النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    Lightbulb مقالات من كتاب " تجاربي مع المنبر " للعلامة الخطيب الشيخ د.أحمد الوائلي

    [align=center]
    مقالات حول المنبر الحسيني
    للمرحوم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي *
    [/align]
    [align=center][/align]
    [align=center]من كتابه
    " تجاربي مع المنبر" [/align]




    [align=center] أهمّ الأهداف من وجود المنبر [/align]

    إنّ كلّ فكر وكلّ مضمون لابدّ من التعبير عنه وإلاّ بقي حبيس وعائه على اختلاف في الوعاء ، والكتاب العزيز يقرّر ذلك بقوله تعالى : ( خلق الإنسان علّمه البيان )(1) ، والمضمون الإسلامي كباقي المضامين لابدّ له من معبّر عنه ، والجهات المتصورة المنوط بها التعبير عنه قسمان : خاصة وعامة ; فالخاصة مثل هيئات التدريس تفرغ ما في الكتاب في الأوعية الذهنية وهي مقصورة على طبقة خاصة ، أمّا العامّة فهي المنبر أو المذياع والمذياع غالباً لا يتمخض لذلك ولا يتخصص ، فلم يبقى إلاّ المنبر الفاضل الذي ينطق عن علم وثقافة ويعالج بحكمة وسداد ، فالمنبر إذاً القناة التي نريد منها حمل المضمون الإسلامي للأجيال التي إذا وضعناها في أجواء الإسلام حقّقنا الأمور التالية :

    1 ـ عملنا على الكشف عن المثل العليا التي يتوقّ لها الضمير العام والنزوع الفردي بالإضافة للكشف عن المثل الأعلى : إيمان الفرد بحضارة أمّته وأنّها غنيّة يعتزّ بها .

    2 ـ أنّ الموائد الفكريّة تتصارع وتتزاحم لتأخذ جياع الفكر والعقائد إلى ما عندها ، فلو تركت الساحة خالية من مائدة مسلمة فمعنى ذلك ترك الساحة خالية لعطاء الإنسان وأين عطاء الإنسان من عطاء السماء من كلّ الجوانب . والله تبارك وتعالى قد وضع المسلمين وجهاً لوجه أمام الرسالة ليقوموا بإبلاغها ولينهضوا بعبئها قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ـ البقرة 143 ـ فإذا تخلّفوا عن ذلك كانوا أمام المسؤولية وخلعوا لباساً كرّمهم الله تعالى بارتدائه .

    3 ـ إذا استبدّت المضامين غير الإسلاميّة بالفرد فمعنى ذلك أنّنا لا نجد إلاّ الإنسان المادي الصرف الذي يحوّل الحياة إلى جسد يصارع لإشباع رغباته وتستأثر به قوى الحيوان بحيث تنعدم آثار الروح وبصمات الأخلاق وينعكس ذلك على كافة أبعاد الحياة فلا نجد الإنسان وإنّما نجد الوحش في كلّ مكان ولا نجد الدفىء الإنساني وإنّما المصالح لغلظتها وجفافها .

    والمطلوب من المنبر ...

    (اولا) أن يكون من المنابع التي تهيّىء الجوانب الإنسانيّة والخلقيّة أو قلّ أن يساهم في صنع العيش الكريم .

    (الهدف الثاني) العمل على الإفراج عن الفكر المحاصر وهو فكر آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)ويعزّ عليّ أن أصرّح بهذه الحقيقة المرّة . إنّ المنابر الإسلامية غير الشيعية لا مكان في مساحتها الواسعة لآل محمّد ـ عدى استطراد يسير قد يكون صدفة ـ وأسباب ذلك ليست بخافية على الباحث المطلّع على تاريخنا وتراثنا ، وقد حوصر هذا الفكر بأمر مراكز الحكم وظلّ على ذلك بقوّة الإستمرار وبفعل عوامل إضافية ـ وليس هذا الموضع مكان الإفاضة في شرح ذلك فله أمكنته الكثيرة التي تكفّلت بشرحه ، إنّما أردت أن أقول أنّ المنبر من أهمّ أهدافه أن يطلق سراح هذا الفكر ويدحض الشبهات التي أثيرت زوراً حوله ويجلوه من مصادره الموثوقة وفي وعائه المحدد بعيداً عن التزيد خالياً من الضمائم . وفي ذلك فتح الباب وتظافرت القوى على إغلاقه وتيسير الحصول على طعام يعتبر في عداد المخدرات وينبري حتى الهاشميون من أبناء العم لسجنه فيمنع العباسيون حملة العلم من أن يذكروا رأيا لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مسألة من المسائل أو فضيلة من الفضائل كما فعل أبو معشر السندي المؤرخ ومفتي بلاط المهدي العباسي ، فلم يذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لا يبلغ عنّي إلاّ أنا أو رجل من أهلي) ومنع الرشيد أن يفتي برأي لعلي (عليه السلام) أنظر تاريخ الطبري ج3 ص123 ، والأغاني : أخبار خالد القسري .

    فمن مهمّات المنبر الحسيني إذاً الأساسية تقديم هذا النبع الأصيل للعاطشين والعمل على ترويض وعي الآخرين لقبول هذا المحتوى عن طريق العرض الملائم والأسلوب الواعي المهذّب وحسن الإختيار والإبتعاد عمّا لا يلتقي والضوابط الإسلامية الصحيحة لا المفتعلة والتأكد أولاً من صحة ما يروى عنهم وثانياً الإبتعاد عن خلع الذات ومسبقاتها على النص ، وثالثاً التنبّه إلى التناسب بين ما يلقى ومن يُلقي عليهم بعيداً عن الأجواء التي نهى عنها أهل البيت ـ في تفصيل طويل ـ وقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام)فيما يروى عنه : (أحبّونا حبّ الإسلام) الخ(2) .

    (الهدف الثالث) الإبقاء على جذوة الشهادة مشتعلة في كيان الأمّة فإنّ من خواص الشهادة أن تبقى وهجاً لا ينطفىء وتلك حقيقة يقرّرها القرآن الكريم بقوله تعالى : ( ولا تقولنّ لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ولكن لاتشعرون ).

    ومن أجل هذا دأبت الأمم على إحياء ذكر شهدائها لأنّها ترى في ذلك وسيلة لبقاء الأمّة الحيّة ، فالأمّة التي تداس بأرجل الطغاة وتخلّد إلى الدعة والهوان فهي أمّة ميتة رغم أنّها تتحرّك وتمشي فليست الحياة بالحركة والمشي ولو إلى مستنقع الذلّ ورحم الله بعض أدبائنا الذي يقول :

    [align=center]نحن موتى وشرّ ما ابتدع الطغيان***موتى على الدروب تسير[/align]

    إذاً فاستعراض سيرة الشهداء وتاريخهم لا يحقّق إطفاء غلّة اللوعة بقدر ما يضخّ من الخلايا الحيّة لئلاّ تضمر وتموت أوصال الأمة . إنّ نسيان الشهادة هو الموت بعينه لأنّ لا سلاح أفعل من الشهادة في الذود عن كيان الأمّة وإلاّ غزيت في عقر دارها وكما يقول سيد المجاهدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلاّ ذلّوا) ولابدّ من الإشارة هنا إلى الحذر من تحوّل الذكرى إلى مخدر يحوّل الأمة إلى مجرد صدى يردّد ذكر أبطاله ويكتفي من البطولة بذكر البطولة فقط ويذوب عنده معنى الإقتداء ، وانطلاقاً من هذا فالمنبر من أهمّ أهدافه أن يظلّ مولداً للشحن تحتاجه الأجيال باستمرار كظاهرة صحية تدلّ على تحرّك الوعي باتّجاه الحياة الكريمة عن طريق الشهادة لا الموت الذليل .

    [align=center]لا حياة ترتجى في أمّة***كثرت موتى وقلّت شهداءا[/align]

    ــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) الرحمن 4 .

    (2) الإمام زين العابدين للمقرم .
    *منقول





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=center]

    أخلاقيات المنبر[/align]

    [align=center][/align]

    كلّ عمل من الأعمال أو نشاط من الأنشطة إذا لم يتوفّر فيه العنصر الأخلاقي فهو مجرد عن الروح وخصوصاً النشاط الديني فإنّ من ألزم الأشياء له الأخلاق ضرورة إنّ ذلك روح الدين ، أليس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : (إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) وأهمّ اخلاقيّات المنبر فيما أرى هي التالية :

    1 ـ أن يستهدف عمل المنبر وجه الله تعالى قبل وبعد كلّ شيء فإنّه إن حاد عن هذا الهدف فإمّا إلى مكانة أو مال أو ما شاكلهما وكلّها أهداف محدودة وزائلة تحول المنبر إلى دكان لعرض بضاعة .

    ولا ترتفع به عن هذا المستوى وتعجل بنهايته فإنّ ما رُبط بالزائل زائل ، أمّا إذا استهدف وجه الله تعالى في ترسيخ العقائد والأحكام والأخلاق فقد سلك الطريق القويم وضمن للمنبر أن لا يزول لأنّه ربطه بالدائم ، هذا من ناحية .

    ومن ناحية أخرى فإنّ من مفردات منهج العلوم التقوى ومراعاة وجه الله تعالى فإنّها منفذ فاعل في الإستلهام وتلقي العطاء من الفيض وفي ذلك الحصول على آلية نافذة إلى النفوس وبنائها وبدون ذلك لا يتأتّى الحصول على الأثر المطلوب . إنّنا يجب أن نلمح وجه الله عزّوجلّ من وراء كلّ عمل وأن لا تحول بيننا الرغائب المؤقتة ـ وإن كان انتظار الرزق من وراء أي عمل مشروع ليس بضميمة منافية ، ولكن لا ينبغي أن يُجعل الهدف الأساس بحيث يحجبنا عن الوجه الكريم الذي لا يخفى فى حين من الأحيان ولكنّنا نحن الذين نحرم من رؤياه بفعلنا ، يقول شاعرنا :

    [align=center]وكنّا حسبنا أنّ ليلى تبرقعت***وحال حجاب بيننا يمنع اللثما

    فلاحت فلا والله ما ثمّ حاجب***ولكن طرفي كان من دونها أعمى
    [/align]



    2 ـ
    الثانية من أهمّ أخلاقيات المنبر وهي من منطلقات الأولى : الإرتباط بالصالح العام والإرتفاع إلى هذا المستوى بعيداً عن التحوّل إلى مدية بيد فئة أو فرد ضد فئة أو فرد آخر بدوافع شخصية فلا يرتفع لما أريد له ، وهو في وعاء الإعتبار إنّما ينظر إليه على أنّه منارة هدى ما دام يحمل للناس مشعلاً يضيء لهم الطريق وكتاباً يحفظ التراث ووسيلة تشترك مع الوسائل الأخرى في التقويم والتسديد ، وهنا أرجو أن لا يلتبس الأمر على القارىء فيحسب أنّي أريد أن أجرّد المنبر من وضع الإصبع على بعض الدمامل أو معالجة مواطن الخلل في جسم الأمّة ، كلاّ بل أريد أن يكون التقويم مرتفعاً عن الهدف الشخصي ويصب في الصالح العالم .

    إنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة وضعتا اليد على الدمامل فيما لهما من منهج في المعالجة فقال تعالى عن بعضهم ( عتلّ بعد ذلك زنيم ) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (رأيت أقواماً ينزون على منبري نزو القردة) وقال لبعض ما يدحرجه الجعل برجله أفضل عند الله من بعض آبائهم ، وواضح من ذلك أنّهما وصفا وقيّما وكذلك تلميذ القرآن الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) قيّم جماعة رجعوا لتوهّم بعد أن بايعوا ضُباً وقالوا : إنّ بيعتك خير لنا من بيعة عليّ بن أبي طالب ، فقال :

    سيأتي يوم القيامة قوم إمامهم الضب يقودهم إلى النار ولو شئت أن أقول من هم لقلت ، وكانوا تحت المنبر ، إنّ كلّ هذا من الشواهد على معالجة الخلل ولكنّي أريد أن لا تكون المعالجة بهدف شخصي وإنّما يراد بها وجه الله تعالى حتى لا تعود سباباً من شخص لآخر تفرزها الذات لا الموضوعية .

    3 ـ ارتفاع ممارسة العمل المنبري عن إرضاء القاعدة الهابطة على حساب الحقائق والقيم وعلى أشلاء العقل والذوق وكلّ ذلك لتحصيل مكانة أو سمعة أو استقطاب جمهور من أجل سحب البساط من تحت رجل آخر ، فالطعام الجيّد لا يضرّه أن لا يتذوّقه الآخرون ، كما أنّ الطعام الرديء لا يصعد به أن يأكله عدد أكبر فإنّ جمهور الأعمال التي فيها أصالة ومعاناة دائماً أقلّ من جمهور الأعمال السطحية ، فإنّ الذين يلاعبون قرداً قد يجمعون من الجمهور أكبر بكثير ممّا يجمعه اينشتاين إذا أراد شرح نظريته النسبية .

    وتحضرني هنا قصة بشار بن برد وهو شاعر فحل فقد كان يقارع خصومه بمثل قوله :

    [align=center]إذا ما غضبنا غضبة مضرية***هتكنا حجاب الشمس أو تقطر الدما
    إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة***ذرى منبر صلّى علينا وسلّما
    [/align]

    فكان لا يحصل إلاّ على قليل ممّن يردّد شعره ولكن خصومه انبروا له بشعر هابط يستسيغه العامّة فتلقفه الجمهور وراح ينعق به وهو :

    نللينه نللينه طعن قثاء بتينه إنّ بشار بن برد تيس أعمى في سفينة ولكن شعر بشار يبقى موضع جدارة وتقدير وانحسر الهراء واللغو .

    فلا ينبغي أن ينصبّ هم المنبر على اجتماع غني بالعدد وإن كان بفكر فقير في النوعية .





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    Lightbulb

    [align=center]
    المصيبة في المجلس الحسيني[/align]

    [align=center][/align]

    منذ بدأت المآتم تعقد بعد واقعة الطف اقتصرت مبدئياً على ذكر ما حدث في الواقعة من أمور مأساوية من قتل الرجال وذبح الأطفال وسبي النساء وحرق الخيام وما له صلة بكلّ ذلك . وكانت هذه البدايات تحقق أمرين :

    الأمر الأول تفريغ زخم اللوعة والألم الذي كان بنفوس أهل البيت وشيعتهم بسبب هذه المجزرة شأن كلّ ثاكل يفقد عزيزاً وخصوصاً في ظروف كتلك الظروف وحالات مثل تلك الحالات التي تعرض لها قتلى الطفوف .

    والأمر الثاني تولّد بعد ذلك وهو أنّ المأتم لمّا خرج عن نطاقه الضيّق وتعدد حضاره أخذ المأتم دور نشر الظلامة وشحن النفوس بالنقمة على قاتلي الحسين (عليه السلام) وأهله وهنا تحوّل إلى دور رسالي يقوم بوظائف تلقائية ناتجة من مجرد سماع المأساة وشرح أبعادها ، وهنا بدأ الأمويون يحسّون بخطره وبدأت ملاحقته كما هو معروف ، ولا حاجة لذكره ، ولذا أصرّ أهل البيت (عليهم السلام) على مثل هذه المجالس وعقدها في الحدود المستطاعة وعبّروا عنها بما يومىء إلى أنّها صارت وسيلة من وسائل نشر ظلامة أهل البيت وبيان انحراف أعدائهم عن جادّة الإنسانيّة وجادة الإسلام ، ولهذا الأمر انعكاسه في مجالين :

    المجال الأول صنع الفرد الرسالي الذي يحمل هدفاً يريد إبرازه وهو نصر أهل البيت ومقارعة أعدائهم

    والمجال الثاني هدم صروح الظلم بالوسيلة الميسرة .

    إنّ ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في الحثّ على إقامة أمثال هذه المآتم وإن اقتصر عدد الحاضرين فيها على أفراد ينمّ عن كونها تؤدي دوراً رسالياً لا مجرّد تفريغ عاطفي ، يقول صاحب كامل الزيارات بسنده عن الإمام الرضا في مقتطفة منها أنّه قال : (من جلس مجلساً يحي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) ، كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) (رحم اللهعبداً اجتمع مع آخر فتذاكر في أمرنا فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما فإذا اجتمعتم فاشتغلتم بالذكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياء أمرنا وخير الناس بعدنا من ذكّر بأمرنا)(1) .

    لقد بقيت مسألة توظيف المصيبة لأداء هذا الدور سمة ملازمة للمنبر يوم لم يكن من مجال هناك لشرح أبعاد الظلامة مفصلاً وبشيء من الحرية وقد يفعل الدمع ما لا يفعله الكلام . ومن هنا لابدّ من توجيه الروايات التي تبشّر الباكي على الحسين (عليه السلام) ولو كان ما يذرفه من الدمع جناح البعوضة تبشّر بأجر كبير جدّاً وتوجيه هذه الروايات هو أنّ الدمع وسيلة معبّرة عن الظلامة وإدانة الأمويين وإلاّ ليس من المعقول أنّ مجرد التباكي فضلاً عن البكاء يترتّب عليه ذلك الجزاء الذي نصت عليه الروايات الكثيرة هذا إذا سلم السند من المناقشة واقتصر الأمر على مناقشة مضمون تلك الروايات بما لها من إطلاق وهذه الروايات مثل روايات ما يترتب على سقي الماء للعطشان فإنّ مقتضى الحال يحتم أن تكون هناك ظروف عسيرة في تلك الحالة بحيث توجب أنّ من سقى عاطشاً كان كمن أعتق رقبة فلا يمكن حملها على الإطلاق ولابدّ من تقييدها بقيد تقتضيه مناسبة الحال ، فإنّ ثمن شربة الماء في مكان غني بالمياه لا تساوي شيئاً وعتق الرقبة ثمنه غال .

    وأعود لموضوع المصيبة بعد هذا الإستطراد فأقول : إنّ الدمع كان يؤدي رسالة ومن أجل ذلك حرص أهل البيت على التأكيد عليه ولكن هل المصيبة ما يزال لها دور في أيامنا هذه ؟ إنّ مفعول الروايات التي تحثّ على البكاء والتباكي ماش بقوّة الإستمرار وما ينتظره فريق كبير من المؤمنين من الحصول على الأجر والثواب ما زال عاملاً مهمّاً يحتم بقاء المصيبة في آخر المجلس عدى أمر آخر هو أنّنا لا نريد أن تُطفأ هذه الجذوة التي تعبّر عن الولاء لآل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واللوعة لمصابهم ممّا يكشف عن الإنشداد لهم ومواساتهم في أتراحهم وأفراحهم وإن لم يعد ذلك يؤدي نفس الدور الذي كان وراء الحثّ عليها بل ربّما عاد كثير من روّاد المجالس لا يهضمون ذلك وأنا أرى كثيراً ممّن يحضر المجالس إذا وصلت إلى حدّ المصيبة يخرج من المجلس وأعرفهم من الطبقات الواعية والموزونة والتي لا غبار على ولائها لأهل البيت ولكنّها لا ترى لمثل هذه الظاهرة أيّ موجب . يضاف لذلك أنّ الخطيب يتعرّض إلى حرج نفسي إذ بينما هو في أفق عال يشرح نظرية علمية أو نقداً تاريخياً أو مسألة علمية في نطاق أبعاد الفكر الأخرى إذا به يهبط فجأة ليقرأ أبياتاً باللغة الدارجة ويلوي فمه ويقوم بحركات لا تناسب تلك الأجواء الوقورة التي كان فيها خصوصاً مع هبوط مضامين تلك الأبيات ، لأنّ غالب من ينظم باللغة الدارجة قد لا يكون على مستوى ثقافي مرتفع يحسن انتقاء الفكرة الجيدة والمضمون العالي .

    وعلى العموم هناك مطالب ملحّة بترك هذا المقطع من القراءة لأنّه كما يقولون يمنع كثيراً من أبنائنا ومن غيرهم عن الحضور لأنّهم يرون فيه ممارسة هابطة ويعتبرونه مسألة تمسخ جلال الذكرى وتذيب عنفوان الموقف وتترك أثراً نفسياً على الباكي لا يتناسب وما نريده له من صلابة . هذا ملخّص ما يأخذه من لا يرد ذكر المصيبة وهم عدد ليس بالقليل ، وقد جاءتني منهم رسائل كثيرة أيام قراءتي في بغداد وخصوصاً في منطقة جامع الخلاني ، والذي أرتأيه أن نمسك العصى من وسطها فنقف بين المصرّين عليها وعلى توسعتها وبين المطالبين بحذفها والإستغناء عنها فنجري الأمر على العادة ولكن بحجم صغير ، ونركز على الشعر القريض والمنتقى الذي يتميّز بأداء حار ومستوى مرتفع ، فإنّ بالشعر القريض وبالشعر العامي ما هو جيّد وما هو دون المستوى فلابدّ من الإنتقاء وأنا ملزم هنا من أجل إيضاح الصورة وتقريبها للذهن أو أورد بعض النماذج للتمثيل ، فلقد سمعت قصيدة باللغة الدارجة لبعضهم يخاطب بها الحسين (عليه السلام) ويشكو له ما لقيت أخواته من جيش يزيد يقول ببعضها :

    [align=center]
    لو تشوف شلون سوّوا بيكم أهل الكوفه***شبعوا أخواتك مذلّة وروسهن مجشوفه
    ونهبوا العزّ والذخيره واصبحت متلوفه***وانته مالك ما تردّ العتب لختك يا نفل
    [/align]

    ويمشي على منوال هذا المستوى الهابط في الأداء والمضمون ممّا يؤذي الذوق والمشاعر وهو نموذج من كثير دارج في ساحة الرثاء لا يكاد يرتفع عن هذا المستوى ودعني أذكر لك أبيات لشاعر آخر يتناول بعض هذه الجوانب التي ذكرتها ولكنّه يختلف في الديباجة وتصوير المضمون فاسمعه يقول :

    [align=center]
    لو أنّ للدهر لفتات وأفكار***چان استحى من اللي جره وصار
    ولا غدر بالطيبين الأبرار***أهل المجد والروس الكبار
    وبيوت مجّدها الجبّار وكرمها دوم النبي المختار***إلبيها معادن طيب واطهار
    يمرّ ليلهم سجدات واذكار وعلى كلّ مجد يكضي النهار***تهجم عليه طالبه الثار
    أراذل منها يستحي العار وبيت النبي يشعلوه بالنار***وما عافوا حتى الزغار
    [/align]

    ويمضي على هذا النمط المرتفع والمؤثر والذي يحرّك كلّ إنسان بغضّ النظر عن انتمائه ويصوّر المأساة ولا يلقي اللوم كالأول على من لم يرتكب ذنباً حيث أعطى حكماً عاماً على الكوفة مع أنّ الكوفة ليست كلّها ممّن قاتل الحسين ولا ممّن شارك بما تبع ذلك بعد المعركة كما أنّ معظم أصحاب الحسين (عليه السلام) منها وكذلك منها انبثقت حركات تطلب الثأر وهكذا .

    وأذكر النموذج الثاني وهو من الشعر القريض فالطرف الأول للمعادلة بيتان من قصيدة لبعضهم يستعرض فيها ما لقيته عائلة الحسين (عليه السلام) من ضرب السياط فيقول :

    [align=center]فلو رأيتهموا والسوط يوجعهم***فيصرخون به من شدّة الألم
    كأنّهم ديلم أو ترك قد سحبوا***وليس ويلاه فيهم غير مهتضم
    [/align]


    ولا أريد التعليق على هذه الصورة التي رسمها هذا الشاعر وأترك للقارىء تقييمها

    وأذكر الطرف الثاني من المعادلة وهي أبيات لشاعر قديم هو الحسين بن الضحاك (رحمه الله) الذي يقول :

    [align=center]

    وممّا شجى قلبي وأسبل عبرتي***محارم من آل النبي استحلّت
    ومهتوكة بالطف عنها سجوفها***كعاب كقرن الشمس لمّا تبدّت
    إذا حفزتها روعة من منازع***لها المرط عاذت بالخضوع ورنّت
    أرد يداً مني إذا ما ذكرتها***على كبد حرّى وقلب مفتّت
    [/align]

    وهذه أبيات لشاعر معاصر هو أستاذنا الحجة الشيخ عبدالمهدي مطر تغمّده الله برحمته :

    [align=center]ولكن نشدتك لو تستطيع***لتسمع ما يذكر الناشد
    غداة العقائل قد هوجمت***فما تصنع الثاكل الفاقد
    يرقّ لها السوط إذ يلتوي***عليها ويقسو لها الجالد
    [/align]

    وهذان النموذجان في غنى عن التعليق من حيث الديباجة والمضمون وحرارة الأداء والجو المرتفع مع التفجع . وأكرر عوداً على بدء فأقول : لابدّ من حسن الإنتقاء لنصون كرامة أهل البيت ونحافظ على مستوى رفيع من الأداء يتناسب وجلال الذكرى .

    وبعد ذلك لابدّ من أخذ الإعتبارات الأخرى مأخذ الجدّ بحيث نبتعد عن الإطالة ونقتصر على ما يؤدي المطلوب لنبرهن على أنّ وقعة الطف مدرسة مليئة بالعبر والمواقف الكبيرة وإنّنا نستهدف أن نأخذ منها زاداً كريماً لأجيالنا ودروساً من الفداء والشهادة في سبيل الله والإرتفاع فوق مستوى الرغبات الموقتة وما هو من هذا القبيل ممّا جسّده الحسين (عليه السلام) بموقفه يوم الطف وبذلك نرضي الحقيقة ونرضي تطلّعات الحسين التي استهدفها من وراء إراقة ذلك الدم الطاهر وما تبعه من تضحيات تظلّ أكبر من اعتصار العيون لسكب الدمع .

    ولا يفوتني هنا أمران وأنا بصدد معالجة هذه القضية :

    الأمر الأول هو أنّ بعض الأماكن وبعض الأوقات قد لا تحتاج إلى ذكر المصيبة أبداً ومعرفة هذه الأماكن والأوقات متروكة لنباهة الخطيب وتقديره الشخصي لذلك فإنّ الشرع علّمنا أنّ العناوين الثانوية قد تتحكّم ببعض العناوين الأولية فتقلّب نوع الحكم إلى مقابلة وأمثلة ذلك كثيرة مثبوتة في كتب الفقه فكيف إذا كان الأمر لا يتعلّق بحكم شرعي وإنّما بتقليد من تقاليد الطائفة فإذا تعرّضت الطائفة بسبب ذلك إلى سخرية وتعرّض مقام أهل البيت لنفس السبب فلابدّ من الإبتعاد تحاشياً من الوقوع بهذه المحذورات مع أنّها على أحسن الفروض من المندوبات ومع وجود بدائل تقوم مقامها وتؤدي نفس الهدف .

    والأمر الثاني هو أنّني أدعو المثقفين من المسلمين عامة ومن الشيعة خاصة أن يتصدّوا إلى النظم في المواضيع المرتبطة بواقعة كربلا فإنّ ذلك يحقّق دوراً رسالياً وينقذ الساحة من الإنتاج الرخيص . إنّي أعلم أنّ كثيراً من مثقّفينا قد يستنكف من ولوج هذا الميدان ولكنّه قد يلج ميادين أخرى هي في الواقع ليست بتلك الأهمية وأن تسالم العرف الأدبي على ممارستها من قبل الشعراء . إنّ الشعر الجيد والفكرة العالية هي جواز مرور الشاعر إلى المكانة وهي سواء في كلّ من الشعر الدارج والقريض . وكلّنا نعرف شعراء مصريين وسوريين ولبنانيين من حملة الشهادات العالية وقد أبدعوا في الفنون التي مارسوا فيها نظم الشعر باللغة الدارجة . فلماذا لا يكون عندنا شعراء لملأ هذا الفراغ .

    إنّ واقعة الطف وإحياء مواسمها أصبحت تقليداً راسخاً سيبقى ما بقي الحسين مثلاً عالياً في الشهادة والفداء فينبغي أن نواكب هذا البقاء بآليات مشرقة تتناسب والحسين (عليه السلام) .

    وأختم هذا الفصل بموقفي من هذا الموضوع ، لقد درجت في بداية قراءتي في المجالس على الأسلوب السائر والنمط الدارج في ذكر المصيبة بغثّها وسمينها بل ربّما أكدت بعض القضايا في ذلك وهي ممّا إذا ذكرته الآن أشعر بعدم الرضا منه وسبب ذلك

    أولاً غلبة التيار السائد وعدم وجود النقد في هذا المضمار لأنّ النقد يتأتى من الناقد نفسه ويستنكره عليه الوسط المندمج في عالم المجالس . وليست مسألة النقد موجودة عندنا ولو وجدت لأسهمت كثيراً في تنظيف الساحة من الشوائب والطفيليات ولكنّها مع الأسف معدومة لأسباب كثيرة .

    وثانياً لأنّ مستوى وعيي كان محدوداً ومساحة ممارستي للمنبر كانت ضيقة وحتى لو اتسعت فإنّ الوقت آنذاك كان المستوى فيه ليس بالمطلوب . وحينما أخذت أتدرج بالوعيى وأتفاعل مع أجواء أوسع نسبياً بدأت ألمس المفارقات وأتعرف عليها كما عرفت الوجه الآخر لكثير من الناس الذين لا يظهرون معارضة علنية لذلك ولكنّهم ينقدونها بشدّة إذا كانوا في وسط يهضم ذلك . وحين وصلت إلى هذا الحدّ وقفت أمامي عقبة الطفرة فليس من الممكن تقليص موضوع المصيبة بطفرة بل وحتى بالتدريج فضلاً عن الطفرة . ولنأخذ مثلاً لذلك موضوع عرس القاسم بن الحسن (عليه السلام) فإنّه فضلاً عن كونه لا أساس له فإنّه لا موضوع له لأنّ القاسم آنذاك لم يبلغ بل هو صبي ، ولأنّ الزوجة التي تذكر له كانت متزوجة ، ولأنّ الأجواء يوم العاشر ليست أجواء عرس ولأنّ ولأنّ الخ . ولكن مع ذلك كلّه ما زالت هذه المسألة حيّة تقام لها طقوس خاصة في الثامن من المحرم ويؤكد عليها كثير من القراء لأسباب كثيرة ، وكلّما أكّدنا على ضرورة الإبتعاد عن مثل هذا ازداد بفعل عوامل متعددة .

    إذاً فالمسألة في تقليص المصيبة في المجلس الحسيني كمّاً وكيفاً لا يمكن معالجتها بطفرة كما أنّنا لا نريد إلغاءها كما أسلفت وإنّما نريد تهذيبها . فشرعت أجسد نسبياً ذلك الأمر حيث أقلّل من طول المدة بذلك كما أختار للمصيبة والمصاب ما لا يهبط بهما . وتعرّضت من أجل ذلك إلى كثير من الحثّ ومن الطلبات بتطويل المدة وتكثيف الكمية حتى من جماعة من المثقفين الذين درسوا في أوربا . وأعتقد أنّ لذلك علاقة بالواقع الإجتماعي لهذه الطائفة وما تتعرض له من ضغوط ممّا يدفع على طلب التنفيس الذي هو الحزن والبكاء وحيث أنّ البعض قد يرى أنّ من الضعف والركة أن يبكي فينتقل إلى غطاء البكاء على الحسين ، ففيه بالإضافة للتنفيس وعد بالثواب والجزاء الكريم . وعلى كلّ حال فإنّ كلاً من الزمن ومستوى الذهنية العامة والعوامل الإجتماعية الأخرى هي التي ستعطي الفصل في ذلك نسأل الله أن يجعل مقاصدنا سليمة واتّجاهنا لخدمة مقام آل محمّد .


    ــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) يراجع : عيون أخبار الرضا ، وكامل الزيارات لابن قولويه .





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=center]

    كيف نبني ونطوّر المنبر الحسيني [/align]
    [align=center](1)[/align]


    يستبطن هذا الموضوع عناوين متعددة من أهمّها الهيكلية التراثية التي درج الناس على التعبير عنها عن المنبر ، ويقابلها ما جدّ واستحدث واعتبر صيغة من صيغ التطوّر شكلاً ومضموناً ، ومنها ما هو عند البعض من الثوابت التي لابدّ من توافرها هنا ، في حين عند الآخرين مجرد أمر كمالي إن وجد فبها وإلاّ فلا ، ومنها ما يرتبط بمحتوى المنبر الثقافي نوعية وغزارة وعمقاً ممّا يعتبره البعض شرطاً أساسياً لارتفاع المنبر ينسجم مع تطوّر العصر ، في حين يرى الآخرون أنّ ذلك يشكّل تعجيزاً وعبئاً للكثير من أهل المنبر يبتعد بهم عن مساجلة الآخرين وممارسة مهنتهم .

    ومنها ما يتّصل بمعالجة الواقع المعاش في طريق محاولة الإرتفاع بالمنبر وهل ينبغي أن تتمّ هذه المعالجة بصورة هادئة وبطيئة ينضج معها القدر بدون غليان قد يقلّب القدر ؟ أم ينبغي أن تتمّ المعالجة بصورة فورية وحاسمة لأنّ البطء هنا لا يتحقّق معه الهدف لاستمرار توالد الأدوات التقليديّة أشخاصاً ومادة ممّا تهذب معه الجهود هدراً ، وأخيراً وليس آخراً تحديد سعة المدى الذي ينبسط عليه المنبر الحسيني هل هو نطاق الطائفية أم هو الأمة الإسلامية بل المجتمع الإنساني الذي لم تعد فيه حواجز عن سماع معطيات الآخرين واستمع بطريق وآخر إلى ما أنتجه المنبر بغثّه وسمينه وسهلت له وسائل الإتّصال ذلك وتطلّع إلى أمل في الإستفادة من مخزون كان طيّ الكتمان لأسباب يعرفها المختصّون بهذه الحقول وتشكّل جزءاً من لعبة الصراع الفكري الذي درجت عليه ـ مع الأسف الشديد ـ أجيالنا فحالت بذلك دون تلاقي جداول المعرفة وأبعدت عن الساحة فكر يفترض فيه أنّه النبع الأصيل للإسلام بحكم كون حملته ـ عدل الكتاب ـ .

    كلّ ما ذكرناه ممّا سنشرحه ، إنّما هو ثمرة من ثمرات العامل الأول في تطوير المنبر وهو الخطيب الذي يفترض أن يكون قد أحرز على الأقل الحدود الدنيا من مواصفات لابدّ منها بحيث أن يكون قد اجتاز المراحل المفروضة ولم يحرقها أو يقفز عليها لتبنيه كيفية وأحرز المواد التي يتقوّم بها المنبر لترفده كمية ، وأن لا يكون محتواه بضاعة رخيصة لفقت من هنا وهناك وقدمت غذاءً ـ لشرائح سطحية إلى أمور أخر ذات صلة بالخطيب سنفرد لها مكاناً من المعالجة ضمن هيكل البحث في الكتاب المذكور عند تحديد الحدود الدنيا للمنبري فيما اتفق عليه أهل الفن واعتبروه من المقوّمات الأساسية للخطيب .

    والآن أعود لشرح ما سبق إجماله من العناوين ذات الصلة بالموضوع وهي :

    1 ـ الهيكل التراثي الموروث الذي رافق بدايات المنبر بالشكل والمضمون والذي نحرص أشدّ الحرص على الإحتفاظ بكثير من جوانبه من حيث السكون لها كآليات متوارثة لها مكانها في عمق الوجدان وضرورتها لكونها جذوة لا نريد لها أن تخبو والإحتفاظ بها سمةً مميزة تعكس مدى انشدادنا للعترة الطاهرة . ولكن في الوقت ذاته نبحث عن أسلوب يجمع بينها وبين الإطار السليم الأكثر قبولاً عند الزمن وأهله ، ولابدّ من ذكر بعض الأمثلة في ذلك لئلاّ تبقى الفكرة عائمة :

    فالمثال الأول : ما درج عليه هيكل المجلس الحسيني الأساسي في العشرة الأولى من شهر المحرم من تسلسل مصطنع حيث يكون موضوع الخطيب الأساسي في العشرة الأولى من شهر المحرم هو تسلسل مصطنع حيث يكون موضوع الخطيب في اليوم الأول ـ كما هو عند الأغلب أو الكثير الحديث عن هلال محرم وما يصاحب ذلك من تداعي المعاني وما يصاحب ذلك من حكايات وما كان له من تأثير عند أئمّتنا الأطهار وشيعتهم وأسلوب احتفالهم به وما كانوا يمارسونه من أنماط الحزن لذلك ، هكذا هو اليوم الأول في الجملة .

    وفي اليوم الثاني يتناول الخطيب فضل البكاء على ما جرى من فواجع في واقعة الطف ومشروعية هذا البكاء والتماس الأدلة على ذلك وما يترتّب من الأجر والثواب للباكي التقليدي أو الوفاء للباكي الواعي الذي يبكي لمجرد الإنفعال لمأساة عظيم كالحسين ظلمته أمّته ، ويستعمل الخطيب عادة بعض مقاطع باللغتين الدارجة والعربية والمشحونة والمكهربة عاطفياً لاستدرار الدمع .

    أمّا اليوم الثالث فغالباً ما يتناول خروج الحسين (عليه السلام) من المدينة المنوّرة وما أحاط به من أجزاء تصوّر المشهد من وداع لقبر جدّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبر أمّه (عليها السلام) ووداع أهله وكيفيّة موكبه وما رافق ذلك من مناظر مفجة للوداع . ويتناول في اليوم الرابع مسير الحسين (عليه السلام)ومروره بالمنازل والتقائه ببعض أهلها ولقاء الحرّ معه وما دار بينهما من مطارحات وما حدث من أعمال وينتهي غالباً إلى حدّ نزول الحسين (عليه السلام) بكربلا . ويتخصّص اليوم الخامس لسيرة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ومكانته وسرّ اختيار الحسين له ليكون رسوله إلى الكوفة إلى مصرعه ومصرع ناصره هاني بن عروة والأحداث التي ارتبطت بذلك .وفي اليوم السادس من محرم تتلى سير شهداء الطف من أنصار الحسين (عليه السلام) مثل حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين وغيرهم ، ودراسة أحوالهم ومكانتهم وما أعدّ الله تعالى لهم . واليوم السابع يخصّص للعباس بن علي وإخوته أبناء أمّ البنين وما له ولهم من صفات من حيث النسب والمكانة ومؤهّلاته البطولية والإيمانيّة الخ إلى مصارعهم . واليوم الثامن للقاسم بن الحسن الشهيد الصبي الذي تمتزج ذكراه بما رافقها من آفاق عاطفية زوّجته وصنعت له عرساً نثاره من النبل وخضابه من الدم وحلّته من نسيج امتزج فيه غبار المعركة بلون الدم ولهيب الجرح لينزف بعد ذلك محمولاً على صدر الحسين إلى خيمة جمعته مع والدته بين دموع الأهل وحسرات الأمّهات .وأمّا ليلة التاسع فهي ويومها لعليّ الأكبر بن الحسين (عليه السلام) أولّ قتيل من الهاشميين وحالات الحسين عند مصرعه وما يرتبط بذلك من شؤون الآباء مع الأبناء وتشير إلى المشاهد التي تلهبها الأجواء العاطفية ويعمقها الخيال حتى الشهادة . أمّا ليلة العاشر فهي مخصصة للإعداد للمعركة وذكر ما جرى فيها من عبادة ووداع واستعداد للشهادة والحالة النفسية للعائلة وهي تتوقّع المجزرة صباحاً وفراق أهلها وأحبّتها . وختام ذلك كلّه أحداث صبيحة العاشر التي منها قراءة ما يسمّى بالمقتل حيث تستعرض كلّ ملابسات واقعة الطف والإعداد لها ابتداء من طلب البيعة من الحسين ليزيد والإمتناع والمسير إلى كربلاء مروراً بمكة المكرمة والمنازل ونزولاً بكربلا واستعراضنا لكلّ الأحداث بما فيها القتال إلى أن ينتهي الأمر إلى مصرع الحسين (عليه السلام) .

    وسواء كان هذا الترتيب تعيّنيّاً وهو الأقرب أم تعينياً ، فهو على الإجمال وصف للهيكل التقليدي للمجلس الحسيني عند الكثير ، ولا أقول عند الجميع فقد يحصل تغيير في مادة الجلسة نوعاً وكمّاً ، ولكن الإطار العام يبقى كما ذكرت في تحديد مناسبة الأيام . وينبغي لفت النظر إلى أنّ ذلك إذا كان الخطيب يقرأ مجلساً واحداً ، أمّا إذا تعدّدت المجالس في الليل والنهار فالنهاية غالباً لا تتغيّر لأنّ المألوف فيها من المؤشرات على أستاذية الخطيب والخروج عن المألوف قد يفقد الإشباع للسامع الذي درج على الصيغة التقليدية ، أمّا مادة البحث والمجلس عند التعدد فقد يكون فيها توسع باصطياد الأشياء المناسبة التي ترتبط بشكل وآخر بصلب الموضوع ـ هذا في المنبر العربي لا الفارسي ، فإنّ للمنبر الفارسي مساحة أوسع في ارتياد المواضيع والمضامين لست أتناولها هنا ، وإنّما لها مكان آخر قد أوفّق لإلقاء الضوء عليه ـ وعلى العموم فبعد هذه الفكرة الإجمالية عن الهيكل السائد في عاشوراء ، فما هي الأمور المتصورة التي تُقيم بسلب أو إيجاب ؟ وما هي الأمور التي قلنا أنّ الواقع لا يحتاجها ؟ ثمّ ما هي المعالجات التي تجمع بين المحافظة على تراث يشغل زاوية واسعة في وجداننا ويغرس فيها صورة للمثل العليا التي جسّدت يوم الطف والتي نتوق إلى أن نترسّمها ولو ادّعاءاً وفي الوقت ذاته هي آلية من الآليات العقائدية التي نتوسّل بها إلى تحقيق مودة ذوي القربى إلى ما هنالك من

    مرودد وبين التخلّص ممّا لا يلزم له بل ممّا قد يعكس الغاية المطلوبة وينتهي إلى أن تبلور عناصر لا تخدمنا مذهبيّاً عند الأمّة وقد لا تزكّى مسيرتنا في نظر المذهب ذاته وقد لا يذعن أبنائنا في قرارة أنفسهم إلى قبولها وإن أذعنوا ظاهرياً لسبب وآخر ولتوضيح ذلك على الإجمال نقول :

    1 ـ أولاً ينبغي انتقاء مادة المنبر خالية من الشوائب والتهافت ولتكن المادة غاية في البساطة فهي خير من مادة يحسب البعض أنّها دسمة ولكنّها غير سليمة في أجزائها .

    2 ـ لا داعي لأن تستوعب المناسبة كلّ وقت المحاضرة ، وإنّما تجعل مجرّد خاتمة في نهاية المحاضرة شرط أن لا نلتمس لها صنفاً من الشعر الهابط أو النصوص المتّسمة بالركّة ممّا لا يتناسب وأهمية الموقف وكرامة أهل البيت والنهج الموزون الذي نريده لشعائرنا .

    3 ـ أن نستفيد من حشود الذكرى فنطرح موضوعاً من المواضيع التي تعالج موقفنا من جسم الأمّة الذي يتعرّج لافتراءات لا نهاية لها أو موضوعاً أخلاقياً أو عقائدياً يشدنا إلى مدرسة أهل البيت ويحقّق مطلب الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله : (أحيوا أمرنا) وهكذا ، لاسيّما ونحن طائفة ليس لها من وسائل الإعلام ما تعبّر به عن نفسها وحيثيّاتها إلاّ المنبر ، فحريّ بها أن تستفيد منه على الوجه المطلوب . ثمّ لابدّ في الأخير من المحافظة على المناسبة وإذكاء جذوة الحزن التي تحفظ لنا مزاجنا وأخلاقياتنا في مواساة آل محمّد ونشر ما أرادوه بمستوى الشفافية التي أرادوها وأرادها أبو الشهداء ـ أنا قتيل العبرة ما ذكرت عند مؤمن إلاّ وفاضت عيناه ـ وبهذه الصورة تمرّ الليالي على شكل موائد منوّعة لإشباع جوانب الإنسان خلقاً وعقيدة وسلوكاً .

    ولابدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الخطيب إذا تعدّدت عنده المجالس يضطرّ إمّا إلى الإجترار أو إلى الإلتجاء إلى مادة غثّة أو غير موثوقة ويكون ذلك على حساب الأصالة وسمعة المذهب ـ وإن كنت أعلم أنّ لذلك علاقة بتوفير الكفاية للخطيب ومراعاة ميزانيته المالية التي لا يسدّها مجلس واحد لقلّة المردود ، وهذا أمر ينبغي أن يعالج إمّا عن طريق سدّ النقص من الحقوق الشرعية أو إيجاد مؤسسة مهمّتها التوفر على رعاية هذا الرعيل من الناس وتنظيم شؤونهم (ولهذا الموضوع مكانه الخاص) .

    4 ـ إنّ تكريس اليوم العاشر لقراءة المقتل واستعراض الواقعة كلّها من مقدّماتها حتى النهاية وما يتبعها في حين أنّها مرّت مفصّلة خلال أيام العشرة وتكرّر سماعها في أكثر من مجلس حتى أصبح السامع يكرّر مقاطعها قبل الخطيب : إنّ ذلك يزاحم ما قد نراه أهمّ من ذلك ألا وهو شرح أسرار نهضة الحسين وأهدافها وتسليط الأضواء على الخلفيات، فإنّ الأقلام غير الشريفة لا تزال تشوّه وبإصرار موقف الحسين ، وتحاول تفريغ الواقعة من محتواها الإجتماعي ، وربطها أحياناً بأمر شخصي رخيص أو عداوة قبلية . وكلّ ذلك لإسدال ستار على نوايا الأمويين ومواقفهم من الإسلام والمحافظة على أمكنة امتداداتهم وكياناتهم وحمل مزاج قريش الذي وقف بوجه الرسالة ورفع صوت ابن الزبعري :

    [align=center]ليت أشياخي ببدر شهدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل[/align]

    الخ .

    ولكن بنبرة أخرى تصور إحياء مراسم الطف بأنّه نمط من أنماط الشعوبيّة التي تستهدف الإسلام والعرب ، وكأنّ الحسين ليس ابن سيد العرب ولا سيد شباب أهل الجنّة.

    إنّ استغلال يوم العاشر بما به من حشود كثيفة لتنبيه المسلمين إلى هذه اللعبة الدنيئة في تحريض الشعور القومي والغيرة الإسلامية أيضاً للوقوف بوجه هذه المراسيم وتحويل يوم عزاء النبي وآله (عليهم السلام) إلى الإتجاه لإحياء صوم كان يقوم به اليهود كلّ ذلك محاولات لا تخفى خلفيّاتها على الناقد البصير .

    إنّ لفت انتباه الأمّة لذلك أوليس أهمّ وأجدى من تكريس مقتل مرّ مضمونه مفصلاً ، ثمّ بعد ذلك تكريس فترة لشرح فظاعة المأساة وبشاعة المجزرة التي استهدفت قتل رسالة النبي في تمزيق صدور حامليها وإعطاء اللوعة حصة يبرد معها الغليل .

    وإلى هنا أكون قد أوضحت ما يتعلّق بالأمر الأول وهو الهيكلية الموروثة التي درج عليها شيعة أهل البيت تقليدياً .





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=center]
    كيف نبني ونطوّر المنبر الحسيني

    (2)[/align]



    2 ـ ثانياً وسائل استدعاء الحزن : فإنّ الخطيب قد يبذل جهداً بصورة مبالغ فيها أحياناً تحشد فيها صنوف من الشعر بلغتيه الدارجة والفصحى استحضرت خصيصاً للمناسبة وبشكل يبدو عليه التكلّف وتضاف إليه مقاطع من بعض النصوص والتوليديات للتظافر جميعها في إبكاء الحاضرين ، إنّ مسألة البكاء والدمع ونشر الظلامة وظّفت من أهل البيت لتكون وسيلة فاعلة في لفت النظر لما جرى في واقعة الطف ، وتجنيد النفوس المشاهدة لاستشعار مصيبة أهل البيت لا لتكون غاية في ذاتها تطغى على الهدف الأهم . ولقد أدّت ولا شكّ دورها وكانت سلاحاً فاعلاً حين تعذّر حمل باقي الأسلحة ولكنّها الآن لم تعد من آليات تحقيق أهداف الواقعة وإن بقيت وسيلة تحصيل أجر لما فيها من مواساة لأهل البيت ومشاركة في أحزانهم فحريّ بها أن تقدر بقدرها وأن تأتي بصورة عفوية وبدون تكلف يخرجها من الطبيعي إلى المصطنع وما أكبر الفروق بين دمعة حارّة ودمعة باردة فإن صدق العواطف يفرز دمعاً حارّاً ورحم الله شاعرنا الذي يقول :أحرّ من دمعة شيعية***تبكي عليّ بن أبي طالب

    إنّنا إذا أسرفنا وأكّدنا على الجمع على حساب الأهداف الأخرى وقعنا فيما لا ينفع بل يضرّ ، فإنّ لذلك نتائج هي :

    1 ـ حصر الحسين في نطاق الدمع والمأساة بينما هو ثورة على الباطل ومنهج سلك الشهادة لبناء مجتمع ، ولرد طغيان ، ولوقوف بوجه باطل وذلك ممّا كان الحسين (عليه السلام)نفسه يرى الموت معه سعادة ـ إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع هؤلاء الظالمين إلاّ شقاءً وبرما ـ وفي معنى هذه الممارسة يقول بعض شعراء الطف :

    [align=center]وضعناك في الأعناق حرزاً وإنّما***خلقت لكي تنضي حساماً فتشرع
    وضعناك من دمع وتلك نفوسنا***نصوّرها لا أنت إنّك أرفع
    [/align]

    وقد أدّى استبداد الدمع ومظاهر الحزن في إحياء مراسم الطف إلى مقاطعة أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى لهذه المناسبات بل ومقاطعة كثير من أبنائنا أو امتناعه من الحضور لما يرون في ذلك من مبالغة ، ولا أريد من هذا أن القي ستاراً على المأساة ولا أمنع الإنفعال القهري الذي هو من الأمور الطبيعية عند الإنسان حينما يشاهد موقفاً من المواقف المأساوية إنّ كلّ ذلك منسجم مع الفطرة ويثاب عليه المسلم كما ذكرت لكونه مواساة لبيت النبوّة ، ولكن ينبغي أن يكون ذلك في حدوده ووسائله السليمة لئلاّ يوقعنا بالمفارقات .

    2 ـ الملاحظ أنّ تكريس ردود فعلنا عن واقعة الطف بالدمع ومداومتنا عبر قرون على هذا الجانب فقط له مردود سلبي على عنفوان متوقّع ورجولة نريد لها الإستمرار ومن هنا كانت بعض القبائل تنهى وتمنع عن البكاء على قتلاها لئلاّ يبوح الجمر وذلك ما عبّر عنه إبراهيم بن الحسن عند مصرع أخيه حين قال :

    [align=center]سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا***فإنّ بها ما يدرك الطالب الوترا
    ولست كمن يبكي أخاه بعبرة***ويعصرها من ماء مقلته عصرا
    ولكن أروي النفس منّي بغارة***تلهب في قطري كتائبها جمرا
    فنحن أناس لا تفيض دموعنا***على هالك منّا وإن قصم الظهرا
    [/align]

    ومن هذه المدرسة شاعر الطف السيد حيدر الحلي (رحمه الله) الذي قال :

    [align=center]أفلطماً بالراحتين فهلاّ***بسيوف لا تتقيها الدروع[/align]

    3 ـ حينما طغى الدمع في مراسم الواقعة استأثر بامتلاك المزاج الشعبي والرواية التي رفعها الحسين راوياً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : (من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) وقد يقول قائل أنّه لا ملازمة بين الدمع وذهاب العنفوان ، فالجمع بينهما ممكن ، وأقول : إنّ ذلك صحيح لو وضعنا أنفسنا في
    صراط الأخذ من معطيات الطف وإيحائته وتركنا للدمع مع مجيئه الطبيعي عندما يواجه الوعي أحداث كربلا المأساوية فيهمل الدمع لفظاعة المشاهد دون تعمّل أو تكلّف ويبقى للدمع حجمه دون أن يستأثر باحتوائنا ويأخذنا بعيداً عن ردود الفعل السليمة وما يناسب تلك التضحيات من مردود ، وحبذا لو تسامينا بدمعنا وارتفعنا عن أن يكون طرفاً في معاوضة من خوف عقاب ورجاء ثواب ـ وإن يكن ذلك أمراً سليماً في نفسه ـ بل أن يكون الدمع تعبيراً عن أسى لنفس حملت روح محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وجسد ورث سماته وكيان هو خلاصة أمجاد آل عبدالمطلب تصدّت لتمزيقه سيوف كان ميدانها الدفاع عنه ولكنّه سوء العاقبة ونكسة الضمير ، أجل ينبغي أن نردد :

    [align=center]تبكيك عيني لا لأجل مثوبة***لكنّما عيني لأجلك باكيه
    [/align]





ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني