مرسوم نانت عراقي: ضرورة مستقبلية
أ . د. سّيار الجميل *
*مؤرخ عراقي
قد مّرت فرنسا ابان القرن السادس عشر بظروف قاهرة مشابهة لما يمّر به العراق اليوم اذ انها انقسمت على نفسها اثر تبلور ظاهرة المتغّيرات الدينية الطائفية، ولما كان المجتمع عصر ذاك غارقا الى أذنيه بالتعصّبات
فلقد غدا بين كاثوليكية قديمة وبروتستانتية جديدة، والقسم الاكبر بقي كاثوليكيا.. فشهدت فرنسا حربا مذهبية طويلة الامد وكانت مريرة وقاسية ودموية قذرة، اذ حصلت مجازر كبرى وكثيرة ضد البروتستانت، ومن أشهرها مجزرة سانت بارتيليمي التي اصبحت رمزا للصراع الديني الذي كان قد فجّره التعصّب الديني، فلقد هاجت الجماهير الكاثوليكية على قوى البروتستانتية ومزقتها اربا.. وذهب ضحيتها ما لا يقل عن خمسة الاف ضحية بريئة خلال ثلاثة ايام.. ثم امتدت عدوى التعصّب الى مدن الاقاليم وحصلت مجازر في بوردو، ولاروشيل، وليون.. الخ تلك هي خطيئة الملك لويس الرابع عشر الذي تدخّل لصالح الكاثوليكية وامر بسحق البروتستانتيين، فسجل التاريخ ضده ذلك الى الابد، وامرهم بترك مذهبهم واعتناق مذهب الكاثوليك.. وطرح عصر ذاك شعاره الشهير: اله واحد، قانون واحد، ملك واحد!! وعندئذ اضطر الاف من البروتستانتيين للهروب الى الدول الاوروبية المجاورة ذات المذهب البروتستانتي كهولندا وانكلترا والمانيا.. في حين عبر آخرون الاطلنطي نحو كندا..
ومضت ازمان التشظي ليأتي الى فرنسا التي كانت مشغولة بالصراع الديني والدفاع عن طقوس الكاثوليكية ملك جديد اسمه هنري الرابع عند نهاية القرن السادس عشر، اذ لا يقل اهمية عن الملك لويس الرابع عشر ولكن مع اختلاف الاسلوب والمنهج والتفكير والطريقة والاداة اذ حاول توحيد الشعب والقضاء على التعّصب الطائفي الذي كاد يمزق فرنسا والمجتمع الفرنسي ويبعده عن مجتمعات اوروبا.. كان هنري بروتستانتي المذهب ولكنه تخّلى عن مذهبه بعد دخوله باريس ليصبح ملكا على كل الفرنسيين اذ كان من الطبيعي ان يوفّق بين الكتلتين الفرنسيتين ليقبله الشعب.. واعتقد انه فعل ذلك ليس حّبا بالمذهب الكاثوليكي ولا كرها بالبروتستانتية ولكن عشقا لفرنسا ومن اجل الحفاظ عليها.. وعندئذ نطق عبارته الشهيرة التي ذهبت مثلا : باريس تستحق قداسا كاثوليكيا! بمعنى ان من يحكم باريس ينبغي عليه ان يعتنق مذهبها، فباريس لا تعطي نفسها لأي شخص.. وان حكم باريس يعني حكم فرنسا كلها لقد نجح الملك لويس الرابع عشر من خلال شجاعته وايمانه بفرنسا وحبه للفرنسيين ان يوّحد الشعب الفرنسي الذي مزّقته الحرب الاهلية على مدار سنوات.. ونجح في عقد اتفاقية بين كلا الطرفين البروتستانتي والكاثوليكي ووضع حدّا لنزيف الدم. وهذا الاتفاق هو الذي اشتهر لاحقا باسم: مرسوم نانت، أي المرسوم الذي تم التوقيع عليه في مدينة "نانت" الفرنسية الواقعة على المحيط الاطلسي. وطبقا لهذا المرسوم اصبح من حق الفرنسيين البروتستانت ان يمارسوا طقوسهم وشعائرهم ضمن ما اتيح لهم وانتهى زمن التجريح واثارة المشاعر والغلو والتزمت والتعصب والمشهور عن الكاثوليك انهم من اكثر الاوروبيين تزمتا وتعصبا. وهدأت رحى الحرب الاهلية وتم ايقاف نزيف الدم.. وانتصر لويس الرابع عشر بأن حقق المصالحة بين الفرنسيين.. ولكن الحياة الدينية لا تخلو من تعّصب اذ كان ان ظهر احدهم واسمه رافياك جاء من الاقاليم البعيدة وشاركه متعصبون من رجال الكاثوليكية ادعوا الطعن في كاثوليكية الملك وانه اعتنقها زيفا ونفاقا وانه زنديق ويؤمن بالهرطقات البروتستانتية فاستحصل على فتوى شرعية مسيحية تبيح له قتل الملك.. وبعد عدة محاولات فاشلة استطاع منه وطعنه بخنجر مسموم عدة طعنات فسقط صريعا، ودفع دمه ثمنا لتوحيد فرنسا في برهة تاريخية كانت بأمسّ الحاجة اليها.. ولكن حلّ التعصّب والتشدد الطائفي في فرنسا وبقي طوال سنوات حتى نجح التنوير والافكار الحرة في القرن الثامن عشر.. لم ينقد فرنسا من حمام الدم الطائفي الا فلاسفتها وكبار مثقفيها الذين خاضوا حربا لا هوادة فيها ضد التعّصب الاعمى وضد الطائفيين المتعصّبين وضد الكهنة ورجال الدين.. فتكللت جهودهم بالثورة الفرنسية، فانتصر العقل على الغلو، وانتصر التنوير على الظلام وزحفت الليبرالية الحديثة على فرنسا لتحّل محل مرجعيات العصور الوسطى. ان الحرية لا تنتصر الا من خلال معارك طاحنة بين العقل والتعّصب ما احوج العراقيين اليوم الى ترسيخ العقل بديلا عن كل المرجعيات؟؟ ما احوج العراقيين اليوم الى مرسوم يشبه الى حد كبير مرسوم نانت الفرنسي..؟؟ ما احوجنا الى من يّلم الشمل على مبادئ وطنية يرضى عنها الجميع؟ ما احوج حياتنا الى النقاهة والصفاء؟ ما احوج العراقيين الى ان يغيّروا ما بأنفسهم وتفكيرهم؟ انا ادرك ادراكا عميقا بأن ما اقوله لا يعدو ان يكون مجرد احلام، ولكن لا بديل امام العراقيين الا ان يرسموا لهم طريقا واحدا في الحياة من خلال مرسوم مدني ينأى بنفسه عن كل مرجعيات التاريخ وكل سدنة الدين وكل بقايا العهود الاثيمة السابقة! انني واثق تمام الثقة بأن العراقيين لا يحاربون اميركا اليوم بقدر ما يحاربون بعضهم بعضا.. وما كانوا يحاربون بعضهم بعضا لولا الطائفية التي كانت ولم تزل خازوقا اخترق بنيتهم وفعل وما زال يفعل بهم ما يشاء.. مرسوم شبيه بمرسوم نانت ينبغي ان يقدموه على كل طقوسهم ويخلق منهم بشرا سويا.. كنت اتمنى ان ينبثق هذا من خلال مؤتمر تأسيسي وطني يبرز من خلاله زعماء جدد للعراق يؤمنون بالعراق بمعزل عن دينهم او مذهبهم او عرقهم او طائفتهم او جهويتهم.. وثقوا انه الحل التاريخي لكل مشكلات العراق.. اذ سيبقى العراق ينحدر غريقا نحو اسفل سافلين ان لم تنقذه ارادة جديدة تنبثق من وراء الاستار.. فمتى يتحقق الحلم؟ ربما بعد ايام وربما بعد عشرات السنين! وأسأل كل المتعصّبين العراقيين وما اكثرهم: هل كانت فرنسا ستحافظ على وحدتها والمجتمع الفرنسي سيأخذ بالتطور لو بقيا في حالة صراع طائفي؟