"الحرية" وفقر الدم ألمنجلي !
زكي لطيف
قرأت في إحدى الصحف المحلية عن فتاة تعمل في إحدى المستشفيات الحكومية وتشاهد بعينيها الألم الرهيبة والمعاناة الشديدة التي لا تنقطع لمرضى فقر الدم بأنواعه لا سيما ألمنجلي ، تقدم لها احد أقاربها للزواج ، كان شابا جيدا ،وافقت عليه ، وبعد إتمام العقد بأسابيع معدودة وباعتبارها ممرضة شرعت في إجراء فحص لدمها ، فتبين حملها لمرض الفقر ألمنجلي، أقنعت زوجها المرتقب بضرورة الفحص فكانت النتيجة إصابته بالمرض ، وهنا تكمن الكارثة فإذا ما تم الزواج ستنجب أطفالا مصابين بالمرض، أوضحت الأمر لزوجها وطالبته بتفهم الأمر وان عليهما اتخاذ قرار شجاع بالانفصال، إلا انه لم يقبل بذلك وكانت مشكلة عائلية مدوية، الأقارب من الرجال والنساء جميعهن شكلوا جبهة ضغط ضدها في محاولة لتنيها عن رغبتها بالانفصال، تقول لقد جعلوني ابكي في جوف الليل وجنبات النهار ، لقد شنوا علي حربا غير عادلة رغم إني لم اطلب الطلاق لعلة في زوجي أو لمشكلة عابرة، بل من اجل أطفالنا المرتقبين والأجيال القادمة ،إلا ن الجميع وقف ضدي ، في نهاية الأمر جاءني خالي ، الذكر الذي تهابه كافة إناث العائلة لضراوته، تكفي عينيه لإيقاع الرعب في الوجوه الباسمة ، لم استطع مقاومته، فكان أن وافقت على إتمام الزواج في نهاية الأمر، واليوم رزقت بطفلين، كلاهما مصاب بالمرض وبنسبة خطيرة، ينقضي عملي بالمستشفي لينتظرني عمل آخر شاق ومضني ، ما كان لينشى لولا ثنيي بقسوة وإرهاب عن الطلاق، رغم كل ما أوضحته من أسباب علمية ودينية وأخلاقية ! إن المأساة التي يعيشها المصابين بفقر الدم ألمنجلي ليست سوى نتيجة لتقادم النظم الاجتماعية المتسمة بالاستبداد والقمع ، والبعيدة تماما عن الحقائق العلمية التابثة ، ونظام الزواج الذي من المفترض أن تتاح من خلاله الحرية المسئولة للشبان والفتيات في التنظيم والاختيار بما يتناسب مع وضعهم الاقتصادي وثقافتهم المكتسبة وبما توصلت إليه قناعاتهم ومداركهم ونظرتهم المغايرة لجيل آبائهم وأمهاتهم، لا يشد عن قاعدة" الاستبداد" الحاكمة في مجتمعنا ، إذ انه ليس سوى مؤسسة مستبدة ودكتاتورية ، يتضح ذلك من خلال
برتوكولاته ونظامه الحقوقي.
إن نظام الزواج ليس من أجندته على نحو الإطلاق النظر إلى الجانب الصحي سواء بالنسبة للزوجين أو لأطفالهما القادمين ، وكانت من نتيجة ذلك أن اثنين من كل أربعة أشخاص مصابين بالمرض أو حاملين لجيناته ،وعندما طرح المهتمون بالشأن الاجتماعي ، المدركين لحجم المأساة على السلطات الصحية ضرورة الفحص قبل الزواج وتثقيف المقبلين على الزواج صحيا وتعريفهم بمدى خطورة المرض ومضاعفاته وأثاره الأسرية والاجتماعية، لم يلتفت إلى دعواتهم المتكررة وبقت مطالباتهم التي طرحت كالعادة كخطابات وعرائض حبيسة الأدراج الحكومية لأكثر من خمسة عاما إلى أن تكرم مجلس الوزراء بتشريع الفحص قبل الزواج! إحدى الكفاءات الطبية من الاحساء طالبت بسن قانون الفحص قبل الزواج وناضلت من اجل تأسيس جمعيات خيرية على مستوى المملكة للذين يعانون من أمراض الدم والاهتمام بهم اجتماعيا عبر إقامة البرامج المتعددة على مدار العام، وتأهيلهم لوظائف تناسب حاجاتهم الصحية وأقدمت على خطوة رائعة عندما نظمت رحلة للأطفال المرضى إلى ألمانيا التقوا من خلالها بأقرانهم المصابين في أوربا ، إلا أنها عندما عادت شنت عليها الدوائر السلفية المتطرفة هجوما على جري عادتها ضد كل حركة نضال وتجديد وتغيير ! اتهموها بمحاولة إفساد الأطفال أخلاقيا لأنها ذهبت بهم إلى دولة أوربية متفسخة أخلاقيا!! وما سكن لهم قرار حتى نقلت من وظيفتها القيادية إلى وظيفة تنفيذية ليس لها شان !! وهكذا هو حال الكفاءات والطاقات الخلاقة في المجتمعات المتخلفة ، ينال منها المتسلطون المتغطرسون ، لأنها سوف تفقدهم مناصبهم التي ليسوا أهلا لها ، وخوفا من أن تكشف حقيقة جهلهم وتخلفهم الإنساني أمام مجتمعهم ، وكل ذلك على حساب الشعب ، سيما شرائحه المعذبة كالمرضى والمعوقين والفقراء.
إن هؤلاء المرضى الذين جاءوا إلى الحياة وهم يحملون على عاتقهم المرض الذي دمر أحلامهم وحرمهم العيش ألهني وحول حياتهم إلى كابوس دائم ومستمر، ليسوا سوى نتيجة لتخلف اجتماعي رهيب ، ودكتاتورية بشعة ليس لها نظير في عالم اليوم سوى في المجتمعات المماثلة ، أن اليهود على سبيل المثال في بعض المناطق يعانون أيضا من الإمراض الوراثية ومنها أمراض الدم وذلك لانغلاقهم الاجتماعي وتشددهم الديني ، فالتعاليم الدينية تحرم الزواج من خارج الديانة اليهودية ، وترفض في معظم الأحيان دخول أتباع الديانات الأخرى في الدين اليهودي، لذلك تنشى مؤسسة الزواج من داخل الدائرة الاجتماعية المغلقة ليعاني المجتمع المحلي في النهاية من استفحال الإمراض الوراثية وعلى رأسها فقر الدم ألمنجلي ! كنت مع احد الأصدقاء الموشكين على الزواج، وذلك قبل عدة سنوات، فقلت له أنت مصاب بالفقر ألمنجلي فلا تتزوج من تلك العائلة لأنها مصابة أيضا، إلا انه أصر على ذلك قائلا" أحبها !! وكانت النتيجة إنجابه أطفال مصابين بالفقر ألمنجلي بنسبة مرتفعة، من يتحمل وزرهم يا ترى؟؟ كنت مع احد الأصدقاء وطفله بين يديه يعاني من الأم المرض، فقال لي والدموع تنهمر من عينيه/ أنا الجاني على هذا ابني هذا ، لقد تزوجت من أمه وأنا اعلم بان كلانا حاملين للمرض وان نسبة إنجابنا أطفالا مصابين كبيرة بل حتمية ، ورغم ذلك اتبعنا هوانا ضاربين بعرض الحائض الاحتمالات القائمة وكانت هذه النتيجة المأسوية! في مقابلة مع الأطفال الذين كانوا في رحلة الدكتور هدى المنصور إلى ألمانيا قالوا أنهم شاهدوا أطفال وشبانا مصابين بالتلاسيما إلا أنهم يتميزون بأجسام قوية وصحة جيدة، وعاينوا أجهزة متطورة لمعالجة التلاسيميا والإمراض الأخرى ، وتساءلوا عن سب عدم توافرها بالمملكة!! وأجيبهم إلى أن عدم معالجتهم بالأدوية والأجهزة المتطورة يرجع إلى الإهمال والتهميش الذي هو ديدن المؤسسات الحكومية، حيث أن الإنسان هو آخر ما يفكر به أو ينظر إليه ! أما عن عدم إنشاء المراكز الاجتماعية والصحية التي تعنى بشئون مرضى الدم الوراثي فبسبب التخلف الإنساني الذي نعيشه ، وانعدام النشاط والحركة الاجتماعية التي تساهم في التغيير الايجابي والطبيعي في المجتمع ، وشيوع الاستبداد والقهر والانغلاق وانعدام الشفافية ، وعدم توفر بني تحتية لمؤسسات المجتمع الأهلي، من خلالها يعنى المجتمع بشئونه ويرعاها وينميها ذاتيا بعيدا عن سيطرة الدولة ، لقد غذت البيروقراطية نظاما راسخا في أجهزة الدولة والمجتمع في آن واحد ، وأصبح التغيير والسعي إليه ضربا من الكفاح المضني الشاق ، إن السبب الرئيس لشيوع إمراض الدم غياب التثقيف الصحي على نطاق واسع وغياب الأنظمة الاجراءية التي تساهم في الحد من الإصابة بالمرض وذلك يرجع إلى الإهمال الحكومي والإقصاء الذي يعود في أصله إلى الدكتاتورية وانعدام الحرية في الحياة الاجتماعية ، أيها الآباء والأمهات انتم السبب في مصاب أبنائكم، منظومة الجهل وانعدام روح التحدي والتغيير التي ترعرعت بها وعشت فيها واستسلامكم التام للقيم المتغطرسة كانت نتيجتها الآم فلذات أكبادكم ، فمن ينقدكم من عذاب الضمير وأي تكفير عن الذنب ستقدمونه للدين حرموا من الحياة الطبيعة بسببكم؟
ليس هناك من سبيل للقضاء على إمراض الدم الوراثية بعد تضاءل فرص إيجاد علاج ناجع لها سوى بشيوع الحرية وحكم القانون وتراجع الدكتاتورية وقيم الاستبداد كنظام حاكم ، بالحرية تنشى الجمعيات التي تعنى بشئون المرضى البائسين على مختلف الأوجه، بالحرية توفر فرص عمل للمرضى ليصبحوا أفرادا فاعلين في مجتمعاتهم عوضا عن الاتكال على الريالات المعدودة التي تمن بها أجهزة الدولة عليهم والتي يحصلون عليها بعد ذل ومهانة ! بالحرية تستورد الأجهزة المتطورة والأدوية التي تساعد على التخفيف من الألم المرض وإطالة العمر بإذن الله ، بالحرية يعرف جميع المقلبين على الزواج خطورة المرض على نسلهم ويمنحون حرية اتخاذ لقرار دون وصاية من سلطة متعنتة ، بالحرية تسن التشريعات التي تحد من الزيجات التي تنتج أطفالا مصابين بالمرضى، بالحرية تتمكن مؤسسات المجتمع الأهلي من إقامة البرامج الإعلامية والتنفيذية لمحاربة أمراض الدم، ولتتكاتف كل الجهود للقضاء عليه، بالحرية يمكن العمل بخطة محكمة طويلة الأجل للقضاء على أمراض الدم ، فلتغدوا الحرية نظام تهب من أعماقه الحيوية نسائم الرحمة والأمل.