بسم الله الرحمن الرحيم
"وما كنت بجانبِ الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمرَ وما كنت من الشاهدين* ولكنا أنشأنا قروناً فتطاولَ عليهم العُمُرُ وما كنت ثاوياً في أهلِ مدينَ تتلو عليهم آياتِنا ولكنا كنا مُرْسِلِين* وما كنت بجانبِ الطورِ إذ نادينا ولكنْ رحمةً من ربِك لِتُنذرَ قوماً ما أتاهم من نذيرٍ من قبلِك لعلهم يَتَذَكَّرُون*"
بمناسبة العيد الإسلامي الأعظم عيد يوم الغدير نهنئ مولانا صاحب العصر والزمان الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) ونهنئ العالم الإسلامي، ونسأل الله تعالى أن يمن على جميع المؤمنين بالثبات على ولاية أمير المؤمنين(صلوات الله وسلامه عليه).
ويحسن بنا أن نلتفت بهذه المناسبة إلى بعض الأمور بمقدار المتيسر ضمن النقاط التالية:
أولاً: إن تبليغ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما أمر به في إعلان الولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام)، يعد الجزء المكمل لكل ما قام به من جهود تبليغ الرسالة الإسلامية، عبر السنين التي ابتدأت منذ أن صدع برسالته وإلى حجة الوداع التي حصلت فيها حادثة الغدير.
بل يعد هو الجزء الرئيسي منها بحيث يعتبره القرآن الكريم وكأنه لم يبلغ الرسالة إن لم يقم بهذا الأمر، وليس هو جزءاً اعتيادياً يمكن أن يغض عنه النظر أو يعوض بأي تعويض آخر. وإنما يكون تبليغه للرسالة بمنزلة العدم إن لم يفعل ذلك.
وذلك حينما نقرأ قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس". مما يؤكد أهمية هذه الفقرة من الدور الذي قام به رسول الله(صلى الله عليه وآله) طيلة الجهاد والعناء والأعباء التي تحملها.
وليست المسألة عشوائية، وإنما تمثل هذه الولاية الثقل الحقيقي للإيمان، والمضمون الواقعي للشريعة، واللب الباطني لكل ما يتعبد به الفرد تجاه الله سبحانه وتعالى.
فلا يمكن أن يكتمل أي إيمان أو أي تشريع أو أي تعاليم إلهية إلا بولاية أمير المؤمنين وأهل البيت(عليهم السلام).
فلذا تجد أن الله سبحانه وتعالى قد تعبد كل البشر بما في ذلك الأنبياء والرسل بولاية أهل البيت(عليهم السلام) بما يفهمه كل جيل من هذه الولاية، وبما ينكشف لكل نبي أو رسول من مقدارها وحدودها بمقدار ما يطيق ذلك ويتحمل.
حتى قال بعض أهل المعرفة بأن موسى(عليه السلام) إنما صعق لأن أمير المؤمنين(عليه السلام) أراه خرم أبرة من الأنوار الإلهية التي يحملها فلم يتحملها موسى وصعق.
وحتى سمعت من شهيدنا الحبيب(قدس سره) ما مضمونه: إن كل البشر الذين جاءوا قبل آدم إنما كان الحجة عليهم جميعاً هم محمد وآل محمد.
إذن فتكون المسألة ممتدة بامتداد هذا الوجود بعوالمه الظاهرة والباطنة، وليست المسألة بالأمر الارتجالي والمستعجل الذي قد يفهم على أن الظروف الآنية أملته على رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمصلحة وقتية.
كلا بل الأمر أعمق من ذلك بما لا يمكن أن يدرك بعقولنا القاصرة إطلاقاً، وإنما غاية ما يمكن إدراكه هو ما بلغ به رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ظاهر حديثه: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" وما يرتبط بذلك من ألفاظ ومعاني لا حصر لها.
ثانياً: إن أهل البيت(عليهم السلام) لهم درجاتهم العالية بأنوارهم وحقائقهم النورانية التي هي أعلى من كل تصور، وفوق تحمل العقول على الإطلاق. بل لا يمكن لأي عقل مهما بلغ من كمال أن يصل إلى حقيقة وجودهم وكنه حقائقهم إلا بحدود الحكمة الإلهية، ولهم السلطة التكوينية والتشريعية على هذا الكون ككل، لا يستثنى من ذلك كل ما خلق الله سبحانه وتعالى.
وفي حدود فهمي فإن الحقائق العالية والباطنية يمكن أن تكون لها تجليات ظاهرية، وتتجسد على مستوى الظاهر بما يناسبها بطبيعة الحال. فتكون تلك الولاية التي قد نعلم بها إجمالاً من دون الإحاطة الكاملة بها لقصور في المتلقي أكيداً، قد تجلت على مستوى الظاهر بالمنصب الذي أمر الله سبحانه نبيه الكريم(صلى الله عليه وآله) بأن يبلغه للناس، ويكون أسمى شخص يمكن أن يتسنم هذا المنصب الإلهي هو هذا الرجل الذي صيغ بصياغة خاصة من قبل الله سبحانه وتعالى واقعاً وتحت إشراف رسول الله(صلى الله عليه وآله) ظاهراً. وهو أمير المؤمنين(عليه السلام).
ثالثاً: إن الله سبحانه وتعالى يعد رسوله(صلى الله عليه وآله) بأن يتكفل تقديم المقدمات التي من شأنها أن توفر الجو المناسب والأرضية الخصبة لتبليغ هذا الأمر، فيريد الباري جل وعلا أن يأخذ على نفسه _لو صح التعبير_ كل ما يؤدي إلى تحقيق غرضه، لأنه يعلم الخير العميم والعطاء الجزيل المرتبط بهذا الجزء من المهمة التي تحملها نبيه الكريم(صلى الله عليه وآله). فنجده في الآية يقول: "والله يعصمك من الناس".
رابعاً: إن هذه الفقرة من الآية، أعني قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" تدل على ردة الفعل المتوقعة من الناس تجاه هذا الأمر، والتي يقابلها أمران لابد منهما:
أحدهما: من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو الإصرار على موقف التبليغ مهما كانت النتائج، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، كما هو شأنه في كل الخطوات التي قام بها سابقاً، والتي تحمل من أجلها مختلف أنواع البلاء والصعوبات، إلا أنها لم تثنه عن هدفه الحقيقي، بل صمد إلى نهاية المطاف. وتدل على ذلك كلمته المشهورة بما مضمونه: "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه"، والذي قال عنه الإمام السجاد(عليه السلام) في بعض أدعيته في الصحيفة السجادية: "كما نصَّب لأمرك نفسه، وعرَّض فيك للمكروه بدنه، وكاشف في الدعاء إليك حامَّته، وحارب في رضاك أسرته، وقطع في إحياء دينك رحمه، وأقصى الأدْنَيْنَ على جحودهم، وقرَّب الأقصين على استجابتهم لك، ووالى فيك الأبعدين، وعادى فيك الأقربين، وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك، وأتعبها بالدعاء إلى ملتك، وشغلها بالنصح لأهل دعوتك، وهاجر إلى بلاد الغربة ومحل النأي عن موطن رحله وموضع رِجله ومسقط رأسه ومأنس نفسه" إلى آخر ما قال في الدعاء.
ثانيهما: وهو الوعد الإلهي بالنصر والحماية من الناس، كما وعد سبحانه وتعالى بقوله: "والله يعصمك من الناس".
وقد تحقق ذلك فعلاً وتنجز الوعد الإلهي وقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأداء مسؤوليته على أكمل وجه وبلَّغ ما اعتبره الله سبحانه وتعالى إكمالاً لدينه وتماماً لنعمته كما قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً". وهذا ما نزل من القرآن الكريم بعد حادثة الغدير مباشرة.
خامساً: إن علينا أن نأخذ العبرة من موقف الآية الكريمة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) والتي تعتبره غير فارغ الذمة ومقصراً إن أخل بتنفيذ هذا الأمر، مع ما له من المكانة العالية عند الله سبحانه وتعالى وأنه أعلى الخلق على الإطلاق وأقربهم إليه بلا منازع، مما يكشف لنا بكل وضوح أن الدين ليس فيه مجاملة إطلاقاً، بل إن ما يقرب الفرد من الله تعالى أو يبعده هو طاعة الله سبحانه والعمل الصالح، مما يدفع رسول الله(صلى الله عليه وآله) نفسه إلى أن يقول ما مضمونه: "لأن غويت لهويت".
فالميزان الحقيقي إنما هو أداء الفرد أياً كان لمسؤولياته الشرعية أمام الله سبحانه وتعالى وعدم التهاون فيها وعدم التقاعس عنها مهما كانت الظروف التي تمر على الإنسان، مادام النفس يصعد وينزل ومادامت القدرة على أداء التكليف موجودة.
فلا يحق لأي أحد مهما تصور نفسه قريباً ومحبوباً من قبل الله سبحانه وتعالى أن يغض النظر عن بعض التكاليف الشرعية، أو أن يكون له الحق في انتقاء ما يشاء منها. بل لابد من إطاعة الله سبحانه وتعالى من حيث يريد هو لا من حيث يريد الفرد كائناً من كان.
وهذا ما نراه واضحاً في حال أهل البيت(عليهم السلام) وأنهم لا يسمحون لأنفسهم بأي تهاون في أداء المسؤولية الشرعية مع ما لهم من المكانة العالية والرفيعة عند الله سبحانه وتعالى.
سادساً: إننا نرى وعلى الرغم من أهمية هذا الأمر والحرص الشديد على تبليغه، ولكنه لا يمكن أن يجعل قبوله من قبل الناس على نحو الجبر، مع كل ما له من الآثار العظيمة والمهمة للإسلام والمسلمين عموماً على المستوى الفردي وما يمكن أن يتكامل به أي أحد من خلال ارتباطه بهذه الولاية العظيمة، وعلى المستوى الاجتماعي وما يمكن أن تحفظ هذه الولاية للمسلمين جادة الصواب وعدم الانحراف نحو الهاوية.
إلا أن التربية المطلوبة لا يمكن أن تكون على نحو الجبر والقهر، بل لابد من حصولها على نحو الاختيار الذي حفظه الله سبحانه وتعالى لعباده مع كل الشرائع الإلهية والتعاليم الربانية المنزلة منه جل وعلا.
وبتعبير آخر فإن الله سبحانه وتعالى قد تكفل كل ما عليه من تبليغ هذه الرحمة وإيصال هذه النعمة إلى مستحقيها، وتبقى ردة الفعل المتوقعة والتي هي قيام الناس بواجبهم تجاه ذلك، والتعامل معه بما يرضي الله سبحانه وتعالى.
وقد حصل التجاوب الظاهري بادئ ذي بدء بشكل معتد به ممن كان حاضراً في خطبة الوداع التي خطبها رسول الله(صلى الله عليه وآله) في غدير خم، وتجمهر الناس بما في ذلك وجهاء الصحابة والمهاجرين والأنصار يهنئون أمير المؤمنين بهذا المنصب الإلهي.
ولكن الحال لم يستقم على ذلك بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) بل ظهرت حسيكة النفاق وتمرد الكثير منهم على ذلك، وأقصي صاحب الحق عن حقه، فابتليت الأمة بتخبط وشماس وتلون واعتراض، لأنها تركت قائدها الحقيقي، وتحكم فيها من لا ناقة له ولا جمل ولا يحسن من كتاب الله آيتين.
فحصل الضلال والضياع في المجتمع الإسلامي، وأصبح سهل المنال ومطمع كل طامع من الداخل والخارج، وتهاون الكثيرون في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما أنتج الكثير من النتائج السيئة والتي تحمل أعبائها الكثير من الأجيال عبر القرون المتطاولة.
سابعاً: إن لشهيدنا الحبيب(قدس سره) العلاقة العظيمة مع جده أمير المؤمنين(عليه السلام) بما تكون مما يحظر التصريح به لأنه من الأسرار الإلهية التي يحرم البوح بها، والتي تتزلزل عندها العقول حين سماعها، فلا يمكن التصريح بها، ولا يفهم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم.
ومن جملة عناصر تلك العلاقة مما يمكن قوله والحديث عنه هو ما تزامن قيامه بالجمعة المقدسة في مسجد الكوفة مع عيد الغدير، حيث أقامها بعده بيوم واحد والذي صادف يوم الجمعة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة الحرام.
وهي نفحة من نفحات تلك العلاقة العميقة بعمق الزمن الإلهي السحيق الذي عاشه في رحلته التكاملية مع هذه الحقيقة العلوية.
والتي شكلت بعد ذلك منعطفاً مهماً للإسلام والمجتمع الإسلامي، وكانت فتحاً عظيماً قد أنتج للناس مختلف أساليب الوعي والإيمان والتكامل والشجاعة وغير ذلك كثير مما أنتجته هذه الجمعة المباركة.
وستبقى هذه العلاقة بنتائجها مما يؤثر إيجاباً بكل تأكيد في الرحلة المهدوية، ومما يسير نحو ما يريده التخطيط الإلهي والحكمة الإلهية في هذا الكون.
فعلى كل من يريد أو أراد الارتباط بالشهيد الصدر(قدس سره) أن يكون على مستوى المسؤولية في تحقيق الغرض الإلهي وأن يجند من نفسه خادماً للدين وشريعة سيد المرسلين(صلى الله عليه وآله) والتي تكللت في يوم الغدير بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدامنا على صراطه السوي، وعلى الولاية الحقة لفهمها نصاً وروحاً.