عبد الحكيم نديم الداوودي



.رحــلـــة اســتــطـــلاعــيـــة فــي "دولـــة" الــكـــرد الــعـــراقــيـــة
الخروج من الصمت والخوف لتكون كردستان قاعدة آمنة لعراق فيديرالي؟

هذه حلقة اولى من رحلة استطلاعية استغرقت 8 ايام في كردستان العراقية التي وحدت، اخيراً، حكومتها البارزانية والطالبانية، سعياً في ان تكون كردستان قاعدة مستقرة وآمنة لدولة فيديرالية في عراق ما بعد صدام حسين و"حروب الجثث" اليومية المروعة في بغداد.
كردستان العراقية

محمد أبي سمرا
قبل زيارتي الاولى لكردستان العراقية، او شمال العراق، ربيع سنة 2000، لم اكن اعلم عنها سوى القليل: صداقتي القديمة المنقضية للشاعر الكردي السوري سليم بركات وافتتاني بقصائده الاولى، بين 1977 و1982. بعض من حكايات متفرقة سمعتها في لقاءاتي العابرة بكتاب وشعراء عراقيين، شيوعيين غالباً، هربوا من عراق مطاردات نظام صدام حسين البوليسي الدموي، الى بيروت في الحقبة نفسها. القليل القليل من اخبار صحافية متفرقة، وبلا سياق يجمعها ويمنحها معنىً متصلاً. ثم الكتاب – التحقيق "القسوة والصمت" لكنعان مكية الذي قرأته بعد ترجمته الى العربية في اواخر التسعينات من القرن الماضي، والذي وصف فيه مكية وصفاً ميدانياً مذابح "الأنفال" نقلاً عن شهود ورواة التقى بهم بعد حرب "عاصفة الصحراء" الدولية على العراق.

صمت ما قبل اللغة
قبل هذا كله هناك "ابو دعيّر". وهذا اسم حركي او تنظيمي لمقاتل في صفوف حركة "فتح"، التقيته في حرب السنتين (1975 – 1976) على محور شارع الاسعد العسكري على خط التماس الفاصل بين الشياح وعين الرمانة. وحتى الآن لا ادري ان كان المقاتل هذا الذي يؤدي اعماله العسكرية الميليشياوية في احتفالية الادوار المسرحية الشبيهة بادوار شخصيات مسرح "الحكواتي" لمبتكره (بين 1977 و1985) روجيه عساف المبتهج والمحتفي بابتكاره مع طلابه، متماهياً مع صورة زاهية وشعبوية عن الشعب وثقافته الفطرية الثورية المرفوعة الى مصاف المقدس – لا ادري ان كان "ابو دعيّر" العراقي والشيوعي، طبعاً، عراقياً شيعياً او كردياً عراقياً.
لكنني الآن، وبعد زيارتي الثانية لكردستان العراق في اواخر نيسان الماضي، اكاد اجزم ان "ابو دعيّر" ليس كردياً، لانه في صورته المسرحية التي اتذكرها له، لا يشبه في شيء ما انطبع في ذهني ومخيلتي عن مقاتل البشمركا، اي مقاتل حرب العصابات الكردي، الصامت صمت جبال كردستان الموحشة وشبه الخالية. فالكردي، اكان مقاتلاً في البشمركا ام غير مقاتل، بينه وبين الاحتفالية المسرحية لـ"ابو دعيّر" والاحتفالية اللغوية الملحمية الهاذية في اشعار سليم بركات الكردية – العربية او المعربة، مساحات ومسافات من صمت صخري داخلي سابق على اللغة وعلى العبارة وعلى المسرحة.
انه صمت القسوة والوحشة الجبليتين اللتين تسكنان روح الحياة القبلية لرعاة الجبال المعزولة وشبه المنقطعة عن العالم وسيولته وتقطعه في الازمنة الحديثة. حتى اذا ما هبط هؤلاء الرعاة الى المنحدرات الجبلية والسهول المترامية، فاستنبتوا بعض مساحاتها واقاموا فيها البساتين، قبل ان يشيدوا مدناً متقشفة العمران، حملوا معهم ذلك الصمت الرعوي الذي يستوطن الطبقات العميقة الغور في نفوسهم المتقشفة الموحشة. على هذا النحو تماماً اظهر السينمائي الكردي التركي الراحل يلماز كوناي، الروح الكردي في فيلميه "القطيع" و"يول" اللذين شاهدتهما في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، فبقيت منهما في ذاكرتي ومخيلتي صور لا تمحى، كصور طفولتي الاولى في جرود قريتي شبعا، عند المنحدرات الغربية من جبل الشيخ ووديانها الوعرة السحيقة.

الطبيعة والسكان
كردستان، او بلاد الكرد المنسية، الشاسعة والمقطعة الاوصال، الضائعة والمختنقة في داخليتها الطبيعية، بين اشرس القوميات والدول والوطنيات المشرقية – اي بين القومية التركية الاتاتوركية الحديثة، والقومية العربية البعثية الديكتاتورية في العراق وسوريا، والقومية الفارسية الايرانية التي ثأرت بثورتها الخمينية الاسلامية من توقها المحاصر والمحبط الى القوة شبه الامبراطورية، على ما يرينا اليوم التوق النووي للرئيس محمود احمدي نجاد – ان كردستان هذه، المحاصرة والمقطعة والداخلية، هي بلاد الجبال المترامية، والسهوب والسهول الفسيحة، والماء الوفير والثلج والنفط، والزراعة القديمة البدائية، والرعاة والرعي، والقبائل...
انها بلاد متصلة في ذاكرة الكرد ووعيهم الجمعي، وتشكل الجنوب الشرقي، الجبلي، والمائي والنفطي، من تركيا الاناضولية الداخلية، حيث يعيش نحو 16 مليون كردي، عاصمتهم مدينة دياربكر التي زرتها شتاء 2004، ورأيت ان عمرانها العام والملامح المرئية لاجتماعها في مشاهد الحياة اليومية، تشبه ما رأيته في القامشلي الكردية وغير الكردية في شمال سوريا الشرقي، وما رأيته في مدن دهوك واربيل والسليمانية في كردستان في شمال العراق. وهذه جبالها متصلة بجبال كردستان التركية وكردستان الايرانية، ولا تتجاوز مساحتها البالغة 150 الف كلم (اي نحو خمس مساحة العراق الكلية) ربع مساحة كردستان التركية الشاسعة. اما عدد سكانها فبين 4 و5 ملايين نسمة، يعيش معظمهم في المدن عند اقدام الجبال الشاهقة في تركيا والعراق (بين 2000 و5000 م عن سطح البحر). وهذه الجبال الكردستانية تشكل خزاناً مائياً ضخماً في كل من تركيا وسوريا والعراق، وايران جزئياً.
وهناك الى الشرق كردستان الايرانية المتصلة جبالها بالسلسلة الكردستانية، وتفوق مساحتها مساحة كردستان العراقية، ويبلغ عدد سكانها نحو 6 ملايين نسمة. اما كردستان السورية البالغ عدد سكانها نحو مليون نسمة، فليست جبلية، قدر ما هي منبسطات داخلية في اقصى الشمال الشرقي السوري، في محافظتي الحسكة والقامشلي، وحيث "تتهدل اثداء الكلبة" من القيظ، ويستطيع اي "شرطي ان يرى اصغر دجاجة في الافق المترامي"، بحسب سليم بركات.

قاعدة لنهضة العراق
هذه الكردستانات الأربع، كنت اجهلها جهلا شبه كامل، قبل زيارتي العراقية منها سنة 2000. والغريب أني حين زرت بغداد سنة 1989، اثناء احتفال البعث الصدامي بانتصاراته على ايران الخمينية، لم يتبدد من جهلي هذا شيء يذكر. فعراق صدام حسين لا وجود فيه للكرد الا مشردين وقتلى جزاء خيانتهم، لانهم خلقوا كردا. اما في تركيا الاتاتوركية الكمالية فقدر الكرد الصمت والكتمان كي لا يكونوا كردا، شأنهم في هذا الشأن كرد سوريا. اما الكرد الايرانيون، فلا يزال جهلي باحوالهم يمنعني من قول جملة واحدة فيهم. وحين زرت طهران سنة 1995، كانت ايران سكرى بذكرى وفاة خمينيها، فكيف يمكن، اذا، التنبه لوجود كرد في غربها الجبلي؟
وتاريخ الكرد في كردستاناتهم العراقية والتركية والايرانية، هو تاريخ انتفاضات مسلحة دموية ومجهضة في حقبات متباعدة، لكن تفصل بينها عصيانات صامتة.
ويمكن اعتبار كردستان العراقية الناجية الاولى من كردستانات الصمت والكتمان الاربع. ففي سنة 1991 انتفض كرد العراق، بعد تدمير غطرسة صدام حسين في الكويت، فحمت القوة الاميركية انتفاضتهم من ان يثأر منها البعث الصدامي. وعن هذه الحماية نشأت، مذذاك، حكومة كردستانية في رأسين او زعامتين (بارزانية وطالبانية)، فاقتتلت قوات البشمركا الميليشياوية قتالا أهلياً داخليا طول 5 سنوات، وارتسمت حدود امنية بين حكومتين وعاصمتين (أربيل والسليمانية). وأنشأت الزعامتان الكرديتان ادارتين ذاتيتين وحكومتين محليتين وبرلمانين، وظلتا خائفتين وعلى قلق على مصيرهما حتى سقوط نظام صدام حسين في بغداد سنة 2003.
واليوم وحّدت ادارتا كردستان العراقية الحكم في حكومة واحدة، بعدما استتبّ امر الزعامة الطالبانية في رئاسة الجمهورية العراقية في بغداد، حيث يقيم نحو مليون كردي عراقي تمثلوا في الحكومة العراقية بعدد وافر من الوزراء. اما الزعامة البارزانية العشائرية والتقليدية في اربيل، فاستتبّ لها الامر في رئاسة اقليم كردستان العراقية كلها، حيث ارتفع شعار "الحرية لكردستان والديموقراطية للعراق"، الذي ربما يكون عنوان كتاب الشهيد سمير قصير "استقلال لبنان وديموقراطية سوريا"، قد استمد منه. والديموقراطية التي يريدها الكرد العراقيون للعراق، هي النظام الفيدرالي الذي لا يكف أي من ابناء النخبة الكردية عن رفعه شعاراً سياسياً واحداً ووحيداً للنظام العراقي، ولا يرتضي عنه بديلا.
وكردستان العراقية تعيش اليوم، على خلاف العراق الآخر، استقراراً امنيا وسياسياً يرى الكرد انه واعد في تشكيله قاعدة لنهضة العراق المستقبلية، خصوصا على صعيد بناء الدولة والبنى التحتية وجذب الاستثمارات.
وما الزيارة التي شاركت فيها "النهار" لكردستان العراقية، ضمن نحو 500 كاتب وصحافي من العراق ومصر ولبنان، الا محاولة كردية اعلامية واعلانية لإشهاد "العرب" والثقافة العربية على محاولة انشاء هذه القاعدة.

مطار الحلم
فيما كنا متجهين في الباص الى سلم طائرة "الخطوط الجوية العراقية" في مطار عمان، شاهدنا طائرات عراقية جاثمة ومتروكة للاهمال والصدأ والتآكل، في جهات منزوية من مدرجات المطار. العراقيون الذين كنا معهم في الباص – والعائدون مما نسميه "المنافي" في رطانتنا الثقافية، الى الجزء الكردستاني من بلدهم، مستجيبين دعوة فخري كريم للمشاركة في "اسبوع المدى الثقافي" في أربيل - احزنهم مشهد طائرات بلدهم الصدئة، فتأسفوا لاحواله الماضية والحاضرة، مستبطنين حسرات ورثاء لاحوالهم المزمنة في "ديار الغربة"، بحسب الرطانة الثقافية نفسها.
والحق ان مشهد الطائرات العراقية محزن ويبعث على التأسف والاسى في الاحوال كلها على الاطلاق. فهو ذكرنا، نحن اللبنانيين، بمشاهد من بلدنا في ازمنة حروبه التي يعيش عراق ما بعد صدام حسين وجها مروعا من وجوهها. ومن مطار عمان حتى هبوط الطائرة العراقية القديمة في "مطار أربيل الدولي"، لم نخف خوفنا الساخر من احتمال خطأ تقني او فني في صيانة الطائرة، او في قيادة طاقم ملاحيها الذين حدسنا انهم من الكرد الجديدي الخبرة في الملاحة الجوية.
سوى طائرتنا القديمة والعتيقة التي لم تكن طائرة سواها على ارض مطار اربيل، كل شيء كان جديداً جدّة آنية في المطار الصغير الذي انشأته حكومة كردستان العراقية البارزانية قبل نحو سنة في عاصمتها. والجدّة هذه والطائرة التي جثمت وحيدة على المدرج، ابدتا المطار في صورة مطار موقت وخاص، أنجز سريعا وجهّز حديثاً لاستقبال رحلات جوية خاصة شبيهة برحلتنا وغيرها من رحلات رجال الاعمال والشركات الانشائية العاملة في ديار الكرد العراقية "الحرة" والخائفة من حريتها بين 1991 و2003، والمتخلصة من خوفها منذ سقوط نظام صدام حسين وانهياره.
مطار صغير جديد لطائرة عتيقة ورثتها حكومة الكرد عن الشركة العراقية، وراحت تشغلها في رحلات تجارية خاصة بين أربيل وعواصم البلدان القريبة. فالاسفلت الذي لا مسته اقدامنا ومشينا عليه مسافة قصيرة بعد نزولنا درجات سلم الطائرة، اشعرتنا جدّته ونظافته أن ما من أقدام كثيرة لمسافرين وطئته قبلنا. والاعلام الكردية الثلاثة التي يتخافق قماشها في هواء كردستان الربيعي ونور شمسها اللطيف والطازج في وضوحه، وكذلك صواري الاعلام المعدنية المنصوبة قرب احواض مستطيلة للزهور تتقدم مبنى المطار الصغير والممرات المؤدية اليه، كانت جديدة ايضاً، كتلك الجدة الآنية لوقع اقدامنا الخافتة والمريحة على ارض المطار.

اعلام الدموع
•لماذا فاجأتك دموعك، فابتلعتها واشحت وجهك عنا واخفيته بكفيك، حين أبصرت الاعلام الكردية في المطار؟ سألت الشاعر الكردي السوري، حين التقينا مساء في صالة فندق "اربيل انترناشيونال" المعروف بـ"الشيراتون".
- كأنما من قلبي طلعت دموعي، حين ابصرت علم البلاد الذي اشعرني ان شعبها قد نجا من الموت، ومقبل على حياة جديدة، او كتبت له حياة جديدة، قال الشاعر السوري الكردي، ثم اضاف: من اعماق 50 سنة من المآسي واليأس الكرديين، من فرحي بكيت.
•كردستان العراقية وحدها نجت من الموت...، قلت.
- هنا يجب ان اتكلم من عقلي، لأقول ان كردستان العراقية نفسها ما يزال مصيرها مهدداً، ويبعث في نفسي ووجداني ذلك الرعب المزمن الذي كابده الشعب الكردي في تاريخه الحديث. فالتطرف الاسلامي الذي ينتشر متسارعاً في بلدان المنطقة كلها، يخيفني من ان تقتل تجربة الكرد هذه في العراق، كما قتلت في الامس ثوراتهم، ومنها جمهورية مهاباد في كردستان الايرانية في الستينات من القرن الماضي. لا، لا شيء يبعث على الطمأنينة في هذه البلاد، بل على الخوف والحزن.

من جريدة النهار اللبنانية