المنبر الحسيني الليبرالي!
زكي لطيف
تتفاعل جماهير شعبنا مع ذكرى عاشوراء كل عام ، ترى المجاميع الغفيرة من كافة الفئات والطبقات تتوجه إلى مجالس القراءة والتعزية لتستمع للخطباء والمعممين، وبعد ذلك تلطم على صدورها حزنا على الإمام الحسين الذي قتل بسيوف أهل الكوفة سنة 61هـ ولم يكن بينهم شامي أو حجازي كما يذكر ذلك ابن مخنف في مقتله!
تنتهي الشعائر الدينية وينتهي معها كل شي لتعود الجماهير الحزينة إلى حياتها التقليدية! فالسادة العلماء والخطباء يكرسون تعاليم النظام الديني الذي يسيطرون عليه ويرسخون فيه العادات والتقاليد والقيم الحاكمة ويدعون الناس للتمسك بها أكثر فأكثر، ويعتبرونها طوق النجاة من أهوال العالم الآخر! أنهم يحضون المجتمع على دفع الحقوق الشرعية! لمن؟ لهم بالطبع .وذلك عبر إيرادهم مجموعة من الأحاديث والمرويات والأدلة النقلية ، سابقا وقبل عشرات السنين كان الحسين ثورة سياسية شعبية فقد استغلت مواسم عاشوراء في تأجيج الجماهير ضد السلطات السياسية في بعض البلدان ، فالدين عندما يكون محتكرا بيد فئة معينة تستطيع الفئة المسيطرة توجيهه كما تريد، فعندما يقصدون التمرد والعصيان والمواجهة يدفعوا العامة لخوضها ويستشهدوا بسيرة النبي وعلي والحسين وعندما يركنوا للوضع القائم ويرسخونه في العقول والضمائر فأنهم يحثون المجتمع على التمسك بعروة النظام الديني والاجتماعي والثقافي الحاكم ويستشهدوا بسيرة السجاد والباقر والصادق !
ثقافة مركزية شمولية تولتارية حاكمة في أجواء عاشوراء ، ذهبت لاستماع احد الخطباء فكان لب موضوعه أن الوجود بما يشمله من عوالم ومن ضمنها الحياة الدنيا والبرزخ والآخرة الأرض والسماوات وبقية الموجودات والمخلوقات،جميعها خلقت من اجل الإنسان الكامل . ولكن من هو هذا الإنسان الكامل في نظر سماحته؟ انه محمد وأهل بيته، فالوجود إذن خلق من اجلهم !! في ليلة أخرى سمعت خطيبا يقول بان الآية التي تحرم أكل مال اليتيم تأويلها الصحيح في دلالتها على وجوب دفع الحقوق الشرعية، فيجب على المكلف دفع الخمس وغيره من المستحقات الشرعية المالية لصاحب العصر ووكيله في هذا الزمان هو المرجع الديني وإلا لم يأمن من النار يوم الفزع الأكبر! ذهبت لخطيب آخر فنادى بأعلى صوته: يا نساء حرام عليكن الخروج من بيوتكم دون إذن أزواجكن ،على كل امرأة أن يوافق زوجها كل يوم على خروجها للعمل أو غيره من المهام، حرام عليكن كشف وجوهكن، حرام عليكن الاختلاط مع الرجال ،أتقن الله فان معظم أهل النار من النساء!!
أما مواكب العزاء فبعض منها عوضا من أن تكون لطما على الحسين أو غيره من الأئمة كما هو المفترض،يلطم الحاضرون في شئون سياسية ومجتمعية كما في قصيدة الرادود البحريني حسين الاكرف الأخيرة، عندما انتقد الحكومة البحرينية في بعض نظمها الإدارية والتنظيمية في قصيدة العزاء المخصصة لإحياء ذكرى استشهاد الإمام علي !!
يتمسك الكثيرون بالشعائر الحسينية كاللطم على الصدور والتطبير وضرب السلاسل ويعتبرونها جزء لا يتجزأ من الدين! رغم أنها ليست كذلك، ويحرمون بطبيعة الحال أي تجديد أو ابتكار وكأن ما ألفوه منزلا من السماء!! وفي هذا صورة أخرى قاتمة للاستبداد الذي تعيشه المجتمعات الدينية ،يقول الدكتور الشهيد علي شريعتي أن اللطم ومعظم الشعائر الحسينية ليست سوى شعائر اقتبستها الدولة الصفوية من إحدى الطوائف المسيحية ، يقول" ذهب وزير الشعائر الحسينية إلى أوروبا الشرقية وكانت تربطها بالدولة الصفوية روابط حميمة يكتنفها الغموض، واجري هناك تحقيقات ودراسات واسعة حول المراسيم الدينية والطقوس المذهبية والمحافل الاجتماعية المسيحية وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتبعة في ذلك حتى أنماط الديكورات التي كانت تزين بها الكنائس في تلك المناسبات، واقتبس تلك المراسيم والطقوس وجاء بها إلى إيران، حيث استعان ببعض الملالي لإجراء بعض التعديلات عليها كي تصبح صالحة لاستخدامها في المناسبات الشيعية وبما ينسجم مع الأعراف والتقاليد الوطنية والمذهبية في إيران، مما أدى بالتالي إلى ظهور موجة جديدة من الطقوس والمراسم المذهبية ليس لها سابقة في الفولكلور الشعبي الإيراني ولا في الشعائر الدينية الإسلامية، ومن بين تلك المراسيم النعش الرمزي والضرب بالزنجيل والاقفال والتطيير واستخدام الآلات الموسيقية وأطوار جديدة في قراءة المجالس الحسينية جماعة وفرادى، وهي مظاهر مستوردة من المسيحية بحيث بوسع كل إنسان مطلع على تلك المراسيم أن يشخص كيف أن هذه ليست سوى نسخة من تلك!"(1)
أجول في معارض الكتاب المتنقلة فلا أجد سوى عناوين سلفية تدعوا إلى القيم الحاكمة ، تصفحت احد الكتب الفقهية لمرجع ديني حي فلم أجد فيه سوى دعوة سافرة للتمسك بتراث الآباء والأجداد وما يستند عليه المجتمع من حفنة النظم المفروضة من جانب واحد ، أما المجالس النسائية فليست سوى عنوان صارخ للاستبداد الحاكم والثقافة الاستعبادية التسلطية ، إذ إنها ليست سوى مجالس بكاء ساذجة لا تحمل أي معنى أو هدف سوى في كونها بكاء عبثي يخرج من نساء روضن على الخضوع وجبلن على الرضوخ وجردن من إنسانيتهن ألحقه ولم يبقى منهن سوى عواطف خائرة ودموع ليس لها قيمة ، تقول إحدى الكاتبات المستنيرات إنها شهدت محاولات تطوير المجالس الحسينية النسائية إلا أنها جوبهت بقمع رهيب من قبل القائمات على هذه المجالس ولم تنجح التجربة!ويحق لنا التساؤل: كيف لها أن تنجح وصاحبات السلطة يخشين من التجديد الذي سيجعلهن يفقدن ما يكسبنه في وسطهن النسائي المحطم من مال وشهرة ورفعة!!
أن موسم عاشوراء الذي يسيطر عليه رجال الدين والمتدينين التقليديين أصبح عبارة عن موسم لتكريس القيم الرجعية والأفكار البالية والفهم السقيم للدين، وإعادة شحن لسلطات رجال الدين الأخطبوطية، أين الدعوة لحقوق الإنسان والانفتاح والحرية ؟ أين دعوات التجديد والتطوير والتنمية والتقدم؟ لا شي في الأفق سوى الاستبداد والتبعية ،فرجال الدين والخطباء نتاج الحوزات العلمية التي لم تشهد تطور منذ مئات السنين وبالتالي ليس من ثقافتهم الواسعة وعلمهم الغزير الحصيلة الإنسانية العالمية في الميادين الحقوقية والقانونية والتشريعية والاقتصادية والعلمية فمعظم ذلك ليس سوى متعارض مع الإسلام المحمدي الأصيل الذي ينادون به! أن رجال الدين يجسدون في المجتمع كل ما جبلوا عليه في حياتهم الحوزوية من انغلاق واستبداد وقمع لكل نهضة أو فكرة لا تروق للعلماء الكبار الذين يمثلون السلطة بمعناها الفعلي، وعندما يعودون للمجتمع البائس يمارسوا عليه ما مورس عليهم ،لينغمسوا بوعي أو بدونه في دوائر لا تنتهي من الوجاهة والتبعية والمال المتدفق من الأرصدة والمخابئ ، والتي تمثل في مجموعها مفصل السلطة الدينية الراسخة في مجتمع ديني تراتبي متصلب غير قادر على تسيير شئونه دون الاستناد على الشريحة الحاكمة.
كنت قد قرأت عن الموسم الثقافي الفرنسي في إحدى الصحف، يقول الخبر أن هناك أكثر من 120 كاتب جديد ظهر في هذا الموسم، يطرحون مؤلفات أدبية وقصصية وثقافية متنوعة! إضافة إلى مئات الكتاب المعروفين الذين استهلوا العام الثقافي بمؤلفات جديدة تعالج قضايا مهمة في مختلف شئون الأمة الفرنسية ! وتقدم في نهاية الموسم عشرات الجوائز ويحصد الكتاب والناشرين ملايين الدولارات وتعقد بالطبع عشرات الندوات والمؤتمراث الثقافية والفكرية !! بينما في موسم عاشوراء يحصد الخطباء ملايين الريالات ويبثون آلاف المواعظ ويطلقون مئات الدعوات التي تصب جميعا في خانة واحدة، إلا وهي سلطة رجال الدين والقيم المتعنتة والثقافة السائدة ، لينتهي الموسم دون حصاد حضاري يذكر، فأي تنمية أو تطور وكافة الخطباء وذوي السلطة يقولون أن كل شي على ما يرام؟ فتاوانا صحيحة! عقائدنا صحيحة! أفكارنا صحيحة! نظامنا الديني، نظمانا الاجتماعي، نظامنا الثقافي، مناهج تفكيرنا جميعها صحيحة ويجب علينا فقط أن نتمسك بها لنكتسب السعادة في الدنيا قبل الآخرة!!
من هذا المنطلق الاستبدادي القهري يحظر أي تجديد، يحارب كل نشاط يهدف منه التطوير والتحديث، اعتقد بان البعض من الخطباء غير مقتنع بالعديد من الأنظمة في حياة المجتمع الدينية والاجتماعية والعقائدية ولكنه لا يستطيع نقدها والدعوة إلى تغييرها أو تصحيح مساراتها لأنه لا يستطيع مواجهة غضب العامة ومن قبلهم رجال الدين الكبار ! التقيت مع رجل دين بعد أن القي كلمة هاجم من خلالها فئة دينية أخرى. فقلت له لماذا انتقدتهم وأنت معي تمدحهم؟ فأجابني: لا يمكن أن أواجه رجل دين قوي وشبان متحمسين! هل تريدهم أن يمنعوا عني راتبي من الخمس لأموت وعائلتي جوعا؟!! موسم عاشوراء فرصة عظيمة للحوار والتقدم والعمل الاجتماعي المشترك، قضية عاشوراء من المفترض أن تجمع فرقاء الساحة الدينية والاجتماعية والثقافية والفكرية باعتبارها قضية الشعب المشتركة ، أنها مناسبة رائعة للتنمية بمختلف فروعها ، إلا أن المجتمع الجامد الخامد لا يستغلها سوى للبكاء والحزن ، وكأن الحسين قد قتل من اجل دموع تنهمر وصدور تلطم!! يبقى الفرقاء كما كانوا سابقا، كل حزب يحي المناسبة بالطرق التقليدية البالية، فلا يلتف احد للمعان العظيمة والمكاسب المهمة من هذه المناسبة ، ليخرج المجتمع كما كان عليه سابقا، مبعثرا ما بين تيارات دينية متناثرة ، ورجال دين متعارضين ،متشاحنين، تمنعهم مصالحهم الشخصية والفئوية من الاجتماع في بنية عمل مشترك تمكن الشعب من مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية كباقي الشعوب المتحضرة ،وكل ذلك من اجل المحافظة على مكتسبات ومزايا السلطة الدينية والاجتماعية التي يلوح بريقها في كل وقت وحين.
كأني بحسينية "الحضارة " تتوسط الحسينيات التي يسيطر عليها التقليديون، روادها من الرجال والنساء دون فصل عنصري بغيض ، ويمتطي المنبر خطيب يرتدي بدلة أنيقة ويخطب في المستمعين داعيا للحرية وحقوق الإنسان ، مناديا بالتطور والتنمية والتغيير، مبينا الخلل في العقائد والمفاهيم والفتاوى، ناقدا للعادات والتقاليد والقيم، حاثاَ الشعب على التحرر من سيطرة فئة قليلة حاكمة متغطرسة لا تنظر سوى لمصالحها الآنية والمستقبلية، مناديا بتخليص الحقوق الشرعية من الاحتكار،عاملا على فرز الدين مما علق فيه من الظنون وألاوهام، محولا ثورة الحسين إلى مناسبة حضارية وشعاعا سرمديا في حياة الأمة للتغير المستمر والتحديث الدائم ، منبر حسينيا ليبرالي يحرر قضية الحسين من الاستبداد ، لتكون ثورته الخالدة معالم في الطريق ونور للدرب الطويل نحو الحرية.
1- التشيع ألصفوي والتشيع العلوي ص 256