عمق إسلاميتي صيرني علمانيا



كتابات - ضياء الشكرجي



ولكن ما معنى أن يصيرني عمق إسلاميتي علمانيا؟ أفلا يشتمل هذا القول على التناقض، إذا ما فهمنا أن العلمانية تعني اللادينية وبالتالي اللاإسلامية؟ وهلا يكون هذا اللون من التفكير بمثابة تصويب للفلسفة الماركسية، التي تدعي اختزان كل شيء بذرة نقيضه، وكأني لم أكتف بدمقرطة الإسلام، بل رحت في مرحلة لاحقة أعلمنه، وها أنا بصدد مركسته؟ أفلا يكون هذا سلخا للإسلام عن ذاته، وتصييره غيره؟ وقبل أن أواصل مناقشة هذه الأفكار، أحب أن أصحح مقولة أن العلمانية تعني اللادينية وبالتالي اللاإسلامية، بل هي تعني غير الدينية وبالتالي غير الإسلامية، وفرق اللادينية وغير الدينية، كما هو فرق بين غير الإسلامية واللاإسلامية، لأن في عبارة اللادينية واللاإسلامية قد يكون مختزنا معنى معاداة الدين عموما والإسلام خصوصا، بينما لا تعني عبارة غير الدينية، أو غير الإسلامية هو عدم اعتماد الدين أو الإسلام بوجه خاص قاعدة فكرية للرؤية السياسية، فبينما العداء يمثل العلمانية المتطرفة التي من الصعب الالتقاء معها، كما هو من الصعب الالتقاء مع الإسلامية المتطرفة، بينما تمثل المغايرة العلمانية المعتدلة التي تلتقي مع الإسلامية المعتدلة على خط الاعتدال والعقلانية والوطنية والديمقراطية والمثل الإنسانية.



كما قلت من قبل أني فتشت عن الديمقراطية في الإسلام، فاكتشفت الإسلام في الديمقراطية، بمعنى أني وجدت الكثير من ملامح الإسلام في عناصر الديمقراطية، ثم وجدت في وقت لاحق أن عمق إسلاميتي هو الذي صيرني علمانيا دون الوقوع في التناقض، لأني اكتشفت علمانية الإسلام في الشأن السياسي. فكما إن الإسلام غيبي مثالي في الأخرويات، فهو شهادوي واقعي في الدنيويات، وكما إن إسلامية الإسلامي تجعله إسلاميا أصوليا مع الذات، فإنها تصيره ديمقراطيا ليبراليا، بل علمانيا مع الآخر. فالإسلام نفسه لا يلزمنا بأدلجة الحياة السياسية حتى بإيديولوجيته هو، وهذا ما فصلت فيه في مقالتي «الحركات الإسلامية ومفهوم أسلمة المجتمع».



من هنا فإسلامية فلسفتي للحياة هي التي صاغت علمانية فلسفتي للسياسة. وإذا قيل أن السياسة ليست إلا جزءً من الحياة، فكيف يتأتى للجزء أن يكون نقيض الكل، أقول من الخطأ اعتبار العلمانية نقيض الإسلام، فإننا عندما نتكلم عن علمانية الإسلام في السياسة، فهذا يشبه كلامنا عن واقعية الإسلام، أو عن إنسانية الإسلام، أو عن عقلانية الإسلام، أو عن اجتماعية الإسلام، وهكذا عن كل صفة للإسلام تشمله في كل ميادينه، أو تختص بميدان من تلك الميادين، وعلى فرض التقابل على النحو التضاد فالمتضادان غير المتناقضين، ففي الوقت الذي لا يجتمع المتناقضان في آن واحد ومكان واحد ومن جهة واحدة وبنسبة واحدة وبمعنى واحد، كما أنهما لا يرتفعان أي أن الأمر لا يخلو من أحدهما، الوجود أو العدم، الإثبات أو النفي، الصدق أو الكذب، نجد أن المتضادين يمكن أن يجمع بينهما جامع أو أكثر.



فالمقصود بعلمانية السياسة هي علمانية الدولة، أي حيادية ولاتأدلج الثابت من عناصرها، مع إمكان تأدلج المتحرك والمتغير من عناصرها، بإيديولوجية الإسلام، أو بأي إيديولوجية سياسية أو فلسفية أخرى، لأن الإسلام يدعو إلى نفسه ولا ينهى من موقع العدل الذي هو جوهره في التعامل مع الآخر، أن يدعو غيره إلى نفسه، ثم يترك الخيار الحر للناس، يقبلون أو يرفضون هذه أو تلك الدعوة، من حيث أنه لا إكراه في الدين. ثم إسلامية الإسلام ليست مساوقة في كل الأحوال لإسلامية الإسلاميين، فقد يكون العلمانيون في بعض شؤون السياسة أشد إسلامية بكثير من كثير من الإسلاميين، فيما هو الإسلام في الجوهر، وقد يكون الإسلاميون في بعض رؤاهم السياسية أشد لاإسلامية - ولا أقول علمانية - من العلمانيين، فيما هو الإسلام في الجوهر. وعندما أقول أشد لاإسلامية ولا أقول أشد علمانية، لأن اللاإسلامية نقيض الإسلامية، بينما العلمانية ليست كذلك، بل بينها والإسلامية ثمة جوامع ومشتركات. وعلمانية أي حيادية ولاتأدلج الدولة لا يلغي حق الإسلاميين في السير في مشروعهم في أسلمة العناصر المتحركة وليس العناصر الثابتة، كما أن للعلمانيين حق علمنة تلك العناصر. وقد يقول قائل أنك أعطيت للعلمانية أكثر مما أعطيت للإسلام الذي يمثل هوية وعقيدة وتاريخ وانتماء غالبية الأمة، لأنك جعلت العلمانية هوية للعناصر الثابتة (الدولة والدستور)، بينما أعطيت الحق للطرفين على نحو التكافؤ في تلوين العناصر المتحركة (الپرلمان والحكومة والقوانين) بلون أي منهما باتجاه الأسلمة أو العلمنة. فأجيب أني أقصد بعلمانية العناصر الثابتة غير علمانية العناصر المتحركة، إذ أعني بعلمانية العناصر الثابتة خلوها من أي بعد إيديولوجي، بما في ذلك الإيديولوجية العلمانية، فالعلمانية هنا في العناصر الثابتة تعني الحياد الإيديولوجي أو الفراغ الإيديولوجي. وقد كنت بينت في إحدى حلقات حواراتي مع الصديق جاسم المطير عام 2003 الفرق بين العناصر الثابتة في الدولة والعناصر المتحركة الخاضعة للتحول والتداول. ومقالتي «حان وقت الاعتذار للصديق جاسم المطير والمرحوم هادي العلوي» وضحت الكثير من هذه المفاهيم التي انتهيت إليها لا من موقع انسلاخي عن إسلاميتي وإنما من موقع اكتشافي لعمق إسلاميتي التي تختزن كل معاني الإنسانية والعقلانية والاعتدال والانفتاح دون التخلي عن رسالية الإسلامي أو رسالية المتدين على ضوء الإسلام في جوهره كرؤية كونية قائمة على أساس فلسفة توحيد الله سبحانه وتعالى، وأساس العدل، وأساس المثل الأخلاقية الإنسانية، وأساس الحكمة أي العقلانية والواقعية.



وهنا أحب أن أشير إلى حقيقة كثيرا ما ألمسها في علاقاتي، ففي كثير من الأحيان أشعر في علاقاتي مع الكثير من العلمانيين ومن أتباع الديانات الأخرى، أنهم يكنون لي الاحترام الكبير، بل وفي كثير من الأحيان مشاعر الحب. وهذا يمكن أن يفسر على أنه يؤكد انحرافي عن إسلامي أو لا أقلها عن إسلاميتي كما يرى المتطرفون والمتشددون دون المعتدلين حتى الذين يختلفون معي في بعض التفاصيل. وهنا يستحضر من يفكر بهذه الطريقة المتشددة معيارا للاستقامة والانحراف وضعه الإمام الخميني، إذ قال بما مضمونه: «متى ما رضي عنا أعداؤنا كان ذلك مؤشرا على انحرافنا». لا أنفي أن هذه القاعدة (النسبية) تنطبق أحيانا، ولكنها لا تصلح كقاعدة عامة يصح تعميمها والتعامل معها على نحو الإطلاق. وهنا أسرد قصة حصلت لي قبل فترة وجيزة، إذ خرجت مرة من قصر المؤتمرات الذي تتواجد فيه القاعة المخصصة لمجلس النواب، وقد كنت في ذلك اليوم التقيت بعدد غير قليل من العلمانيين، وقد كانت التحية بيني وبين كل منهم على الأعم الأغلب حارة وحميمة ومعبرا فيها من قبل أكثرهم عن غاية الاحترام والحب والشوق والتأييد لطروحاتي والإعجاب بها. وأنا في طريق مغادرتي، كنت أتحدث إلى نفسي وإلى الله سبحانه، وأطرح السؤال على نفسي، عما إذا لم يكن هذا مؤشرا على انحرافي عن إسلاميتي، إلم نقل عن إسلامي. ثم سرعان ما استشعرت نعمة الله عليّ في ذلك وشكرته، ثم حزنت على واقع معظم الإسلاميين والمتدينين، فقلت ماذا يضر الإسلام، وماذا يضر ظاهرة التدين، وماذا يضر التيار الإسلامي، لو استطاع كل الإسلاميين أن يحضوا باحترام بل وحب غير المسلمين، أو المسلمين غير المتدينين، أو المتدينين وغير المتدينين من غير الإسلاميين، بل حتى لو حضوا باحترام وحب خصومهم الفكريين، وفرق بين الخصومة والعداوة، كما أن هناك فرقا بين الاختلاف والخصومة. بل إن هذه الحظوة باحترام وحب الآخر المغاير دينا أو فكرا أو توجها سياسيا، ليسجل عندها ليس لصالح الإسلاميين فقط، لأنهم عرفوا كيف يكسبوا حب واحترام حتى من يخالفهم، بل هو نقطة تسجل لصالح العلمانيين الذين لا يحملون عقدة مستعصية تجاه الإسلاميين، بل هم على استعداد وبكل صدق أن يتعاملوا مع خصومهم الفكريين والسياسيين بغاية الاحترام والمودة. وهكذا ينطلق المتدين من غير عقد في علاقاته مع غير المتدينين، والمسلم مع غير المسلمين، والإسلامي مع غير الإسلاميين، لتبنى هذه العلاقات على أسس الاحترام والحب المتبادل، حتى لو اختلفنا، لأني عندما أحب فيمن أختلف معه عقلانيته وأحب فيه صدقه وأحب فيه وطنيته وأحب فيه إنسانيته، فقد أحببته واحترمته من موقع الانسجام مع قيمي ومبادئي، وليس من موقع التقاطع مع تلك القيم والمبادئ.



18/06/2006



d.sh@nasmaa.com