النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2006
    الدولة
    أرض السواد
    المشاركات
    4,349

    افتراضي بــيروت ...بـغـداد ـ الـزمـن الـرمـادي

    بــيروت ...بـغـداد ـ الـزمـن الـرمـادي

    بقلم ـ جابر الجابري
    مساء 15/ 7/ 2006 كنا نفتتح الاسبوع الثقافي العراقي في عمان تحت شعار... " عراقيون اولاً " بمشاركة وزير الثقافة الاردني والمدير العام لمركز الاعلام، وحضور حشد من الشخصيات الاردنية والعراقية، بدعوة من وكالة الاخبار العراقية ممثلة برئيسها السيد ابراهيم الزبيدي، شكّل الاسبوع الثقافي، سابقة وملتقى ثقافياً سياسياً وفنياً مميزاً بين العراقيين انفسهم، كما بينهم وبين اشقائهم الاردنيين والعرب .
    حين كنت افتتح الملتقى، بكلمة الثقافة العراقية، كانت النار الاسرائيلية تلتهم الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية - التي تقيم فيها اسرتي - بعدوان همجي سافر ، وتحت غطاء دولي وعربي فاضح ، كان يوم الافتتاح هو الرابع للعدوان الاسرائيلي في ظل تداعيات وردود فعل عربية رسمية تغطي العدوان وتشكل له مظلة مُخزية ، دفعتني لتطعيم كلمتي بمهاجمة التخاذل الرسمي العربي ، الذي كان العراق ابرز ضحاياه .
    استمر الاسبوع بفعالياته ونشاطاته الصباحية والمسائية بوتيرة حامية ، تناوب على منصته وزراء ونواب ومدراء عامون وقادة احزاب وتيارات سياسية واعلاميون ومثقفون وكتاب كبار .
    في واحدة من المداخلات المثيرة ، وقف احد اقطاب التيار القومي العربي ، ليكشف عما اسماه بالكارثة ، في البصرة ، والكارثة حسب تعبيره هي وجود صورة الامام الخميني في بعض منازل ومدارس ومؤسسات البصرة وضواحيها ، مما حدا ببعض المشاركين ، القادمين توّاً من الداخل ، الى نفي هذه التهمة وتبرئة المدينة واهلها منها ، فيما اشار أخرون الى تكذيب المعلومة ونفيها ، مما اضطرني الى المداخلة مبتدئاً بتحية الجنوب اللبناني والصامدين فيه كما الضاحية الجنوبية وفي مقدمتهم ابنتي أروى البالغة من العمر سبع سنوات ، والتي أبلغتني قبل قليل عبر الهاتف ، أن الطائرات الاسرائيلية لن تخيفها ابداً ، وابنتي أروى مع اطفال الضاحية الجنوبية الذين استلهموا تعاليمهم من مدرسة الامام الخميني، وتهجوّا حروفهم الاولى فـفهموا ان أسرائيل اشبه بالغدة السرطانية، كما اختصرها الامام ليبطل من سحرها واسطورتها التي لاتُهزم ، هذا الرجل الذي اسقط بعمته وعباءته عرش الطاووس وانهى دكتاتورية الشاه وأسس لدولة يحلم بها الديمقراطيون بعد ان سعى ابناؤها للمرة السادسة الى صناديق الاقتراع ليشكلوا دولة من ابرز دول العالم في الحرية والديمقراطية ، كما ان منهجه ورسالته الانسانية شكلت حجة على الاحرار والشرفاء للخروج من العبودية والهوان الى التحرر والانعتاق - ولبنان اليوم بمقاومته وثباته وتحديه للعدوان هو نموذج خميني متقدم يجب الاعتزاز به والاعتداد بصلابته بدلاً من الهذيان واللغط في هذا الظرف الحساس دون ان نرجع النتائج لاسبابها ، لان السيد المتحدث لم يشر الى سب الخميني في مدارس البصرة من قبل النظام المنهار على مدى حربه الطائشة ثماني سنوات في المدارس والدوائر والمؤسسات ( قيام يعيش القائد صدام ، جلوس يسقط الفرس المجوس ) والمجوس في عرف البعث هو الخميني الهاشمي القرشي العربي ، هذا الزيف يجب أن ينتهي وان نخجل منه قليلاً واعتقد ان صورة مايكل جاكسون اوتشي غيفارا او شارل ديغول لن تستفز السيد ... عندما ترفع في البصرة بقدر ما تستفزه صورة الخميني ـ ولا صورة اسامة بن لادن التي ترفع في بعض ضواحي الانبار والموصل وصلاح الدين ، كما لم تستفزه صورة ابي مصعب الزرقاوي ، الذي استباح عمان وخضب ثياب العرس فيها بالدم البريء .
    أحس الرجل بفداحة ماتفوه به وبادر للاعتذار، فيما جاءتني احدى الصحفيات بصورة عن رسالته الموجهة الى صدام يهنئه بعيد ميلاده ويعلن له وفاءه له واستعداده للدفاع عنه .
    في عمان بقيت مصّراً على الحضور والمشاركة حتى اختتام فعاليات الاسبوع الثقافي، بأعتباره حدثاً ثقافياً واعلامياً يمثل ولادة الثقافة والابداع العراقي على ارض غير عراقية ، مع اشتداد قلقي على عائلتي التي انقطع اتصالي بها في ضاحية بيروت الجنوبية، وانا أراقب عبر التلفاز اطنان القنابل الذكية التي تحرث ارض لبنان وتزرعها بأشلاء الضحايا من بقاعه الى جنوبه المخضب بالدم والمقاومة، وخاصة بعد ان القت الطائرات الاسرائيلية ثلاثة وعشرين طناً من القنابل دفعة واحدة على محلة سكنية آهلة بالمدنيين قريباً من سكن العائلة، لكن هذا القلق المتفاقم لم يظهر خلال فعاليات الاسبوع، التي حرصت على انجاحها بأتم وجه .
    في اليوم الاخير عقدت اجتماعاً مع السادة المدراء العامين الذين حضروا الاسبوع ، واتفقنا على تعريفه وتسويقه الى عواصم عربية اخرى ، لمواجهة الصورة المشوهة التي يرسمها الموتورون والظلاميون في العواصم العربية ، وبحجم ما يتطلع اليه شعبنا المنكوب للتعبير عن ارادته ونزوعه الى الحرية والاستقرار والسلام . كما ابلغت المدراء العامين بتوجهي حالاً الى المطار ومنه الى دمشق للبحث عن مصير عائلتي والعمل على انقاذها .
    في طريقي الى الحدود السورية اللبنانية ، لم اشاهد غيري والسائق يصلان الى حافة الحفرة العميقة التي احدثها القصف الاسرائيلي ليقطع الطريق بينهما تماماً.
    كانت الحدود مقفرة تحيط بها نذر الموت والدمار الشامل ، ترجلت من السيارة وعاد السائق ادراجه الى دمشق ، فيما بقيت وحيداً اهبط الى قاع الحفرة العميقة وأتسلق تل الحجر والتراب لاخرج منها الى الجانب الاخر، كأني أنتزع جسدي من هوّة سحيقة الى فضاء موحش .، يضم شاباً يافعاً يمسك دراجة نارية ، طلبت منه ايصالي الى نقطة العبور في المصنع ، وركبت وراءه على الدراجة ، فيما كانت شمس الظهيرة تلفح وجهينا بحرارة ، والريح وحدها تصفر في أذني .
    لم يكن في نقطة الحدود أحد ، منذ عشرين عاماً لم أجد مثيلاً لهذا السكون الكئيب ، في حدود كانت تكتظ بمئات العابرين والبائعين والرسميين من موظفي الدرك والكمارك، دخلت الجمالون وخرجت كمن يمر ببناية خاوية ، مواصلاً الطريق مشياً على الاقدام مسافة خمسمائة متر حتى تقاطع راشيا ، وهناك أقلني احدهم بسيارته القديمة، ولباسه الدرزي الشعبي ، كان شيخاً كبيراً يائساً من حياته ، كما اشار بذلك ، قلت له أريد الذهاب الى عائلتي في الضاحية الجنوبية، استخف بعقلي في البداية ، ثم أكبرني ، سألني عن شغلي ، فقلت له انا وكيل وزارة الثقافة العراقية، ازداد ذهولاً وعجباً ، قال لي : انتم العراقيون ، محنتكم اكبر من محنتنا ، لم اشاهد مسؤولاً حكومياً رفيعاً يخرج الى الموت بهذا الشكل المكشوف وفي هذه الاوضاع ، لكنكم رجال.، وستجد اميركا منكم مالم تجده من رجال المقاومة في لبنان ، اميركا هي الشر المطلق في هذا العالم ، ولاتريد خيراً لأحد ، لكن المقاومة ستلقنهم درساً بليغاً، سنؤدب البيت الابيض ، ونربيه من جديد. كانت السيارة القديمة ، لوحدها تشق طرقاً زراعية، بعيداً عن الطريق الدولية حتى وصلنا الى شتوره، والرجل يكرر تحذيري وتنبيهي مع تقديره لمغامرتي الفريدة قال لي انا رجل كبير لا استطيع ايصالك الى بيروت ، وسيارتي قديمة، لكني سأوصلك الى زحلة ومن هناك تدبّر أمرك، كانت كلماته المتعبة تقطعها اصوات الطائرات التي تخرق جدار الصوت جيئةً وذهاباً على البقاع الاوسط ، كما تبتعد وتقترب طائرات الاستطلاع "الامكا" على سطوح البنايات والشوارع ، فيما تهتز الارض تحت صوت الانفجارات البعيدة.
    عندما وصلنا الى زحلة ، بدأ شيء من الحياة يدب فيها ، رأيت محلات وبشرا وحركة سيارات ، إلا انها لم تعد مدينة ، بل قرية مهجورة ، غادرها أهلها منذ عقود طويلة ، وقفت على جانب الطريق المؤدية الى ظهور الشوير ، وانتظرت طويلاً حتى مرّ فانVAN يحمل جنوداً لبنانيين ، توّقف وأقلني معهم ، وهنا صارت الخطورة مباشرة ومضاعفة ، لأن الطيران يستهدف الحافلات والمركبات التي تقلّ عسكريين أو قطع السلاح ، لكي لاتمر الى بيروت او تصل الى المقاومة .
    تسلّقت بنا السيارة الجبل فيما كانت جوانب الطريق تمتلئ بالشاحنات والمركبات المحترقة ، التي اجهزت عليها الطائرات ، واثار القصف على كل ثلاثمائة او اربعمائة متر. يمنع اية حركة للسيارات او المركبات .، بعد خمس ساعات مرهقة دخلت بيروت ، من مستديرة الصياد الى كنيسة مارمخايل ، وهناك توقفت السيارة امام الركام الهائل والحفرة الواسعة التي احدثتها القنابل الفراغية ، في تقاطع صيدا القديمة ، كان المشهد مروعاً ورهيباً ، البنايات التي غادرتها قبل شهرين من هذا التاريخ ، تحولت الى علب مهشمة على الارض ، والخارطة لم تعد لبلد عامر او مأهول، بل لأكداس من الحجر والحطام والخراب ، معّوض ، صفير، حي الاميركان، أو ستراد هادي نصر الله، واخيراً الكفاءات ، احياء سكنية وعمارات بأحدث الواجهات وابهى صور العمارة والابداع ، يخرج من بواباتها اطفال ونساء وصبايا جميلات ، وأباء وشيوخ يعودون مساءً الى دفئها وحنانها وسكينتها ، اصوات الاطفال هدأت تماماً ، اما تحت الانقاض والركام ، اوفرّت بعيداً الى الملاذات المجهولة .

    كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا
    نديم ولم يسمر (ببيروت) سامُر
    فيما كانت الطائرات تقطع الصمت الكئيب وتخترق جدران الصوت ثم تلقي بحمولتها على ما تبقى من ابنية قائمة او شبه قائمة ، تتدلى من نوافذها المحطمة صور وثريات واجهزة حاسوب مهشمة او شراشف و ألبسة ممزقة ، كل الشقق الامنة تحولت الى عويل صامت ، الجريمة فوق الخيال لا تحدها حدود ، والوحشية لاتوصف ، والحقد الاسود يصرخ منه كل حجر. عند حلول المساء كنا ثلاثة في بيت واحد ، نترقب انضمامنا الى اكوام الحجر والاشلاء حال سقوط البناية التي تؤوينا والتي ستتحول الى هشيم بين لحظة واخرى ، كنا على الجانب الاخر لمنطقة معّوض ، وفي الطابق الرابع ، مدخل الشيّاح ، وكنا نراقب قناة NEWTV التي صوبت عدستها الى الضاحية لتبث مباشرةً وميض اللهب ثم يصك الانفجار اذاننا ،على بعد مئات الامتار ، دويّ هائل وهدمّ كامل ، لم تلتقط عيوننا النوم ، وجدران البناية تهتز بين ساعة واخرى .
    تساءلت ، لماذا هذا الاجرام الهمجي ، والمبالغة في هذا الانتقام والخراب والدمار الشامل ، اجابني صاحبي ؟ من هنا خرج المقاومون الى الجنوب ، من هذه الضاحية لبسوا اكفانهم ونازلوا اليهود ، تصدوا لهم ، اشعروهم بالخزي والمذلة والهوان ، قاوموهم بأظافرهم واسنانهم ، من بيت الى بيت، في الخيام وبنت جبيل وعيتا الشعب ، وعيترون ، لم يتقدم جنود العدو شبراً واحداًَ ، لذلك جاءوا ينتقمون من الحجر ، هذا الحجر هو الذي ولد البشر الذي هزمهم.
    قال لي ايضاً ، ان العدو يستمد شجاعته من جبن العرب وحكامهم ووضاعة أمرائهم، امراء الذبح، والطائفية والحقد الدفين، الذين لايجيدون سوى اثارة الفتن بين الطوائف والشعوب العربية، هؤلاء الحكام هم الذين يشكلون المظلة للعدوان ويمنحون الشرعية لأسرائيل، المقاومة فضحتهم وعرتهم كشفت اقنعتهم وزيفهم امام شعوبهم، هؤلاء عبيد البيت الابيض ، ليسوا رؤساء ولا قيادات.
    في اليوم التالي قمنا بجولة على الضاحية، او بمغامرة مكشوفة ، قريباً مما يسمى بالمربع الامني ، وجادة هادي نصر الله وبئر العبد ، والغبيري ، واخيراً الرويس الذي كان يقع فيه بيتنا ، ثم اجريت لي مقابلة مباشرة على قناة المقاومة قناة المنار ، قلت فيها: اننا في العراق نقبل ايدي المقاومة لانها شرفنا وعزتنا ، وهذه هي المقاومة الشريفة والحقيقية ، ليست المقاومة في العراق التي تقتل اطفالنا ونساءنا وابرياءنا، بالاسلوب والقبح الاسرائيلي ذاته، هذه نسخة منقحة مما يجري في العراق تحت شعارات الطائفية والمذهبية التي نفذها المسوخ والمشوهون وحثالات التاريخ الاسود ونفايات النظام الساقط ، كما دعمها حكام الرذيلة العرب ، ومولها تجار الدم والحقد هذه المقاومة الحسينية الحيدرية الشريفة ، هي التي ستعيد صياغة الامة ورسم حاضرها ومستقبلها ، وقلت ايضاً امام هذه المقاومة لم تعد اسرئيل اسطورة بل سيكون الشعب اللبناني هو الاسطورة ، والمقاومة الحسينية هي الاسطورة ، لقد قلبت المقاومة ارقام المعادلة واثبتت للحكام العرب ان حزباً عربياً و احداً اسمه حزب الله ، وبذراعه العسكري ، قد استطاع أن يكشف خواء الزيف الاسرائيلي ، ويعيدها الى حجمها الطبيعي كغدة في الجسم العربي الاسلامي ، فكيف لو اجتمعت هذه الدول المترهلة والخانعة والذليلة ، النائمة على ترساناتها العسكرية وجيوشها الجرارة ونياشين جنرالاتها الصدئة، حزب عربي واحد ، بذراعه العسكري، هزم اسرائيل . لقد كذب علينا العرب، كما كذبوا بتاريخهم المزيف وشخصياتهم المزيفة، واعلامهم المزيف، طيلة قرون، نحن الآن امام لحظة الصدق على يد المقاومة .
    عندما وصلت بيروت كانت عائلتي قد نزحت مع مئات آلاف العوائل التي هامت على وجوهها الى الحدود السورية اللبنانية ، وهناك التحقت بهم على مشارف قرية القصر ، كانت اروى وجنى الصغيرتان العزيزتان قد تمكن منهماّ الفزع والجوع والذعر، تغيرت ملامحهما تماماً وطغى عليهن الذهول، احتضنتهم جميعاً، وعبرنا الحدود مشياً على الاقدام الى داخل الاراضي السورية كان الناس كيوم الحشر، في العراء يفترشون الارض على مساحة واسعة، بل على مّد البصر، كل يختار طريقاً يدله على قريب او صديق او جمعية او مقام ، كل يبحث عن ظل، اتجهت مع العائلة الى الشام ، ظناً مني كوكيل اقدم لوزارة ، ستحميني هيبة الدول ومنصبها الرفيع ، قلت لعائلتي أن السفارة ستؤمن لنا كل شيء ، سيقوم رئيس البعثة في دمشق بزيارتنا للاطمئنان على السلامة، وسيؤمن لنا سكناً اذا لم يأخذنا الى بيته، كما حصل مع بقية الرسميين والمسؤولين، او رعايا الدول العاديين الذين أمنت لهم حكوماتهم ، كل الوسائل ،الاقامة والنقل والمساعدة المادية ، كانت الافواج البشرية التي تزحف من لبنان لها اهل ومسؤولون وحكومات وممثليات رسمية في دمشق ، قامت بمهماتها على اكمل وجه ، حتى السريلانكيات والفلبينيات ، الخادمات في لبنان ، لقين الاهتمام من حكوماتهن ، لذلك اتصلت بنفسي برئيس البعثة ، ثم ذهبت الى مبنى السفارة ، لكني لم اجده ، كان قد خرج دون ان يترك عذراً أو خبراً ...؟! استدعيت سكرتير السفارة ، وجاءني مشكوراً ، حملّته المسؤولية ، وطلبت منه مخاطبة المسؤولين في بغداد لاغاثة عائلتي المنكوبة ، باعتباري مسؤولاً حكومياً في دولة العراق (الجديد).
    بعد اسبوع جاءني يحمل رد الحكومة العراقية الموقرة، كتاب وزارة الخارجية مذيلاً بنسخة منه الى وزارة الثقافة التي لم يكلف معالي وزيرها نفسه برنة هاتف واحدة ، يسأل عن وكيل وزارته الاقدم ، وعائلته المشردة ، كان كتاب الخارجية ، محرجاً ومخجلاً : تنسب مساعدة عائلة السيد وكيل وزارة الثقافة بالحصول على سكن ، دون تحمل اية نفقات مادية.
    قرأت الكتاب بخجل ، خجلت من نفسي واطفالي وزوجتي ، وحتى من سكرتير السفارة الذي حمل الكتاب .
    خلال فترة انتظاري للجواب، كان بعض المسؤولين السوريين وغير السوريين من سفارات الدول الشقيقة والصديقة ، يعرض علي خدماته كوني شخصية ثقافية وشعرية عربية ساهمت في مناسبات العرب واطلقت موهبتها لقضاياهم المصيرية ، عرضوا علي خدماتهم واستعدادهم للضيافة الكاملة ، لكنني كمسؤول في دولة احترمها واضع حياتي في تصرفها ، كنت انتظر غيرتها وقيامها بالواجب الرسمي والاخلاقي والانساني ، ابلغتهم جميعاً ان دولتي العتيدة ستقوم بما يبيض الوجه ، طالت المدة وتفاقمت المحنة، حتى تلاشت هيبة الدولة، وذهبت لأحد الاصدقاء، كاشفته بما حصل، والمرارة اغص بها على خجل، كفاني بمرؤته ووقاني مذلة السؤال، مستخفاً بما اسميته دولة وحكومة ووزارة في اليوم الثالث والثلاثين للعدوان أفرغت الطائرات المشؤومة آخر حمولاتها الجهنمية الصاروخية على ضاحية بيروت الجنوبية ، كنت بالقرب من اول بناية هبطت في الكفاءات ، بفعل قنبلة ذكية حولتها بمن فيها الى ركام ، اطلقت الطائرات عشرين صاروخاً على البنايات السكنية الآهلة ، خلال دقيقتين فقط ، تهاوت خلالها غابة العمارات في مجمع الحسن السكني ، تحولت الى هشيم تنبعث منه رائحة الدم والاشلاء وتكسرت اصداء الانفجارات على الركام المتداعي من كل مكان ، فيما تعالت اصوات القادرين على الصراخ ، من انصاف الاحياء واشباههم ، دارت بي الارض وانطبقت عليها السماء انطبقت تماماً على انقاض وركام الضاحية ، احتضنت كل طفل وأمرأة وشيخ ورجل ، ظنوا ان بيوتهم ومدارسهم ورياض آطفالهم آمنة من ذكاء القنابل الفراغية فلاذوا بها والتصقوا بجدرانها التي تهاوت على بعضها البعض كعلب الكارتون الهش، كنت يومها من العائدين بعد قبول القرار 1701 من قبل الحكومة اللبنانية ، الذي يقضي بوقف الاعمال العدائية ، ظناً منا جميعاً أن اسرائيل ستكف عن همجيتها وتوحشها الجبان ، لكنها اثبتت العكس ، عمدت الى استغفال الابرياء واستدراجهم الى بيوتهم ، من الشتات والمناطق النائية التي فروا منها ، جمعتهم في مجمعاتهم السكنية ، ثم انقضت عليهم ، ليلة كاملة بعد قبول القرار لم تطلق فيها اسرائيل قذيفة واحدة ، بل حتى حجر ، وامتد الصمت الصاروخي وهدير الطائرات الى منتصف النهار ، حتى الساعة الثالثة ظهراً ، كانت الضاحية ساكنة مترقبة ، وفجأة انقضت عليها الطائرات دفعة واحدة ، داهمتها بسيل من القنابل الذكية ، أحالت السكون الى براكين وزلازل وانهيارات وحمم تجرف الاجساد الطرية الممزقة ، تماماً كما يفعل مرتزقتها في بغداد ، في تجمعات الأمنين والابرياء ، وكيفية استدراجهم وتجميعهم بعد الضربة الاولى ، حتى تنبض النخوة العراقية لانقاذ المصابين من انفجار او قنبلة غبية ، فيجتمع الشباب للانقاذ وتنهض حميتهم من كل صوب ، يأتي الانفجار او القذيفة الثانية ، لقتل اكبر عدد منهم ، بل لقتل الروح العراقية الفريدة في نخوتها وغيرتها وحميتها ، هكذا تفعل اسرائيل بأبناء الضاحية والجنوب ، وهكذا يصنع اذنابها وحثالاتها في عراق علي والحسين ، هدف واحد ومستهدف واحد ، وطريق واحد(ع) من تل ابيب الى بغداد مروراً ببعض العواصم العربية طبعاً.
    اشتعلت الضاحية وتفحمت الاجساد وتهاوت المنازل ، تعمدت أن اكون شريكهم ومندوباً لشعبي العراقي ،الذي نسي محنته والكارثة التي يتخبط بها ، فتظاهر في شوارع بغداد المفخخة تضامناً مع اهله في الجنوب والبقاع والضاحية ، تعمدت ان اقاسمهم ذات النار والقنابل الذكية والغبية ، كتب لي أن أكون شاهداً على آخر مجزرة قبيل وقف اطلاق النار ، شاهداً على الركام والاشلاء والجثث الهامدة ، التي تناقلتها وكالة الابادة الاسرائيلية ، كما ادليت بشهادتي بحق المقاومة ورجالها الافذاذ ، الذين واريت بعضهم في قبره، غرست اصابعي في ترابه لأقرأ على روحه الفاتحة ، ثم اضمخ جبيني به ، ليبقى مشرقاً بالبطولة الاسطورية ، التي صممها ونفذها تلامذة المدرسة الحيدرية الحسينية.
    قلت لمن بقي منهم على قيد الحياة ، أن اسرائيل بنت كيانها ودولتها على الهولوكوست ، علينا ان نوظف هذا الهولوكوست الجنوبي البقاعي البيروتي والبغدادي والكربلائي ، لتشكيل كيان على الحقيقة لا على الزيف والزور ، هذه الحقيقة الماثلة بأنقاضها واشلائها في اكبر خارطة للابادة والتطهير العقائدي والطائفي والديني ، يجب أن تتحول الى كيان سياسي عقائدي فكري حضاري اخلاقي يضم الجميع ويعيدهم الى الصواب والواقع ، بدلاً من الدجل والتعتيم والكذب بدلاً من الوهم .
    في اليوم السابع للمجزرة ، أعدت سباياي ـ عائلتي ـ من الشام الى تراب لبنان الى قرية نائية من قراه البريئة ، وحزمت حقائب العودة الى المسلخ ، الى بغداد السبية ، احمل في ذاكرتي صوراً للمفارقة النادرة ، لرجال يصنعون الاسطورة بثباتهم وارادتهم ، واعتزازهم بقادتهم الذين عاشوا معهم في الخنادق والمتاريس وخطوط المواجهة ، دون ان يرشوا على وجوههم المساحيق والاصباغ ، كما احملها لاشباه رجال يضيعون اقرانهم وانصارهم الذين صنعتهم الاسطورة ، عبر عقود ثلاث من الكفاح والنضال والتحدي والمواجهة ، يتخلون عنهم ويتنصلون من ارتباطهم في أهون منعطف وأول اختبار ، بعد أن غمروهم بمساحيقهم واصباغهم، ليلطفوا معالم وجوههم ، ويحملوا ملامحها للوطن وأجياله ، عدت احمل المفارقة على بوابة المسلخ ، لأقرأ المسافة بين الاسطورة والخرافة ، كم ستحتاج بغداد من اطنان الجثث والرماد لتكون كشقيقتها بيروت ، تخرج من زمنها الرمادي ، الى زمن يتبين فيه الوجه الابيض من الوجه الاسود.
    ومالي الاّ ال احمد شيعة ومالي الاّ مذهب الحق مذهب

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2006
    الدولة
    000
    المشاركات
    1,930

    افتراضي

    السلام على أخي الطيب الكميت المحترم وأن شاء الله ما تنسانه عند الزيارة لابوا اليمه علي سلام الله عليه، أسألكم الدعاء نور عيني

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2006
    الدولة
    أرض السواد
    المشاركات
    4,349

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة hasan
    السلام على أخي الطيب الكميت المحترم وأن شاء الله ما تنسانه عند الزيارة لابوا اليمه علي سلام الله عليه، أسألكم الدعاء نور عيني
    اهلآ أخي العزيز حسن
    طالت غيبتك نأمل ان تكونوا بخير
    تحياتي لكم وللعائلة الكريمة
    ولك ماطلبت أنشاء الله تعالى
    تحياتي
    ومالي الاّ ال احمد شيعة ومالي الاّ مذهب الحق مذهب

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2006
    الدولة
    000
    المشاركات
    1,930

    افتراضي

    ألف بأخي وروحي الكميت الطيب والله لن أنسى لك هذا الفضل روحي مشتاكة لزيارة أبوا الحسنين سلام الله عليهم فراكه مرضني
    خوية مبارك لكم رمضان الخير والبركة واستجابة الدعوات والمبرات والطاعات إن شاء الله يعوده بالف خير عليكم

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    617

    افتراضي

    الحمد لله على سلامة عائلة السيد ابو مدين . ونقول له ان شجاعتك هي من شجاعة اجدادك وليس غريبا عليك هذه الشجاعة لانك سبق ان قارعت الظلم الصدامي في المسلخ (اي بغداد) .
    تحية شكر وتقدير الى اخي العزيز الكميت لنشره هذا المقال .ونتمنى ان ترفدنا بهذه المواضيع الهادفة دائما .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    الدولة
    بغداد
    المشاركات
    2,017

    افتراضي

    قيام يعيش القائد صدام ، جلوس يسقط الفرس المجوس ) والمجوس في عرف البعث هو الخميني الهاشمي القرشي العربي ،
    ليس فقط البعثيين!!!
    بل اصبح الايرانيين مجوساً,في عرف الكثير من "المتأسلمين الجدد"اليوم!!
    والمفارقه تكمن في ان هؤلاء"المتأسلمين"هم شيعه عراقيين!!!
    المفارقه الاخرى انهم يرفعون صور"نصر الله"على واجهات مقراتهم الحزبيه..!!
    طيب ..اليس حسن نصر الله تابعاً عقائدياً..وتنظيمياً لايران؟
    فما حدى مما بدى؟!!!

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2006
    الدولة
    أرض السواد
    المشاركات
    4,349

    افتراضي

    السيد الجابري
    مثقف وشاعر ومناضل
    وأود التركيز على اهم مايتناوله المقال
    * اعتماد ازلام البعث والقوميين على التهويل والتخويف من المد الشيعي
    * التأييد الذي تجده هذه الاصوات من قبل الاعلام العربي

    وقد ذكر الكاتب ( وهو مسؤول كبير في الحكومة ) ومثقف وشاعر ويحاول الكثير من العرب تقديم المساعدة له
    لكنه يفضل ان تكون بلاده هي من تقوم بذلك
    وما كان رد الخارجية العراقية الا دليل على قلة الذوق

    الأخ الحفاظي
    حياك الله واشكركم أخي الكريم وبخدمتكم

    الاخ حسن نحن بخدمتكم ودعاءنا لكم بالسلامة

    الاخ زيد النار
    ثقافة الخوف من ايران جذورها صداميه
    ومالي الاّ ال احمد شيعة ومالي الاّ مذهب الحق مذهب

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني