في ضيافة...
السيدة ( نعم ) العراقية
جواد المنتفجي
15/10/2005
-1-
قبل قليل ،
وبعد صمت طويل،
أجهر على الملأ...
- هناك صبح جديد،
سيولد من الفجر الوليد !
وجاء في أنباء أولى الصحف أيضا...
- ومن يحنّي سبابته في ذات الصباح...
سيبصر في المساء ،
هلال ينشق من بطون السماء !
-2-
في الليل ...
وبعدما ذابت شمس العصا ري بين نسائم الغروب ،لاح لمدى ناظريه أن كل شيء على سطح الأرض قد بدء يتغير، كل شيء صار مبتهجا بصورة عفوية ، وثمة زغاريد لنسوة أمطرت دروب المحلة بالهلاهيل، وبضع من رؤيا لوجوه آلفها تحبو في مخيلته منذ الصغر، تدعوه بعزيمة لأوان مواسم غرس الشوك في أعين الثلة الضالة المضطربة ،والتي امتهنت زرع متون الخطر في الأماكن العامة ومفترق الطرق ، إذ ذاك وبفرحة غامرة راح يتطلع بشغف، محدقا بالأفق ، مستبصرا طلوع الفجر،وبين الفينة والأخرى يعصف به وهج بريق من الأمل ،فتندلق همهمات هواجس من دواخله...
- أي السبل اضمن في العبور إلى الضفة الأخرى من النهر ؟ السير على الأقدام ! أم الطيران بلا أجنحة لكشف أسرار هذا الترحال ؟
-3-
وفي منتصف الليل...
حدته الرغبة إلى ذلك السفر ، وهو لا يملك الآن، وفي هذه اللحظة بالذات غير بوصلة ، وخارطة رسمت عليها تجليات مدينته.. مدينته المغيبة، التي لم تحني رأسها يوما وعلى طول المدى لعبادة الصنم ،رغم التهميش وحرب الإبادة التي تعرضت لها في السنين الغابرات ، بل كانت تمنح عشقها هكذا للتاريخ.. للريح .. للمطر .. للنخيل الباسق الذي يكشكش ضفتي النهر منذ الأزل، وعلى بعد ساعة تقريبا من صلاة الفجر.. هلت أصوات أخرى.. أصوات آتية من ثنايا بساتين قريته الغافية ، والتي اخذ الصمت يذوى فيها هي الأخرى فجأة ، بعد أن ضج فنائها بزقزقة العصافير.. وصرير النواعير.. وخرير الجداول.. ليتوج كل ما هو حي على سطح الأرض بأكاليل النصر، وظلت تناديه...
- هيا تعال.. تعال معنا لرجحان كفة الميزان،لعهد الفرقان الذي أبتدأ..هيا تعال لننعتق.. لمّا تبقى من العمر!!
-4-
وشيئا فشيئا ،ومن غمرة الفرح الذي تملكه ، ورغم دوران لمعة الأرق ، ظل يبحث بانتشاء بين أوراق مذكراته عن كلمات معبرة ، ليلملمها بصّم كفيه ثم يرشها على كل أحبته في الشوارع ، والساحات التي بدأت معالم الزينة تجمل واجهاتها،إذ ذاك ، وعلى حين غرة ، بدأت تقرع نواقيس السفر، فاستجمع قواه، معلنا وبإصرار بدء مشوار الترحال مستعينا ببنفسجية الفجر الشفافة التي كانت تشبه إلى حد بعيد صفاء عيون السيدة ( نعم) العراقية، حيث تراء ت له هيأتها على شكل أميرة سومرية ، قادمة من صوب أقاصي مدنها السرمدية ، لصقها عربة أثرية منقوشة بالذهب الخالص ، ويقودها حصان جامح، كانت تحمل بين يديها أواني فخارية ، مملوءة بالأوراق راحت تنثرها وبلا هوادة على هامات الذين غيبوا لسنين خبت ، كانت الأميرة تعطي، والناس تأخذ بدون انتباه للمقادير، وأصابعهم المبرقعة بالحناء تومئ أليه بالإذن لبدء مشوار السفر.
-5-
المهم ...
قرر الإبحار، وبإصرار مع الخيط الأول من الفجر، فاقترحت عليه السيدة (نعم) العراقية أن تكون انطلاقة سفره بدأ من سرادق عينيها.
والاهم...
وصل تلك المحطات، وهو لا يملك سوى نبضات قلبه المتسارعة من الفرحة التي أخذت تقوده إلى اقصر السبل المؤدية لتلك السرادق الممتدة على طول ناصية الطريق ليكون هو أول من تضيّفه حدقات السيدة ( نعم ) العراقية .
-6-
المهم...
تجول مطمئن البال والخاطر، رائق النية، مطلا على سحر رموشها السومرية ، فتراءت له عوالمها الرحبة اخذت بالاتساع لتحضن جميع الناس الذين تزاحموا قبله بدون كلل للولوج بين لحاض تلك العيون ، بينما أمست شرائط الصبية الملونة التي انزوت لتحلي ضفائرهن المتراقصة على أكتافهن تهفهف بريح باردة لترطب مظلات تلك الرموش، والتي غط بين أجفانها وبلا إرادة منه بحلم يقظ ، فكر بالأمر جيدا ، وهو متسمرا بين الوجوه التي حفت من حوله، فوجد انه الوحيد الذي كان يحمل جواز مرور ليكون في منتهى التصرف الحر في بهاء عيون السيدة ( نعم ) العراقية، والتي باغتته حورها بالترحيب به ، هامسة له...
- ماذا يعني الوطن لديك ؟
- كل شيء .
- وهل تحبه ؟
- نعم.. وبعمق لا محدود .
-ومتى شعرت به ؟
- منذ الولادة ، منذ أن نبهتني جدتي بأن آبائي، وقبلهم أجدادي هم الذين رسموا خارطته بدم الشهادة .
- وهل تجرأت يوما في إعلان حبك هذا على الملأ مثلما تريد أن تفعله ألان ؟
- نعم... أعلنته في الحدائق والمروج ، وقبل مجيء إليك كتبته على أغصان الورود ، وحتى أني بصمّته مع ابتسامة أطفال بلادي الوضائة الذين صادفوني عند مجيء على طول الطريق.
- ومتى أمنت به؟
- منذ الرضاعة ، ومنذ هذه اللحظة التي سنعلن فيها للعالم أننا قد تعدينا مرحلة الجمود.
- وهل يا ترى سيتحقق حلمك المنشود؟ أن كتبتني بقناعة ؟
- نعم سأكتبك على واجهات الشوارع والبيوت …وسيعزفها ناي الهور ، لترددها طيور الشمال الصداحة ..
-7-
والاهم...
ابتسمت السيدة (نعم ) العراقية ، ثم حضنتنه بقوة، وهو يكتب أبجديتها بكل شجاعة ، وعندما انتهى، استسمحها بأن تبلغ أهله، بل وجميع أبناء محلته أنه غفي داخل محراب عينيها بعدما وجد وطنه هناك على الخارطة!!