 |
-
د. جمال حسين: رحلة إلى الأهوار
الصورة الكاملة لعنفوان المجرة في الأهوار (1)
لا مياه صالـحة ولا مدارس ولا طرق ولا حتى مركز صحي واحد
الأهوار العراقية - د. جمال حسين:
أزفت اللحظة لنسبر وإياكم مسالك الجنة، وآن وقتها لنطل معكم على الجزء الطيب من عنفوان المجرة وفيض ألوانها الصحيحة وبلسم حنانها، ممسكين بأرفف الأزهار وندى الأوراق مدونين حركات شفاه الخلق النابضين بالود ورجفة الإنسان الصاغرة لوجدان الطير، وتطلع السمكة وأجيال القصب وتآلف البردي مع الموج وصلة السماء بوخز القلب وحفيف الغابات المائية بمشاعر البجعة و تطلع الصغيرة لقيمر الصباح النقي من روح الدابة المتلعثمة وسط الوجوه المشعة صفاء وصبايا يصدرن البياض وألسنة لم تكذب وقسمات تعلــم الجمال وهمم رجال كلهم تاريخ.
في تقصي خارج عن المألوف والمحسوب والمدون، نروي لكم هوينا المذراة وصرير الأكواخ ودكنة المساء وطفيليات تراخوما البراءة وشمس الحشائش والموائد التي تحيك خبزها وصلصال القرارات التي جففت وأماتت وأيبست مملكة الماء الكبرى في الكوكب وأذعنت في بث التدرن في الصدور ونشر الجوع في البطون والقحط في السواقي، تشريدا وحرقا كسكب الحريق على الورد، ونتف ريش الطائر الفرحان وتكسير ثمار السلة وبعثرة مباهج الغلال.
آن الأوان لنسهب في سرد حكاية طمر الجنة و قهر ينابيعها مزيحين الستار عن بغض الآلة ومزلاج الدنيا حين يغور في كبوة الطيور وخنق الأسماك وذوبان الأمواج فيما يخصها ويشمل كل من نطق ولو بحرف أمل منحه البهجة بدءا بمن فرش لنا الحصيرة المتاحة وقدم لنا عصارة جهد اليوم، مرورا بالعلماء والخبراء، وصولا الى الفتيان وزوارقهم، اللصوص والمضحكين، وفاتحي الفال والمنجمين، وشيوخ العشائر والرواة والمطربين، والأطباء الشعبيين والحكماء والقضاة ومن بيدهم الحل والربط، مناكب النسوة ودمعة الرضيع وشقوق سيقانهن وأكفهن حين يغزلن الحياة ودروبها، كالحجرات التي ما ان تفتح قدراً من أهميتها حتى تفضي بك لحجرة أخرى تحمل أسرارها واكتشافاتها وولعها وصدماتها.
نقدم هذا العمل إسهاما بإيقاع ننجزه كدين حمله الناس على أعناقنا، صغيرهم وكبيرهم وطيرهم وبقرتهم، توسلات من أضاع حقه الدهر كله، متضرعين لاستقامة الحرف وعدل الكلمة لأن ننقل «الصورة الكاملة» بعمقها ودلوها باعتيادها ومقصدها وهجعتها ساعة اقتناص أسرار الماء، حاسرة، مستسلمة لآمال الناس ومن تبقى منهم هناك، في المملكة السومرية وجنة عدن وزهو الطبيعة بإبصار خاص واستثنائي نعرض لكم القصة الكاملة لمسلة القصب وروح الطين في الموعودة دائما منذ الخليقة الأولى: الأهوار!
لصباحات الهور حكايات ونواص وشدو وأزاهير، هناك لا عواصف مدن و لا مشاغلها ولا انقضاء اليوم بمتاعبه و مشقاته. ففجر الأهوار، فريد كتبدل لون الغيمة في انثناء الموجة ومهما كانت الكلمات وضاءة والمفردات سليمة، فلا تستطيع نقل الصورة المصقولة، المنيرة بخلود الناس مستنيرين بما قاله عمنا الجاحظ عن الأهوار ملبين عجزه في وصفها: «لو اجتهد أعلم الناس وأنطقهم لأن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة والأجمة لما قدر عليها».
الصغار والكبار، النساء والرجال، الحيوانات والقوارب والشباك وما ابتدعه الإنسان للعيش، يستفيقون قبل صوت البلبل وانشودة الديك وتنامي أظافر الشمس، كلهم يستغرقون في المياه، نحو السبيل، الهادي، جالب المسرات وحامل سلال الحياة وصحبة النور. ذلك الصباح الذي لا يوهم ومبهج دفء حوار البطات مع العشب.
وميقاتنا في هذه الجنة لا يقاس بحزمة التقويم العادي، فالمغزل هنا تحركه الأقمار وليس الساعات، والمطحنة تسوقها الرياح وليس عقارب الزمن، فليس أشهرا ونيفاً ولا سنة أو أقل منها، سكننا المريع المتعة في الهور، أنه تقويم خارج نطاق السير وإشاراته التقليدية، فقد كانت حياة كاملة من النطفة حتى القيام.
الملقنون
وتضيق العبارة حين تتسع رؤية هذه الأجمات بمساعدة من النفري الذي عاضد حيرة الجاحظ الفائرة مع جموح تآلف الكتابة عن الهور بما أجاز لياقوت الحموي قبلنا حين هتف: «استفحل أمر البطائح»!
لقد استفحلت «قضية الأهوار» قبل أن تحترق بآلاف السنين وبعدها بروايات وخواطر الرحالة ومحبي هذه المملكة الخاصة المكسوة بملاقط الجنان وأحلام الثوار وحوافر الغزاة وأسراب الجراد وكتائب الأسود وطوفان الخنازير ومظلات أسراب الطيور المهاجرة.
وتزداد آلام مفاصل الكلمة أكثر ويئن وجعها ما أن يطرح عليك المعلم الأول ابن خلدون الدرس: «لا يكفي أن تصف موج البحر وظهور السفن حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر.. لابد لك أن تفهم ما في القاع،، قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش،... وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاذيف أياما كاملة، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن وثروات وركابا وينزفون عرقا وتتمزق أجسادهم تحت السياط. أجل،، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور».
الصورة الكاملة
هي عمقها، برحابة الملقن والمعلم، وما نحاول بكل توسل لجمود اللغة واتساع المشهد تقديمه وفاء للذين يتدفأون بروث الجواميس وتحتهم بأمتار قليلة تسري المليارات المكعبة من الغاز والسائلة من النفط ومعجون الزئبق الأحمر الذي يزن غباره ذهبا.
من الأهواري الأول حتى الأخير الذين عشنا معهم، لم يطلب أي منهم أي شيء لنفسه أو لولده أو لزوجه، بل كانت كل آمالهم واحتياجاتهم منحصرة في حقوق الحيوانات والنباتات وإجلالا لسطوة الماء.
الأهواريون البسطاء أثبتوا بأنهم أكثر مناصرين للبيئة والأكثر حضارية من كل المؤسسات التي سنسرد أعمالها بالتفصيل، الحكومية منها والمتطوعة، الخاصة والقادمة من خلف الحدود والمنقعة بياناتها بحبر الجداول وصرعات البرامج الإلكترونية.
لقد أثبت زغير ومنشد وجبار وسعدي وفليح وغيرهم من باسقات الهور بأنهم أعلم بشؤونهم ومشكلاتهم من أندرسن ويوجي فون وكيم بان هو و أي بروفيسور وسير ومستر ومبعوث دولي يحسب مرتبه بين هؤلاء المساكين وتمنح له دولارات حسب الدقائق التي يقضيها بينهم.
سنكشف لكم أعمق مأساة بيئية من صنع الإنسان سجلها التاريخ مفتتحين الصفحات كلها في لوح الأهوار بالأرقام والأسماء والمواقع والخسائر والهزائم والحرائق وسنشتل في كل مفردة قصبة ونرعى في كل حرف سمكة ونؤجج في كل نقطة زغب طير لنصل متمنين لـ «الصورة الكاملة»، مفتتحا وإيذانا لبدء الحكاية.
شجرة الأنهر
تصل المياه إلى هور الحمــّار من الفرات وبعض الروافد كأنهار عنتر والداير وصالح والبردانة. أما اهوار القرنة فتمنح الفرات الكثير من الروافد كالهوير والبشة والزايرة وأبو الرمل والمغيسل لينقل الحمّـار مياهه صوب نهر كرمة علي والشافي وغميج وإلى شط العرب وشط البصرة إلى خور الزبير.
وتتأثر أهوار القرنة بموسم الصيهود وتتراجع مساحتها حتى تجهز بمياه أنهار البتيرة والمجر التي تتفرع من دجلة في العمارة بالإضافة ما يتسرب من قنوات المصندك و جري والهدامة والصريفة والصخريجة والسفحة وأبو عران وبريخ.
ويحصل هور الحيزة على المياه أيضا من أنهار المشرح والكحلاء والمجرية التي تصرف المياه فيما بعد إلى دجلة بواسطة أنهر الكسارة والرديف ومضعونة والنهير والروطة والعدل والواديه والسطيح.
وهناك أهوار علاوة على الرئيسية أهمها أهوار الجبايش التي تتصل في العزير ليلتقي بأهوار الحويزة وعند علي الغربي تمتد حتى علي الشرقي أهوار الصحين والسنية والميمونة.
وبعد الخروج من سوق الشيوخ باتجاه كرمة بني سعيد وطواف متصل بالجبايش يستطيع العابر اجتياز ورؤية الكثير من الأنهر التي تصب في الهور هناك بدءا من نهر العتيبية و أبو عواري الذي يصب في الرملة وروافد النواشي والزعيلية وختلان وأم الطبول والياسرية والأصيبح والكرماشية وأم التمن. وهناك اهوار متعددة كانت تتصل ببعضها مثل هور أم الودع وهور أبو زرك الذي يمتد باتجاه الفهود وهور العوينة والغموكة وجصان والشويجة والسروط والسناف والجكة وأم البروم والسعدية والدويمة وعودة وعكركوف وعويريج والبرغوثيات وملج وأبي عجول وأبن نجم والرماح وأبي حجار واللايح و غيرها.
هذه اللمحة الجغرافية السريعة مستدل لعالم متكامل ومتشابك الأنهر والفضاءات الغنية بكل ثروات الطبيعة، وتعريفها الأولي بقصد تبيان أهميتها وما حل بها من كوارث، فهذه مساحات مائية شاسعة وليست مستنقعات كما يتوهم خبراء المنظمات الدولية بمن فيهم الأمم المتحدة التي تدعي أوراقهم الرسمية باهتمامهم في إعادة الحياة لها بأرقام ومليارات مكفنة.
الأهوار الحية
سنرجئ الحديث عن موت الأهوار وحملة التجفيف التي تعرضت لها، وهذا مختصر الهدف الذي ركزنا عليه في الأيام الأولى من معيشتنا هناك. قلت لسعد القطان لنرَ الأهوار التي بدأت تحيى ومن ثم نطلع على موتها السابق. وبصحبة جبار وسعد وكريم وبعض الأسلحة الخفيفة كان انهمارنا الأول في هور أم الودع.
كانت هذه الخطوة ضرورية لمعرفة الفرق بين ما حصل وما يجري الآن، وملخص ما أنجز بعد سقوط النظام، أن السكان المحليين حطموا السدود التي أقيمت لغرض التجفيف بإمكاناتهم اليدوية وبما تيسر لهم من أدوات الفلاحة التقليدية.
ولعل هذه الخطوة الشعبية تسجل تاريخيا للأهواريين، لأنها أجبرت الجميع بما في ذلك الأجانب الذين يسيرون شؤون البلاد ولاسيما البريطانيين والإيطاليين واليابانيين الذين تسيطر قواتهم على المناطق التي تتبع لها الأهوار سيدة حديثنا، ولفتت انتباههم لهذه المجزرة البيئية ومصائر عائلات بأكملها من طيور تمتد أصولها إلى عمق سيبيريا وأطراف أوربا ومئات الآلاف من العائلات البشرية التي هجرت وأحرقت قراها ويبست أرضها وعميت حيواناتها ونفقت أسماكها وأمعن الملح في أرضها.
كان لابد للسدود والحواجز الغريبة أن تتحطم، لكن إمكانات الناس محدودة وما فعله النظام السابق ليس هينا على أحد، وكل الأهالي هناك أجمعوا على طلب واحد لا ندري لماذا تمر السنة الثالثة دون أن يلبيه أحد رغم عقد عشرات المؤتمرات في العديد من عواصم العالم حول تطبيق برنامج الأمم المتحدة «جنة عدن تعود».
الطلب الرئيسي
ولا يدري أحد هنا، كيف لهذه الجنة أن تعود ولا يستطيعون فعل شيء في غاية الأهمية طالب به الصغير والكبير هنا، المتعلم وغيره، الشيخ ورعاياه، وهو إغلاق نهر «أم المعارك» ليذهب الماء إلى الفرات ليوزعه الخالق على الخلق بمعرفته حيث الجداول والأنهر التي ذكرناها ستقوم بالمهمة بإرشاد سلس من الطبيعة لتلقيه فيما بعد بالأهوار المنجزة من التاريخ ودون منة من برنامج أممي.
هذا الطلب البسيط يختصر لنا مشكلة الأهوار برمتها، فمياه هذا النهر ذي التسمية السيئة الصيت، يلقي بمياه الفرات إلى البحر، هدرا لأهم ثروة تتمتع بها البلاد.
هذه المياه الحلوة النقية ترمى هكذا في البحر بلا أدنى شفقة بالجاموسة والنورس والبنـية والوزة والناس الذين آزرهم القحط للحد الذي نشأ بينهم جيل قد لا يعرف التعامل مع القصب ويهوى هواء المكيفات وبيوت الطابوق وهراء الإسمنت.
مخاطر المبادرات
مهما كان المحليون أعلم بأمورهم من الغرباء، فإن تحطيم السدود كما حصل ينذر بحلول فيضانات مباغتة، وبدلا من الشكوى بعدم وجود مياه وتصحر الأراضي الزراعية، قد تدخل المياه إلى بيوت الناس لتخرب كل شيء وسيتلاشى أمل إحياء الزراعة، لاسيما أن المياه التي حصلوا عليها من تحطيم السدود مالحة في الغالب. وحين سألنا الفلاح زغير عن سبب ذلك قال: الشيء الذي عمله النظام لم يتغير، لأن نهر أم المعارك يلقي بالمياه الحلوة إلى البحر! لم يتغير شيئا عن النظام السابق.
الغريب أن كل الهيئات الرسمية المعنية تؤكد بانها اعادت 40 وأكثر في المائة من المياه إلى الأهوار وهذه الكذبة الأولى التي سنتوقف عندها حتما.
أما الثانية، ففسرها سيد صادق بكل بساطة: أنهم يسحبون الفرات إلى خور الزبير ليلقوه بالبحر، لذلك ما تبقى من مياه يعتبر مضرا وحتى الفائض بدون بزل يكون منطقة «غمايرة» (بتعبيره مغمورة بالمياه فحسب ).
وذكر حوّاس بأن «الزور» و «الحمض» قتلا الفرات ( هذه نباتات تنمو بسرعة وكثافة ليست بذات نفع ولا يمكن لحيوان أو إنسان الاستفادة منها وتعيق فقط الزراعة التي تحتاج أرضا جاهزة خالية من النباتات الضارة وفي الوقت نفسه فهي توقف تقدم المياه وانتشارها المريح ).
ونبهنا سويدان على تلك النواظم التي بناها النظام السابق والتي كانت تحرف المياه المتجهة للهور لتلقيها بالصحراء.
يقول رياض كونه سمـاكا محترفا وأحد الذين رافقونا في هذه الرحلة الطويلة ان المشكلة كلها تنتهي بتنفيذ ثلاث مراحل أوجزها للمعنيين كالتالي وحسب مرحلة كل منها: تنظيم الأنهر - تنظيم المبازل - تصريف مياه البزل.
المخدوعون
لم أحسب عدد المرات التي قالوا لنا فيها هذه العبارة: نحن مخدوعون!
تفكيك شفرة الخدعة الكبرى التي تعرض لها الأهواريون هي: أنهم كانوا الملاذ الأول والرئيسي للهاربين والثوار ومعارضي النظام. ولم يكن بإمكانهم لعب دور آخر فعاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم لا تسمح له التبرؤ من غريب أو لطالب حمايتهم.
والسبب الأول والأهم فيما تعرضوا له من تشريد وتجفيف وحرق ودفنهم أحياء، كان دعمهم لانتفاضة 1991 وهذا لن يختلف عليه أحد حتى أعدائهم. وبما أن الذين كانوا يلجأون إليهم ويلوذون بهم صاروا الآن أهل السلطة وبيدهم مالها وحلالها ومآلها، فيعتبرون أنفسهم مخدوعين.
فلاجئو الأمس في الأهوار وسكان الوزارات الآن لم يفعلوا شيئا لهم، بل لم يتذكروهم حتى بسلام وتحية! وهذا ما قالوه لنا في أكثر من مضيف رئيسي في الأهوار.
مخدوعون بالتأكيد لأنه لم يشق عندهم طريق ولم يكتمل بناء مدرسة ولا يوجد في عمق الهور ولا في أطرافه مركز صحي واحد، بل ولا ممرض ولا غرفة للطبابة أو الإسعاف حتى لو من القصب.
هنا يثبت خضير هذه الحادثة: ألم طارئ فظيع داهم أخاه، حملوه بالمشاحيف كيلومترين ومن ثم وضعوه في سيارة لا يمكنها أن تسير على الطين وضعوا المريض فيها ودفعها الرجال الأربعة مسافة 12 كيلومترا لكي يصلوا بها أطراف الطريق المعبد ومنها نقلوه بالسيارة نفسها إلى مستوصف في سوق الشيوخ.
وما الذي يحل بالشيخ الذي لا يتحمل دفع سيارة كل هذه الكيلومترات وما الذي تفعله المرأة الحامل والطفل الصريع بعضة خنزير والصبية التي داست أقدامها الحافية سنا قصبيا أو احرق وجهها تنور ملتهب.
ولعل مرارة الإصابة بالخدعة أكثر من الخدعة نفسها، لأن من طباع الأهواريين وأخلاقهم الوفاء لوعد وعهد يقطعونه، كبيرا وصعبا كان أم صغيرا سهل التحقيق. وتجربتنا معهم، أثبتت أنهم لو قطعوا لك عهدا أو وعدوك بشيء في منتصف الليل، يحققونه لك في الفجر، أي في أول فرصة تجد طلبك مهما كان، مجابا ومحققا.
أليس مخدوعا من تشرد ومات في العراء من أجل الحاكمين الحاليين الذين لم يوفروا في كل الهور مركزا صحيا واحدا يداوي فيه الناس، أم أن العلة أكبر حتى من الخديعة؟!
مطالب خرافية
لا وجود لأي خدمات أساسية كالتي تعد من فضائل القرون الوسطى، كالمياه الصالحة للشرب. كان الناس يشربون من دجلة والفرات ويحملون الدزنتري والإسهال والبلهارزيا وباقي الطفيليات حتى يموتوا. الآن وبإخراج المياه الحلوة للبحر وإلقاء المالحة عليهم، ليس لديهم حتى مياه النهر الحلوة بأمراضها ليشربوها وحتى الجواميس قالوا إنها بدأت تعمى بسبب ملوحة المياه. لا نتحدث عن مياه الإسالة أو القناني المعدنية، كل ما يطلبونه أن تصلهم مياه الأنهر كما كانت وليس تلك التي تجرف معها مياه البزل جامعة ملوحة البلاد كلها في معداتهم.
سكان حافات الأهوار، يشترون المياه التي توزعها لهم شاحنات بملء خزانات صغيرة توضع في آخر نقطة فيها شارع شبه مبلط. تقول «سرية» بأنها تمشي ساعة كاملة للوصول إلى نقطة بيع المياه، وعودتها مع المياه ستكون أثقل وأبعد بطبيعة الحال.
الطريق الطويل الذي قطعته هذه الفتاة ذهابا وإيابا للحصول على مياه الشرب، لا يلقي أسئلة المياه الصالحة للشرب على قارعة الطريق فحسب، بل يفتح المطالب لمعالجة المشكلتين مع بعض، إيصال المياه لآخر ساكن في الهور وتعبيد الطرق، طالما لا توجد مياه يمكن عبورها بالزوارق. المشكلة أن الهور تم تجفيفه فغاب الماء وتعثرت الطرق فيه.
يمد جبار يده في نهر كنا نعتقده جزء من حقل ولكن تبين أنه نهر يغطيه الشنبلان بالكامل، وهذا النبات حياته في الماء، بحيث شاهدنا في منطقة الشاخة، الأنهر كلها مغطاة وكأنها مطلية به ويبعدك التفكير حتى بزج أمنيات تحويل هذا النقاب من الطحالب إلى مائدة يومية لعشرات الآلاف من العائدين من صحراء المدن إلى مسراتهم القديمة.
(يتبع.. الحلقة الثانية )
امتنان
إلى الشيخ منذر سعدون حسين القطان والأستاذ عصام الديوان وسعد عبد المنعم سعدون القطان و حجي نزار رزاق آل مطر و رياض نعيم محمد الفهد وكريم طليب أبو حارث و سيد صابر آل سيد هاشم آل بو شامة ومهند عامر ظاهر حسين القطان ومرتجى رياض الفهد و محمد ضهد حسين وعلوان عجيمي خزعل وسيد صالح آل بو شامة وشبان آل حول في الفهود وآل بو حمدان وسيد محسن السيد ياسر وحجي جاسم آل مطر وصالح ظاهر آل خزعل وإبراهيم محمد آل ضهد ونغيمش عجيمي خزعل وخشن خليفة آل بو خليفة وأخوه ناعم آل بو خليفة وحجي حرز و المختار خلف سبعين وآل شرشاب والشيخ صباح ثامر آل حمودة ومحسن آل حمودة وجبار وعبد الله ومحسن وكل من منحنا زهو العودة للحياة الحقيقية في الأهوار.
أنواع الأهوار
المياه كانت تغطي أكثر من 20 ألف كيلومتر مربع، أي بمساحة تزيد على ممالك معترف بها دوليا الآن، لذلك يحق لنا إطلاق تسمية مملكة الماء على الأهوار التي تشغل السهل الرسوبي للمحافظات الجنوبية العراقية الثلاث: البصرة والناصرية والعمارة. وثمة أهوار وصلت إلى نواحي الكوت وأهوار مؤقتة ظهرت في أرياف كربلاء.
ومساحة الهور المذكورة نسبية وتعتمد على منسوب المياه والفيضانات وقد تتراجع لتقل بنسبة 50 % عن الرقم المذكور ومن هنا يختلف الكثيرون في تحديد مساحتها الحقيقية التي لم تقل يوما بالتأكيد عن 11 ألف كيلومتر مربع بامتزاج السهول التي كانت تصلها بأنهر عديدة.
والأهوار حسب تسميات المتخصصين ثلاثة هي الدائمية التي نركز عليها والموسمية التي تظهر في الشتاء والمؤقتة التي تنبثق من الفيضانات و حسب الاتجاهات فهي شرقية وجنوبية ومركزية. وتعد أهوار الحويزة والحمـّـار والقرنة الرئيسية حيث يصل عمقها أحيانا إلى 10 أقدام وفيها جزر متعددة تقسم الأهوار إلى العديد من الـ «جبايش».
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الصورة الكاملة لعنفوان المجرة في الأهوار - (2)
مليون إنسان هجروا وشردوا عاد منهم 40 ألفا فقط
الأهوار العراقية ـ د. جمال حسين:
في أوقات زهوها وخيراتها التي لا تعد، كانت الحياة في الأهوار صعبة للغاية بل بالغة المشقة، وسط درجات الحرارة المرتفعة والرطوبة العالية وتنامي لسعات «الحرمس» وانقضاض غادر لقطيع خنازير و صراع غير متكافئ مع الثعالب وأبناء أوى وبناته، فضلا عن الأفاعي والسموم ورفش الزواحف الذي كان يخطف الأطفال بما يسمونه في تقييمهم لأفعاله «عبد الشط» الذي يقترن بعلاقات استراتيجية مع «الطناطل» المتآخية مع الليل البالغ العتمة، حين يهبط على «جباشات» الناس الآمنة.
عندما كانت صورة الهور كاملة، برزت الصلابة والمثابرة والعمل الطويل المرهق كخيار وحيد لرتق اليوم وتفجر صبحه بنصل جديد لتعب لا حدود له. فكيف الآن والحياة تسير بالتركيب والترقيع والاستعاضة وبتبدل طبائع الأمور وترتيبها المنطقي ودرجات حرارتها وضغطها وأكياس رطوبتها المائية، وباقات من أمراض جديدة خيمت بتناول حروب مختلفة لجيوش اندثرت بعدها صبت بغرائز الموت ما استطاعت من سموم ونابالم ومواد كيميائية صنعوها خصيصا لتذيب القصب وتقتله من الجذور وكذلك البردي وكل ما ترتفع قامته على هذه الأرض، لكن أحدا منهم لم يتوقع بأن جذور النباتات هنا تعيش أكثر من ثلاثة قرون، وإن حجبت عنها الدنيا المساعدات والمنح الخارجية. تعرفت التربة وأنامل «الكاط» وسماحة «الكعيبة» هنا على نثار اليورانيوم، ونسجت عرق النسوة من فيضه جوادا افترش الشفاه والرئات وطفا على مرضعات الجيل برق أرقط من بثور الموت.
عندما كان كل شيء هنا حلوا، كانت الحياة شاقة ومتعبة وموجعة، فكيف هي في زمان الفواصل والعناكب والغازات والحروق والأطماع وزبالات الذرة وقيح النواة!
عندما كانت المدفأة هنا، تنبثق من «المطــّال»، المصدر الرئيسي للطاقة للأهواريين، وعندما كانت أبرة واحدة تخيط فتوق العائلة طول الدهر وحين كانت النار تتلظى من هبوب الرياح وأوقات كانت السعادة فيها مهد الأطفال ونبوءة النساء وفرح الشيخ بالتماس شباك الإمام والمضارب الرقص والأكف مناديل والجلود ألوان والمواكب مهرجانات والبارود إعلان والمضايف غرف أخبار ومتعة الفراشة في أناقتها وود القطة في موائها وانحراف السيارة خدعة مدينة زائلة. راحت تلك الأزمان مع ناسها وطيورها وأسماكها، لكن عشرات الآلاف ممن امسكوا بمدونة الأهوار ولوحها السومري، أولئك الذين ينمون الآن مع القصب والخوص والعشب لا ينبغي تركهم يتيبسون مثل «حشف» مأكول من كواسر الليل وعدادات البرسيم ومفاجآت أخرى فجرها بلا أدنى شفقة صبيح هندال: «كنت واثقا بأنه حتى لو سقط النظام، فلن يفعلوا للهور شيئا وسيبقى كل حال على حاله».
ننفرد اليوم بنشر أول صور تظهر في مطبوع للسدود والنواظم والمضخات وطرق خنق الأنهار وتكتيفها وصور الأنهر الصناعية وكل مراحل أبشع عملية تعرضت لها الأهوار في التاريخ التي اشتهرت بالتسمية المرة: التجفيف!
قبل تناول ما تعرضت له هذه المملكة من دمار وعدوان، لابد من استعراض يوضح كم كانت هذه البقعة المتنوعة مصدرا لقلق وإزعاج الإمبراطوريات التي حكمت البلاد. فعلى مر العصور كانت غابات القصب هذه ملجأ للفارين الذين تطاردهم الجيوش منذ عهد الآشوريين وحملات ملكهم سنحاريب الذي قدم من عاصمته نينوى لمطاردة الكلدانيين والاراميين والعيلاميين. واختفى في الهور هذه الأثناء الملك مارودا كبالادان وأصيب في معارك الأهوار الإسكندر المقدوني ليس بالسهام، بل في الحمى التي سببتها له بيئة الأهوار والتي لم يتعودها وأجوائها الصعبة ومات على إثرها. هكذا اختفى في الأهوار الملوك والخلفاء والأمراء ولم يهاجمها خالد بن الوليد، وحين فتح عتبة بن غزوان البصرة ذهل من مناظر الأهوار واستبدل خيمته بكوخ من القصب وتعرف العرب على الرز لأول مرة في الأهوار، التي ستمر السنين ليختفي فيها الخليفة القادر العباسي من الخليفة الآخر الطائع بالله، والتجأ إليها قاضي القضاة أبو علي المحسن التنوخي، ومنها بدأ الزنج ثورتهم وكذلك ثورة الزق والقرامطة وحركة المشعشع والطرق الصوفية والرفاعية. ولأنها مملكة محزمة بكل الأسوار الطبيعية والموانع التي لا يدركها سوى أهلها، فقد كانت الملجأ المثالي للشبان الشيوعيين الذين أعلنوا الكفاح المسلح نهاية الستينات وبعد فشل حركتهم تحولت الأهوار إلى موطن المعارضين والهاربين من الجندية أوقات حرب الجيش ضد الحركة الكردية، وتضاعف أعدادهم بالطبع في غضون الحرب مع إيران.
مع مرور السنوات اتخذت المجموعات الكبيرة للهاربين والمعارضين شكلا منظما وانتقلت من الاختباء السلبي إلى الهجوم على مرتكزات نظام صدام حسين وبذلك تحولت الأهوار تدريجيا إلى خاصرة مؤلمة لذاك النظام لم يستطع الإفلات من أوجاعها حتى انتهاء الحرب مع إيران. وقتها وجه قوته العسكرية إلى الحركة الكردية بعمليات الأنفال المعروفة التي تلاها مباشرة غزو الكويت الذي عطله من تنفيذ هجوم شامل على الحركات المسلحة في الهور. وبعد اندحاره في الكويت، كانت الفصائل في الهور تدرك بأن وقتها قد حان للبدء بالهجوم كأفضل وسيلة للدفاع، ولأن القاعدة الشعبية كانت مهيأة تماما للثورة، حدثت انتفاضة فبراير - مارس 1991 التي انتهت بالخديعة الكبرى المعروفة حين سمح الحلفاء للنظام باستخدام الطيران وكامل قوته العسكرية في صدها، وكانت بمثابة السماح والإذن المفتوح للنظام بعمل أي شيء في الأهوار بدون رادع دولي، فقام بأول محاولات تهجير وإحراق وتجفيف الهور في مطلع مارس وفي غضون المعارك.
خصص العديد من الآلة العسكرية لمطاردة الثوار ومن ثم كلفت هذه الجحافل بتسوية غابات القصب مع الأرض وكانت القاصفات والمروحيات تلقي بحاويات النابالم وغازات ومواد كيميائية لإحراق وإذابة القصب، الأمر الذي أدى إلى هجرة مئات الآلاف من الناس مع ما تيسر لهم من حيواناتهم ونفوق الكثير في عملية المطاردة هذه وكانت الطائرات والمروحيات تلاحق الناس في عمق الأهوار خلال هروبهم لترش عليهم الموت، لكن الغالبية نجحت في التسلل إلى إيران والسعودية، حيث أقامت الأولى لهم معسكرات الأوردكات في الشوش والأحواز وشيراز ودزفول بإشراف جهاز المخابرات الإيرانية «اطلاعات»، فيما بنت الثانية مخيم رفحا لمن وصلها من أبناء الهور، لتبدأ قصة أخرى كاملة التفاصيل، غير أنها ليست من اهتمام تحقيقنا الحالي.
تاريخيات التجفيف
قبل أن يسقط النظام، اختفت من مدوناته وخطاباته الرسمية مفردة الأهوار (لأنه بالأساس طمرها وقضى عليها) وكانت المؤسسات الرسمية تستخدم بدلا عنها مفردات «الأراضي البور» أو «أراضي الاستصلاح الزراعي»، الذي برع به قبلهم بخمسة آلاف سنة السومريون عندما حققوا في ذات الأرض التي جففها النظام أفضل منظومة لاستصلاح الأراضي واهتموا في بناء السدود وأبدعوا في شق قنوات الري بحيث ازدهرت في مناطق الاهوار خمس مدن سومرية كبرى، غير أن سدود السومريين انهارت وأعدم على خرائبها 40 مهندسا بعدها رممها البابليون ليعيشوا فترة ازدهار زراعي مؤقت.
لقد حاول الكثير ممن حكم هذه الأرض تجفيف الأهوار وقام سرجون الأكدي عام 710 قبل الميلاد باستخدام العبيد لتحقيق هذه المهمة، وفعلها الملك البابلي نبوخذنصر والملوك الساسانيون ومعاوية بن أبي سفيان وهارون الرشيد والحجاج بن يوسف الثقفي وهشام بن عبد الملك والبويهيون بعد الثورات ضدهم، وكانت أول محاولة لتجفيف الأهوار في العصر الحديث، لكن الملك رفض المشروع الذي قدمه المهندس البريطاني فرانك ثيغ الذي كان قلقا من السدود التركية والذي كان يريد تحويل المياه الجارية الى الأهوار لتصب في قنوات مائية أخرى، على اعتبار ان الأهوار تعتبر استراتيجيا منطقة رخوة تساعد في التغلغل الإيراني والاستفادة منها كمجال للمناورة العسكرية معها. رفض الملك لأنه لم يستطع تخيل العراق من دون أهوار كما قال للبريطاني الذي سبقه مشروع الإنكليزي الأكثر شهرة وهو السير بيرسي ولكوكس الذي أعد تقريرا بموجبه يقترح حفر مبزل في جنوب البلاد لغرض سحب المياه المالحة ورميها في الخليج.
مراحل التجفيف الراهن
عام 1989 أعدوا «خطة عمل الأهوار» ويقول رئيس الجمعية العراقية لتطوير الأهوار جاسم المرسومي إن النظام أعد مشاريع مبكرة في هذا الصدد أشرفت عليها وزارة الري حيث أعد خبراء روس 12 مجلدا تناول في مجمله ما أسموه «الموازنة المائية»، لكن عملية التجفيف أجلت بعد زيارة صدام إلى الأهوار وإعلان «حبه» لأهلها وليس للأهوار على حد تعبيره. وفي الحقيقة كان التأجيل سببه عدم تماسك عود النظام وقتها وعدم توفر ذريعة كافية للقيام بخطوة بيئية راديكالية بهذه الضخامة ووجود معارضين دوليين لمثل هذه الخطوة.
في أبريل 1992 وافق المجلس الوطني على «برنامج جديد» أعلنوا بأنه سيوفر المسكن للسكان في الأهوار، لكنه في الحقيقة كان برنامجا كفيلا بازالة كل القرى في الأهوار تمهيدا لمسحها من الخريطة كما حصل في الواقع. لكن السدود الترابية كانت قد بنتها وحدات الهندسة العسكرية عام 1982 حين انسحب الجيش العراقي إلى «الحدود الدولية» وتوقع قيادته الميدانية بتحول الأهوار إلى منطقة عسكرية شاملة، شهدت بالفعل فيما بعد معارك طاحنة من أجل السيطرة على حقل «مجنون» الغني بالنفط. وهكذا ابتكروا شركات ظاهرها مدني ولكنها تعمل تحت إشراف وزارة التصنيع العسكري وقد انيط ملف التجفيف وقتها الى حسين كامل الذى تولى مهمة إعداد التصميمات الهندسية لشركة الفرات وتنفيذ السدود لشركتي الفاو والمثنى بما يعادل 180 مليون دولار وفي الوقت نفسه كانت ألوية 65 و 66 و 68 بمساعدة الطيران تقصف الهور ملقية عليه 111 برميل نابالم حسب معلومات أحمد السعداوي فيما كانت مقاومة المسلحين مستمرة في عمق الهور الذي لم ينشف بعد.
لقد دخلت الدولة وكوادر حزب البعث بكل ثقلهم المادي والبشري بقوة من أجل تنفيذ عمليات تجفيف الهور وقص القصب والبردي وتهجير الناس وتحويل هذه الجنة إلى منطقة قاحلة وسبخة وبور كما أطلقوا عليها فيما بعد، وساهمت كافة الوزارات العراقية بهذا العمل لاسيما الإسكان والتعمير والدفاع والري والزراعة والنفط والصناعة والتصنيع العسكري والبلديات. وقسموا العملية إلى عدة مراحل أهمها بناء السدود وشق الأنهر الصناعية لرمي الماء في البحر والصحراء.
تكنولوجيا التجفيف
بداية منعوا المياه من الوصول إلى مناطق الأهوار واتفقوا مع تركيا لتقليل منسوبها (تركيا بالأساس كانت تنفذ «مشروعGAP » الذي يتضمن بناء 22 سدا تركيا لغاية 2010 بالإضافة إلى الجفاف الذي ضرب العراق في السنوات السبع الأخيرة من عمر النظام). أما المياه التي كانت تصل إلى العراق فكانوا يحولونها إلى سدود بادوش الذي أنجزته الشركة اليوغسلافية «انجنير بروجكت» وسد بخمة الذي بنته الشركة التركية «إينكا» و سد مكحول في الموصل وما يزيد من الروافد يوجهونه لسدود الثرثار وحديثه وخزانات دوكان ودربندخان.
وبالرغم من أن هذه السدود والخزانات كانت كافية لاستيعاب مياه النهرين، لكنهم باشروا بإنشاء سد العظيم لاحتواء أنهر العظيم وديالى إليه لتتولى سدة الكوت السيطرة على مياه الغراف وتقضي على أهوار الخراب و المضدك والغموكة والعوينه والكطينة وغيرها.
وبإضافة المشروع التركي للسدود في سوريا تم إنشاء سد طبقة وبحيرة الأسد وجففت إيران جزءا كبيرا من هور الحويزة التابع لها باقامة سد مياه نهر الكرخة عنه لأسباب قالت أنها عسكرية في غضون الحرب، وقيل أن هدفها من بناء سد الكرخة تزويد الكويت بالمياه العذبة عن طريق خط أنابيب.
تكتيف وتهذيب
حسب الوثائق الرسمية للنظام فان خمس عمليات كبرى وضعت لتنفيذ التجفيف نفذوا منها ثلاثا فقط.
الأولى تكتيف أنهار الوادية والعدل والكفاح والشرمخية والمسبح وهدام وأم جدي وأنجزت في يوليو 1992 بقطع المياه عن كل الأنهر والأهوار والجداول التي كانت تستفيد من الأنهر المذكورة وكانت الضربة الأكثر وجعا حين تم تنشيف هذه الأنهر بقطع المياه عنها في المرحلة التالية بإنشاء نواظم خاصة على دجلة.
وأطلق على العملية الثانية مفردة «تهذيب» ضفاف الأنهار بإنشاء سدود على الأنهر والجداول التي تغذي أهوار العمارة عند الجندالة وأبو الجواتل وأبو عجل، وبذلك حرمت منطقة شاسعة من مياه السقي والشرب.
وثالثا، قاموا بتحويل مياه الفرات باتجاه المصب العام (النهر الثالث) في خور عبد الله الواقع في الخليج، بدءا من منطقة الفضيلة التي لا تبعد كثيرا عن الناصرية. وبذلك حولوا المصب العام إلى مبزل يسحب مياه هور الحمــّار أكبر موقع للمياه الحلوة في العالم، حيث كانت الأنهر الصناعية تمر في منطقة أخفض منه لتسرق مياهه من الجنوب نحو البحر. بالتوازي منعوا مياه الفرات بالتسرب ثانية نحو هور الحمــّار بإنشاء سد كبير بمحاذاة الفرات بطول 145 كيلومترا وبارتفاع لا يزيد عن ستة أمتار وبهذه العملية منعوا أي قطرة ماء تصل إلى هذا الهور الشاسع من أنهر عنتر والخايرة والخرفية وغيرها من الجداول. وفي القرنة لم تتكفل خطة التجفيف بشيء، فقد كان الجيش قد أنشأ سد يسمونه «الحماية» يقع ما بين القرنة و«المدينة». وبالتوازي كانوا يبنون سدودا ترابية مختلفة بغية تجزئة الهور وكان مسرحها قرى الصحين و أبو صبور وأم السباح والمكطاع والعبرة وأم الزهدي والعويلي.
بمجملها بنوا ثلاثين سدا وهو عدد من السدود لم يبنه أي بلد في منطقة ضيقة ولهذه السدود قدرة تخزين كميات من المياه أضعاف من تحمله دجلة والفرات المكبلتين بسدود دول المسرى.
ري وبزل
وكانت مشاريع الأنهر الصناعية تجري بالتوازي مع السدود وكان المعلن أن هذه الأنهر ستصلح الأراضي الصحراوية وتنقي المياه من الأملاح، لكنها كانت تستدرج المياه إلى البحر فحسب.
وتصدرت مشاريع أنهار «أم المعارك» و«العز» و«النهر الثالث» في ذلك الوقت الاهتمام الشديد بشق الأنهر الصناعية التي لم يستفد منها احد لا في العراق ولا في دول الجوار. وعملوا في مشاريع البزل والري للسيطرة على نهر العز في الدلتا المنحصرة بين دجلة والفرات التي كانت تتمتع بمياه جداول البتيرة والعريض والمجر الكبير بفرعيه العدل والوادية ومشاريع أنهار القادسية والوادي والمالحة وأم نخلة وغيرها.
آثار التجفيف
قائمة طويلة من الآثار السلبية والمدمرة خلفتها عملية التجفيف التي لم تكن ذات منافع اقتصادية أو زراعية أو إروائية لكونها كانت سياسية وأمنية جوهرها كبح النبتة وخنق الفراشة وقتل الحياة التي تسير من دون إذن أو مشيئة القيادة التي اعتبرت نفسها عادلة.
نتيجتها زوال أكثر من 90 % من المسطحات المائية في الأهوار وتشريد معظم سكان المنطقة وتدمير أكثر من 100 قرية، ناهيك عن آلاف الجبائش والإيشانات التي كان يقطنها «المعدان».
تمت ابادة 85 نوعا من الطيور وعدد يقل عنه من أنواع الأسماك التي عاشت في الأهوار، ناهيك عن الكائنات الحية الأخرى وحرمت البلاد من ثروة آلاف الأبقار والجواميس وعشرات الآلاف من رؤوس الماشية واختفى أهم أنواع الرز في العالم الذي تخصصت المنطقة بانتاجه والمسمىب «العنبر» وتلاشت غابات القصب التي كانت تستخدم في الكثير من الصناعات المحلية اليدوية وحتى الأفرشة والمساكن ووسائل النقل ودمرت المنظومة الطبيعية لترسيب المواد الغرينية والأملاح والمواد العالقة في المياه وتم القضاء على إرث تاريخي امتد عمره لأكثر من 5 آلاف سنة عاشت على أرضه ممالك وحضارات وعمق أصيل من سلالات بشرية لا تزال شواهدها مطمورة بين الأشنات.
سرنا في عمق هور الحمــّار لساعات طويلة بواسطة السيارة، هذا الهور الذي لا يمكن أن تمخره إلا المشاحيف والزوارق والشختورات ولا يقف عليه كائن حي إلا على الإيشانات والطوافات، نسير به بسيارة وسط الأعواد وقامات البردي المتيبس.
لم يرحموا التنوع الأحيائي الفريد ولم يحم أحد الطيور النادرة المهاجرة التي كانت تواصل الحياة طوال الجزء الطولي من الكوكب. وبدلا من عشرات أنواع الطيور والدواجن اختلطت أرضه القاحلة بالسموم والألغام والذخائر المتروكة والقنابل غير المنفجرة ومياه جوفية أقرب للبرك الآسنة.
أن عملية الأرض المحروقة التي اتبعها النظام في الأهوار بغية تشريد أهلها وإخلاء المنطقة من المعارضين، أدت الى تسمم وهلاك الأحياء هناك وتسرب هذه السموم إلى شط العرب ومن ثم إلى الخليج.
حدثنا شاوي أن ولده جلب مرة عددا من السلاحف رآها على وشك الموت عطشا وجوعا، حملها في كيس وتركها تعيش بالقرب من النهر. وكانت البذرة الأولى التي أعطت الحياة الجديدة للنهر الذي بدأت مياهه ترتفع. يعد هذا مثالا لتآلف الإنسان مع الحيوان في هذه المناطق، الإنسان الذي لم يفضل نفسه يوما على الحيوان في علاقة ود متبادل وعطاء وتضحية منح كل منهم الآخر على مر الأزمنة.
المهجرون
حسب إحصاءات الحكومة الحالية فأن 650 ألف شخص تم تهجيرهم من أهوار الجبائش والحمــّار والفهود وحدها، بينما أكد سيد صادق في إحصاء عشائري يحتفظ فيه واطلعنا عليه في مضيفه أن مالا يقل عن مليون إنسان تم تهجيرهم في مناطق الأهوار المختلفة.
والقاعدة التي تعلمناها هنا هي أن المياه تجذب الإنسان لأنها تمنح الحياة لحيواناته وتعطيه فرصة ممارسة شؤونه التي اعتاد عليها بصيد السمك والطيور وتدبر أموره بكفالة من الماء.
والبيانات الرسمية أفادتنا بعودة 40 ألفا فقط من سكان الأهوار، لكنها لم تثبت عودتهم إلى أماكنهم الأصلية، التي لا يمكن العيش فيها الآن. لذلك فضل هؤلاء السكن في المدن والنواحي والأقضية القريبة من الهور وامتهان أي عمل يسد رمقهم.
ففي تلك الأوقات التي هجروا فيها وشردوا الناس من الأهوار، التجأ قسم لا بأس به منهم إلى ديالى والرمادي وبعض المناطق الزراعية وسط وغرب البلاد، باعتبارها آمنة وزراعية وبعيدة عن جبهات القتال والأهم أنها عراقية حسب الافتراض.
عوملوا هناك كما يقول سديري بخت، كالعبيد وكانت امتيازاتهم تقل عن حقوق الحيوان، فلم يسمح لهم بإيجار البيوت ولم يسمحوا لهم حتى المبيت في الفنادق وكانوا يفرضون عليهم «الجزية» ويدفعون أتاوات ولا يستطيع أي منهم تدبير عمل وممارسته إلا بإشراف أحد سكان المنطقة الأصليين الذي يأخذ الأرباح ويمنحه ما يسد رمقه فحسب.
هكذا كانوا يعاملون الأهواريين في الفلوجة والانبار وتكريت وديالى وبعقوبة وسامراء، بعد أن قامت جحافل جيوشهم نفسها بإحراق قراهم وتشريدهم حسب نظرية النظام الزائفة التي طبلت فيها وسائل إعلامه بأن هؤلاء مجرد هنود جلبهم محمد بن القاسم معه بصحبة الجواميس من الهند. كانت هذه النظرية العنصرية والخالية من أي مصداقية التي بنى عليها النظام أسسه الفكرية وحججه الأخلاقية لتدمير المنطقة وتشريد سكانها في وقت أثبتت كل الأدلة أن جلجامش كان يصارع الجاموس البري وأن الجاموس في الهور أقدم من عشيرة صدام في تكريت بآلاف السنين، وأن على هذه الأرض وبين أمواجها ترعرعت ممالك وحضارات وخطت ألواح ما زالت تشع علوما وأدبا وشعرا وفنا لا يضاهيه احد في التاريخ وأن الأقوام العربية التي سكنت الأهوار من دون مسميات، كانت قلب القبائل العربية الأصيلة.
عودة الإقطاع
يعود الناس بشكل غير منظم إلى الأهوار. وأسأل صريـّح مجبل الذي تجمع أبناؤه حولنا خلال مقبله علينا حافيا مغطى بالمياه لأنه عبر الجدول «مشيا»، وهو واحد من الناس هنا الذي لم يطلب شيئا لنفسه ويجابه مشكلة في توفير علف للجاموس يقول : لا توجد لدينا «النخالة» (كل جاموسة تأكل 4 كيلوات يوميا منه لكي تمنح اللبن والزبد والقيمر الجيد).
لدى صريـّح وعائلته المتكونة من عدد غير قليل من البشر 8 جاموسات تمنحه يوميا من 50 - 80 ليتراً من الحليب (يحسبها بوحدة القياس الكيلو) والكيلو يبيعه بـ 400 دينار (30 سنتا) ولكن هناك مشكلة أكبر من «النخالة» وسعر الحليب. بدأت هذه المشكلة حين حاول النظام السابق فرض سلطته داخل كل كوخ في الهور فقام بتوزيع الأراضي بما فيها من مياه وحيوانات وقصب وبردي إلى زعماء العشائر وصارت منذ ذلك الحين إقطاعيات باسمهم (بالتعبير الحقوقي ملك بدون طابو). واستمرت الحال حتى بعد التهجير، فمن كان يساعد النظام من الشيوخ وأتباعهم لم تطلهم مجرفة النظام وبقوا في قصورهم مشرفين على الأراضي التي يعتبرونها بصمت المؤسسات الرسمية الحالية ملكهم الخاص.
بطلنا صريــّح يدفع لآل حمدان وهم أصحاب الأرض أو كما يسميهم «أبو الديرة» حسب الشرح أعلاه نحو 600 ألف دينار يسمونه " ضمان سنوي " لكي يستطيع أن يبني له كوخا على حافة الهور أو أي نهر ويربي جاموسه.
امثال صريــّح الآلاف من يدفعون لـ «الشيوخ» ما نسميه بالأتاوات، لأن هذه الأراضي والأنهر أصلا ملك عام للدولة وهي أرض العراق وليست ملكا لأحد، لكن قوانين توزيع الأرض التي قام بها النظام السابق لزعماء العشائر حتى يتسنى لهم السيطرة ولجم الفلاحين البسطاء لا تزال سارية حتى الآن من دون أي وجه حق أو مشروعية بالطبع.
وبحساب بسيط لحليب جاموسات صريـّح وتكلفة نقله إلى السوق وبيعه وإطعامها العلف فأن آل حمدان يأخذون منه سنويا أكثر من 60 % من عوائد أرباحه ويبقى يعيش بما يتبقي من أموال قليلة، يقول أنه يشتري بها الطحين الذي يتقاسم نخالته مع الجاموس، أما السكر والشاي والرز فقد اعتبرها كماليات، ولدى سؤالنا عن المدرسة وفيما إذا كان أولاده يذهبون اليها، فغر فاه ولم يجب لأنه لا يعلم عن أي شيء يدور الحديث!
العائدون أيضا
وآخرون لم يعودوا من خارج العراق، ولا من داخله بعد تشتتهم في القرى والبلدات وأرجعتهم إلى الأهوار الإشاعات والأنباء ورائحة المياه التي قالوا أنها غمرت مناطقهم. وهذا القسم من العائدين ليس لديهم أي شيء يملكونه سوى مهنتهم وتعلقهم بالماء والحيوان وكلهم من دون مأوى تقريبا وعملوا من القصب الموجود أكواخا مؤقتة لهم.
سابقا كان أبناء العشائر في الهور يعيبون من يتعاطى التجارة وحتى الذي يبيع تمور حقله وكانوا يزرعون الخضار ولا يبيعونها، بينما يضطر القسم الأكبر لممارسة أي عمل دون التوقف عنده لتمشية أمورهم. فصيد السمك والطيور، الذي يمتهنونه، جعل الأهوار أيام عزها تصدر 500 طن من الأسماك المختلفة يوميا لكل أنحاء العراق، بما يعادل 70 % من إنتاج الثروة السمكية في كل العراق، أصبحت هذه المهنة غير متاحة في الأهوار التي وصلت إليها المـياه قبل فترة قصــيرة، فهــذه الأحـــياء تحتاج لمدة كافية لكي تعود إلى حياتها الأصلية. لم تقدم أي جهة رسمية أو مانحة أو متطوعة للعائدين إلى الأهوار أي شيء يذكر عدا الوعود، في حين لا يملك من عاد إلى الأهوار غير ملابسه التي تغطي جسده وقدر وفراش قديم.
دانمركيون وهولنديون
قسم كبير من المهجرين إلى دول الجوار، تم ترحيلهم إلى دول اللجوء الإنساني مثل الدول الاسكندنافية واستراليا وكندا. فقبل تشييع جنازة حجي نهار، التي اشتركت فيها كل القرية التي نسكنها، رأينا الكثير من الصبيان الدانمركيين والهولنديين وسألت سعد القطان كيف استطعت إقناع أولادك بالعودة من الدنمارك إلى قرية العتيبية وما الذي يفعله هؤلاء الدانمركيون الصغار هنا. نظرت إليهم محمد المصطفى وفاطمة الزهراء وعلي المرتضى أبناء سعد كانوا فرحين لمولد أختهم الصغرى بسملة وغير مبالين بمواطنتهم الجديدة ويعدون أنفسهم من سكان الهور. والشيخ منذر سعدون القــطان حير اللجنة الهولندية لحقوق الإنســان التي كانت تريده أن يبقى في " وطـــنه " هولندا ولكنــه طوال ساعتين من النقاش أقنعهم بضرورة عودته إلى قريته ليتزعم عشيرته ويقودها في الظرف الصعب. يؤكد الشيخ أبو عاصم بأنهم لم يفهموا ما كنت أعنيه بزعامة قبيلتي وأني ساترك هولندا لأعيش في قرية على أطراف سوق الشيوخ.
آثار التجفيف كويتيا
لتجفيف الأهوار اثار مباشرة على الكويت حيث يصب بالقرب منها شط العرب في الخليج وكان الكثير من أنواع الأسماك التي تنتشر في المياه الإقليمية الكويتية مجرد بيوض تضعها الأسماك القادمة من الهور في مصب شط العرب كالصبور والربيان والزبيدي التي تهاجر من العراق إلى الخليج.
فعلى سبيل المثال عندما رصدت ظاهرة نفوق الأسماك في منطقة عشرج في 10 أغسطس 2001 استعرض مجلس الوزراء الكويتي بعد ثلاثة أيام التقرير المقدم من معهد الكويت للأبحاث العلمية حول مخاطر تغيير مجاري الأنهار وتجفيف الأهوار على الأحياء البحرية والثروة السمكية للكويت، أي بعد 10 سنوات بالتمام والكمال من افتتاح النهر الثالث العراقي في ديسمبر 1992.
في اليوم الذي تلا هذا الاجتماع وتحديدا في 14 أغسطس 2001 كلف مجلس الوزراء الكويتي معهد الأبحاث المذكور وهيئة البيئة لاجراء دراسة حول الآثار البيئية الضارة وما ألحقته من أضرار بالمياه الإقليمية الكويتية لغرض مطالبة العراق عن طريق الأمم المتحدة بدفع تعويضات لها استنادا إلى تقرير صدر عن الأمم المتحدة في مايو 2001 وفيه كانت إشارة على أن تجفيف الأهوار هو سبب نفوق الأسماك في شمال الخليج في شهري سبتمبر و أكتوبر 1999.
وكانت الدكتورة فائزة يوسف اليماني قد قدمت تقريرها التنفيذي في فبراير من عام 2000 باسم معهد الكويت للأبحاث العلمية ، عرضت فيه بشكل مفصل التأثيرات القصيرة والمتوسطة الناجمة عن تغيير مجاري الأنهار العراقية في عملية تجفيف الأهوار، منبهة بشكل تفصيلي الى ما يخص ملوحة المياه الشمالية للكويت وزيادة تركيز المغذيات المذابة والرسوبيات العالقة والملوثات الكيميائية ودرجة تعكر المياه واختلاف أنواع العوالق النباتية والحيوانية بسبب «النهر الثالث» عن تلك المتواجدة في مياه جون الكويت والمياه الجنوبية وأشارت الى التأثيرات التي سيخلفها المشروع التركي GAP الموضح أعلاه.
القرى المحروقة
تحفظ ذاكرة الأهوارييون تدمير وحرق أكثر من مائة قرية وسلف (مجموعة البيوت المتحدة على الجبائش) وربما آلاف الايشانات ومن ضمن التي يدونها تاريخ الأرض المحروقة أهلكت القرى التالية من أهوار البصرة : السديدة الصالحة، الدانك، السمانة، الأزرق، ام السباح، السورة وعشرات مثلها وفي الناصرية: العمايرة، البيضة، عبادة، حمــّار، العبرة، آل شمس، العشرين، آل جويبر، آل زياد، آل حرب، آل إسماعيل، العثمان، الخرفية وغيرها وفي العمارة: الصيكل، الشطانية، العويلي، الروازة، القبور، الحشرية، الشطيط، النقارة، أبو شذر، الهوية، وما عداها من قرى أهوار ناحية الإصلاح كالخليوي والرميض ونصرالله و العريثم والكردي وآل نهار واللغيوات والنواصر والعامر والرويمي والبو حسين، وكذلك قرى الدهيش والجبيش والرحال والحسام. ومن قرى الجبائش التي تتكون من 1600 جزيرة: البحر والعوجة والسريحات والمواجد والسماكية والفريح والحدادين والونيس والخاطر، وعدد من قرى ناحية كرمة بني سعيد والمطيرات وآل بو خليفة وآل بو عويد وآل الإسماعيل وآل بو شخير وكرمة حسن والمزالكة والبنج الواقعة في ناحية الطار وقرى آل جويبر التي أعدم النظام الكثير من هذه العشيرة وأفنى وجودها بالكامل.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
القبس فـي الأهـوار العراقية- 3
9 وزارات كلفت بحل «قضية الأهوار» والـجميع بانتظار القرار
الأهوار العراقية - د . جمال حسين:
أوردنا الكثير من أسماء المنظمات والمؤسسات والمعاهد والجامعات الدولية التي أبدت اهتمامها في «قضية الأهوار»، وكل منها يحمل في أدراجه ملفات ومقترحات ورؤى وخطوات ومقترحات ومعوقات، وهذا الزخم الهائل من المنظمات لم يجتمع قبلا لمعالجة مشكلة ما في الكوكب كما التقوا جميعا في سلة الأهوار.
وإن كانت تجربة السنوات الثلاث الماضية بينت أن كثرة هذه المنظمات الدولية ليست بالضرورة دليل عافية ونتاجها غير مثمر موحد مادامت لم تشكل هيئة مستقلة خاصة للتنسيق فيما بينها، لذلك لم تصل إلى الهواريين، فان الطرف الآخر من معادلة الأهوار موجود داخل العراق.
في هذا التوقف سنستعرض العاملين في مجال الأهوار عراقيا، من يكونون وعلى أي أسس يعملون وأي رابط يجمعهم وكيف بدأوا ومن له الصلاحية ومن يجد نفسه في الرواق ومن يوقع ومن يستلم ومن يصرف ومن يجود ومن يتلكأ وعلى أي مستند يستندون، في واحدة من أكثر القضايا التي أشبعوها تصريحات و كتبوا الأشعار عليها ودخلت في برامج الأحزاب السياسية والانتخابية وفي مسلات محاكمة مجرمي الحرب ولم يخل خطاب لمسؤول أو ناطق أو معارض أو قارئ مقام، إلا وكانت الأهوار طرفا فيه.
المرارة كلها تنحصر في أن الجمع الذي يرثي الأهوار اتسع وطال وعرض في العراق، بحيث يصعب على المتتبع والمتبرع العثور على الطرف المسؤول فعلا عن المقود والدفة بتشابك المؤسسات والوزارات، الأمر الذي ضيع الصلاحيات وفاقم في تيه الباحث والفضولي والمهتم والغارق بالأحلام. وفي خضم هذا الزحام على طاولة الأهوار يكون إلقاء اللوم والذنوب والعتاب على جهة دون أخرى ومن دائرة على أخواتها، أمرا سلسا ومن طبائع الدول المبعثرة الأوصال وتلك التي لا عليها أحد من سلطان.
وبما امتلكوا من خلافات وما ورثوه من خضوع وذاك الفساد الهياب المقضوم من أظافرهم والساري في دمائهم سيزيد على العين الغمة والغمام وسيرتق الحجاب تلو الحجاب ما أن تحاول الإفلات أو تريد إماطة اللثام أو تلجأ لإقناع نفسك بمثوى السعادة الطبيعية لأناس لم يكونوا يوما طرفا في تقرير لون جلودهم ولم يفقهوا لحظة عبارات الرسميين ولم تطل أعينهم على كسوة المتطوعين ولم تتجعد بشرتهم سدى ولم تحمر خدودهم عبثا.
أمروهم بالرحيل فرحلوا، أحرقوهم فاحترقوا، جففوهم فعطشوا، طردوهم التجأوا، اغتصبوهم ورضوا.. وهنا يتلقف المرء المصباح كهبة للدرب المظلم وهذا سر بقائهم ووجودهم مأكولين مذمومين قرب السواقي وفي دوارات الرياح ولزوجة الموجة وتلمس الأعشاب.
هم الموضوع والقضية من مبتدئها حتى منتهاها ولو كانت الشعارات والقرارات والمؤتمرات والمخصصات الرسمية وامثالها ولدت من القلب، فلابد أن تصل إلى الناس وإذا لم تصل ولم تظهر، فان أمرا آخر بنيت عليه هذه القضية من أساسها.
المسؤولية المباشرة
تتحمل الحكومة العراقية حاليا (ليس ذنوب السابقين بالطبع) مسؤولية إعادة الوضع كما كان عليه الحال، ويشاطرنا هذه الفكرة جيروم لي روي مدير مؤسسة عمار الإنسانية المهتمة بسكان الأهوار حين حملت بيانات مؤسسته الحكومة وطالبتها بضرورة الإسراع في حل هذه المشكلة قبل استفحالها.
الكرة نفسها تلقيها أكبر منظمة تهتم بالأهوار في مقر مجلس الوزراء العراقي، يوضح الأمر من برنامج الأمم المتحدة «يو ان إي بي». مونيك باربوه التي تقول انهم لم يقوموا بإجراء تغييرات واسعة في الأهوار (واضح الحذر في التعبير والإجراء). وقولها: «إن هذا المشروع طويل الأمد ويعتمد على توجيهات الحكومة العراقية ويتطلب رأي العديد من الوزارات حول القرارات المهمة والمكلفة».
حسب هذا الكلام فان القرارات الرئيسية حول الأهوار تعتمد على الحكومة العراقية، وهذا مآل منطقي لحال دولة ذات سيادة فيما يخص كيفية توزيعها لمياه النهر وإنشاء محطات معالجة المياه وما يحتاجه الإنتاج الزراعي والحيواني وكيفية التصرف وتحويل مجرى النهرين الرئيسيين والثلاث الصناعيين.
تنذر باربوه وتفتح نوافذ القضية بأكثر اتساعا حين تقول: «لقد قامت الحكومة بتشكيل هيئة مشتركة ولكن الوقت لا يزال مبكراعليهم لاتخاذ أي قرارات».
بانتظار القرارات
لقد قام الأهالي بضخ المياه في الأهوار قبل أن تظهر أول حكومة عراقية بعد السقوط بأشهر والهيئة التي تتحدث عنها خبيرة الأمم المتحدة هي عبارة عن 9 وزارات عراقية كلفها مجلس الوزراء بحل قضية الأهوار.
وإذا كان الأهالي بمساعدة غريزية من بعض الجنود الأجانب قد فتحوا بعض السدود وحركوا مقود ناظم هنا وآخر هناك، وأعادوا المياه للكثير من الأهوار، فماذا تنتظر 9 وزارات ولماذا الوقت لا يزال مبكرا عليهم ليتخذوا القرار اللازم؟
هل يتخذونه بعد أن يتلاشى أهل الهور ويستمر ضياعهم واستغراقهم بمهن لا تمت بصلة للإرث المهم الذي استلموه من أجيالهم؟
هل يتخذون القرارات كما جرت العادة حين لا يكون لاتخاذها معنى وحين ينتهي الجيل واحدا بعد الآخر؟
اليوم أفضل من الغد، هذه قاعدة الحياة العراقية عموما، وإذا لم تحل المشكلة اليوم فستزداد عقدها غدا.
مشكلة الأهوار ليست مياها، بل نمط حياة ينبغي أن يعود طالما يوجد الآن عشرات الآلاف بمستطاعهم التكفل بهذه المهمة. اليوم هم موجودون في الهور وعلى المعنيين اللحاق بهم قبل فوات الأوان وقبل أن يغادروها. وقد يأتي الغد الذي نوفر فيه المياه للأهوار ولا نجد من يستطيع تقبل الحياة هناك بظهور جيل جديد نما في المدن وتغيرت طباعه وأحواله وعاداته. هنا تنحصر مشكلة قضية الهور: السباق مع الزمن !
وبدلا من احاطة 9 وزارات في مشكلة واحدة، يمكن إعادة النظر في مسألة إنشاء وزارة الأهوار، هذا المشروع طرحه مجلس الحكم السابق، لكن رئيس الإدارة المدنية للائتلاف بول بريمر وقتذاك ألغاه.
التشتت في الصلاحيات والمهام بين الوزارات التسع أربك المنظمات الدولية أيضا، فهناك دول لديها وزارات متخصصة بالمسطحات المائية والمستنقعات كاليابان وفيتنام والعراق الذي يمتلك أكبر مسطح مائي في هذا الجزء من العالم لم يوقع على المعاهدة الدولية لحماية المستنقعات المعروفة بمعاهدة «رامسار» والمقرة عام 1971 والعالم يحتفل كل 2 فبراير من كل سنة باعتباره اليوم العالمي للأهوار، حيث لا توجد هيئة مستقلة كوزارة الأهوار تعنى بالقضية هذه منفردة وبدون تكليفات عامة لوزارات غير متخصصة.
خطط و أموال
الخطط المعلنة تبنتها المؤسسات الرسمية والخاصة كل على انفراد أو بالتعاون المشترك. وتحديد عناوين هذه الخطط سيعطي المجال للمعاينة ومعرفة ما على الورق من أموال وما على أرض من نبات وماء وانماء.
فالوزارات المعنية أعلنت الكثير من المنجزات، فمثلا، تم الإيعاز بتنفيذ «خطة طموحة» لبناء قرى عصرية في الأهوار وتحويلها إلى مناطق سياحية أسوة بما معمول به في كثير من دول العالم التي توجد فيها مسطحات مائية مشابهة. ستساعد الولايات المتحدة في ضوء المنحة المقدمة لوزارة الموارد المائية وقيمتها 450 مليون دولار في تبني الخطط التي ستقوم الجهات الأميركية بتنفيذها مباشرة. غير أن هذا يعتبر مبلغا كبيرا استقطع من هذه المنحة ولم يصل أغلبه إلى الوزارة وبذلك تسطع الشكوك على إمكانية تنفيذه بالرغم من أن المنطقة تعتبر آمنة بما فيه الكفاية ولا يوجد ما يعترض سير أعمال البناء فيها.
وزارة الموارد المائية اعتبرت ان إعادة الأهوار إلى وضعها الطبيعي هدف استراتيجي وعليه وضعت خطط مبنية على حماية الإرث البيئي والاقتصادي والثقافي للأهوار. وأعلن عن تخصيص 3 مليارات دينار عراقي لعام 2005 لتنفيذ أعمال فتح قنوات وإنشاء نواظم وإجراء دراسات وبحوث وإنشاء نماذج هيدروليكية وتأهيل مشاهد طبيعية لمناطق الأهوار وتخصيص 8 مليارات دينار عراقي لكافة مشاريع الري في وزارة الموارد المائية كما تم تخصيص 3 مليارات دينار من المبلغ المرصود لإجراء الدراسات والتصميمات وتحديث دراسات اعادة تقييم السدود. وفتحوا بكلفة 210 ملايين دينار عراقي 70 نهرا مندرسا في هور الحمــّار ووفروا طرقا سهلة للصيادين للدخول بواسطة الزوارق واستفادت من هذا العمل قرى المنذوري والداوودي وآل بو محمد وآل بو شاوي والدبون. ونفذوا 5 برابخ وتقاطع مع مبزل ونهر طريق وتكتيف الفرات للمنطقة المحصورة بين البصرة والناصرية لغرض السيطرة على المناسيب وللتحكم بإطلاق المياه إلى الأهوار والتشغيل المنتظم لهذه النواظم وإنجاز تصاميم 12 بربخا يسار نهر الفرات وتكتيف 7 منافذ بين قضاءي المدينة والجبايش لربط الأهوار الوسطى بنهر الفرات وتحسين نوعية المياه في هذا الهور.
و يتواصل العمل من خلال فرق مشتركة مع وزارة البيئة ومنظمة UNEP لتحديد المناطق المنتخبة للمراقبة الشهرية وملاحظة التغييرات التي تطرأ عليها لإنشاء مجمعات لمياه الشرب باستخدام التقنيات السليمة بيئيا. والعمل جار لإنجاز سداد التوسع وحماية مدينة الجبايش بطول 13 كيلومترا باستخدام الحفارات البرمائية من قبل المديرية العامة لكري الأنهر وبكلفة 145 مليون دولار بوشر بإنشاء سداد الحماية لقرية السبيطية في قضاء المدينة بكمية تصل إلى 50 ألف متر مكعب من الأتربة. و يقيم ملاك وزارة الموارد المائية حالة التلوث الإشعاعي والكيمياوي والميكروبي لمواقع الأهوار وتوصيف المياه ودراسة إنعاش هور الحمــّار وإحياء النظام البيئي فيه وتطوير أهوار الحويزة مع التوسع به من خلال تطوير أنهر المشرح والكحلاء ومصرف كميت وتم استخدام تكنولوجيا الاستشعار عن بعد لمتابعة الحالة الاجتماعية والاقتصادية في أهوار القرنة. وخصصت وزارة الموارد المائية 6 صهاريج لغرض إيصال المياه الصالحة للشرب إلى أبناء الأهوار وبواقع سيارتين لكل محافظة (البصرة والعمارة والناصرية) فيما تشير دراسة إلى استخدام الغاز المتوهج من حقول النفط الجنوبية لإنشاء محطات لمعالجة مياه الأهوار. وهناك خطط لوضع تصاميم لـ 400 وحدة سكنية قرب الأهوار بالتعاون مع منظمة المستوطنات البشرية.
أموال وأحلام
أن مطالعتنا للمنطقة دلت على أن السدود والنواظم كلها موجودة وما عليهم سوى تغيير دفاتها واتجاهات المياه فيها. وهناك مبالغ تذهب إلى الشركات الأجنبية التي ستتم الاستعانة بها لدراسة المشاريع الكبيرة و كذلك «الجامعات العراقية والمكاتب الاستشارية المتخصصة».
دخول الشركات الأجنبية و«المكاتب الاستشارية المتخصصة» هي واحدة من إشكاليات الدولة العراقية الراهنة ، فهذه الشركات تتهم عادة بأنها منهم وإليهم وكما أثبتت مجلدات من تحقيقات هيئة النزاهة وتقارير المراقبين وتلميحات الخصوم.
المسؤولون العراقيون أبدوا تفاؤلهم بعد أن شاهدوا «تحدي الناس وتصميمهم على إعادة الحياة لأهوارهم ومسارعتهم لإزالة الحواجز على الأنهر» وهذا يعني أن الناس وليس برامج وخطط المكاتب الاستشارية من قام بهذه العملية.
يتساءل الناس هنا عن السبب الذي يعطل العملية ولماذا لا يمنحونهم الوسائل والآليات والمكائن والمهندسين وسيكلف ذلك الدولة مبالغ أقل بدون الإصرار على الشركات الخاصة المكلفة بقضايا مثل «إدامة المنطقة المغمورة» و«مراقبة نوعية المياه» أو«تحسين الواقع البيئي للأهوار».
فمثلا يقولون في الجمعية العراقية لاحياء وتطوير الأهوار، وهي منظمة خاصة، أن المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي شكلت بعد سقوط النظام والمتمثلة بوزارة الموارد المائية والبيئة ومركز إنعاش الأهوار والمراكز البحثية والمجالس الشعبية لم تفعل شيئا وتتبجح فقط بـ«كومة» من البرامج إلا أنها برامج مع وقف التنفيذ. وأشاروا إلى نقطة طالما ذكرها الأهالي لنا وهي أن المياه كانت وفيرة في الأعوام الثلاثة الأخيرة وكانت كافية لغمر الأهوار كلها بالمياه وكانت تكفي لإعادة إحياء الأهوار لكنها كانت تطلق مباشرة على البحر دون الاستفادة منها. وهذا يدل على عدم فاعلية هذه المؤسسات وعدم جديتها على الأرض.
وهناك مشكلة وضحها الناس لنا وهي تقلص المساحات المائية بسبب انعدام فتحات التصريف وعدم وجود سبل لإعادة إطلاق المياه إلى الأهوار لتحسين نوعيتها وزيادتها في آن واحد.
والاتهامات التي تتبادلها الجهات الرسمية والخاصة كما اطلعنا عليها تركز على أن كل طرف يتهم الآخر بأنه يقيم المشاكل ويعطي الحلول عن بعد دون أن يخوض ميدانيا فيها.
أن المظاهرات التي جرت في المحافظات الجنوبية الثلاث شارك فيها أبناء الأهوار معلنين عن أنفسهم ببيارق عشائرهم ورفعوا شعارات تدل على أنهم يعرفون حتى المبالغ المخصصة لتحسين أوضاعهم ولكنهم لم يلمسوا شيئا منها كبناء المجمعات السكنية والمراكز الصحية والبيطرية ومد الطرق وغمر الأهوار بالمياه اللازمة وتحسين وضع العائدين من المهجرين ليشجعوا المهاجرين على العودة، ناهيك عن تعويضهم جراء الأضرار الفظيعة التي تعرضوا لها. وثمة مشاكل جزئية لكنها تؤثر في الحياة الزراعية بشكل مباشر وخاصة النباتات الضارة التي بدأت تظهر وتؤثر في ضياع الكثير من المياه كالشنبلان وزهرة النيل التي دخلت العراق مطلع الثمانينات حين جلبها العمال المصريون كنبات للزينة وسرعان ما انتشرت بذرته في الأنهر.
الحفارات التي تمتلكها وزارة الموارد المائية تعرض العديد منها للسرقة، لكن ميزانية خصصت لوزارة الزراعة قدرها 20 مليون دولار مخصصة لتنظيف الأنهر والمسطحات المائية فقط.
وساعدت الجهود الرسمية على غمر 25 % من بعض الأهوار لاسيما هور أبو زرك والعدل والكرماشية والشويحرية والجبايش والقرنة والعبرات وأبو فلوس وأجزاء من هور الحمــّار وتتحسن أوضاع أهوار الحويزة والصحين والعكر والصيكل وعودة والدويمة.
مشاكل ليست رسمية
يقول عناد عنفيس بأنه لا يريد العودة حتى لو غمروا الأهوار بالمياه لأنه تعود على الزراعة ويعمل في قطعة أرض في الشطرة ليست ملكه. و ظاهرة عناد واحدة من المخاوف التي أكد عليها الكثيرون ممن تحدثنا معهم. فأهل الهور ليسوا مزارعين، لديهم نمط آخر للحياة سبق وأن أشرنا إليه، ولأن الأراضي المجففة فقدت مقومات الأراضي الزراعية فإن الناس لا يستطيعون العودة إليها لكونهم تأقلموا في حياة المدن أو الزراعة. ويبدو أن الجهات الرسمية تعاملت مع مشكلة الأهوار بالجزء الخاص بالمتطلبات الفنية والهندسية والبيئية وتوزيع المياه، لكن نشاطات على مستوى تطوير نمط العيش هناك لم تتحقق، بل لم تدرج ضمن الخطط.
لم يحدثنا أحد من الصيادين عن مساهمات مؤسسات رسمية بإنعاش الثروة السمكية في الأهوار التي تمت إعادتها. فهذه الأهوار حديثة وبحاجة إلى البيوض لغرض التكاثر ولا يكلف الدولة شيئا تدبير بعض المعامل الصغيرة لتشجيع صناعة الزوارق أو توفير القار وبعض أنواع الخشب ودعم المزارعين في أطراف الأهوار ودفعهم للعودة لزراعة الشلب بتزويدهم بالبذور والأسمدة والمبيدات وشراء منتجاتهم والإشراف على نشاطهم الزراعي بتغطية نصف شهرية للمهندسين الزراعيين في المنطقة.
من الواضح أن النشاطات الرسمية التي تقترب من حاجات الناس مفقودة ولا تكاد تلمس وتستمر الحياة في الأهوار التي بدأت الحياة تعود لها على النمط ذاته وبالإهمال عينه الذي تعودت عليه.
عناوين
وقعت وزارة الموارد المائية التي تتحمل المسؤولية المباشرة عن مشاريع إحياء الأهوار بروتوكولات واتفاقيات مع 8 وزارات هي :المواصلات والبيئة والإعمار والبلديات والثقافة والزراعة والتربية والنفط لكي تتولى 9 وزارات مجتمعة تنفيذ المشاريع.
وشكلت وزارة الموارد المائية مركز إنعاش الأهوار في نهاية 2003 ليكون عطاء الوزارة مبنيا على أسس علمية ومنهجية كما ورد بالقرار الوزاري. وهناك أيضا مجالس التعاون البيئي في البصرة والعمارة والناصرية ومجلس عرب الأهوار.
نفط ومياه
في المؤتمر الذي عقدته 9 وزارات عراقية في يناير 2005 لمناقشة «قضية الأهوار» سلط الخبراء الضوء على مسائل مهمة في مجال النفط والبيئة من ناحية احتواء المنطقة على احتياطي هائل من النفط والغاز وشددوا على ضرورة إجراء دراسات جديدة لكون الدراسات المتاحة والموجودة كلها قديمة ومبنية أساسا على المنطقة في مراحل ما قبل التجفيف وباختلاف الوضع البيئي والجيولوجي لابد من وجود دراسات مكملة تراعي التغير الحاصل.
بعض من هذه التغييرات أشار غليها الدكتور مالك علي المدير العام لمركز علوم البحار في البصرة بأن «وجود حقول نفط غنية في الأهوار يعني أنه لن تكون هناك قوة في العالم قادرة على هدم أبراج النفط وإعادة المياه محلها».
إنعاش الأهوار
موجز خطة مركز إنعاش الاهوار تتلخص بما يلي: إعادة غمر اهوار الحمــّار والحويزة والقرنة الوسطى بتعزيز التصاريف المطلوبة من خلال «ذنائب» نهر الغراف عن طريق نهر أبو لحية لغمر هور «أبو رزق» وهو الغموكة ومن يمين الفرات لمنطقة النخلة والكرماشية ومن يساره لغمر «أبو صوبات» و«أبو اليزسي» و«أبو جويلانة» وفي الجنوب هور الحمــّار بواسطة النهرين المسحب والصلال المتفرعين من نهر كرمة علي. وتغذية هور الحويزة من نهري المشرّح والكحلاء.
وكذلك إنجاز أعمال المسح الطوبوغرافي لمقاطع هور الحمــّار بين الناصرية والبصرة لتحديد المناطق التي يمكن أن تمر فيها المياه لتحقيق هذا الربط وفتح منافذ الـ " أرامكو " البالغ عددها 135 منفذا وإزالة أجزاء من أكتاف مبزل المالحة من أجل إنجاح عملية ربط جزئي الهور وتخفيف الضغط على أكتاف مشروع قناة ماء البصرة والأراضي المزروعة في منطقة الفهود.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
؛القبس فـــي الاهــــوار العراقية 4
مليون طائر من 300 نوع تصل سنويا وتعيش في 50 مستوطنة
الأهوار العراقية - د. جمال حسين :
الطيور في الأهوار، حس ّ مفاجئ، والالفة الخالدة بين السماء والأمواج، العمقان يسبران انسيابية الأجنحة، المثيل بالأثر وبالريش المنفوش المتنوع الألوان والمباهج والوقار. وطيور الأهوار أعلى درجات سلم الإغراء ولا يمكن الحديث عن قطعة الجنة هذه دون استلهام زهو والمناقير وإفصاح سرب حط ّ بهندسة لا مثيل لها على أهرام البردي ومناشير القصب.
أي بهاء يمكنه إعانة الوصف الذي لا تدانيه مفردة وتتصلب في مرآه العبارات أمام لوحات غير متوقعة تبزغ في أي لحظة تشكيلها الطيور والسماء والغابات الخضراء والصفراء والورود والسواقي وإطلالة الأمواج المتغيرة الألوان والحركات المتتالية مع الأجنحة المطوية برقة وتلك المشمرة عن جمالها، وارفة أعناقها محدثة بكبرياء، صادحة بشعورها الطبيعي أنها في منزلها وبيتها وبيئتها وعالمها كاسية الأفق بالبريق الناطق والشدو الفائض الاتقاد ونغمة الطيور المختلفة الأجناس حين ترن بتوال غرائبي واتفاق من خلط جنحها ببصرها وذوائبها بهاماتها وعرفها بذيول زغبها المنتشي بالسنابل.
مضيئة عيونها مستحثة الموجودات في مؤازرة فرحها الأخضر وغنجها الأبيض وإطلالتها الزرقاء ونغمات اصطفاق أقدامها بالموجة الأولى السارحة ببهلوان الأسماك وزبد تحليقها المتبدد، صعودا وهبوطا فوق الماء وعلى مقربة منه مكسوة ريشاتها بأوان مضفور بالقدر الكامل من النسمات التي إن اختلطت بالشمس تخلف ذاك التميز المصبوب عند صدور الطيور المرقطة بألوان جماعية أو ثنائية، ممسكة ببعضها أو سارحة بلونين صافيين كزمرد لائذ بعروقها النفيسة.
الطيور خميلة الهور ووجدانه : تغني حين تتود وتصدح حين تغضب وتنفر أصواتها بحدة حين تثور وتتلعثم ما ان تخاف وتئن حين يداهمها الألم وتصفر حين تهرب محذرة السرب او أخواتها وإن يضنيها التجول في السماء تتشابك أظافرها على قصبة منتصبة أو بردي غليظ لتميل رقبتها برشاقة لتهبط عينها في إغفاءة، صامتة، هانئة ملبية مآرب الأرجوان اليانع في حلم الطيور.
الطيور زنابق الهور ونغمته الجياشة : بلمعانها ومعيار غديرها يرصعها فرح العودة إلى الماء وتنكل بها قرارات المجالس المحلية ومراكز البيطرة الفقيرة وشؤون الصحة وشجون الوقاية وبيانات القمم الإنسانية مبطئة أجنحتها الرقراقة مذابة أغانيها على الأمواج الحديثة، تاركة بأذيالها البجعة المريضة واللقلق المعدي والنورس المزكوم.
يعيش في الأهوار دائما أ وضيفا أو حائما طارئا أ وكاسرا وجارحا وظلا ثقيلا اكثر من 300 نوع من الطيور يعتقد بعض الخبراء أن 250 نوعا منها عادت تعيش في الأهوار الآن، بعدد يصل في مواسم الهجرة إلى مليوني طير من مختلف هذه الأنواع تعيش في أكثر من 50 مستوطنة في الأهوار وحدها. وهدد التجفيف أكثر من 60 نوعا من الطيور المحلية والمهاجرة بالانقراض وتناقص عدد الطيور ليصل حاليا إلى نحو نصف مليون طير أثر على سوق الطيور في المنطقة الذي كان يبيع يوميا أكثر من ألفي كيلو غرام من الطيور ليرتضي الآن بنحو مائة أو أكثر من الكيلوات.
شجرة الطيور
هناك طيور محلية لا تبتعد كثيرا عن الأهوار وتعيش لتموت فيها التي تصل إلى الأهوار من غابات سيبيريا وبحر الأورال وآسيا الوسطى والبحر الأسود وتركيا وإيران والصين والبلدان الاسكندنافية عابرة آلاف الأميال 70% من الطيور التي تقطن هناك في الفترة من ديسمبر إلى فبراير سنويا ومنها من يصل في فبراير ليبقى حتى نهاية أبريل حين تبدأ درجة الحرارة بالارتفاع في الهور كالكراكي وغيرها يقبلون مع الشتاء الاوروبي كفخامة البجع الذي أهدى تشيكوفسكي له أزخر النوتات فيما يصنع الأهواريون من جلد رقبته الطبول مغيرين اسمه الرومانسي إلى «نعيج الماي» (المتخصصون العراقيون يعتبرونه عراقيا يصيـّف في روسيا وليس روسيا يشتي في العراق مستندين على أن أماكن ولادته دائما تكون في العراق). والنوارس والعنادل وطيور الزاغ والبط الصيني الذي يصل وزنه إلى 15 كلغ ويبيض في كل موسم 7 بيضات وثمنه غال قياسا لأنواع البط الأخرى وبنت الشيخ والغاق والمنتشي بلحيته الحمراء التي تشبه حقيبة جلدية مدلاة في رقبته والكوشره والكشمة والدبش والنقوط والسرنده والصيومي والخطاف (السنونو) الذي يعتبر التعدي عليها حسب عقائد الأهواريين محرما ووصل الأمر أن بينهم من يسميه " العلوية " لأن من يتعرض له أو يؤذيه ناهيك عن صيده، يواجه متاعب فورية لأنه «يشوّر» به حسب التعبير الدارج، لذلك يشاهد السنون ويطير بارتفاعات واطئة ويبني عشه حتى فوق الأكواخ وبالقرب من الناس المرعوبين من لمسه والغريب أنه واثق بأن أحدا منهم لن يقترب إليه.
هناك الدويحات ودويج الرز والطيور الحرة ذات المناقير العريضة التي يصل وزنها إلى 7 كلغ والوز الأبيض والمالح أما الاوروبي فتطلي صدره ريش أحمر، وهذا النوع يتعامل معه الناس برومانسية فلا يؤذونه ولا يذبحونه ويتركونه يعيش في السواقي والأنهر ومداخل الأهوار الكبيرة وهو يرتاح إلى هذه المعاملة الحسنة فلا يخاف ان وضع بيوضه ورعايتها حتى التفقيس بمرأى من الناس والأطفال الذين يعتنون بها أكثر في هذه الفترة، والوز بطبعه مسالما، فبنيت علاقة متبادلة الرقة قل نظيرها.
واللقالق التي يتعدى طولها المتر والنصف متر يسميها المحليون " درويش علي" ولم يسعفنا أحد بمعرفة سر هذه التسمية وثمة زرازير وبلابل وطيهوج لا يشبه الدجاج المحلي كثيرا لكنه من فصيلته والطائر المخوض الذي يعتبر الهور موطنه الأصلي إضافة إلى أربعة أماكن أخرى في العالم فقط.
وهناك طيور تصل إلى الأهوار من أفريقيا وجنوب شرق آسيا مثل البجع الأفريقي والزركي وتمتاز بمناقيرها الطويلة الحادة لكنها صفراء وليست وردية كالبجع العراقي - الروسي. ويتمنع أهالي الأهوار من صيدها لكون لحمها غير لذيذ ومنها كاللقالق ما يعدون صيده محرم شرعا. شرح لنا عجاج آل غريج بأنهم يرون بجع كبير دائما يقود السرب الهائل وكلهم يتبعونه وحين يصلون إلى الأهوار يقومون بعدة حركات متناسقة وجميلة كتحية أو تعبير عن فرحة الوصول إلى المنطقة بعد عناء الرحلة. يؤكد عجاج بأن السرب طوال بقائه في الأهوار يبقى تحت أمرة هذا الكبير. يفسر علماء الطيور قدرة الأعداد الكبيرة من الطيور على الطيران بنسق واحد متسق ومن دون الوقوع بأخطاء وعدم إثبات حالة واحدة تاه فيها سرب أو ضيع مساره باستثمارها موقع الشمس والنجوم والجبال والأنهار في توجيه مسارها بشكل ذاتي لوجود بوصلة مغناطيسية تمتلكها الطيور المهاجرة في شبكية عينيها تساعدها في توجيه مساراتها في الاتجاهات الأربعة المطلوبة بمعونة بروتين خاص بحاسة الضوء الأزرق والموجود في الشبكية، ويبد وأن سر تركيز الصيادين على صيدها في الليل يكمن في حاسة الضوء الأزرق هذه الذي ينعدم تقريبا في العتمة. أما الكبير الذي يتقدم السرب، فهو ذلك الطائر الأقدم في قبيلة الطيور وأكثر واحد فيهم زار المنطقة ذهابا وإيابا.
والخضيري يأتي من قلب آسيا يعد " سيد الطيور " لأنه أغلى الطيور التي يتم اصطياده لغرض الأكل والمعروف بتسريحة ريشه الأخضر المنسدل على رقبته وصدره، وذلك الطوق الأبيض الجميل الذي يزين رقبته ويمتاز بالذكاء ولا يقع فريسة الشباك وحبائل الصيادين بسهولة. فعلاوة على جماله الأخاذ ينعم بالصبر وحدة الذكاء وإحساس «أمني» عال، مدركا حيل المصائد فلا يهم بالتقاط البذور التي يضعها الصيادون لغرض الانقضاض عليه فيتحمل الجوع لفترة طويلة حتى يتأكد من أمان المكان. وهو مثل الكثير من الطيور يحزن جدا لغاية الموت من الضيم حين يقع في المصائد، لذلك يسارع الصيادون في ذبحه ووضعه في قواربهم المزودة بقوالب الثلج التي تضمن المحافظة على نظارته لغاية العودة والوصول إلى السوق فيما بعد.
أنواع البط
ويزخر الهور بأنواع البط منها البط الوحشي والبش والحر والبرهان والحذاف ودجاج الماء والزركي والكرسوع وصقير السمك والمطاكة والدراج والرخيوي المرغوب للحمه الذي يحبه المحليون لذلك يتفننون في صيده بنصب شباك خاصة له في الليل وبطرق خادعة لكونهم يفهمون طباعه وأماكن تواجده في الليل، يمتاز برقبته الطويلة وساقيه الضعيفتين الممتدتين واللتين يغوصهما في الماء لينتظر تناول طعامه بهدوء من الأسماك والأحياء الصغيرة التي لا تنتبه إلى وجوده وسط الماء مثل انتباهه ومراقبته لها.
وللأهواريين فهم منسجم مع تسمية مالك الحزين ويعتقدون أن مجاميعه تختار أحدهم ليناوب على حراستهم ويفسرون السر في وقوفه على ساق واحدة فيما يلوي الأخرى على الواقفة، كطريقة تنبيه ذاتية يختبر فيها تيقظه أ ونعاسه المباغت مما يودي بحياة السرب ويعرضه للخطر. ويضيفون سببا مميتا لتماسكه طوال الليل واقفا على ساق واحدة، كما لو نسي ساقه الأخرى خلفه، وهو أن مالك الحزين لو تهاون أو غفا وسقط أو هوى في الماء، ستجتمع عليه كل الطيور في الهور وتلتهمه بانقضاض خرافي وبلحظة لن يبقى من جسده شيء.
ويعرف أهل الهور طيور الكار وبوزلة والغطاس الماهر البريزجي الذي يتوارى في عمق الماء حين يشعر بالخطر، وما أن يزول ينطلق من جوف الماء نحو السماء بسرعة فائقة في منظر لا يمكن أن يقرره وينفذه أي كائن حي في الوجود، والبربشة وبوسهم والمسكة والهليجي والسميجي المعروف برصده للأسماك الصغيرة من على ارتفاع وحينما يرصد ثلة منها يقف مرفرفا جناحيه كالمروحية، وبعدها ينقض بسرعة فائقة غاطسا في الماء ولا يخرج إلا وبسمكة تلبط في منقاره.
الكواسر والجوارح
وهذه الطيور مهابة جدا في الأهوار ويعتبر صيدها غنيمة ثمينة، وهناك محترفون يجاهدون طوال الموسم ويخططون وينصبون الكمائن من أجل الظفر بصقر أصيل او شاهين او باشق او بواحد من العقبان التي تطارد سرب زرازير، ويتميز العقاب بأنه يفترس الطيور ويلتهمها في الفضاء. ويتخوفون جدا حين يصيدون طائر الحوم فهو ليس بالنسر وليس بالصقر وبجناحين واسعين كطرف خيمة ويتغذى على دجاج الماء والجثث لذلك لا يحبونه ويتشاءمون منه أكثر من الغراب الذي يكثر في المنطقة بنوعيه الأبقع والأسود، بينما أكد حجي نزار أنه يوجد غربان بيض في الهور ونسور سود.
وطير البرهان يلجأ إلى الأهوار في موسم وضع البيض ورعايته حتى تفقيسه. ولم يشاهد احد من العائدين للأهوار طير جارح آخر، كثيف الريش وقوي البنية يسمونه محليا " أخت مسعود " وبنفس الندرة أيضا لم يلمح أي منهم فصائل النسور التي كان طيرانها في المنطقة مألوفا.
صيادون
قبل وصول الطيور المهاجرة التي تعتبر الأغلى والأطيب مذاقا، وقبل ثلاثة أشهر من موسم الصيد (ديسمبر ولغاية أبريل) يتهيأ الصيادون المحترفون وحراس " البرك " ويعدون كل خططهم الماكرة وأساليبهم الذكية للتغلب على عيون الطيور الحاذقة وإحساسهم الغريزي الفائق بالخطر وثعالب الصيادين.
يعدون الشباك الخاصة وهذه تختلف عن الشباك التي يصطادون بها الأسماك لأنها تمتاز بخيوطها القوية والمرتبطة بحلقات تدور حول بعضها مرتبطة بحبل طويل يصل إلى «المختال» وهي بقعة في الماء تعد سلفا لكي يختبئ بها الصياد بعد أن ينزل شباكه في الماء التي يغطيها على الأمواج ببذور تجذب الطيور التي ما أن تحط حتى يجذب المختبئ في المختال الحبل ليطوقها بشكل لا تستطيع الإفلات منه.
مراقبة
كان الخبراء المعنيون بشؤون الطيور المهاجرة قلقين للغاية على مصير الأنواع النادرة من الطيور التي كانت تنتقل إلى الأهوار العراقية في غضون الحرب العراقية - الإيرانية ولاسيما بعد استخدم أسلحة بيولوجية وكيميائية في المنطقة المحاذية للأهوار وخاصة في هور الحويزة وشبه جزيرة مجنون التي يصل إليها الكثير من أنواع الطيور المهاجرة.
وفي ضوء هذا القلق، أقامت بعثة علمية في شمال الكويت عام 1989 وانحصرت مهمتها في مراقبة ودراسة هجرة الطيور النادرة من وإلى الأهوار. وتوصلت أبحاثها إلى حصول تلوث كبير في تلك المنطقة، إلا ان ذلك لم يمنع ارتباط الطيور النادرة ببيئتها الأولى.
سجل العلماء الذين كانوا ينتمون إلى محميات الطيور النادرة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا انطباعاتهم العلمية ودهشتهم من اللوحات الساحرة التي كانت الطيور تشكلها في السماء وهي ذاهبة إلى الأهوار وعائدة منه، وأكدوا في تقاريرهم وقتذاك على ضرورة اعتبار الأهوار محمية طبيعية وضرورة صيانتها كواحدة من أهم المسطحات المائية في العالم التي تجتمع فيها أنواع وأعداد كبيرة من الطيور النادرة.
لكن هذه التقارير احترقت فيما احترقت المنطقة كلها بعد عام واحد من رحيل هذه البعثة العلمية النادرة كالطيور التي أحبوها.
فيروس الأجواء
الجدل دائر ليس على المرض، بل على طرق انتقال العدوى. ولأن ما يهمنا الآن الطيور المهاجرة التي ستبدأ بالوصول قريبا إلى الأهوار، فان مخاطر انتقال العدوى في المواقع التي تمضي فيها الطيور فصل الشتاء تبدو متدنية برأي فريق من الخبراء، فيما يرى الآخر أن الطيور المصابة قد تلتقي مع الطيور السليمة في هذا الفصل إما في حلها وإما في ترحالها.
وحلـّها إذا كان الهور فهي ستقطن فيه وستترك فضلاتها على مياهه وتعد الأجواء فيه غير مثالية لترعرع الطيور المريضة لأن الفيروس في سيبيريا ينشط في درجات الحرارة الواطئة كما أنه لا يهوى الملوحة وماء الأهوار هذه الأيام ليست بتلك العذوبة القديمة.
ويبدو أن الأهوار تخرج من مشكلة لتدخل في أخرى. ففرص التقاء الطيور المهاجرة فيها في الفترة المقبلة شبه مؤكدة وخاصة الآتية من آسيا والصين واوروبا وأفريقيا وتركيا. واعتاد البجع وأنواع كثيرة من البط والنوارس سلوك طريق اوروبا الشرق مرورا بالأهوار وبما أن هذا الفيروس موجود بين طيور اوروبا بنسب عالية فأن مقدمه في إقليمنا مسألة وقت وكذلك الحال بالنسبة للطيور التي ستصل من الصين.
إن خطر أنفلونزا الطيور يكمن في هجرة الطيور وليس في منع استيراد الطيور المذبوحة او منع حاملي مرض معدي عبور الحدود فهذه المخلوقات لا تنتظر الحصول على تأشيرة من أحد وإذا سلم بلد ما من فيروساتها وهي قادمة فلن يسلم منها بالضرورة في طريق عودتها.
المهاجرة والداجنة
ان الأهوار وحدها تستقبل سابقا 300 نوع من الطيور فيما يتوقع أن تستضيف هذا العام أكثر من 260 نوعا، والمنطقة من عـُمان مرورا بالإمارات والبحرين والكويت تستقبل أكثر من ألف نوع بدرجات وأماكن مختلفة، وابتداء من جزيرة «بر الحكمان» العمانية لغاية جزائر الأهوار لم تبن هذه الدول محمية واحدة خاصة بالطيور ولعلها لم تفكر بالأمر. فالمحميات معابر معروفة لمسارات الطيور المهاجرة وأماكن تكاثرها وحياتها المؤقتة وفي هذه المحميات يمكن للدول السيطرة وفرض إجراءات وقائية حقيقية وبعدم وجودها تتيه بلداننا وتجد نفسها بلا حول تحت رحمة فيروس طائر في الأجواء ليس له حدود جغرافية ولا سياسية ولا توجد قوة في الكون يمكنها السيطرة عليه.
وإذا كانت طيور القوقاز ومنغوليا وكازاخستان وطاجيكستان وروسيا واوروبا الوسطى والشرقية وتركيا مصابة بالفيروس، واكتشاف الفيروس بحقل دواجن في خبات الكردية الواقعة في أربيل واكتشاف الفيروس في بحيرة " جنة الطيور " في تركيا التي تأتي منها طيور الأهوار، يعني زيادة نسبة وصول الطيور المصابة إلى الأهوار، عندئذ فليأت موظف في دائرة صحة البصرة او العمارة وليقل لأهل الأهوار : لا تصيدوا الطيور فنحن منعنا الصيد من سبتمبر لغاية أبريل والمخالف ستتخذ بحقه الإجراءات القانونية وفق المادة 89 من قانون الصحة العامة!
minjamalhs@yahoo.com
الغريد البصراوي والثرثار العراقي
ثمة نوعان من الطيور لا يعيشان في أي بقعة من الأرض عدا الأهوار وهما طائر القصب ويسمونه الغريد البصراوي الذي يصعب صيده لأنه يضع مخالبه في رقبته وينتحر ما إن يشعر بقرب صيده أو خطر ما يهدد حريته! والثرثار العراقي والبعيجي (البعيعي) والبيوضي والغطاس وأبو ملعقه والزيطة والعويدي والجهلول وصكير الفار وأنواع الحمام والفاختة وعصافير الشوك والمراعي والهزار والبوم والططوة الصغيرة الحجم ذات الصوت الذي تنفرد به كالجمال الذي لا يتكرر الذي يطبع طائر الغرنوك الذي يوظفه أهل الهور حين يتبارون في وصف فتاة جميلة متفوقا حتى على أناقة الهدهد المعروف في المنطقة، ولدى واحد من أهم الذين كتبوا عن الطيور في التراث الإنساني في الكتاب الذي لن يتكرر «منطق الطير» لفريد الدين العطار حين اعتذرت البطة للهدهد الذي طلبها هجر الماء : «إن مولدي ووجودي متعلقان بالماء وإن اغتم قلبي في هذا العالم، فسرعان ما اغتسل من هموم القلب، حيث الماء متوفر لديّ على الدوام»، فأجابها الهدهد :«إن الماء يحيط بروحك كما تحيط بها النار، فكم يطيب لك النوم على الماء! ولكن ستأتي قطرة ماء وتسلبك ماء حياتك. لقد وجد الماء من أجل الوجوه الدنسة». قالت البطة: «إن من يعيش معتمدا على الماء لا يستطيع أن ينفض يده منه ومن لا يستطع نفض يده من الماء سيجاهد من أجل كسر السدود العملاقة».
مخاطر انفلونزا الطيور
في ذروة فرح الأهواريين باقتراب موسم هجرة الطيور بدأت المؤسسات المحلية بإطلاق تحذيراتها وإبداء مخاوفها من الذي طالما اعتبروه الخير الذي يهبط عليهم من السماء والذي سيكون له شأن هذا العام : الطيور المهاجرة من بلدان فيروس الانفلونزا.
البيطريون في العراق على أعلى درجة من الحرفية وخاصة أولئك العاملين في الريف وعند البلدات المتناثرة قرب الأهوار، لكنهم غير متخصصين في التطور الخطير الذي يشغل العالم الآن فيما يصيب الطيور بالزكام ويلحق الموت بالبشر، لأسباب كثيرة أن هذا المرض ليس لديه تراث في مسلسل الأمراض العراقية ولأنهم ابتعدوا لمدة طويلة عن التطورات العلمية والطبية التي حصلت في العالم ولم يروا أو يطلعوا على التقنيات والأجهزة والوسائل الحديثة في العلوم المختلفة التي تدرس الحيوانات والطيور.
لم يتفق الخبراء حتى الآن - بقدر علاقة الموضوع بالأهوار - حول إمكانية حمل الطيور المهاجرة الفيروس أم استبعاد حملها إياه.
وكإجراء طبيعي شكلت فرق متابعة في دوائر الصحة الحيوانية في المحافظات الجنوبية الثلاث التي ستتواجد قريبا في أهوارها الطيور المهاجرة. اطلاعنا على عمل فرق العمل هذه، ولد لدينا الانطباع بأن طريقة عملها لا يمكن أن تحقق الأغراض المرجوة، فمثلا يقولون إنهم يجرون الفحوصات المستمرة على الطيور الآتية من شرق وأوروبا، وهذا من الناحية العملية غير ممكن، فأسراب الطيور المهاجرة تصل بملايين الطيور، فأي إمكانية لدى دائرة صحة لا تملك أي وسيلة لفحص هذا العدد الهائل من الطيور. ومسألة اخرى ان هذه الفرق تقول انها جابت الأهوار وحذرت الناس من اصطياد أو تناول تلك الطيور.
أي طيور! هل الصيادون في الهور يعرفون الطيور التي تحمل الفيروس وهي في السماء لكي يكفوا عن اصطيادها؟ هؤلاء الناس يعيشون سوية مع الحيوانات وتمر أسابيع لا يغتسلون فيها ولا يوجد لديهم ماء نقي طوال حياتهم ويمشون حفاة ويطبخون من مياه الأنهر المليئة بكل ملوثات وبكتريات الكون، فكيف تقنعهم بأن لا تصيدوا هذا الطير ولا تأكلوه لأنه يعاني من الأنفلونزا ويحمل فيروس H5N1 ويمعنون أكثر بالمثالية حين يوعدون بتلقيح أهل الأهوار ضد هذا المرض؟! ولو حسبنا عدد الأمراض التي يعاني منها أهل الأهوار لما انتهينا منها ولم يلقحهم أو يعالجهم أحد.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
القبس فـــي الاهــــوار العراقية - 5
العراق كان يفقد 31 مليون سمكة في كل سنة من سنوات التجفيف
الأهوار العراقية - د. جمال حسين
من ذا الذي يستطيع التطواف الكامل بكل المخلوقات والكائنات التي تعيش في مملكة الماء في الأهوار؟ ببشائرها ومظهرها تستنفر أكاديميات وبحوثا ميدانية، ودروسا وسعيا طويلا لإلقاء فسحة ضوء على ما وهبته هذه المملكة من عطايا وما خبأته من أسرار في تكوينها لذاتها، وتجسدها على المائدة، وابتداع تصورها وروابي بارئها باسترسال جنبات المستيقظ في الماء والغافي في ذيول الأمواج، والنابت والمدور والطافح والذابل واليابس والجاف والمتعدد الغصون والضارع بأوراقه، فراشات ليست بحدود العد ّ والفصل والفصائل قابعات في ركن ومتوددات على صدر الأجواء الفائضة بالماء حتى في الطبقات التي تليه.
في استطاعة الرائي والمرئي والمتجول والعابر والسائل تذوق متعة ما في الوجود، لكن من ذا الذي يستطيع فتح علب الزينة واحتساء الصور!
هناك حيث تجمع السمكة المشوية النساء الوحيدات، في بقعة خاصة تخيط الأسرة توحدها حول السمكة التائهة بنشوة استقرار الطبيعة وهدوئها. حدثنا «ساطور آل حول» بأنه يعرف نوع السمكة من حركة الأمواج وعلى حد قوله «السمكة بزبـّادها». أي ّ جامعة تظفر بمثل هذا الفتى وأي فقه ينير وهج الطبيعة ومسالكها.. قارئ سر الموجة وزعانف السمكة فيما كانت تضربها على الجانب وتحرك الأمواج فستكون شبوطا وإن انحرفت ضد التيار وتلوت أصابع الموجة فهي بنيـّة وإن دارت حول نفسها مرات قبل أن تقرر فتح ثغرة بالموج لتغطس فهي حمرية، وان تكاسلت واستمرت باضطرابها فهي «صبورة» لائذة عند جارتها ولو شوهدت دوامة كبرغش الريح فهذا تجمع لزوري على قندس ميت ولو رميت البذار وربيان مطليا بالعجين وظل الموج ساكنا فأن «شانكا» كبيرا يخيف الأخريات من الاقتراب ولو صدحت الموجة ضد تيارها فان كبير «الشلج»يلبط برؤيته صبايا السمكات.
كل حلقة للأمواج هنا تفي بشروطها ولكل شيء سبب في التتابع والاحتمال والحال والمحال وفي التدبير العجيب للرحابة والاختلاج، فلا منافسة ولا شحنات زائدة طالما الخير وفير.. وفير.
مخلوقات مملكة الماء هنا متساوية في الحقوق ومتآزرة ومتشاركة ويفهم بعضهما بعضا، فكما يعرفهن «ساطور آل حول»من حركة الأمواج، فالأسماك تعرفه أيضا : هل تصدقون أن الأسماك ومن يعتلي سطوة الموجة معها، لا يهربن من الزوارق والمشاحيف والشختورات المشاركات في زفاف أو السائرات لدفن محملات بنعش أو جريح؟!
اعتادوا في الأهوار الخروج بزفة مشاحيف في الأعراس، ذهابا لجلب العروس من واحدة من الجبائش المجاورة وإيابا حين تشتد نزعة الرصاص ودق الطبول ورشاقة دفوف شبان «السلف». الأسماك تعلم بأن هذه «مشاحيف صديقة» فلا تخاف منها، بل تستهويها الموسيقى والأغاني فيسبحن مع موكب المشاحيف كما لو كن يودعن الصبية إلى مثوى عريسها، وبدون الخوض في علم لم يعرف به الإنسان إلا قليلا، فان أسرار زفة السمك هذه تبقى واحدة من أهم عطايا مملكة الماء التي لا يستطيع أحد مهما أوتي من علم الغور فيها، إلا بتركها كما هي عليه : فرحة الأسماك!
وحين تقدم المشاحيف مودعة راحلا في تشييع جماعي وما ان يبدأ هناك ما يعرف بالأيام المريرة من «حزن المعدان»تسكن مخلوقات الماء ولا يبدر عنها أي حركة وكأنها تمهد السبل والمسالك لمسيل الجثة تودعها الطيور بأنين خاص لا يبرح طالما الحداد قائم.
فوارق في صيد الأسماك
ينقسم الأهواريون في طريقة صيد الأسماك إلى نوعين: المعدان الذين يصيدون بالفالات والبربرة الذين يستخدمون الشباك - والمعدان يأكلون السمك ويستنكفون من بيعه كما أنهم لا يبيعون لبن الجواميس ولا يمارسون التجارة، بينما البربرة يأكلونه ويبيعونه. هذه المستويات الاجتماعية حين كان المعدان يضعون البربرة في سلم أدنى منهم كمزارعي الخضار ومرقعي النعل والحدادين والحائكين والصابئة الذين كانوا يمتهنون الحرف اليدوية المختلفة وإن اشتهروا بالصياغة.
الأهواريون بعد المحن، أصبحوا متساوين إلى حد كبير واختلطوا وتزاوجوا والكثيرون منهم صاهروا الصابئة وامتزجت دماؤهم ولا أحد يشمر عن نفسه ويعتبر نفسه أفضل فيما الآخرون أدنى، فقد ظهر جيل أكثر «اشتراكية» من الصارمين بتقاليد القرون السالفة.
ومسألة الصيد بالفالة أو الشباك لها مبرراتها، فالمعيدي الأصلي يرى أنه يصيد السمك بذراعه وشكيمته وشطارته بالفالة ويقتنص الطير بالبندقية، بينما الآخرون، الذين لا يحترمهم جدا، يصيدون الاثنين بمعونة خداع الشبكة. لم يكن أي منهم يضرب الصفائح طوال اليوم محدثة جلبة لكي يوجه السمك نحو شباكه حسب طريقة صيد يسمونها «السواحل» يسيجون فيها منطقة معينة بقماش يبدأ بعدها الطرق على الصفائح لتجميعها في المصيدة.
والفرق أن المعدان يصيدون وهم واقفين، بينما الصيد جلوسا يعدونه معيبا فيما ينيرون المشاعل لاستثارة السمك في الليل ولا يطبلون على الصفائح لتوجيهها للشباك كغيرهم.
الصيد بالليل بطريقة «السراج والفالة» حيث ينصبون الفوانيس أو المشاعل أو «اللوكسات» (التريك) في حيزوم الزورق لإنارة منطقة شاسعة في الماء وجذب الأسماك إلى الضوء وحينها يقف الصياد على "دواسة«الزورق (مقدمته) والانقضاض عليها بالفالة وهي عصا من الخيزران الغليظ يصل طولها إلى أربعة أمتار نهايتها مدببة بثلاثة رؤوس حديدية تشبه نهايات النبال، وبضربة واحدة يمكنهم التقاط السمك، خاصة الثمين منه كالقطان والبني. ويمكن استخدام الفالة بطريقة صيد «الدك» المعروفة بالمناطق الخابطة التي لا يمكن رؤية الأسماك فيها، بضرب الفالة عشوائيا بالمياه لحين التقاط السمكة بواسطة أشواكها المسننة.
سمكة كبيرة لكل فرد
الصيادون والسماكة قالوا ان هذا العام ازداد صيدهم كثيرا عن الأعوام السابقة جراء زيادة الطحالب ونمو النباتات المائية بعد ازدياد منسوب المياه التي تتغذى عليها الأسماك. طبعا لم تصل الزيادة إلى الكمية الهائلة التي كانوا يصطادونها قبل التجفيف، حيث يروي سلمان زهير آل رحمة أنهم كانوا يصيدون السمك بالدشاديش بطريقة «الكرف» لأن نقاء الماء يساعدهم على رؤية السمك حتى لو كان على عمق ثلاثة أمتار أحيانا، والأسماك بدورها تحب التناسل في قيعان المياه الصافية التي تنمو فيها أعشاب «السويكة». وثمة من يستخدم للصيد «المفلاكة» (عصا صغيرة يضرب بها الصياد السمكة مباشرة في الماء).
وأي عائلة، مهما كان عددها، يأكل كل فرد منها سمكة كبيرة. وعلى حد قول كريم طليب : الملح يخلص والسمك لا ينتهي. ويتذكر أن لكثرة السمك كانت كل نساء «السلف» يجتمعن لتنظيفه. أما رياض الفهد، المعروف بأنه أشهر السماكة في المنطقة، فيؤكد أنه وفق في العديد من المرات بصيد وفير بحيث لا يستطيع رفع الشبكة في الكثير من الأحيان لثقل «القطان» الذي اصطاده، أجابه سعد بمرثية شعبية انتشرت بعد التجفيف :« نسيت الفال.. نسيت الشط.. نسيت طيور الوريدة.. نسيت الكاط المفيـّح.. شحم بالموسم مكلـّص ". بعدها أجابه حجي نزار موجها كلامه لنا : «شوف.. المعيدي أهم شيء عنده أن حيواناته ترعى وتأكل وإذا توفرت الأسماك والطيور فيكون زايد خير ".
لقد خسرت البلاد الكثير جدا بسبب التجفيف على مستوى الثروة السمكية، فحسب قياسات المهندس الزراعي طالب جاسب لفتة مدير شؤون الثروة السمكية في العمارة فان هناك 500 سمكة في كل دونم، معدل وزن الواحدة كيلوغرام واحد وبضربها في مساحة الأهوار المغطاة سابقا بالمياه، فان تلك المساحة احتوت على أكثر من 31 مليون سمكة في السنة بمتوسط قياس 313 ألف طن كلها فقدت بسبب التجفيف، كما يتذكر الشاعر المحلي : «اللي يذب بس شص كبل يترسله ثلث سلال» واصفا الكمية الهائلة للسمك في تلك الأوقات.
في عمق الأهوار
اصطحبنا جبار وسعد لرحلة في عمق الأهوار بمشحوف عبد الله. كان هذا المشحوف من الصغر بحيث بالكاد يسعنا، ففضل سعد الجلوس في وسطه وأمسكه بذراعيه لكي يحافظ على توازنه خاصة في الأمتار الأولى التي حاول جبار أن يلعب دور «الدافوع "، لكني قلت له : كبرت يا جبار أجلس واترك عبد الله يدفعنا.
بالفعل ما ان استلم عبد الله بيده «المردي» حتى طاوعه المشحوف لتبدأ مسيرتنا بمهل ورقة وسط الأمواج وكأن الزروق يعرف صاحبه. حين دخلنا منطقة عميقة مبتعدين عن «السلف» سألت عبد الله: هل تعرف طريق العودة؟ طبعا عبد الله لم يجب، لأنه السؤال غير صحيح أصلا لخبير في الأهوار. غير أن أكثر المخاوف بدأت عندما قال سعد، لكونه يجلس على أرضية المشحوف، انه بدأ يحس برطوبة المياه في مقعده. كانت فرصة للنيل من عبد الله حين قلت له أن المشحوف مثقوب وسيغرقنا، لكنه حافظ على ابتسامته واستمر بالعمل غير مبال بهذه الأسئلة الغشيمة التي كانت تقطعها أصوات انفجارات القنابل التي يستخدمها صياديو هذا الوقت. ويبقى مسرى المشحوف في الأماكن المليئة بالطحالب، وكيف يزيحها على جانبيه، واحدة من أسرار قيادته في منطقة لا تبدو فيها المياه بذاك الوضوح، لقد كان عبد الله يشعر بالمياه وإن لو لم يرها.
شجرة الأسماك
لقد دخل السمك في جغرافية الأهواريين، فالأماكن التي يكثر فيها نوع من الأسماك يسمونها كذلك فترى مناطق «أم البني» وغيرها وكذلك فان بعض العشائر في الأهوار تحمل أسماء السمك : آل شبوط، آل قطان..
والأسماك المعروفة بالأهوار كثيرة جدا منها الحريث ذو الشوكة الطويلة وسمك القط والقطان والشلج والحمري والبني والكارب والصبور وأبو منجل النادر والشبوط و الخشني والعجد ودكاك الصخر والجصان والسمتي والبياح وأبو زريدة والجري والربيان بأنواعه وغيرها.
وبقيت المنطقة محافظة على هذه الأنواع من الأسماك لكون البيوض لا تموت بسهولة وتبقى ملاصقة لعروق البردي والقصب التي تحافظ على حياتها بمساعدة الرطوية التي بقيت في التربة. وإذا كان هذا التفسير العلمي لعودة الأسماك فان الإرث الخصب لهذه الأرض وقدرة الماء على تكوين مملكته بالاتصال والعلاقة ما بين الأنهر والروافد مجتمعة ما قاله محسن آل حمودة إن البيوض وصلت مع ماء دجلة والفرات وثمة بيوض وصلت من الرمادي. وهذا واحد من أسرار تشكل الفردوس، الخاصة وغير المعرفة بالنظريات.
كائنات أخرى
في المياه تعيش ثعالب المياه والخنازير البرية التي يصل حجمها إلى هيكل الحمار أحيانا وهناك قطط الغابات الهندية وضباع والنمس والفأر الهندي الضخم والجرذ الروسي المقيت والزقة الافريقية وكلاب الماء وأبو العرس والقندس وأبو الجنيب والقرقوش وأبو الزميـّر وأبو السلمبح وعقارب وقوارض وعضايا متنوعة والضفادع المختلفة والأفاعي السامة وخاصة النوع الذي يخشونه جدا هنا وهو «العربيد» وحيوانات خرافية كانوا يسمونها «الآفة» و«العنفيس» الذي يحسبونه من عائلة الأفاعي الخطرة، وسلاحف صغيرة وكبيرة كالفرش الذي يسمونه «عبد الشط» في المعتقدات المحلية والذي يتهمونه بخطف الأطفال الذين يقتربون من الشواطئ ليسحبهم إلى مملكته ويأكلهم هناك.
هناك الثعالب البرية والذئاب والفهود والأرانب، أما الأسود فقد انقرضت منذ الستينات. أما النباتات المائية فهي : زهير البط والشنبلان والكعيبة والكاط والعرمط والجولان والمران والسلهو..
دودة الزعيم
يتعرض أهل الأهوار كثيرا خاصة الصيادين لدودة البلهارسيا وأبو الزمير، وابان حكم الزعيم عبد الكريم قاسم جلبوا دودا أسود من الخارج ورموه في الأهوار ليتولى القضاء على البلهارسيا ويسميها المحليون «دودة الزعيم» و«لقاح الجمهورية» إلى جانب «حبة الحماد«التي يسمونها أيضا «المعطشة» لأنها تعيش في الصحراء، وكان زقها في مياه الهور يساعد على قتل أبو الزمير الضار. أما البعوض المتوطن دوما هنا مع البراغيث، الأكبر من حجمها الطبيعي، فعلاجها حرق الروث «المطــّال» لأن هذه الحشرات الضارة للغاية لا تحب رائحة الروث المحروق!
أنــــــــواع الصــيــــــــد
سابقا عندما كانوا يصيدون السمك بالدشاديش لكثرتها، بحيث كانت الأسماك تسبح واحدة فوق ظهر أخرى، كانت المشاحيف والأبلام والكعود تعود محملة بأكثر من طاقتها ولا توجد فتحة في الشباك من دون أنف سمكة.
حاليا لا يستطيع أكثر الصيادين اجتهادا الوصول إلى حاجز الخمسة كيلوغرامات من السمك يوميا وهذه الكمية المتدنية أجبرت البعض على استخدام أساليب لم تكن شائعة، واختفت طرق الصيد مثل «الطاروف» (مجموعة من الصيادين يصل عددهم إلى 20 يطوقون منطقة ما) و«الطرة» (الشبكة التي تسند في الليل لقطع النهر وتثبت بأوتاد لجمع محتواها في النهار) أو رمي الشباك بوجه الماء الجاري وتثبيت أطرافها بـ «طوافات» صغيرة وتدعي هذه الطريقة الـ «سيـّاسي» أو الطائف. و هناك طرق بسيطة مثل «السلية» الشائعة ككمين تكون فيه عائمة أو منتصبة على عمق ما حسب نوع الأسماك الموجودة بربط الشبكة بكرات من الرصاص «الصجم» و«الشص»السهلة و «الدست» (سدود البردي مصحوبة بفتحات صغيرة مزودة بشباك بحجمها)، وطرقة «المزبد» وهي صيد الأسماك التي تكثر حيث الطحالب، وكانوا أحيانا يستخدمون سم «الداتورة» لتخدير الأسماك.
والشباك أيضا مختلفة وتتناسب مع طرق الصيد و «التكنيك» المتبع في كل مكان وحسب أنواع السمك الذي يهمون باصطياده، لنحصل على شباك «الثميني» و«التسيعي» وما فوق ويعتمد لون الشبكة كذلك على الطريقة المتبعة بالصيد.
حاليا ينصبون الأسماك من الساعة الثالثة عصرا لغاية الخامسة بطريقة «الغزيزة» و«الطراير» بتسقيف الكواهين (الممرات المائية الضيقة في الأهوار) بواسطة الشباك الكثيفة بعيدا عن «الدهل» (الماء الطيني المشبع بالغرين) الذي يفيدهم بزراعة الشلب أو الرز كما أنشد سعد: «يا عنبر بدهلة ينشتل.. مركوش ذب سبوسة».
وصلنا في الوقت الذي كان فيه حسن يرفع شباكه التي نصبها عصرا، سألناه عن الصيد، لم يكن بذاك المستوى، لكنه رفع بعض الزوريات والبياحات كأفضل شيء قدمه له هذا اليوم.
.. والصيد المكروه
لقد استعاضوا عن الأساليب المذكورة في الصيد، بأساليب الصيد السريعة التي لا تكلفهم وقتا وجهدا مثل استخدام الصعقة الكهربائية والنفط والزهر الذي يقضي على صغار السمك و كباره وبيوضه. وتتعقد المشكلة الصحية حين يلمون السمك الصغير الذي ابتلع السموم ليجففونه ويطعمون الحيوانات منه التي تدر بدورها اللبن و مشتقاته بتناولها أعلافا غير سليمة صحيا.
الصيد بالصعقة يكلف الصياد جهازا قيمته نصف مليون دينار، مكون من بطاريتين تعطي ألف فولت بعد ربطها بجهاز تحويل خاص وبأسلاك السالب والموجب المتدليين في بقعة مائية محصورة بشباك دائرية ينفذون الصعقة التي تشل ّالأسماك التي ستطفو مستسلمة لقدرها.
أما التفجيرات التي سمعناها فهذه ناتجة من تعبئة الـ «تي أن تي» بعلب وقواط صغيرة يسمونها «البمبة» وإشعالها بفتيل عن بعد لتجهز على كل الأسماك في بقعة محصورة.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
القبس فـــي الاهــــوار العراقية -
6
الأهواريون تفوقوا على المؤسسات الدولية وأعادوا 10% من مياههم بسواعدهم العارية
الأهوار العراقية - د. جمال حسين
بعد أن دكوها وأحرقوها وأذابوها ورشوا عليها الزرنيخ والجمرة والخردل تظهر بعد عشرين سنة صور بأقمارهم الصناعية يدلل ملتقطوها على أن الأهوار في بداية التسعينات لم تعد كالأهوار في نهايتها. واستنادا الى هذه الصور وبعض المشاهدات الفضائية والتقارير المحلية بنوا برامجهم الأممية لإنقاذ البط والنورس، البني والروبيان، وتمشيط تسريحة الجاموس الكسلان.
هذا فصل محاسبة بالأرقام والأسماء والعناوين الواقعية والإلكترونية والأسماء ورموزها المختصرة والحسابات العلنية والسرية نتاج بحث ومراقبة ومتابعة الجهود الدولية لاستعادة جنة عدن كما أسمتها متفضلة المنظمة الأعلى في العالم استمر لأكثر من أربع سنوات، تابعنا فيه كل ما قالوه وصرحوا به وكل اجتماعاتهم وفنادقهم المزينة بنقود الأهواريين ومؤتمراتهم و عروضهم المدهشة للمتحف الدولي الذي زجوا به أناسنا الطيبين الذين لم تتعد آمالهم مبصر البقرة ولم تتخاذل ادعاءاتهم دقة جناح الغاق، ولم يفتأ عذابهم سمو المناجل ولا حدة الفالات ولا مكر الشباك أو مرح الزرازير.
لقد نشرت «هيومين رايتس ووتش» دراسة للإحاطة بمشكلة الهور وما فعله النظام بها من تجفيف وحرق وتدمير وتهجير في يناير 2003، أي قبل الحرب بأسابيع وبعد أن تأكد الجميع من سقوط النظام. وهذا التقرير ينبغي ان ينشر كأقصى حد بعد قمع الانتفاضة وبداية التجفيف لكي يمنع ما حصل وليس بعد 12 عاما وكوسيلة دعائية.
فلتكن محاسبة ومناظرة وتقييم لجدولة القيل والقال وحوار وأسئلة واستعراض هدفه وضع النقود على الحروف والقناطر على السواقي استكمالا لأصل المذبحة ولكي لا ينزل أحد - بعد الآن - إلى الهور مرتين!
تراوحت تقييمات المنظمات الدولية والخبراء الأجانب فيما حصل وسيحصل في الأهوار، لكنها التقت عند نقطة اتفق عليها الجميع وهي أن إعادة الأهوار لسابق عهدها أمر في غاية الصعوبة.
قال أندرو ناتسيوس المدير الإداري للوكالة الاميركية للتنمية الدولية في هذا الصدد، إن الأبحاث أوضحت أنه «ربما يكون بوسعنا أن نصلح نحو 25% من الأهوار بالمقننات المائية المحلية». مضيفا: «نحن نبحث هذه الإمكانية من الوجهة الهيدرولوجية في ضوء التقنيات المتاحة والتصرف المائي».
إن مشاهدتنا الميدانية لكل مناطق الأهوار وما حولها وتتبعنا لمجاري المياه وكل الروافد والجداول في المنطقة بما في ذلك الأنهر الصناعية الثلاثة التي تلقي بمياهها في البحر، تتيح القول ان المياه موجودة، لكن «التصرف» بها ساكنا ولم يجد المبادرة والإمكانات اللازمة للبدء على الأرض في تنفيذ مشروع الأحلام هذا الذي كان في المواسم الثلاثة السابقة متاحا بالنظر لكمية المياه الكبيرة التي وصلت الإقليم فقد أشارت شيزورو أوكي منسقة مشروع الاهوار التابع للأمم المتحدة لكن عام 2003 كان جيدا بالنسبة لكميات المياه «فقد تساقطت الثلوج الكثيفة على الأراضي المرتفعة والأمطار الغزيرة» وكذلك الحال بالنسبة للسنتين الماضيتين.
كلاوس توبفر المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة كان متشائما هو الآخر موضحا أن الأمر «يتطلب بذل جهود ضخمة وإعداد مشروع لإحياء مساحة شاسعة من الأهوار، إلا أنه سيكون مشروعا صعبا ومعقدا».
ولأنه تحدث عن «جهود ضخمة» ولعله يدرك أنها لن تبذل ختم تقييمه كالتالي: «لسنا على هذا القدر من التفاؤل وندرك أن هذا المشروع لن يتم بين ليلة وضحاها».
عوامل الطعن
توماس كريسمان مدير مركز هاوارد أودم للمسطحات المائية في جامعة فلوريدا وعضو فريق مكلف بوضع تقرير عن إمكانية إصلاح الأهوار قال إن ناتسيوس قد «استبق الأحداث في توقعاته بشأن إصلاح الأهوار». ونؤيده حين ركز على أهم نقطة في المشكلة: «المطلوب هو كيفية استعادة البيئة وفي الوقت نفسه محاولة التوصل لكيفية استعادة حضارة».
هنا تبرز ثلاثة عوامل فهمها كريسمان جيدا لكنه لم يتأكد من الإجابة عليها: أولا، كمية المياه المتاحة ونوعيتها (رأينا أنها موجودة وبحاجة الى تنظيم المبازل لتقليل ملوحتها). ثانيا توقيت تدفقها (بمساعدة وتشغيل الأهواريين في المشروع ستسهل المهمة للغاية لأنهم الأعلم بالتوقيت). ثالثا، رغبة الناس بالعودة وهي متوفرة.
هذه العوامل الثلاثة هي التي ستحدد عسر المهمة ويسرها وليلتها وضحاها ومن غير الممكن الإشادة علميا ولا حتى مهنيا بنسبة ناتسيوس التي حددها 25 % وهو ما استطاع أن يجود به ويعيده من الأهوار التي عرفتها الأمم المتحدة كالتالي: «موطن تنوع بيولوجي ذو أهمية عالمية ».
أن قضية الأهوار ومشاكلها وما تعانيه مسؤولية عالمية إذاً فلدينا أرض اختفت عنها المياه، لنقل تبخرت وظهرت على أرضها طبقات ملحية، ويوجد لدينا أنهر كافية طبيعية واصطناعية فيها مياه عذبة، لا يتطلب الأمر سوى غلق النواظم التي تذهب بالمياه العذبة إلى البحر وتوجيهها إلى الأرض ذات الطبقات الملحية.
توثيق متأخر
المدير التنفيذي لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة كلاوس توبفر يعترف بأن «أهوار بلاد ما بين النهرين تمثل أكبر نظام بيئي مائي في الشرق الأوسط وغربي أوراسيا وهي ذات أهمية ثقافية كبيرة وقد لعب برنامج الأمم المتحدة للبيئة دورا مهما في تحديد مصيرها فهو من وثق لتدميرها ونبه العالم لهذا الخطر».
التوثيق الذي يقصده توبفر لم يكن سوى صورتين أو أكثر التقطتهما أقمار صناعية اميركية وقبل ان تبثها وكالة «ناسا» عبر موقعها ومن ثم تبادلتها المواقع الإلكترونية المعنية والتوثيق احتفظت بها منظمة المسح الجيولوجي الاميركية والمركز الاميركي الوطني لعلوم الأرض ومراقبة المصادر الطبيعية UROS USGS هو صورتان للأهوار الأولى التقطت في فبراير 1991 والثانية في مارس 1993 وملخص الفارق بين الصورتين معروف فالأولى التقطت قبل التجفيف والثانية بعده.
المسألة لا تنحصر في أن هذه المنظمة الدولية تدعي ما لم تفعله بأنها التي نبهت العالم للخطر، بل فيما هو أعظم: أولا، ان الصور التقطت مطلع التسعينات والمنظمة «نبهت العالم» فقط في عام 2001 حينما بدأت الحملة الإعلامية الاميركية ضد النظام. ثانيا، لم تنشر هذه المنظمة أي بيان ولم تنشر هذه الصور أو غيرها طوال 10 سنوات بالرغم من علمها بها، وكانت عملية التجفيف تسير بتكنولوجيا الشركات الاميركية والبريطانية والألمانية والروسية واليابانية وكان يمكن لهذه المنظمة التي لا يمانع مجلس الأمن من دعمها بالمسارعة ومنع التجفيف قبل حدوثه بإصدار قرار مناسب من الجمعية العامة أو مجلس الأمن. لكنهم تركوا صدام يجفف الأهوار ويشرد الناس ويدفنهم في المقابر الجماعية وما إن قرروا إزاحته حتى ظهرت الصور.
ثمة منظمات ومؤسسات رسمية من كندا طرحت نفسها كالمذكورين، كراعية لعملية تأهيل الأهوار، لكن ما لاحظناه في كل الجهود الدولية، أنهم جميعا يتفقون على أن العمل سيطول ولم يحدد أي منهم إلى أي مدى ولم يذكروا أي تاريخ وموعد ومسألة أخرى غاية في الأهمية، إنهم اتفقوا على أن الأهوار بمساحتها السابقة لن تعود كالسابق، وهذه أكثر النتائج إحباطا تعرضنا لها في غضون بحثنا الراهن.
موقف مخلص
نستعين لدعم هذا الموقف بتقرير كورتيس ريتشاردسون المنشور في مجلة العلوم الاميركية وهو أستاذ في جامعة ديوك في ولاية نورث كارولاينا، استنتج منه أن فرص إعادة إحياء الأهوار تزايدت جدا، بعد أن ثبت تحليله أن دجلة والفرات غير محملين بالمبيدات الحشرية ولا الملوثات الأخرى الرئيسية. وأشار إلى ان «انقلاب الهرم الغذائي في المنطقة» بتفوق عدد الأسماك الضارية على الصغيرة. وأيدت هذا الرأي (تزايد فرص إحياء الأهوار) نتائج السيمنار السنوي للجمعية الاميركية للتقدم العلمي.
مخاوف ريتشاردسون محصورة في الأمر الرئيسي الذي أشرنا إليه سابقا وهو " كمية المياه " التي يعتبرها الخبير الاميركي المسألة الفصل في مستقبل الأهوار.
مشكلة المياه
ومشكلة المياه في جوهر الأمر، سياسية وليس لها علاقة بمنسوبها ولا بكمية الثلوج ولا بمنح المانحين، لكون الوضع السياسي الهش في العراق لا يعطي المسؤولين العراقيين «قاعدة صلبة» في المفاوضات المائية مع تركيا وإيران.
هنا، ينبغي ان تلعب الولايات المتحدة دورا سياسيا في تلطيف الأجواء المائية مع تركيا بالذات لتسمح بمرور المياه إلى مجاريها العراقية وخاصة صوب الفرات الذي يعاني من السدود السورية (الرئيسان العراقيان اللذان حكما العراق بعد سقوط النظام غازي الياور وجلال الطالباني زارا تركيا وطلبا من الجانب التركي تلبية احتياجات العراق المائية وتم الاتفاق على ذلك وعقد جولات للمباحثات بين المتخصصين، أثمرت بالفعل على الأرض بانسياب جيد للمياه في النهرين).
أما إيران فيخصها هور الحويزة فقط ولا تستطيع بشكل جاد التأثير في الأهوار الأخرى، حتى هذا الهور ففي أراضيها النسبة الأقل من مساحته التي لا تؤثر بأي شكل حتى في هور الحويزة.
وفد وزارة الموارد المائية العراقية زار إيران وبعدها صرحوا بأنهم لمسوا «تجاوبا إيرانيا إيجابيا » ورحلت مشكلاتهم الى اجتماع عقد في جنيف اتفقوا فيه على الاجتماع مرتين في السنة..
المشكلة غير موجودة
ولكي لا ينشغل الخبراء الأجانب الجادون والمخلصون تحديدا في مسائل التربة وعناصر السلينيوم السامة فيها ومخاوفهم من الأملاح وكبريتيد الهيدروجين، نخبرهم بأنه فعلا توجد نسبة أملاح كبيرة وخاصة الطبيعية منها في المناطق المجففة، لكن نسبة الأملاح هذه ستختفي فور إطلاق سراح المياه المخزونة والموجهة في الاتجاهات الخطأ.
أن كل الخبراء المخلصين للبيئة في الأهوار الذين ذكرنا بعضا منهم متخوفين من مسألة غير موجودة، على الأقل في الوقت الحاضر، فلدينا المئات من الصور الملتقطة حديثا تثبت وجود كميات كافية من المياه باستطاعتها هزيمة الأملاح التي لا يمكن اعتبارها بطلة الأزمة، فهي وجدت مع التجفيف وستختفي وستذوب فور فتح المياه.
كذلك التربة،، لأن هذه الأرض غمرت بالمياه من قبل التاريخ وتكونت بطريقة لا تميت خصوبتها سنوات الجفاف العشر، شيء طبيعي أن تبرز منها الأملاح ولو وصلت الى قدمين في مناطق معينة، لكن ما يلفت الانتباه حقا، أنه وبالرغم من الجفاف، لا تزال النباتات تنمو وتعيش النخلات ويستقيم البردي.
فالبردي مثلا، يمكنه أن يعيش 300 سنة من دون ماء، جذوره وتكوينه خلقت على هذا النحو، لذلك من الممكن التخوف من أزمة كمية المياه التي هي سياسية، لكن لا ينبغي رمي كل أثقال المشكلة عليها والانتظار لسنوات قد يطول الحديث فيها وتزداد المؤتمرات وتلمع التصريحات كالخبر الذي أوردته وكالة الأنباء اليابانية معتمدة فيه على حديث مع وزيرة البيئة اليابانية كويكي يوريكو تفيد فيه ان اليابان قد قامت «بإصلاح بيئة الأهوار الجنوبية في تجربة قالت عنها منظمة الأغذية والزراعة الدولية انها ناجحة».
لا يجوز التعامل مع هذا النبأ وأخذه على محمل الجد لأي مطلع على نشاطات هذا البلد في الأهوار.
يشربون من الهور!
وفي تقرير أعد عام 2003 بعد السقوط عرفوا في الأمم المتحدة وتوصلوا إلى اكتشاف خطير وهو أن الناس في الأهوار لا توجد لديهم مياه صالحة للشرب ويشربون من الهور!!
المسألة ليست في أن هذا الاكتشاف تأخر 5000 سنة، بل ان الحكومة العراقية اعتمدت هذا التقرير لترفع وزارة البيئة ووزارة الموارد المائية العراقية مذكرة إلى الدول المانحة في عام 2004 لتخبرهم بأن الناس في الأهوار يشربون من الهور ولا توجد لديهم مياه صالحة للشرب . وبذلك ينتصر أهل الأهوار لأن قضية المياه الصالحة للشرب وضعها مؤتمر المانحين في جدول الأعمال واعتبروها قضية ذات أولوية!
وكل ما قبضه الأهواريون أنهم أدرجوا في خطة الأعمال المقدمة في برنامج إعادة الإعمار لصندوق الأمم المتحدة لتنمية العراق المشرف عليه من قبل مجموعة الأمم المتحدة للتطوير UNDG . ويبدو أن القضية تنحصر في أنهم عثروا على قضية! فما أن حولوا الأمر لصندوق تنمية العراق، فهذا يعني أن الأهواريين سيشربون المياه بفضل الشمس هذه المرة.
وهناك دليل آخر على أن هؤلاء الذين يعملون في برنامج الأمم المتحدة «العودة للحياة» لا يقتربون من محنة الأهواريين حين يتضمن تقريرهم النص التالي: «تتضمن مشاكل جودة المياه، التلوث بالمبيدات الحشرية والنفايات الصناعية غير المعالجة إضافة إلى التلوث الناشئ بسبب قنوات الصرف الصحي والمياه الثقيلة غير المعالجة ..».
غير أن مياه الأهوار غير ملوثة بالمبيدات الحشرية حسب نتائج تقرير العالم كورتيس ريتشاردسون المنشور في مجلة العلوم الاميركية الذي اشرنا إليه في موضع سابق والذي أثبت فيه أن مياه الأهوار غير محملة بالمبيدات الحشرية. أضف على ذلك مشاهدتنا الميدانية التي أثبتت أن الأهوار التي عادت إليها المياه عادت إليها الأسماك وكذلك الطيور والبرمائيات الأخرى واستمر صفاؤها كما تثبت ذلك مئات الصور الحديثة التي بحوزتنا. وغير معلوم عن أي نفايات صناعية غير معالجة كما يتحدث «خبراء» الأمم المتحدة ولا يوجد أي منشأة صناعية في الإقليم كله عدا مصنع بعيد جدا للورق يقع في القرنة ويعامل أموره في شط العرب، أي في المياه التي خرجت من الهور وليس الداخلة إليه. كما لا توجد قناة واحدة للصرف الصحي في كل الأهوار. ويعطي ورود تقييم كهذا، انطباع بأن مؤلفيه لم يعتمدوا على دراسات ميدانية على الأهوار في المرحلة الراهنة.
وتطرح العبارة التي وردت في تقرير البرنامج المذكور: «تم استكمال المرحلة الابتدائية للمشروع بحلول صيف 2005 وتضمنت دعما للتطوير الاستراتيجي لتنسيق الجهود على الصعيدين الداخلي والخارجي لكل ما يتعلق بإدارة الاهوار والتدريب المتخصص وتنفيذ قاعدة بيانات لتعريف المجتمع المحلي على التكنولوجيا السليمة بيئيا»، كما تضمنت فهما بأنهم انتهوا الصيف الفائت من تنفيذ المرحلة الابتدائية من المشروع. تلك المرحلة التي لم يلمس أهالي الأهوار نتائجها وثمارها في الواقع.
في النشرة الخاصة للإعلاميين لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة يقول كلاوس توبفر المدير التنفيذي له: «أن المستوى الجديد لامتداد الأهوار قد تم الحصول عليه بواسطة نظام مراقبة الأهوار العراقية وهو العنصر الجديد في مشروع الأهوار الذي تبلغ ميزانيته ملايين الدولارات.
مــنـظـمـــات ودول
سنقنن الوعود التي أطلقت حصرا على المنظمات والدول، التي قطعت العهود العلنية وألقت على عاتقها بنفسها وبدون ضغوط أو حتى بطلب من سكان الأهوار الأصليين، مسؤولية حل «مشكلة الأهوار».
ومن المنظمات الدولية التي أعلنت عن نفسها والمهتمة بإحياء الأهوار: مشروع برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP ، والمركز الدولي لتكنولوجيا البيئةIETC وشبكة معلومات الأهوار العربية - الإنكليزيةMIN ومشروع تقديم التكنولوجيا السليمة بيئيا في مناطق الأهوار EST ووكالة التنمية الاميركية والمؤسسة الإيطالية «عراق فاوندشين» ومنظمةCool ومنظمة IMC واليونسيف ومنظمة «أكتد» و «سيف جلدرن» و«وير جلدرن» واللجنة الدولية لبيئة البحيرات ILEC ومنظمة الصحة العالمية فرع العراق WHOوالمنظمة العالمية لمراقبة البيئة ومؤسسة مركز البيئة العالمي GEC والمركز العالمي لعلوم الجغرافيا المعلوماتية ومراقبة الأرضITC ووحدة تقييم أوضاع ما بعد النزاعات التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والجامعة الاميركية في بيروت AUB وبعثة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا وغيرها.
البـرنـامــج المـحيــــر
أن برنامج الأهوار الدولي تابع للأمم المتحدة للبيئة التي أناطت مسؤوليته للمركز الدولي لتكنولوجيا البيئة IETC والمؤسس في اليابان منذ عام 1994. ولكي نفرق بينه وبين الحكومة اليابانية، فالأخيرة تبرعت بمبلغ 11 مليون دولار اميركي لصندوق الأمم المتحدة لتنمية العراق عن طريق وزيرة البيئة اليابانية كويكي يوريكو.
البرنامج الخاص بالأمم المتحدة المناط بالإدارة البيئية لأهوار العراق عمل برنامج أطلق عليه «العودة للحياة» يقرون فيه بأن الناس هم الذين فتحوا السدود والبوابات المائية والأكتاف الترابية التي تسببت في جفاف الأهوار. لكنهم في موقع آخر يذكرون أن 33 % من مساحة الأهوار تمت إعادة تغطيتها بالمياه لغاية يونيو 2005. اعتمدوا في تقييمهم ونسبتهم هذه على صورة أخذت في 30 يونيو بواسطة الأقمار الصناعية عن طريق نظام مراقبة الأهوار العراقية MOS . وتبين أنهم حددوا نسبة الغطاء المائي مع الغطاء النباتي. بمعنى أدق أنهم اعتبروا الماء غطاء وكذلك «الزور» و «الحمض» و«الشنبلان» والبردي والقصب أيضا غطاء. والمقارنة تمت بين هذه الصورة وأعوام 1973 - 1976، والمشكلة في الهور هي الغطاء المائي، يعني الماء وليس النباتات التي ذكرناها في حالة أنهم يعرفونها. ولم تبين العبارة من الذي أعاد تغطية الأرض بالمياه، لأن خبراء الأمم المتحدة اعترفوا بان الناس قاموا بذلك في مكان آخر ولم يؤكدوا على ذلك ثانية في غضون ذكر هذه النسبة. ولم تدع أي جهة دولية بفضلها بهذا الإنجاز. ولكن تقريرUNEP بتركه الأمر واستخدامه العبارة «تمت إعادة تغطيتها»، وكأنه بإشارته لتقارير المنظمة في يونيو يريد أن يوحي بأن الأمر منسق أو جرى بفضل المنظمة.
من نصــدق؟
برنامج الأمم المتحدة للتنمية ذكر أن 40 % من بيئة الأهوار قد عادت إلى وضعها الأصلي الذي كانت عليه في السبعينات. واشار البرنامج إلى «الحاجة لأخذ عينات من المياه والتربة لتحديد مستوى التعافي بدقة».
وعلق المدير التنفيذي للبرنامج الإنمائي كلاوس توبفر على هذا الإعلان بأن التعافي الكامل سيستغرق سنوات عدة.
ونحن نصدق أكثر حجي سعدون آل الشيخ رحمة لأنه يوميا يلف الهور كله بسيارته ونؤيد السيد صابر آل السيد هاشم لأنه يستقبل يوميا في مضيفه المئات من الناس ونستمع لما قاله رياض نعيم محمد الفهد لأنه كبير السماكين في الأهوار والذين قالوا انه تمت استعادة 8 - 10 % من وضع الأهوار (الحقيقي) بجهود ذاتية من الأهالي والعشائر وليس بفضل برامجهم وأموالهم، وأن قضية الهور كلها لا يستغرق حلها أكثر من 20 - 30 يوما لو كلفوهم بتنفيذها وليس عدة سنوات كما يدعون.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
القبس فــــــي الأهــــــوار العراقية - 7
«المرضعات والمدفئات» أحب الـحيــوانـات للأهــواريـين
الأهوار العراقية - د. جمال حسين:
أحب ّ الحيوانات للأهواريين هي الجواميس ولخاطرها يرزقون ولراحتها يتحدون وبمشيئتها يبنون ولخوارها يهرعون وبحمدها يعملون وبعطاياها يعيشون وبثورتها يغضبون وبأعدادها يتفاخرون وبعصيانها يرجفون وبتوادها يتراحمون، في مضيـّها وإيابها، سرحانها وغفلتها، تواطئها وأفخر ثيابها ومضجعها الذي يبنوه قبل أسرّتهم ويشفونها قبل أولادهم ويغسلونها قبل جباههم ويدثرونها من أسمالهم ويشقون لها الجداول لتنعم بالماء ويغتمون ما أن تجزع ويطيرون زهوا ما ان تصدر رائحة الحياة برغبتها في التناسل مصدرة أصوات يعرفونها هم فقط ليجلبوا لها الذكر الآثم والتنبل لكي يزيد عدد أفراد عائلتها ما استطاع بالفريضة الوحيدة التي يؤديها.
لن يجاريها مخلوق في منزلتها وقد تنشب داحس وغبراء ويسقط رجال ويدمون مياه الأهوار لو صفع أحد مزاجها، ناهيك عن سرقتها، فهي المرضعة والمطعمة والمدفئة والحنونة الرقيقة التي يتناهى لها القوم بالسهر والحمى لو أصابها مكروه أو وثبت عليها الأقدار بميعادها المحتوم.
ذخر المعدان
يسأل المرء في المدن عن عدد سياراته وأمواله في البنوك، غير أن هذا السؤال يتبدل في الأهوار وهو الأول الخاص بعدد الجواميس التي يمتلكها الشخص الذي تقاس إمكاناته المادية وربما وجاهته وحضوره بعددهن، فقد كانت العائلات الفقيرة تملك أكثر من عشرين جاموسة، بينما يعتنون الآن بالكاد بخمس أو أكثر.
لقد تسبب التجفيف والتهجير مجزرة حقيقية لكل المخلوقات في الأهوار وفي مقدمتها الجاموس، فالذي كان بمستطاعه الهرب بجلده من القصف والحرق والاعتقال، لا يستطيع أن يطر ّ الهور الشاسع بقطيع جواميس، لذلك تركت لنهب الجيش أو هائمة في عراء متصحر تختبئ لتموت وحدها بلوعة.
ونتيجة لذلك خسر العراق خلال عقد التجفيف أكثر من 300 مليار دينار حسب تقديرات المختص بشؤون الأهوار عبد الرزاق فليح المؤيد لحسابات الدكتور حسن هادي رئيس قسم الثروة الحيوانية في العمارة التي تؤكد وجود 200 ألف رأس من الجاموس في مطلع التسعينات في الأهوار اختفى 35 % منها (تملك الدول العربية مجتمعة 3.7 ملايين رأس من الجاموس).
اتهام و إثبات
وضمن حملته في التشهير بأصول أهل الأهوار، ادعى النظام بأن الأهواريين أقوام هندية تم جلبها من قبل محمد بن القاسم والحجاج بن يوسف الثقفي مع الجاموس من الهند. وحسب هذا الادعاء، فان وجودهم كان لخدمة الجواميس التي جلبوها بعد فتح السند.
غير أن ألواح مرحلة ما بعد ظهور الفن السومري والرسوم والأختام بينت أن الجاموس كان يعيش في ممالك الأهوار قبل التاريخ وان جلجامش كان يصارع الجواميس المتوحشة في الملحمة المعروفة.
وواضح أيضا الربط المتعمد بين الناس والجاموس في مقولات النظام التي تحمل تعاليا وعنصرية لا لبس فيها.
ناس و جاموس
ولا بأس أن يرتبط الإنسان بهذا الحيوان المعطاء والمسالم والمحبوب للغاية هنا، بالرغم من شجاعته وبأسه وكامن عصيانه وهيجانه المدمر، فقد شارك قطيع من الجواميس بمعركة فعلية في غضون تقدم قوات دانمركية في منطقة الأهوار، ليس لها دراية وإلمام في سيكولوجية الجاموس.
ويبدو أن سوء فهم حصل بين الطرفين سببه إن الطرفين خافا من بعض في اللحظة نفسها، فالقوات الدانمركية كانت مشكلة من مدرعات وآلية ضخمة بوغتت بهجوم قطيع جواميس، ظنت، على الأرجح، بدء حملة تجفيف جديدة، لتدور معركة بين الجانبين أسفرت عن مقتل جاموسة وإصابة العشرات في معركة يمكن تسميتها «الذعر المشترك». (معركة الدانمركيين والجواميس في الأهوار صدرت في بيان عسكري رسمي دانمركي وليس من وحي الخيال).
وحسب هذه الحادثة فان الجاموس لا يعتدي على أحد ولا يحب أن يعتدى عليه، لأن طباعه حينئذ ستتغير. ومع انه يتجول بين الناس والأطفال النائمين، إلا أنه لم تسجل حادثة واحدة ولو عرضا، تحدثوا فيها عن جاموسة دهست أو أصابت طفلا نائما. لذلك فان الجاموس ينام ويتحرك وسط الناس ويدخل البيوت من أبوابها الفسيحة وله منزلة خاصة حيث يقيمون له دارا خاصة تتناسب وحجمه وكمية الأعلاف التي يتناولها يوميا من النخالة و الجت و الحشيش و الجوبان. أما بيت الجاموس فيطلقون عليه «السترة» ويصنعونه من القصب كما كل شيء هنا.
وبالرغم من أن الجاموس هو فصيلة أخرى من البقر كما جاء في سورة الأنعام «ومن الإبل أثنين ومن البقر أثنين» وقول الإمام أبو جعفر الباقر: «للجواميس مثل ما في البقر»، إلا أن الجاموس كسول لدرجة أنهم يتركونه لعلمهم بأنه لا يهرب من الكسل و يحب الماء وليس كالبقر كثير العمل لا يحب المياه العميقة.
يتدلل الجاموس وسط الأطفال وصغيره الذي يسمونه «الحولي» يلعب معهم كقط وبالحركات نفسها كما متعته حين يمسك أحد رقبته أو رأسه. فيما يترك الكبار الجاموسة «المكيلة» حتى تخرج لوحدها من الماء (المكيلة هي الجاموسة الطافية على الماء).
يسمح الجاموس بركوب الأطفال عليه ولا يمانع من تحول ظهره إلى مهبط للطيور وخاصة أبو قردان الذي يتغذى على الدود السائر في جلده. ويغذي الجاموس أيضا البعوض الذي حيـّر الجاحظ نقلا عن الأبشيهي في «المستطرف» سؤاله : «كيف علم البعوض بأن في الجاموس دما وأن ذلك الدم غذاء له».
ولهذا السؤال عمق فسيولوجي، فالجاموس ليس لديه مسامات في جلده كباقي الخلق تمنحه العرق وتخفض حرارة جسده، لذلك يعشق الماء في الصيف والخوار في الشتاء وهو السبب الذي يجعل الجاموس لصيقا بالمسطحات المائية والأنهر لذلك بيته من القصب الذي لا يكسب الحرارة وليس من الطين.
وفي تفسير «العيـّاشي» ورد نقله عن أيوب بن نوح قوله أن أهل العراق يعتبرون الجاموس «مسخ» وهو «أجزع خلق الله» ويهرب من البعوض إلى الماء بالرغم من أن الأسود تخافه فهو أكبر حجما من الثور في حين يعتقد بعض التراثيين أنه لا ينام لكثرة حراسته لنفسه!
المعطاء
يستغل الأهواريون كل ما يخرج من الجاموسة حتى روثها! ومن النادر أن يذبحوا الجاموس، ويتركونها تذهب بعيدا لتموت وحدها، فهي حتى حين تموت لا تريد أن تسبب ثقلا على أحد ويكون موتها كحياتها مريحاً للآخرين. في حياتها تمنح اللبن الذي يشتقون منه الحليب والقيمر والزبدة و روثها تعيد صناعته النساء بشكل حلقات دائرية ويصففنه على سقوف البيوت حتى يجف ويتحول إلى قطعة صلبة من الحطب يسمونه «المطــّال» الذي يحتفظون به بطريقة هرمية يسمونها «القبة» في «الكرزل»، ليدفئوا فيه المواقد ويلهبوا التنانير التي يخبزون فيها ويشوون السمك.
حلب الجاموس لوحده قضية معقدة، ولسبب ما لا نعرفه، لكنه مرتبط بالعادات البدوية حيث لا تحلب النساء النوق، فإن الرجال وحدهم في الهور أيضا من يحلب الجاموس. و انتقلت «تقاليد الحلب» البدوية في كثير منها إلى أهل الأهوار، وخاصة قتل «الحولي» لكي تدر لبنا أكثر ويحتفظ البعض بالذكور لغرض بيعها. ويستخدمون تكتيكا ماكرا في خداع الجاموسة بجلب «حولي» آخر ويلبسونه جلد «الابن القتيل» وإذا مات «الحولي» لأي سبب فيأخذون جلده ويحشونه ويقربونه من الجاموسة في غضون حلبها.
وهذا الحيوان مفيد حتى في حركته وسباحته، فالقطعان المتعددة طالما شقت الطرق الريفية بحوافرها وبدون معرفة منها وحين تسبح بين القصب كانت وبلا وعي أيضا تفتح طرقا للقوارب بين البردي والقصب وتعوض العناء الذي يمكن أن يقوم به عدد من الرجال لهذا الغرض.
صفير وأنين
الجاموس أساس الحياة في الأهوار ولأنها رقيقة بعكس ما يدل حجمها، فهي سريعة التعرض للمرض والعدوى وقد تمرض أحيانا لو شعرت بالضيم من أحد أزعجها بشيء!
وحين تمرض جاموسة تئن معها العائلة كلها، ولأنهم يعرفون حساسيتها وقهر شعورها بالوحدة، يجتمعون حولها لغرض مواساتها، يحدثونها أو يغنون لها أي شيء ويفعلون ما يطرد عنها الوحشة.يجلس بمظلتها الرجل المحطم القلب مع دابته التي تلقط أنفاسها وكدمية يمرر أصابعه مستدركا معجم الأصوات التي كان يناديها بها ذات يوم وهي ترعى في السهول والأجمات وعند البطائح البعيدة، سيتذكر الرجل المرة الأولى التي أملت به اكبر القدور الذي خلفه عاشوراء الفائت باللبن الذي كان ينزل منها كحشد خيرات ثم تلون عينيه دموع من سيفقد ولده في الفجر.
وحين يسرح الجاموس في مناطق الهور وتصل إلى مناطق بعيدة، وتتأخر عودته، يظهر ما يسمونه «الحادي» الذي يطلق صفيرا خاصا وأصواتاً تعرفها وتتبعها حتى تدلها الطريق وهذه الطريقة معروفة عند البدو أيضا في مقابلة الإبل.
لكل جاموسة «حاديها» مرتبط صوته بها ككيانها، كانوا يرددون أصوات لا يفهمها غير الجاموس، لغة لا تدخل إلا في قلوب المانحين فقط، المخلوقة التي تقمصت العطاء بكل عمقه وإيثاره، عاشقة السلام وواهبة الحياة والمنتصبة كالشجرة الخالدة والجذع الرشيقة.
يهدر صوت «الحادي» ويتعالى صفيره حين يعد القطيع ويعيد العد ولا ينقطع عنه السؤال وترهق رقبته وحنجرته إعادة الصفير للحظة التي تتسمر بها شفتاه عن توديع واحدة تخلفت عن القطيع، راحلة أخرى أضنتها السنون وحملت سيقانها المتراخية لتنزوي مهدودة الحيل قرب " إيشان " مهجور تتسلق على قصباته باذلة كل ما لديها من قوة لتركن جسدها على الحصيرة التي دونت أسماء كثيرة رحلت هي الأخرى، تبصر المياه حتى تنطفئ عيناها عند أبعد نقطة من الدغل الذاهب نحو الفضاء.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
القبس فــــــي الأهــــــوار العراقية - 8
عادات وتقاليد أخلاقية تنظم سير القوارب وتصنف مجذفيها
الأهوار العراقية ـ د. جـــمـــال حــسـين:
لا يمكن للحياة أن تسير بغيرها، كما لا يوجد أحد في الأهوار لا يمتلك قاربا ومردي وفالة ومكوار. مفككات الأمواج والرسم المنضوي في تناسل المجذاف وعفة الساحل كما المرادي الغائرة في بطن الماء المرن متراخية رضوضها ما بين عبير الطحالب وبنفسجات القاع.
صباح الأهوار مغسول بالمشاحيف ومندى بلين الأبلام ومساؤه رقة الأذرع المغمورة بصولة السّـفين وسراج الحيزوم المتربع على منضدة الأمواج، ألق يؤالف اخضرار الأعشاب المؤنثة بالقصب المذكر الممزوج بالقار الحاضن للغمرات ملطخا الأعواد بالماء.
لا أهوار بلا قوارب، كما الظهيرة التي ترك فيها عتبة بن غزوان خيول حملته ما أن أطل ّ على الأهوار ليستبدلها بزورق متماشيا مع الأمر الإلهي لنوح ليجعل الفلك مساكن. ومخاطبة الإله لرجل الطوفان في ملحمة جلجامش: هدم بيتك وابن سفينة، وهكذا أسموها «منقذة الحياة» وكانت لسكان الماء دوما ماخرة عباب مسالك العشب وأقواس القصب، فما ان أبصرنا أولها تيقنا من وجودنا في المكان الفياض، فقد كان دائما عنوان الأهوار: المشحوف!
القوارب في الأهوار كالأقدام، بعددها أو ربما يزيد، فأي مجال توجه بصرك نحوه، لابد وأن تلمحه متهاديا على الأمواج أو منسلا من بين الأشنات والطحالب والأعواد المتساقطة بفعل الريح أو حاملا كومة حشائش لإطعام الدواب.
ليس أكثر من اثنين في الحالات المعتادة، الصياد و«الدافوع» أو من يقطع القصب والمرّان ويجلب «العنكر» وغيرها من نباتات الأهوار ومن يجذف. وفي غالبية الحالات، تجده فريدا يدفع ويقطع ويحمل.
والنساء يعبرن الأهوار ويجمعن الأعلاف يوميا ويدفعن الزوارق أكثر من الرجال، أنهن القوة التي لا تلين والطاقة التي لا تخور والاسترسال العذب لحياة الأهوار.. في عمقها وغليانها وعسرها ومشقاتها.
لا تعرف المشاحيف جنس «الدافوع» ولا يهمها سني عمره، فهي المتلهفة دوما لحمل الكادحين بعضلاتهم والنازعين جذور الحياة من بطن الهور ولا يسأل المشحوف «دافوعه»، يسبر به الأمواج ولا يخونه، هكذا بنيت العلاقة الأزلية وبانت منذ القوارب السومرية ما قبل التاريخ التي وجدوها مطلية ومزينة ومتوجة متاحف اللاحقين، نفسها، بالمقاس والنظرة والهندسة، تلك المشاحيف التي يستخدمها أهل الأهوار الآن.
أنواعـهــا
والشائع هو المشحوف المستطيل الشكل المدبب من النهايتين وإذا كبر ليتسع ثقل أكثر وتركب به محركات بخارية يسمونه «الشختورة» إذا امتلك أحدهم مالا، لأنها غالية ويصل سعرها إلى ألف أو ألفي دولار حسب قدرة الدفع للمحرك وكم حصانا وكم سيحمل السمك والطيور والناس وينقلهم ما بين المدن بواسطة قنوات المياه والأنهر؟. وهناك الـ «طراد» المستخدم للحمل أيضا ويزينونه بالمسامير الملونة ويفرشون وسطه الحصران والبواري وجوانبه مقوسة معمولة لكي يستند عليها من يجلس على أرضيته. والطراد أكبر حجما من «الكعود» أو «الكعدة» التي تتجاوز حمولتها الطن والذي يستخدمونه في قطع مسافات طويلة ويأتي «البلم» في المرحلة التالية من حيث الحجم فالكثيرون يعتبرونه مشحوفا لكنه أكبر منه بثلاث أو أكثر من الأقدام ولا يطلى بالقار كالمشحوف، بل بزيت الكوسج (قرش صغير) ويبيتون فيه ما بين الخشب القطن وليس نثار الخشب كما في المشاحيف. وهناك "الشاشة" ويستخدم للتنقل الداخلي ويصنع من البردي المضغوط الى بعضه ويضاف إلى هذه الأنواع من الزوارق، أخرى كالماطور (بمحرك) ينتقلون بواسطته الى المدن البعيدة و«الجلبوت» الصغير و«الجليكة» و«البركش» و«الدانك» الأكبر من المشحوف والمستخدم لنقل الحمولات و«الكفة» و«البركش» الذي يعتبره البعض أكبر قوارب الأهوار و«الجلابية» التي لم يعد أحد يصنعها أو يستخدمها. أما «المهيلة» أو «العانية» وأحيانا يكتفون بتسميتها «أم شراع» لاستخدامهم شراعا في تسييرها أحيانا، فهي كبيرة لنقل البضائع وكانت شائعة في تلك الأوقات التي كان فيها الملاك الكبار والتجارة الزاهرة أوقات «الإقطاع».
كل الأنواع مصنوعة حسب مبدأ واحد وفي كل هذه الأنواع لا يستغنون عن المرادي الطويلة أو «الجني» لدفعها سواء في مدها في العمق وعن طرق الغرف في مواقع المياه العميقة بواسطة «الغراريف» في حالة تعطل المحركات إن وجدت.
صناعتها
يحفر الخشب بألواح طويلة ويطلى من الخارج بالقار وتعقف المقدمة (الصدر) ويهيأ بها مكان للجلوس تسمى «الدوسة» التي توجد مشابهة لها في النهاية التي تأخذ هيكلا مثلثا «الركمة» تسند الهيكل الخشبي الممتد لكل أطراف المشحوف التي يخرقها من الوسط «الجست» كمكان إضافي للجلوس. ولا غنى عن ربط الخشب بالمسامير المختلفة حسب مواقع التثبيت.
يفضلون خشب التوت في صناعة الزوارق لكونه الأرخص والمتاح، وقد يجلبون أنواعا أخرى من المدن مثل «الجام» و«الجاوي» بالرغم من أن «الصاج» أفضل ما ذكر لكنه غير موجود ونادر في العراق وغالي الثمن وكان أوقات الاستيراد يجلبونه من الهند وماليزيا واندونسيا بواسطة البواخر الشراعية التي تصل موانئ البصرة.
اشتهر صناع القوارب في الأهوار كحرفيين ماهرين وكانوا دائما موجودين بما فيه الكفاية وتميز الصابئة عن باقي أقرانهم في هذه الحرفة، وينتجون في الأوقات الذهبية المئات شهريا، لكنهم اليوم لا يصلون إلى هذا العدد، لكن عملهم في تصاعد مستمر في صناعة الجديد وتصليح القديم، فالمشحوف ينبغي تجديده كل عام ومراقبة قيره طوال عمره الافتراضي الذي يقدرونه بخمسة سنوات.
صانع الزوارق اليوم يأخذ مهام «الكيار» و«المكير» أيضا الذي «يجوي» الزورق ما أن ينضح بالمياه لوجود ثقب فيه في مكان ما، ولا تستغرق هذه العملية غير تحضير مشعل نار وتمريره على المنطقة التي تشقق أو سقط القار منها لتلتئم مجددا.
صغر سنهم وأصبحوا شبانا، بل الكثير من الفتيان منهم يمارسون هذه المهنة الآن بشكل جماعي، وحين توقفنا عندهم كانوا مشغولين كل بمهمته، فالخريف سينتهي وقد لا تحل مثل هذه الشمس في الأوقات القادمة.
هناك من يقطع الأخشاب وآخر ينجر الأغصان وثالث بيده «مكفال» ينزع القار القديم الذي لا يصلح ولا يمكن تسويته ليبعده عن الخشب ( كشط الجير). وبدا أنهم يستخدمون القوارب القديمة ويعيدون ترميمها أو تجديدها، فالحال ليس على ما يرام وليس دائما يوجد من يريد شراء مشحوف جديد.
يطلون الزورق بالقار أو كما يسمونه «الجير» باستخدام «الصكلة» بعد أخذه جاهزا من «المنكالة» الخشبية وبقلبه وتمشية القار عليه بطريقة يسمونها «الثوب» وهي طبقة خفيفة تليها طبقة أخرى فوقها «الكمر» وبعدها يتركونه يجف مع «الطين الحري» ليكون جاهزا للماء.
بعد هذه العملية التي تستغرق بضعة ساعات، يبيعون المشحوف بسعر لا يتجاوز 50 دولارا، وقد ينقص قليلا بحساب طوله الذي يفصلونها 7 أقدام. ويوجد حاليا بالقرب من كل الأهوار التي عادت إليها المياه والحياة «سوابيط» القوارب وهي «كراجات القصب» التي تحافظ عليها من الشمس والمطر وغيرها.
أهمية
لم تدخل القوارب في مسيرة الحياة في الأهوار فحسب، بل انصهرت في ثقافاتهم وأمثلتهم الشعبية وأشعارهم وأغانيهم ولا يستطيع من يكتب عن الأهوار في أي حقل فني تجاوز المشحوف الذي كانوا يطلقون عليها أسماء أولادهم لاعتزازهم بها.
ولطالما تغزل الشعراء وغنى المطربون مستلهمين القوارب في إبداعهم مثل «مشحوفي طر ّ الهور وبيدي فالة» و«مشيت وياه للمكير أوصلنه» و«طراريد العشك سارن بلا ماي» و«سرت كل البلام وشله بلماي» و«دوانيك كلبي محملة اكشاش» والكثير جدا من قصائد الشعر الشعبي الكلاسيكية والمعاصرة والأبوذيات والحسجات وغيرها من فولكلور امتدت في عمق ثقافة المنطقة ومحبيها وتاريخ أبنائها.
ذعر القوارب
وقالوا أن أكثر شيء كان يزعج النظام هو القوارب وصناعها وعددها، فقد كان يخشى كثيرا من انتشارها وبأعداد كبيرة في الهور، لأنه يعتبرها أفضل وسيلة لتنقل المعارضين واختبائهم وسط الدغل والأحراش ولا يكلفهم الأمر سوى تغطية المشحوف ببارية (يسمون العملية شكص والشخص امشكص ويستخدمها صيادو السمك الذين يبقون أياما في الهور) والاختفاء هنا لأطول فترة ممكنة. وتبعا لهذه الخشية فقد زرع النظام الجواسيس بين الأهالي لتعقب الذين يمدون المعارضين المختبئين بالزوارق بالطعام والمؤن والأنباء. وتلافيا لمخاطرهم حاول النظام تسجيل القوارب (كما الحال مع السيارات) وإعطاءها أرقاما، لكي يعرف كل صاحب زورق وعنوانه وغيرها من المعلومات عنه. لكن المسألة لم تكن عملية لوجود عشرات الآلاف من المشاحيف، لكنه استطاع تثبيت أرقام الشختورات والماطورات وكل قارب يعمل بمحرك.
لكن يبقى المشحوف ككريات الدم بالنسبة لجسد الأهوار ويفضله الناس لأنه سلس وينساب برشاقة في المناطق الضحلة والعميقة على السواء. وبما أن الظرف في الأهوار الآن جعل مستويات الماء متذبذبة وزاد من غابات البردي والقصب التي تحجز مسرى المياه، فأن للمشحوف قدرة على المناورة ما بين «الكواهين» (ممرات المياه) ليتنقل أسهل من القوارب الكبيرة والشخاتير.
أخلاق القوارب
هناك عادات وأسس تعارف عليها الأهواريون في كل جوانب الحياة، ومنها ما يتعلق بالقوارب فإذا تقابل قاربان فإن الذي يسير مع التيار هو الذي يؤدي التحية للذي يجذف ضد التيار (يسمونه المغرّب) مهما كان عمره وزاد عدد الركاب لديه. هذه العادة تفسيرها عميق مرتبط بشد أزر الذي يجذف ضد التيار ويشعرونه بتضامنهم مع تعبه كونه يبذل طاقة وجهد أكبر منهم وفي وقت واحد فهي استقامة من نظم كل صغيرة وكبيرة في العلاقات الاجتماعية الخاصة التي أنشأت حضارة الأهوار. وكذلك يعاملون الـ «معذب» وهذا الذي يقضي فترة طويلة في الهور لصيد السمك، خلال عودته إلى مسكنه.
قارب الذهب يضيء الأهوار مساء كل جمعة
وهي ليست تلك القوارب التي عثر عليها في خزائن مملكة أور السومرية في أهوار الناصرية، بل أسطورة لم يزر أحد الأهوار أو سكنها إلا ويتحدث عنها حتى اليوم.
ملخصها أن قاربا من الذهب يظهر كل ليلة جمعة قرب «تل الذهب» أو جزيرة «حفيظ» المليئة بالكنوز والتحف الأثرية والذهب والأختام، على متنه يرقص ملاحون ويقرعون الطبول وينشدون بمصاحبة الدفوف أغان تصل لأسماع كل أهل الهور الذين يرون برقا مضيئا من الذهب وأصوات لا يكاد أحد يتبينها أو يفهم منها شيئا سوى أنها لملاحين غائرين منعمين بالذهب، لا يخرجون إلى الحياة إلا في ليلة الجمعة.
ويروى أن الكثيرين من شيوخ الأهوار حاولوا الحصول على قارب الذهب هذا، لكن أحدا ممن كلفوا بمهمة الوصول إلى تلك المنطقة لم يرجع وأن الذي يطمع أو يفكر بالحصول عليه، سيلاحقه الموت أو يغلفه الجنون.
لا ندري ما حقيقة قارب الذهب وأحقية «إيشان حفيظ» وأغان الملاحين، لكن ليالي الأهوار من العمق والرهبة ما يجعل نشيدها الغامض ملونا بالحشائش وما فيها لا يدرك بالصدفة أو الحسابات المنطقية ولو كان قارب الذهب هذا موجودا فأين كان صدام عنه، وربما كان الرئيس المخلوع واحدا من ضحاياه كالشيوخ الذين جنوا أو تيبسوا في فراشهم ما أن فكروا بالاقتراب من زهور الملاحين الذين كانت أرواحهم تهبط من سر الخلود الذي بحث عنه جلجامش في هذه الأنحاء والقصبات، وقد يكون نشيجه على أنكيدو أو شجرة الملوك الذين كانوا يغزون بعضهم البعض وحولت معاركهم مياه الأهوار إلى طوفان من الدماء وكما قرأ في رقيم بابلي بعد خمسة آلاف عام: «وأصبحت البلاد تخور مثل الثور» واصفا بأس الموت الذي حل بالمملكة التي يصفها رقيم بابلي آخر: «كان الموتى يملأون النهر وكأنهم فراشات وقد تحاشدوا كالأكلاك عند حافة النهر». واضح أن هذه «الأكلاك» كانت حقيقية وتوصيف عدد الناس الذين قضوا حتفهم دون أن يظفروا بقارب، في هذا المكان الذي يسميه الناس بعد كل هذه القرون بقارب الذهب، جرح لم يندمل لأرواح تظهر كل ليلة جمعة ترقص على قاربها الموعود وتنشد أغاني الخلود.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |