التحقيق يعاد مرة أخرى
بقلم: لطفي جميل

وسط عربات، رص بها الرجال مدججين، وسط سيارات الإسعاف ومطافئ الحريق، بين رتل أحذية الجنود.. من صوت ارتطام أشياء بأشياء.. من تقاطع الأوامر، الأصوات، بين آلاف الحدقات المعلقة، تقدمت بدفع الحراب..
أمرني من خلف هرمه المنضدي، بعباءته التي تعني ولا تعني شيء، أن أتلو القسم، ثم أقول الحقيقة لا غير. كان هاجسي أن يصدقني، بأني ليست إلا خرافة، نقطة معتمة داخل ظلمة، كائن ناطق لا أملك من موجوداتي إلا حركة محدودة، تنحصر بين جدران البيت وجدران { الصمت الآخر} جدران كهفي المكعب صمتا الذي لا أعرف كيف انتسبت إليه ومتى سأغادره بلا عودة - هنا يكمن حزني- لأنه كان وعاء فرحي، حزني، انكساراتي، تعفني.
أخبرته أن تجربتي تخلو من العلاقات حتى أصدقاء العمل، لم يرغبوا بخوض أية حوارات معي.. فكنت أفضل سيدي سماع الأغاني، وقبل نشرة الأخبار أمارس هواية ( الالتحاف ) صيفا و" شتاءا"، على حدٍ سواء تحت غطائي الثقيل دون الكشف عن أي جزء من جسدي، وغالبا" ما أستيقظ حاملا" كوابيسي المعطلة. كما أني لا أحب القـراءة، لا أمتلك كتابا" واحـدا"، سوى ما حفرته جدتي بذاكرتي عن حكايات { المارد، السعلوة، الجان } فربما لا تصدقني هذه المرة كعادتك سيدي!!
ـ هذا لا يعني شيئا، قدر ما تعنيه الحقيقة؟
ربما تكون مرّة، فهي لا تعنيني أيضا... فأنا منذ خمسة وعشرين عاما ونيف، لا أهتم بالحقائق، قدر اهتمامي بتنظيفي للحذاء وغسل ملابسي الداخلية.. أسناني في بعض الأحيان!!
ليت ما نسب لي كنت بطله!! فلـم أكـن قطعـا" مسؤولا" عن خسوف القمـر، حتـى ولـو عاد ( كالعرجون القديم) فهذا لا يعنيني أيضا؛ فمنذ زمن لم أره، لم أعد أتذكر شكله بين النجوم. فقط في شهر رمضان أرى الجميع مختلفين في ظهوره، وقد يصل اختلافهم إلى حدِّ الشتم أو استعمال / النعال / كخطاب، بديلا" لتحقيق قناعات ـ كان وما زال سببا" في تجزئة الأمة ـ ( هذا ما يقال).. أما إذا بلعه الحوت أو قذفته قيئا" أصفر، فليس من شأني، لم يعد من واجبي رصدَّ سفر أو أسفار النجوم.. كذلك الشمس.. صدقني سيدي، أنا لم أعرف ولم أتذكر يوما" أنني شاهدت كسوفا" حقيقيا"..! لكني لا أنكر إنني قد لمحته في صور الدرس، لم أكن أعي حقيقته أبدا"..! فكيف سأصدق إن الشمس بمقدورها أن تمارس لعبة الغش و الاختفاء..!
لكنه لم يكترث لكل هذا، واصل و زملاؤه ملء آلاف الأوراق، وبين الحين والآخر كانوا يبرون أقلامهم كأنهم يقشرون عنقي، حتى سألني عن أسباب ارتفاع درجات الحرارة فوق معدلاتها.. عندما أنكرت التهمة موضحا".. بأنني غير مسؤولا" بالمرة عن هذا الحدث الخطير. حملني مرة أخرى مسؤولية الموت الجماعي.. نزوح الناس إلى الشواطئ، الأنهر، السواقي، بحيث ظلوا هناك لأيام، أسابيع، ربما فضل البعض البقاء إلى الأبد..!
أعلمته بأننا بذلنا المستحيل حتى يأخذ الجميع احتياطاتهم. إلا أننا للأسف لم نقم بهذا الشرف، لإصرار جميع المحارير على الانتحار..! حتى إننا نقلنا بعضها إلى أماكن مبرّدة، بغية تسجيل أيّ إشارة لأيّ رقم حراري.. فذهلنا بانتحارها أيضاً..! فقررنا وضع المحارير داخل أحواض من الثلج ـ كنا قد اشتريناها على نفقتنا الخاصة ـ فليس إلا برهة حتى عجزنا عن تمييز شظايا الثلج من زجاج المحارير، أو جمع / الزئبق /، لأجل تأشيره في سجلات (الذمّة ).. فلم نجد له أثراً، لربما تسامى..!
تمنيت أن يصدق حقيقة / صيفنا /، بالذات شهر / آب /، إلا أنه رفض التسليم بالمثيولوجيا القائلة ( آب اللّهاب ) *.. إذ أعتبرها ادعاءات تدعو للكسل والاستسلام.
أما اتهامي بخنق / الهواء / واحتكاره لأغراض شخصية، فقد كان أخطر ما قيل خلال الجلسات الثلاث.. على الرغم من عرضي لخطوط ( الطول والعرض )، ثم الورق البياني الذي لم يؤشر فيه أيّ حركة للهواء. وإن مؤشر اتجاه الريح لم يسجل أيّ اتجاه معلوم، إلا نقطة مجهولة لم تدركها أحدث الأجهزة..!
وتعليل هذا سيدي.. هو وجود تلاعب خطير في ميكانيكية / المناخ /..! الذي لم يشهد منذ أعوام أيّ استقرار.. لربمـا وراء هذا أيـادٍ خفية..!
فكان ردّهُ أخطر من اتهامه، عندما حملني مسؤولية التلاعب هذا..! فتبادر إلى ذهني مأساة ( الأوزون )، عَلّها تنجدني، لكنه كعادته أدعى بأن ( الأوزون ) ليس غير عارض / كوني / لا يمت بأية صلة لكارثة، توجب على
إثرها، إعلان الطوارئ لارتفاع معدلات الموتى، الإجهاض، انتشار الأوبئة، غلق جميع المنافذ التي تؤدي إلى أيّ موقع للماء.. منعاً لأيّ تجمع قد يؤدي إلى مشاكل لا حصر لها..!
فذكرّتهُ بما يسمى / بالدورة المناخية /، وأن الانقلابات فيها تخضع لعلاقات دولية غاية في التعقيد.. لا ندركها نحن الاثنان..! فقط علينا قبول حرابها لتجتث جميع موجوداتنا.
فأجابني:
ـ إن الرياح، الأمطار، الزوابع، ارتفاع درجات الحرارة، لا تحمل أيّ معنى أيديولوجي أو أيّ نزعات صعّلكة أو خرافات أو أيّ مساومات.. فادعاؤك هذا لا يعني غير قصد ذكي للتلاعب بالزمن.! أما ما تدعيه بـ (طباخات الرطب؛ فهذه ليس إلا مزحة سخيفة، فنضوج الثمر هذا يخضع لقوانين بيولوجية، ليس لافتراضات عَرّافات..!
أصابني الإعيـاء، انتابنـي شعـور لا أعرف معنـاه، حتى كدت أن أفقـد صوابي، فأذكر له ( نوادر ( فيصل ) والفصول التسعة) .. نعم فبالرغم من براءته أمامكم.. إلا أنه مجرم.. نعم، لقد كنا ننام بجوار بعضنا، نقتسم أكلنا
داخل الجدران الأربعة ـ بالأحرى صندوقنا الحجري ـ حتى أخبرني.. صرح لي، بارتكابه تسع جرائم..! غير مزحه الثقيلة مع الجيران، عندما كانوا يستيقظون ليجدوا ( دجاجاتهم ) عند أبواب منازلهم منزوعة الرؤوس..! أو يزرع الرعب في الجميع، عندما تصحو المحلة على صراخ أحد الجيران ـ بعدما يتحول باب داره الخشبي إلى رماد ـ مما حدا بالجميع إلى تغيير نوافذهم وأبواب منازلهم بأخرى مصنوعة من الحديـد. تجنبـاً لحرائـق أخرى... كدت سأخبره، بأنه ارتكب تسع جرائم ـ وباعترافه أمامي..! ـ غير أنه سيخرج من بوابة قضائكم
/ الواسع / بعد تحقيق دام لأكثر من عام، متنكراً لكل التهم المنسوبة إليه!!
أخيراً اتهمني بالرشوة والاختلاس، فقدم عرضاً يتضمن بعض الأدلة الميتة.. وعمـلاً بوصيـة زميـل القفـص الحجري ( فيصل )، أنكـرت كل شيء. مؤكداً أن دائرة عملي لا تملك سـوى مؤشريـن، الأول لتحديـد اتجاه الريـاح والآخـر لقيـاس سرعتـه، مصلوبيـن بالصـدأ على السطح، وأرقام محار ير، وأخرى منتحرة، وبعض قمامة.. كما لا نتعامل بأيـة أوراق نقديـة، أو أيّ شكل مـن أشكـال المعاملات المصرفية، لأننا بلا ( نثرية )، ولن نقبض مرتباً شهرياً، إلا مقدار ما نحتاجه ليوم أو بعض اليوم..! لا نمتلك عجلات ـ فكنا نصل إلى مكان عملنا زاحفين ـ فقط.. من كان يبحث عن الفضيلة واليوم الآخر، إذ كان لا يفرغنا من عجلته إلا وقد صار بصدقته هذه من الصالحين، وغيره كان لا يفرغنا.. إلا ويقذفنا بكل ما حفظه من مفردات ( الشتم )..! كذلك لا نملك أية أثاث، غير كرسي وطاولة ( للسيد المدير ) الذي لم تتشرف دائرتنا به إلا بمناسبات خاصة جداً.. وبعد عرضه لبطاقته الشخصية، يذكرنا ـ وللأسف ـ بأنه مديرنا ليس إلا، فكنا نبادله بعض مجاملة سمجة على قدر اللحظات التي كان سيقضيها معنا .
كنا نشترك بالجلوس على كرسيّه أو النوم فوق أو تحت طاولته تلك..! أما أجور الماء والكهرباء، فلم يصل (المُحصّل ) إلينا من سنين عديدة، حتى اعتقدت بأن أجور هذه الخدمة قد تم الاستغناء عنها.
أيضاً لا نستخدم الورق أو الأقلام.. أي، نسينا مصطلح ( قرطاسية ).. لا نصنع الشاي أو نتعامل به مع أحد قط.. لا نمارس أية أعمال تجارية.. لم نستقبل أيّ زائر أو ضائع قد ضل طريقه إلينا، غيـر أصوات الفلاحين
وحيواناتهم التي كانت تتسلل إلينا من خلال نوافذنا المهشمة.
أما من كان يسألني من باب الفضول، عن طبيعة عملي, فقد كانت تحيرني أسئلته عن معنى ( الأنواء الجوية ) فعندما كنت أشرح له ما لا يعيه، كان يترجل من العربة قبل وصوله لمحطـة الأخيـرة ضجراً مما أقول، أو كارها لرفقـة تفاهـة مثلي.. ولربما أتهمني البعض بالجنون ….
فمن يرشونا، أو نرشوه سيدي..؟!!
فأمر بإعادة التحقيق مرة أخرى...
كان بودي أن أصرخ.. أن أحطم بمطرقته هرمه المنضدي.. أو أن أقول له.. أنني لا أحتمل أو أقبل بغير جناحين، بلا أصفاد.. أن أدخل عنوة قارورة حامض النتريك.. أنني لا أحتمل غير حماقاتي.. غير حركتي اليومية التي لا تحمل أدى معنى.. أنني لا أنتمي إلى غير ما تراه، من مجرد شكل بلا محتوى أو ذكريات.. أنني خرافة.. حتى الفصول صرت لا أعرفها.. لا أدرك الاتجاهات ( اليمين / اليسار ).. فربما أكون نكرة، على غير ما تتصوره.. ربما أكون غير مسجل في صحف البشر المهمين أو المهملين.. إنني لا أعني أيّ رقم تعبوي... فوجودي، ليس في هذا المكان فحسب، بل على أية نقطة من هذا السطح المنحني، ربما كان خطأً أو التباساً
بالتقدير، بلا جدال...!
فكيف تسمح سيدي، بأن تصنع مني بطلاً بلا تاريخ.. بلا عنوان أو شكل..؟ بطلاً من سنين لا يعترف بغير الظل محتوى مكانيا له، والفضاء محتوى فكريّا له..!
إنني لا أصلح لبيدق خشب، مثلما لا أصلح لنفسي.. حتى النساء جميعهنّ كنّ مشطوبات من جميع انفعالاتي، دوافعي، فلا أصلح لهنّ.. ربما لأنني بلا أعضاء سيدي..!
كدت أتوسل إليه، أن لا أنقاد بهذه المراسيم والموكب المسلح والضجيج.. أتوسل إليه بأن يدعني أن أذهب إلى قفصي لوحـدي.. فهـذا الضجيج يفـزعني، يجعلنـي أستوطـن ( دورة المياه ) حتى موعد الجلسة القادمة..
غير إنهم جروني بذاك الصخب إلى قفصي، لأجد زميلي ( فيصل ) قد غادره وهو يحمل معه أشياءه وزهو انتصاراته، وقلباً كان قد عجز مبكراً. مخلفاً ( نطاقه ) الأسود هدية لي.
lutffijameel@yahoo.com