بغداد: معنى أن يلوح ابن الفرات بغصن الزيتون..!

كان أول المتحدثين أمام الجمعية الوطنية العراقية، بعد طرح الأربع والعشرين بنداً للمصالحة وتلويح نوري المالكي بغصن الزيتون، هو الشيخ عدنان الدليمي. ارتجف الشيخ أمام النواب المجتمعين مؤيداً. ما يزال الدليمي يعتمر الفيصلة، وهي السدارة، غطاء الرأس الذي أشاعه الملك فيصل الأول كحيلة لتوحيد العراقيين من موظفي الدولة بدلاً من: العقال، الطربوش، العمامة، الكشيدة، الجراوية أو الجمدان التركماني والمشكي الكردي، والقلنسوة، والكلاو، والعرقجين. وبما أن الأغاني توحد الناس، قبل الملابس، شاعت ذلك الوقت لفائدة اعتمار السداره أغنية: «يا حلو يابو سداره.. متيمك سوي له جاره». شعرت في تأييد الحنفي البغدادي، المحتفظ على رأسه بأثر من آثار الوحدة لا الفِرقة، تحقيق نصف المبادرة. وبالشعور نفسه استقبلت تأييد الشيخ جلال الصغير، الإمامي النجفي، وكانت رائحة الموت علقت بثيابه أكثر من مرة، بعد تكرار تفجير محراب جامع براثا في ضفة الكرخ من بغداد، والإصرار على قتله، وهو إمامه بعد أبيه.

ولم أتلمس بين طيات تنبيه السيد أياد جمال الدين، من الغرور والمكابرة، سوى تحقيق مصالحة ثابتة الأركان. قال جمال الدين: لم يفلت حتى المجانين من تنظيم البعث. كيف لا وقد حكم العراق ثلاثة عقود ونصف العقد. إذن لا بد من مراجعة قانون الاجتثاث. ومعلوم أن واضع القانون اهتدى بتجربة ألمانيا، وأين العراق من ألمانيا! ليس هناك في الكرة الأرضية مَنْ ظل متصالحاً معها حتى خرَّت من عليائها. أما نازيتنا فساعد تأسيسها الأمريكان والسوفيت معاً، وما تزال الثقافة العربية تنتصر لها، والأحزاب الدينية والعروبية المتشددة تزود بقاياها بذخيرة الموت. ووجدت كياسة وحكمة في دعوة الدكتور مهدي الحافظ إلى إخراج مبادرة المصالحة من أروقة البرلمان والكتل السياسية إلى طبقات الناس، حتى تشيع ثقافة وممارسة، فهي المعنية قبل زعاماتها.

أجد بغداد حبلى بالتجارب السياسية لكثرة «المسرات والأوجاع» التي مرت عليها، ففي القرن الرابع الهجري لوح الوزير العباسي أبو الحسن علي بن الفرات (قتل 312هـ) بغصن الزيتون، وأعلن مبادرة المصالحة، وبذل جهداً في إقناع الخليفة المقتدر بالله (قتل 320هـ) بها. حدث ذلك بعد فشل انقلاب الأمير الشاعر عبد الله بن المعتز (قتل 296هـ)، وحاشية دار الخلافة. عاد ابن الفرات وزيراً، وكان شيعياً ـ وهذه دالة على عدم التباعد بين حكومات سُنِّية والشيعة عبر التاريخ ـ وبحكمة «عَرَّف المقتدر بالله أنه متى عاقب جميع مَنْ دخل في أمر ابن المعتز فسدت النيات، وكثر الخوارج، ومَنْ يخشى على نفسه، فيطلبون الحيل للخلاص بإفساد المملكة» (مسكويه، تجارب الأمم، والقرطبي، صلة تاريخ الطبري). ولم يكتف الوزير بأخذ الأمان للمطلوبين، بل ألغى كل مسببات الفتنة، مثل استغلال الوثائق وقطع الأرزاق.

قال المؤرخ والفيلسوف أحمد بن محمد مسكويه (ت 412هـ): «أُحرقت جميع الجرائد، التي وجد فيها أسماء المتابعين لابن المعتز ... وأمر ابن الفرات بتغريق الجرائد في دجلة، ففعل ذلك، وسكن الناس، وكثر الشاكرون». أقول: كم استخدم الذين استولوا على دوائر المخابرات، بعد التاسع من أبريل 2003، من وثائق للتشهير، وللمغالبة من أجل الزعامة، فما أن كرهوا ترشيح فلان لرئاسة الوزراء أو وزارة حتى أظهروا له ما يعطل الترشيح، بل هناك مَنْ أخذ يُلفق ويزيد. فكم أربكت تلك الوثائق، التي سماها مسكويه جرائدَ، تأهيل الوضع العراقي، وقد حرصت الأحزاب المتغالبة على امتلاكها والتلويح بها إلى ما لا يدمل جرحاً ولا يخفف ضغينة. أعطى مسكويه الوزير ابن الفرات حقه بالقول: «ومِن محاسنه أخرج أمرا بالصفح عن جميع مَنْ كان خرج عن طاعته، ووالى ابن المعتز، وإلحاقهم في الصلة بمَنْ لم تكن له جناية»، أي القتل لا سواه.

يواجه عقلاء السياسة العراقية في نخوتهم من أجل المصالحة: تطرف المعادين لها رغبة بالانتقام، وقد مارسوا القتل الشنيع أخذاً للثأر، وأحد المتصدين منهم طالب علانية باجتثاث: النواصب، والمحتلين، والبعثيين، والإرهابيين، والتكفيريين، والميليشيات عدا التي يدير دائرة إعلامها، لأنها «صوت العدالة الهادر» على حد وصفه! ولكم قياس ضآلة العقل السياسي، الذي ما يزال لا يجيد سوى لغة الهتاف والادعاء.

وتطرف الرافضون رغبة في العودة إلى القصر الجمهوري ثانية، وقد سبق أن مارسوا التصفيات الجسدية تمهيداً للوثوب على سدة السلطة، وهذه المرة لا يريدون الإقرار بالخسارة ولا بتبدل الزمن، ولا بتحمل خطاياهم تجاه العباد والبلاد. كانت حجتهم آنذاك، في اعتماد أسلوب الاغتيال، (شعوبية) عبد الكريم قاسم، والرجل بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، فهو لا يعرف غير العراق منحدراً ونسباً، وتعطيل مشروعهم في الوحدة العربية الفورية، وهم بسياستهم «أقسموا بالعروة الوثقى على الانفصال».

أما حجتهم اليوم فهي الاحتلال. أقول: إذا كانت أصوات الأحد عشر مليون عراقي، التي أسست الجمعية الوطنية، ليست شرعية وليست وطنية، فيا ترى ماهي الشرعية؟ وما هي الوطنية في عُرف المصرين على إشاعة الموت؟ ولو فازوا، أتراهم عقدوا برلماناً! أعضاؤه ليسوا من رفاق الحزب! وتركوا ببغداد وحدها مئة جريدة، وعشرات الفضائيات ترقب حركاتهم وسكناتهم، أم أن الأمر كما أنشد محمد مهدي الجواهري: «تصوّرِ الأمرَ معكوساً وخُذْ مثلاً.. مما يجرونه لو أنهم نُصروا.. والله لقتيد زيدٌ باسم زائدةٍ.. ولاصطلى عامرٌ والمبتغى عُمرُ»( قصيدة تحرك اللحد 1936). وقد حدث هذا بالفعل وأُعدم أبرياء بتخالط الأسماء.. فتأمل. ناهيك من إرث أبي مصعب الزرقاوي وأبي قدامة التونسي في إدامة إيقاد الفتنة بين الطائفتين، عبر عمليات إرهاب توهم سُنَّة بأنها من فعل الشيعة وبالعكس. ويرتكب جنايات من حجم قطع الرؤوس. وكان أبلغها تفجير قبة العسكريين بسامراء، لأنها واحدة من القباب الجامعة!

وعلى الرغم من كل الموانع، التي قد تحول دون المصالحة، فحواضن (الإرهاب) بدأت تنقلب على آسريها، وظهر فيها صوت آخر لا يجد للمصالحة بديلاً، فحاضرها ومستقبلها: إما تدبير المعايشة بسلام، وإما حروب «عمياء صَمّاء لا تُبقي ولا تَذر». يبقى القول: ليس من السياسة أن تؤخذ مبادرة المصالحة مؤشراً لضعف الحكومة، وبالتالي الغرور بوهم اثبات القوة بتفجير سوق شعبي بمدينة الثورة، وقتل عمال البناء، وذبح الرهائن، وإتلاف كل ما يتعلق بأسباب الحياة والمعاش، وكلها تدل على فقدان الرشد وضعف مصادر القوة.

r_alkhayoun@hotmail.com