نقد الذات الشيعية: وهم الخوف

حين نحاول مزاولة عملية نقد للذات، كأي عملية تصحيحية تجريها الحركات الاجتماعية والعقدية في التاريخ، نتأرجح بين ضغط وتأثير قوتين كابحتين:

ـ الاحساس بالخطر بل والمبالغة فيه، فهناك دائماً إنذار دائم من الاقتراب من المصادر، من منبع الأفكار، والبحث فيها.. وسيقال لك بأنك تسدي خدمة لأعدائنا وأعداء الانسانية وستنالك وصمة العمالة.. وطالما أن هاتفاً يردد بلا انقطاع: أن المتربصين باتوا أقرب من حبل الوريد بانتظار من يكشف الغطاء عما هو مخبوء، فإن الحاجة للمراجعة تظل معطلة بل ومحظورة.

ـ الاحساس بالتميّز، بل والمبالغة فيه.. إن توّرم الاعتقادات الدينية توحي أحياناً لدى أصحابها بأن ما حظوا به لا يناله الا الاصفياء من بني البشر، وأن الكرامة كل الكرامة في إحتكارهم للحقيقة المطلقة، فليس هناك بعد ذلك حاجة للحذف والتعديل، فثمة نشوة تتخذ شكل الهلوسة الايمانية تحرم صاحبها من مجرد النظر الى خارج نطاق الاحساس الكاذب بالتفوق.. لا يتوقف الأمر، بطبيعة الحال، عند عقيدة دون سواها، فكل الانصار لعقيدة مهما بلغت يسقطون تحت تأثير جاذبية الخطاب العقدي الذي يطرب آذانهم ويعشي أنظارهم على الدوام، وستظل الحقيقة متجزئة بين كل تلك المعتقدات، وترفض أن تقع في قبضة معتقد بوحده.

ولنا هنا عودة سريعة مع التراث، شيعياً كان ام غيره، ونقول على هذا النحو: ليس بمقدورنا أن نتخلص من تراثنا، كما لا يمكن أن نتخلص من أنسابنا وترابنا، وبالتالي فإن الحديث عن الموقف من التراث لا يجب أن يكون بالتقرير سلفاً نفيه مطلقاً ولا التسليم به مطلقاً أيضاً. ولربما سهّل كل من الفريقين (التسليميين والنبذيين) مهمة التعامل معهما، إذ لا أقل نعلم من وضوح موقفهما ما هم عليه من رأي، ولكن تبدو المهمة صعبة للغاية مع إتجاه يكاد من فرط بهلوانيته يفقدنا الصواب في تحديده هويته، وموقفه، وموقعه.. إنه، في أي معتقد نشأ، يمثل خطراً بالغاً عليه حيث يقوم بعملية تضليل واسعة ومتقنة من خلال إعادة تفسير النصوص الفاسدة (نقلاً وعقلاً) بدل رفضها، وعقد مصالحة مع الخرافة من خلال الانشغال المفرط في اعادة انتاج النص في شكل آخر متطور، وهذا الاتجاه يتسلل بين اتجاهات ثلاثة، فهو تسليمي، ونبذي، ونقدي، بحيث تضيع ملامحه وشخوصه أيضاً، ولذلك فلا غرابة أن تجد أشخاصاً يتبنون رأياً تقدمياً وآخر شديد التخلف والخرافية. ولعل أكثر من أصيب بهذا الداء هم المنشغلون بالعمل السياسي، والذين يطمعون في جني ثمار السياسة وإن تطلب الامر ترسيخ الاعتقادات المنحرفة.

إن الموقف من التراث، كما الموقف من الماضي، فلا يمكن التفكير في الحاضر والمستقبل دون الانطلاق من الماضي، الذي نما وأنتج لنا حاضراً سيكون في المستقبل ماضياً، فالتراث الذي نرثه في حاضرنا يشترك في صياغة المستقبل، وكلهم بالنسبة للأخير ماضٍ. وسيظل التراث الشيعي بقديمه وجديده يجب أن يظل مادة بحث خاضعة للفحص الدائم.

في الوقت ذاته يلزم التشديد على، أن من الخطأ الفادح تصوّر ان مهمة التجديد تعني زعزعة القواعد الايمانية التي تنذر الاتباع للعجز والتيه، فالتجديد مهما بلغ عنفوانه وجنوحه لا يصل عند نقطة الانفلاش، وإنما مهمته المركزية بصورة محددة تكمن في صناعة أسئلة لكيفية التصرف والمراهنة على معتقد ما في المستقبل. وبكلمات أخرى توفير شروط البقاء والاستدامة للمعتقد، وإيصاله بالمستقبل، ولكن بعد بتر الافكار غير الصالحة منه، أو التي كانت صالحة في وقت ما دون غيره، أو التي تم تصنيعها لأغراض محدودة. فالتشيع كباقي العقائد الدينية والوضعية رهن نفسه لتفسيرات ايديولوجية في أزمنة سابقة ثم انفصل عنها، أو جرت عملية فصل جراحية كضرورة كيانية وحياتية لاستمرار المعتقد.

ويجب التفريق دائماً بين قضيتي الاستسلام والاستفهام، فالتهمة الجاهزة التي يقذف بها المشتغلون في ورش التجديد هي كونهم باتوا مستسلمين ومستقيلين بصورة تامة لآخر قريب كان أم بعيد، وكما يقال دائماً فكلما كان للسياسة صلة لحدث ما فإن حسّ المؤامراً يصبح طاغياً، وهذا تعبير عن حس الممانعة المتنامي حيال المتبنى العقدي، وبخاصة ما يتعلق منه بالكيان الروحي الايماني. والأمر ليس كذلك البته، فزوبعة الاستسلام بالتأكيد ستنتهي حالما يعاد طرح المسألة المصيرية التي تواجه أي معتقد، وهي مسألة قدرته على العيش مع متغيرات لاحقة وماهي مقومات بقائه لفترات قادمة، اي الاستفهام الجوهري حول ماذا يجب فعله، كيما يحجز معتقد ما مقعداً له في قطار المستقبل.

في ضوء ما سبق، ندلف الى المنطقة الشاغرة الجديدة في التشيع المعاصر، وهي منطقة مازالت تجتذب المزيد من الافكار والانصار، والتي تؤسس لخط شيعي جديد، ندعوه بالتشيع الحيوي. فقد صنع التشيع الحركي منذ ما يقرب العقد من الزمن بداية وعد جديد يتجاوز الحد الخلاصي للتشيع، والذي أنهى شروط وجوده الشعبي والسياسي والفكري، ليقتحم معركة رهان العقلنة والانسياب الواعي مع حركة الافكار الانسية.. وهو ما اسميه بالتشيع الحيوي، الذي لا يركن الى الانشغال بالعاطفة الايمانية الجانحة الى تأكيد الوجود والحضور الكثيف للحشد بل يسعى الى تخليص التشيع من أسطورة الخلاص التاريخي، وإخضاع المنقول الحركي الذي اندغم فيه خلال الحقبة الثورية الى إجراء عملية قسمة وفصل بين الثابت والمتحول لا بهدف إعادة إرساء لليقيني على حساب الشكي، بل الفصل ما بين هو فوق معرفي (نموذج ـ برادايم) وما هو تحت معرفي (حاجات وتطلعات) في التشيع.

إن عملية الفصل هذه تبدو ضرورية من أجل تخليص الجيل القادم من دوامة اكتشاف الخطأ وليس الحقيقة في التشيع، فما يتوهم بكونها نفحة الهية أفضت الى تغيير موازين القوى لا ينال قسطاً موازياً من الموثوقية لدى من هم خارج مجال تأثير الافكار الايمانية في شكلها الاسطوري، ولتخفيف وطأة الفكرة نقول: ما كان ممكناً ايمانياً في فترة سابقة ليس بالضرورة كذلك في فترة يزاول فيها العقل دور الحراسة على حركة الافكار ودورانها. إن العقلانية المفتوحة هي التي تتيح للتشيع الاتكاء على إرادة الحوار مع العالم الخارجي، حيث لا معرفة مكتملة يمكن للتشيع او غيره من المعتقدات الايمانية المغلقة أن يكتفي بها عن الانفتاح على الآخر، فحتى العقائد الايمانية الكبرى تظل في مسيس الحاجة الى ترصين وإعادة تفسير لنصوصها من أجل البقاء على قيد الحياة، ولغرض ملء اعتقاد المنتمين لها بجدوى التمسك بها في مواجهة مضخات الافكار التي توجه مجرى التاريخ.

إن الرهط المنشق او بالأحرى المشتق من داخل التشيع الحركي يحمل معه رؤية نقدية حول الماضي، أي حول تجربة معاشة، وله تفسيره الخاص لها، ولكن لا نفترض أن تتجاوز مهمته تقديم الحلول لمشكلات قد يكون هو متورطاً فيها. لا يجب تحميل هذا الرهط اكثر مما يطيق، فمهمته ـ كما هو شان الجماعات الاصلاحية التي تتشكل من داخل حركات إجتماعية كبرى ـ تقف في هذه المرحلة على الاقل عند حد إنتاج الاسئلة وليس تقديم إجابات.

وليست مهمة الرهط الشيعي التجديدي تخليص التشيع من نفحات الخلاص او دسائس الاسطورة المندكة فيه، فلا مجال اليوم للشك في أن العقائد بكافة ضروبها تحقق إنتشارها بالاتكال على قائمة روايات شعبية واساطير وتوهمات بتعبيرات تبدو لنا عبثية. كما أن مهمة هذا الرهط ليس في التخلي عن المطامح السياسية الكبرى التي ينطوي عليها التشيع بوصفه ايديولوجية مقاومة، فسيظل التشيع بهذا المعنى أملاً لمجتمعات لزّها الظلم والحرمان وتجد فيه لغة للافصاح عن معاناة خاصة، أو وسيلة للجهر بالسوء.. إن مهمة هذا الرهط بصورة محددة وجوهرية هي صناعة فناء جديد في أفق الوعي الشيعي الحركي. فما صنعته الانجازات السياسية أفضى الى اغلاق الأفق المستقبلي للتشيع، وكان من الضروري أن يدفع انحسار الوهج السياسي أو توقفه عند نقطة ما يبعث سؤال المستقبل. وعلى أية حال، ليس مطلوباً من التشيع ان يفك ارتباطه بالسياسة، فسيظل حاضراً كأيديولوجية سياسية، بل ومنتجاً لأفكار سياسية كما يغذي أفكاراً سياسية معقدة بل هو نفسه قد يصبح قوة سياسية مؤثرة في الحياة.

وهناك كلمة تنبيهية حول دور العراق المعزول عن المحيط الثقافي الشيعي لمدة تربو على العقدين، حيث يخشى أن ينكص العراق بالتشيع الى نقطة بداية سابقة، ويخشى أن يعود ليلعب دوراً تعويقياً لمشروع التجديد الذي بدأ بالانتعاش في أجزاء مختلفة من ايران والخليج ولبنان. فعراق اليوم يعيش مرحلة إعادة بناء ليس لمؤسسات الدولة ومكونات الامة، ولكن أيضاً للعمل على رفع منسوب الوعي الثقافي واصلاح أجهزة الفعل الفكري المتآكلة.. إن تفوق العراق الشيعي عددياً ورمزياً يلزم أن يحول دون إغرائه للعب دور فكري في المرحلة الراهنة، فهو اليوم بمسيس الحاجة الى استيعاب الافكار الشيعية الجديدة في المناطق المجاورة له، قبل أن يقحمه الانتصار السياسي في أتون عملية انتاج فكرية ستظل مهما بلغت خارج نسق الحراكات الشيعية والمراكمة الفكرية على امتداد عقدين من الزمن. مع التذكير بأن موقع العراق لا يمكن أن يشغله غيره، ولكن بعد انهائه عملية إعادة التأهيل الضرورية لمجمل أدواته المعرفية والعلمية.