجنة المكلفة بوضع مسودة الدستور اتصلت بالحزب الاسلامي قبل أربعة أيام من الاستفتاء، وأجرت محادثات معه بشأن الدستور، تمّ بموجبها ترحيل المسودة الى ما بعد الانتخابات التي ستجري في 15/12/2005، إذ بعد ذاك ستشكل لجنة للنظر في أمر مسودة الدستور، وستناقش بنوده –كلها- وتعدّل المواد التي تلحق أضراراً بالعراق وبمستقبله، وسيكون لممثلي السنة في الجمعية الوطنية فرصة حقيقية لإجراء التعديلات على مسودة الدستور بعد أربعة أشهر فقط من الآن، وقد وافق الحزب الاسلامي على ذلك من أجل جلب مصالح ودرء مفاسد أهمها:

المصالح:

1- أخذ الاحتياط اللازم لحالة تمرير الدستور بطريقة أو بأخرى وتمكين العراقيين من كتابة مسودة جديدة للدستور سواء صوّت العراقيون بـ (لا) أو (نعم) للدستور.

2- منح العراقيين فرصة مواتية من الوقت لقراءة كامل المسودة من جديد بهدف مراجعتها وإعادة كتابتها، بعد أن كانت القوى السنية تطالب بترحيل بعض المواد دون استجابة.

3- فتح باب الأمل في اخراج دستور يوافق الثوابت الاسلامية والوطنية.

4- المساهمة الى حد كبير في تخفيف حدة الاحتقان السياسي والطائفي المتزايد.

5- تحقيق مطلبنا ومطلب القوى السنية الرئيسي في ترحيل كل الملفات المختلف عليها الى الجمعية الوطنية القادمة وبأفضل ما يكون لحسمها في أجواء من التوازن بين كل مكونات الشعب العراقي حتى لا يؤدي اختلال الجمعية الوطنية الحالية الى اختلال دائمي في العراق كنتيجة حتمية لصياغة متعجلة لدستور غير متوازن.

6- تضييق فجوة الخلاف بين مكونات الشعب العراقي وذلك من خلال التعديلات التي أجريت على الفقرات التي تخص وحدة وعروبة العراق واستخدام اللغة العربية ومنح الجنسية العراقية وغيرها.

7- ان هذا الحدث هو عبارة عن مفتاح لحسم العديد من الملفات التي ما زالت عالقة، وهو بارقة لحوار وطني يصطف فيه الجميع تحت مظلة الوطن الواحد لا تهميش فيه ولا اقصاء ويتعايش فيه العراقيون على قدم المساواة في الحقوق والواجبات.

8- ان طرحنا لتعديلات تخدم العراقيين جميعاً ولا تنحصر بفئة معينة سيؤدي مع الوقت الى استقطاب كثير من الأطراف الوطنية الحريصة على وحدة الوطن والحفاظ على ثروته وهويته، وهذا يعطينا دعماً جماهيرياً يقلل من احتمال الرفض للتعديلات.

9- أن الدور الذي سنلعبه في التنسيق مع القوى والأحزاب في الجمعية الوطنية والتحالفات التي يمكن أن نعقدها معهم يعطي ضمانة لكسب جماهيرهم وتأييدهم.

10- ان هناك تغييرات قد حصلت وأقرت في مسودة الدستور كانت من ضمن مطالبنا في مفاوضات أربيل.

وباختصار فإن الحزب بقبوله تمرير الدستور بعد استحصاله فقرة تتيح المجال لاجراء تعديلات عليه، جعل هناك خياراً ثالثاً أمام أهل السنة يتمثل بترحيل كامل الدستور للجمعية الوطنية القادمة، وإمكانية إجراء تعديل على أي فقرة منه وهذا يعتبر كسباً لم يكن بحساب أحد من قبل.

درء المفاسد:

1- درء حرب طائفية وشيكة الوقوع، وذلك برأب الصدع ونزع فتيل هذه الحرب.

2- الحيلولة دون تمرير دستور ظالم طائفي فيه مساوئ وثغرات وطعون كثيرة على البلد مدة ثماني سنوات يساهم في تجزئة البلاد وزيادة اقصاء وتهميش أهل السنة، دون أن يسمح لنا بتغييره خلال هذه الفترة ولو كنّا كتلة كبيرة في البرلمان.

3- درء مفسدة استمرار الفوضى وعدم الاستقرار في البلد لأن عدم اقناع أي طرف سيؤدي الى عدم التوازن في البلد.

4- درء المفسدة المترتبة على اسقاط الدستور والذي يعني حل الجمعية الوطنية والعودة الى قانون ادارة الدولة الذي هو أسوأ من الدستور الحالي والذي يسمح بتشكيل الأقاليم فوراً، في حين أن الدستور على سيئاته يؤخر ذلك لمدة ستة أشهر من تشكيل الجمعية الوطنية القادمة، ويربط ذلك بقانون تصادق عليه الجمعية الوطنية وهذا هو عين السبب الذي نرفض الدستور من أجله لمنع تقسيم بلدنا.

5- درء بعض المفاسد المترتبة على اسقاط الدستور ومنها اجراء انتخابات تنبثق عنها حكومة مؤقتة وجمعية تشريعية مؤقتة، ولما كانت هاتان المؤسستان مؤقتتين، فتكونان غير مؤهلتين ولا مخولتين في اتخاذ قرارات مهمة، ولا تكون هاتان المؤسستان سوى مؤسسات تصريف أعمال ليس إلا، وبهذا يتعرض البلد للشلل في وقت هو في أمس الحاجة الى قرارات حاسمة تتسم بالشجاعة.

6- إن رفض مسودة الدستور سيؤدي الى زيادة عمر الاحتلال؛ ذلك لأن بقاءه صار مرهوناً بإكمال العملية السياسية التي متى ما أنجزت يسقط مبرر وجوده حسب قرار مجلس الأمن المرقم 1546.

وبهذا استطاع الحزب الإسلامي تقليل الشر وتضييق دائرة الاثم والعدوان وارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما، وقد اجاز العلماء السكوت عن المنكر إذا أدى انكاره الى منكر أكبر منه وقرروا في قواعدهم النظر في المآلات وبينوا أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، وقالوا بأن الحرام القليل لا يحرم الحلال الكثير إذا اختلط به، وقرار الحزب الإسلامي العراقي هو عمل بالممكن الميسور بعد تعذر الصعود الى المثال المعسور حتى لا تتعطل مصالح الخلق ولا تضيع حقوقهم ويذهب دينهم ودنياهم، وكما هو معلوم فإن لله تعالى سنة من سننه في خلقه ينبغي أن لا نغفل عنها هي سنة التدرج فقد لا يستطيع الانسان رغم طموحه الوصول الى أهدافه الكبيرة مرة واحدة ولكنه قد يمكنه الوصول إليها شيئاً فشيئاً، وقد اتفق العقلاء على أن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه.

وبناءً على ذلك نقول: لم يرتكب الحزب الإسلامي العراقي محضوراً شرعياً حين دعا الى التصويت على مسودة الدستور بـ (لا) أولاً، ثم دعا الى التصويت عليه بـ (نعم) بعد الموافقة على اجراء تغييرات فيه وترحيله الى الجمعية الوطنية القادمة ثانياً بل إن هذا العمل مما يحمد عليه لأن فيه مصلحة الأمة.

القواعد الفقهية:

إن المتأمل في قبولنا للدستور يجد أننا لم نقبله لذاته في وضعه الحالي إنما قبلناه لغيره إذ حققنا شرطاً وهو نظر الجمعية القادمة في جميع مواده كما تقدم ولا زالت اعتراضاتنا وتحفظاتنا عليه الى الآن.

وقد تمت الموافقة على تمرير الدستور من خلال الموازنة بين مفسدتين إذ ان الدستور إما أن يبقى على صيغته قبل التعديل الأخير وهذا يعني أن لا يعاد النظر فيه إلا بعد ثمانية سنوات وهذا فيه من المفاسد ما لا يعلمها إلا الله من تجزئة البلد وذهاب الثروات وضياع الدين أو أن تنص مادة على اعادة النظر فيه بعد الانتخابات القادمة شرط ان نوافق عليه وهنا بانت لنا مفسدتان والقواعد الفقهية تقول:

أ‌- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.

ب‌- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما.

ت‌- حفظ البعض أولى من تضييع الكل.

ث‌- حفظ الموجود أولى من تحصيل مفقود.

ج‌- يتحمل أخف المفسدتين دفعاً لأعظمها.

ولسنا هنا في معرض تشريع أو تحكيم غير ما أنزل الله إنما في معرض انقاذ بلد من الضياع وتأجيل اقرار دستور الى وقت قد يكون الحال فيه أفضل.

الأدلة من القرآن الكريم:

أ- قال تعالى: ((قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي))( [4])، حيث يتضح لنا من هذه الآية أن هارون -عليه السلام- قد وازن بين مفسدة التفرق وبين بقاء بني اسرائيل على شرك مؤقت لحين رجوع موسى –عليه السلام- ثمّ غلّب تجنب مفسدة تفرق الأمة على عمل شركي مؤقت سيتم علاجه بعد فترة وجيزة، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: ((إن نبي الله هارون سكت على مضض على ما صنعه قومه، وهو منكر شنيع، وهو عبادة العجل لأنه رأى الحفاظ على وحدة الجماعة في هذه المرحلة حتى يأتي موسى ويتفاهما على علاج المشكلة بالطريقة المناسبة))، ويقول في موطن آخر: ((إن هارون قدّم الحفاظ على وحدة الجماعة في غيبة أخيه الأكبر حتى يحضر ويتفاهما معاً كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة)).

ب- قال تعالى: ((أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا))( [5])، فقد بينت الآية أن الخضر عليه السلام قام بارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين، حيث خرق سفينة الأيتام، وهذا الأمر مفسدة لأنه اعتداء على حق الغير، ولكنه لما رأى في خرق السفينة مصلحة تتضمن بقاءها لأصحابها وبها عيب، وهو أهون من مفسدة ضياعها كلها بيد الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة لا عيب فيها، وازن بين الأمرين فلجأ الى هذا العمل.

الأدلة من السنة النبوية المطهرة:

إن كثيراً من الأمور كان الصحابة –رضي الله عنهم- ينظرون إليها بمنظار معين ويأخذونها على ظاهر الأمر، ولكن القيادة كانت تنظر نظرة أبعد وتعمل بقواعد المصالح والمفاسد والموازنة بينهما ومن ذلك:

1- كان كثير من الصحابة –رضي الله عنهم- ومنهم عمررضي الله عنه يرون ضرورة قتل عبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من المنافقين ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم القائد قد ترك قتلهم على ما هم عليه رغم علمه بخطرهم وكيدهم وتأمرهم على الاسلام والمسلمين، وذلك لأن قتلهم يؤدي الى مفسدة كبيرة وهي نفور الناس عن الدخول في الاسلام بعد أن يشن أعداء الاسلام حرب دعائية اعلامية مفادها أن محمداً يقتل أصحابه، ويعلّق على هذا الدكتور منير الغضبان فيقول: ((كثيراً ما يندفع الشباب المتحمسون في الصف في النقد العنيف للقيادة حيث تستعمل الحكمة والتؤدة في معالجة الشاذين في الصف والمتمردين عليه خاصة إذا كانت الأغلبية في مركز أو تجمع تدين بآراء هؤلاء وتصبح القيادة بين نارين، نار المتحمسين الذين يأخذون على القيادة تهاونها، ونار الأعداء من الداخل الذين يتربصون الدوائر بهذه الجماعة لينزلوا بها كيدهم فلا الشباب في الداخل يعذرونها، ولا الأعداء في الخارج يرحمونها))( [6]).

2- مفاوضة الرسول صلى الله عليه و سلم لزعيم غطفان لاعطائه ثلث ثمار المدينة مقابل انسحابه من تحالف الأحزاب يقول الدكتور يوسف القرضاوي: ((نجد مرونة واسعة في مواقف السياسة والتكتيك ومواجهة الأعداء بما يتطلبه الموقف المعين من حركة ووعي وتقدير لكل الجوانب والملابسات دون تزمت أو تشنج أو جمود، نجده في يوم الأحزاب مثلاً يأخذ برأي سلمان في حفر الخندق حول المدينة، ويشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان اعطاء بعض المهاجمين من قريش جزءاً من ثمار المدينة ليردهم ويفرقهم عن حلفائهم كسباً للوقت الى أن يتغير الموقف))( [7]).

3- مصالحة قريش في صلح الحديبية واعتراض بعض الصحابة ومنهم عمر وعلي –رضي الله عنهم- على بنود ظاهر الأمر فيها مفسدة اذلال المسلمين واعطاء الدّنية في الدين، ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم احتمل هذا الأمر من أجل تحقيق مصلحة أكبر بعيدة المدى منها على سبيل المثال حقن دماء المسلمين، وقد سمى القرآن هذا الصلح رغم اعتراض الصحابة –رضي الله عنهم- فتحاً مبيناً فقال: ((إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً))( [8])، يقول الحافظ بن حجر: ((فيه جواز بعض المسامحة في أمر الدين، واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قدماً في أصله إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال والصلاح في المآل سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم))( [9]).

4- اعتراض الصحابة على انسحاب خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة مؤتة ورمي الجيش بالحجارة وتسميتهم بالفرار، بينما كان رأي القيادة أن هذا التصرف فتحاً، وتسمية الجيش بالكرار واعطاء قائد الجيش لقب (سيف الله المسلول).

5- إقرار الرسول صلى الله عليه و سلم لعمرو بن العاص على صنيعه في معركة ذات السلاسل عندما منع جنده من إيقاد النار في ليلة شديدة البرد وقد اعترض الجند على هذا الأمر وشكوه الى رسول الله، ولكن رأي القائد صاحب الاختصاص العسكري هو دفع مفسدة أكبر وهي أن يأخذ العدو عنهم تصوراً بأن عددهم قليل مما يؤدي الى رفع معنويات العدو العسكرية.

6- اعتراض الصحابة –رضي الله عنهم- على القيادة عند اعطائها المؤلفة قلوبهم من الغنائم أكثر من السابقين، ولكن رأي القيادة هو تحقيق مصلحة عظيمة وهي دخول هؤلاء النفر في الاسلام وثباتهم عليه وبالتالي نجاتهم م النار وقد أشار الى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحبّ اليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه))( [10]).

7- من حديث وهب رضي الله عنه قال: ((سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت قال: اشترطت على النبيصلى الله عليه و سلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبيصلى الله عليه و سلم بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا))( [11])، يقول الدكتور فضل الهي: ((وهذا القرار النبوي –الموافقة على ترك بعض الفرائض- لم يكن قراراً مستقلاً دائماً، بل كان إجراءً مؤقتاً كان يرجى بفضل الله تعالى من ورائه الاستعداد للقيام بجميع الواجبات، وهذا ما بينه إمام الدعاة الناطق بالوحي رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام بقوله: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا))( [12]).

8- نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن إقامة الحدود في الغزو وأمر بتأخير اقامتها رغم ان في اقامة الحدود تطبيقاً لأحكام الله وشرعه، وذلك لدفع مفسدة أكبر وهي لحوق صاحبه بالمشركين وتحوله الى عون لهم حمية منه وغضباً، ولهذا جاء النهي من رسول الله رعاية لحال الحرب وخشية أن يفتن الجاني ويلحق بالكفار، يقول الدكتور الترتوري: ((والمقصد هو درء مظنة لحوق المسلم المحدود بالعدو، وتقديم ذلك على مصلحة تطبيق الحد نفسه، أو أن تطبيق الحد أشد ضرراً من تأخير إقامة الحد))( [13]).

9- قيام الرسول صلى الله عليه و سلم بقطع نخيل بني النضير وقد يكون في ذلك مفسدة، ولكن من أجل تحقيق مصلحة أكبر تعجل هزيمة العدو ونصر المؤمنين.

الأدلة من فعل الصحابة:

1- تقديم بيعة الصديق رضي الله عنه وتأخير دفن رسول صلى الله عليه و سلم لأجل أن لا تترك الأمة بلا قيادة ولتحقيق مصلحة إقامة شرع الله وحفظ نظام الدولة واستمرار رسالتها الدعوية والحضارية والإصلاحية، ودرء مفسدة الوقوع في الفتن لعدم وجود خليفة للمسلمين، يقول ابن تيمية: ((فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدّم أوكدهما ما لم يكن الآخر في هذا الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً على الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو لضرورة أو لدفع ما هو أحرم))( [14]).

2- عزل سيدنا عمررضي الله عنه لخالد بن الوليدرضي الله عنه من قيادة الجيوش الاسلامية المقاتلة في بلاد الشام في ظرف دقيق كانت تستعد فيه لمنازلة قوى الروم، وكان في هذا القرار ارتكاب لأخف الضررين حيث كان هدفه منع فتنة الناس بخالد، ضناً منهم ان النصر يسير في ركاب خالد، فيضعف اليقين بأن النصر من عند الله.

3- إقرار سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعبد الله بن حذافة رضي الله عنه على تقبيله لرأس ملك الروم من أجل إنقاذ ثمانين من المسلمين وقعوا أسرى لدى ملك الروم، وفي هذا يعلق الشيخ سعيد حوى فيقول: ((في هذا النص تعليم المتشددين الذين تختلط عندهم قوة النفس بقوة الإيمان فتمنعهم قوة النفس بما تقتضيه قوة الإيمان من الأخذ بالعزائم في محلها، والرخص في محلها، فها هنا نجد عبد الله بن حذافة يقبل رأس هرقل في مقابل أن يخلص أسرى المسلمين، وهذا مقتضى قوة الإيمان على حساب قوة النفس، فكثيرون من الناس تمنعهم قوة النفس من الأخذ بالفتوى التي تناسب المقام، وخاصة فيما يظنه الناس رخصة فيحبون أن يسجلوا مواقف بطولية لا تتحقق فيها مصلحة للإسلام والمسلمين، وما فعله عبد الله بن حذافة درس لهؤلاء فليس العبرة بقوة الموقف أو ضعفه بل العبرة أن يكون المسلم عاملاً بحكم الشريعة في تعامله مع الكافرين والمسلمين ملاحظاً أن في الشريعة فتوى أصلية وأخرى استثنائية، وفيها رخصة وعزيمة، والرخصة في محلها قد تكون أقوى من العزيمة، ولا يفطن لمثل هذه الدقائق إلا أصحاب البصيرة ممن اجتمع لهم علم وتقوى وتوفيق))( [15]).

من أقوال الأئمة الأعلام:

1- قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: ((إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقاً مثل: إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس، وفسق الآخر بانتهاك حرمة الابضاع، وفسق الآخر بالتعرض للأموال، قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والابضاع))( [16]).


2- ويقول أيضاً: ((قد تجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية، بل لكونها وسيلة الى تحصيل المصلحة الراجحة، أو لكونها وسيلة لمنع معصية أكبر)) [17]

3- قال ابن تيمية –رحمه الله-: ((إذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصافٍ وإلا بقي الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية))( [18]).

4- ويقول: ((ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين...

إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا))( [19])

5- ويقول أيضاً: ((فإن الأمر والنهي وان كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به بل يكون محرماً إذا كان مفسدته أكثر من مصلحته))( [20]).

6- وقال أيضاً: ((والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم، والفرق بين الأمرين يظهر بالنية))( [21]).

7- يقول ابن قيم الجوزية: ((النبي صلى الله عليه و سلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو انكر منه، وأبغض الى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، ومن تأمل ما جرى على الاسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من اضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه))( [22]).

8- ونقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه قال: ((مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم))( [23]).

9- دعا الأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان –أمد الله في عمره- قبل الاستفتاء على الدستور بما يقرب من شهرين بحضور نخبة من أفاضل الناس دعا الى قراءة مسودة الدستور من قبل أهل الحل والعقد من أهل السنة وأشار عليهم بالتصويت عليه بالموافقة إذا اقتنعوا بذلك تفويتاً لمفسدة إطالة عمر الحكومة الحالية ومما قاله: ((يسعنا التصويت مع وجود ثغرات فيه، وعليكم ان تبذلوا جهدكم للاشتراك في التصويت تفويتاً لمن يريد اسقاطه، وإنهاءً لعمر الحكومة التي لاقى شعبنا على يديها الويلات، وتبليغ اخواننا أهل السنة بذلك)).

تجارب الحركة الإسلامية:

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الجزائر سنة 1948 كانت تعايش أوضاعاً قريبة من أوضاعنا التي نعايشها الآن في العراق، إذ كانت –آنذاك- محتلة من فرنسا، وقد أصدرت جمعية العلماء الجزائريين بلاغاً الى الأمة العربية الجزائرية موقعة باسم رئيس مجلس ادارتها العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وهو من قواد الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي جاء في البلاغ ما نصه:

((إن الدستور الذي وضعته الحكومة الفرنسية للجزائر ووافق عليه برلمانها في أكتوبر 1947 هو دستور ناقص من جميع جهاته، لم يحقق رغبة واحدة من الرغائب الوطنية للجزائر، وآفته أنه فرض عليها فرضاً ولم يؤخذ رأيها فيه، والدستور النافع هو الذي يكون للأمة رأي في وضعه، واختيار لمنهاجه، ويد في تشريعه، ويكون ناشئاً عن رغائبها ليكون محققاً لرغائبها، ولتلك الآفة لم يرضه حزب من أحزاب الأمة، ولا نائب من نوابها على اختلاف مشاربهم الحزبية، وعلى تفاوت حظوظهم في الوطنية، بل قابله جميعهم بالاستنكار.

والمجلس الجزائري الذي ينفذ ذلك الدستور هو مجلس ناقص –ايضاً- من جهات كثيرة: بعضها في أصل وضعه: كعدم اعتبار النسبة العددية في السكان، وبعضها في تشكيله: كاستبداد الحكومة بتخطيط الدوائر الانتخابية، وتدخلها في توجيه الانتخاب الى جهاتها وضغطها على حرية المنتخبين كما عهدناه منها فيما هو أقل من هذا الانتخاب قيمة وأحط منه اعتباراً.

ومع تلك النقائص –كلها- فان مصلحة الأمة الحقيقية توجب عليها أن تجاري الظروف، وأن تستغل ما في هذا الدستور من خير ولو كان كقطرة من بحر))( [24]).

فقه الواقع:

إن دراستنا للواقع، ولحال المحافظات السنية التي نستطيع أن نجمع فيها ثلثي الأصوات لا تعطينا ضماناً كافياً للنجاح في اسقاط الدستور.

إذ أنها قد تكون مضمونة في الأنبار وصلاح الدين، ولكنها ليست بدرجة كافية من الضمانة في الموصل (بتدخل الأكراد)، كما أن استقراء الوضع العام في البلد والرأي العالمي يعطي ميلاً الى تمريره مهما كان الثمن لاعتبارات سياسية داخلية وخارجية مما يقلل احتمالية نجاحنا في اسقاط الدستور.

لهذا كان القرار من باب التحوط لأمر تمرير الدستور بطريقة أو بأخرى، وبهذا استطاع قرار الحزب الاسلامي أن يمكّن العراقيين من كتابة مسودة جديدة للدستور سواء صوت العراقيون بـ (لا) أو (نعم) للدستور، ولو لم يتدارك الحزب قراره في اللحظة الأخيرة، ماذا بقي غير الضياع.

وإذا قمنا بمراجعة شريط العملية السياسية نجد أن الكثير كان ينتقدنا في خوض هذه العملية ثم بعد حين تبين للجميع صحة توجهنا.

ثم هاجمنا المغرضون على خوض المفاوضات لإيقاف النزيف في الفلوجة بعدها تبيّن لهم ان الحزب الإسلامي هو الذي أنقذ الفلوجة في مفاوضاته في المرة الأولى.

وانتقدنا البعض في المشاركة في الوزارة، ثم رأوا بعد حين أن من الخطأ الكبير ترك الوزارات بيد الطائفيين والصفويين الذين يحاولون ان يقصونا عن المناصب ويبعدونا عن دائرة القرار.ثم كانت الانتخابات وكان العوام وغيرهم يرى عدم المشاركة فيها خلافاً لرأينا، ثم تبين للناس أن ترك خوض الانتخابات حرمهم الشيء الكثير، وعرضهم للإقصاء والتصفية والتهميش بشكل أكبر، وهم الآن مندفعون لخوض الانتخابات القادمة.

ثم هم اليوم ينتقدوننا على قرارنا حول مسودة الدستور وبعد أيام قلائل سيتيقنون من صحة قرارنا وأثره في إنقاذ أهلنا وبلدنا.

الخاتمة:

اننا نرى ان مسودة الدستور ما زالت قاصرة، لا تلبي المصالح الشرعية ولا الثوابت الوطنية، وقد كان من الطبيعي أن نقف رافضين لها –وهكذا كان- ولم نوافق إلا على ترحيل مسودة الدستور من أجل المواد التي اختلف عليها فيه.

والحزب الإسلامي بعد هذا كلّه قد اجتهد في هذه المسألة بعد تحريّ الأدلة الشرعية، والدراسة الدقيقة للواقع والتشاور على مستوى أهل الحل والعقد، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وإنما الأعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى، ونردد قول الله تعالى ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) وندعو بدعاء رسولنا صلى الله عليه و سلم : ((اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم))( [25]).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.







الهيئة الشرعية العليا للافتاء

في الحزب الاسلامي العراقي







المصادر :



1 - البقرة:269

2 - صحيح البخاري: 1/39.

3 - مجموع الفتاوى: 20/48.

4 - سورة طه: 94.

5 - سورة الكهف: 79.

6 - المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير محمد الغضبان: ص267.

7 - الخصائص العامة للإسلام، الدكتور يوسف القرضاوي: ص211-212.

8 - الفتح:1.

9 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني: 5/352.

10 - صحيح البخاري: 2/538، صحيح مسلم: 1/132.

11 - سنن أبي داود: 3/163، مسند الإمام أحمد: 3/341.

12 - مراعاة أحوال المخاطبين، الدكتور فضل إلهي: ص88.

13 - فقه الواقع دراسة أصولية فقهية، الدكتور حسين مطاوع ترتوري: ص97.

14 - مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 20/57.

15- الأساس في السنة، سعيد الحوى: 4/2100- 2101.

16 - قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام: 1/74.

17 - المصدر نفسه: 1/67.

18 - مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 10/364.

19 - مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 20/54.

20 - الحسبة ، ابن تيمية: ص122.

21 - السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية، ابن تيمية: ص53.

22 - اعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية: 3/4.

23 - المصدر نفسه: 3/5.

24 - مجلة البصائر الجزائرية، العدد 29 السنة لأولى من السلسلة الثانية 29/مارس/1948.

25 - صحيح مسلم: 1/534.