الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون}، إننا نواجه في هذه المرحلة أعداء الله وأعداء رسوله(ص) والإسلام، الذين يحاولون أن يثيروا الفتنة بين المسلمين ليكفّر المسلمون بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، كما حذّرهم رسول الله(ص)، فإننا لا نزال نعيش كل هذه التحديات التي يوجهها الكفر كله والاستكبار كله من أجل العبث بمصائر الإسلام والمسلمين واحتلال أوطانهم وتفريق صفوفهم، لذلك لا بد لنا من أن ندرس الواقع كله لنتفادى النتائج السلبية، فماذا هناك؟

أمريكا: الإيحاء بحماية العروبة والإسلام

لا يزال الرئيس بوش يطلق التجربة الفاشلة تلو التجربة، مهدداً دول المنطقة الثماني بأنّ بلدانهم سوف تواجه المزيد من الأخطار الأمنية إذا لم يساهموا في إنجاح الاستراتيجية الأمريكية في العراق مروراً بإيران وسوريا وانتهاءً بحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، محذراً من الفشل الأمريكي في الخطة الموضوعة التي يحركها المحافظون الجدد الذين يقودهم نائب الرئيس تشيني الذي كان ـ حسب المعلومات ـ يسعى في بعض زياراته العربية إلى تحريض السنّة ضد الشيعة، وفي عملية توزيع جديد لمواقع السلطة في العراق، التي تتّهم إيران بأنها تدير أوضاعها في القضايا المعقدة هناك.

إن الرئيس بوش يرسل وزيرته إلى المنطقة لتجمع أكثر من دولة عربية ليعلنوا تأييدهم المطلق لاستراتيجيته في ظلّ مناخ سياسي وعسكري واستعراض للعضلات، تهدد فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأكثر من حاملة طائرات وكتيبة الدفاع الجوي المجهّزة بصواريخ باتريوت، ما يدلل على أن الإدارة الأمريكية تقرّر ما يخدم مصالحها ثم تبيع قراراتها هذه للأنظمة العربية المعنية على أنها من أجل توطيد أمنها واستقرارها، وكأنها توحي بأن هدفها من تعبئة قواتها هو حماية العروبة والإسلام، مستغلةً السذاجة السياسية للذين لا يزالون يتصوّرون أن أمريكا هي الضمانة لأمن العرب والمسلمين، في الوقت الذي يعرف الجميع أنها هي الدولة التي تهدد أمن المنطقة كلها باحتلالها المباشر وغير المباشر، وبتحريك الفوضى البنّاءة التي تثير الفتن الطائفية والمذهبية وتمنع الحلول الواقعية للأزمات الصعبة في الصراع السياسي، كما في لبنان الذي تريده ساحة للضغط على سوريا وإيران، والتخطيط لحماية وتقوية الأمن الإسرائيلي ومحاصرة المقاومة في لبنان وفلسطين.

إنها تستولد الخطر ثم تهدّد به ضحايا احتلالها للعراق في الأقطار التي تجاوره وتعمل على إثارة الحساسيات المنسية بإغراءات السلطة والتعويض على الحرمان. ولعل تضخيم صورة الخطر الإيراني يأتي ضمن هذا السياق، وكأن إيران هي التي تملك مشروعاً خطراً لا الإدارة الأمريكية، بحيث أن البعض من هذه الأنظمة يعتبر أن أمريكا هي الأمل باستنقاذ العروبة والإسلام، حتى أننا لاحظنا في التعبئة الإعلامية في المنطقة، والتي تثير الحساسية السنيّة في مواجهة المسألة الشيعية، أن التدخل الأمريكي باحتلالاته وسياساته المدمّرة ليس هو المشكلة، بل التدخل الإيراني.

رايس: تحضيرات لحرب أهلية فلسطينية

لقد كان البعض في الساحة الفلسطينية والعربية يتصوّر أن وزيرة خارجية أمريكا يمكن أن تفتح ثغرة في جدار الحل في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفي حلّ مشكلة الفلسطينيين وتخفيف آلامهم في الحواجز التي تحاصرهم وفي الإفراج عن الأرصدة المحجوزة لدى العدو لحساب الشعب الفلسطيني، وإيقاف الاستيطان والجدار العنصري الفاصل، ولكن هذه الوزيرة باعت الجميع كلاماً وأحلاماً ووعداً في تهيئة لقاء بين رئيس السلطة ورئيس وزراء العدو، ولكنّها قامت فعلاً بخلق بعض الأجواء لتعقيد العلاقات الفلسطينية ـ الفلسطينية من أجل التحضير لحرب أهلية داخلية تقضي على البقية الباقية من الهدف الكبير في التحرير، ولم يستطع العرب الذين جمعتهم الوزيرة في الكويت أو الذين قابلتهم في مصر والأردن أن يحصلوا منها على أي أمل في مستقبل للحل الواقعي حتى على مستوى خارطة الطريق، لأنها تعودت من خلال التجربة التاريخية على لغة الخداع الكلامي.

إنّ أمريكا تبيع العرب كلاماً وهم يصفقون لها، وتمنح إسرائيل أحدث الأسلحة المتطورة بما في ذلك الأسلحة النووية لتسهيل سيطرتها على المنطقة كقوة حليفة للنفوذ الأمريكي ولكل عدوانها على الشعوب.

العراق: الاحتلال هو المسؤول

إننا نقدّم ذلك كله لشعوبنا العربية والإسلامية، ولاسيما في فلسطين، من أجل وعي عميق للخطط الموضوعة لتدمير القضية الفلسطينية في الحاضر والمستقبل، ليعرفوا كيف يواجهون الموقف بخطة وطنية مسؤولة ووحدة فلسطينية واقعية. ولا بد لنا من التأكيد على المجازر الوحشية التي يمارسها الإرهاب الخبيث، وخصوصاً التكفيري في العراق، وقد بلغ القمة في التفجير الذي أصاب الجامعة المستنصرية الذي حصد ما يقارب المائة شهيد أكثرهم من الطلاب، إضافة إلى ما يقوم به هؤلاء من اغتيال الطاقات العلمية في الجامعات العراقية، ولا ندري كيف يفكر هؤلاء وما هي أهدافهم، مما لا نجد له مثيلاً في التاريخ أو في أي بلد آخر، حتى أن الوحوش لم تصل إلى هذه الدرجة من افتراس الإنسان، طفلاً أو امرأةً أو شيخاً أو شاباً، من دون أيّ ذنب.

وإننا لا نزال نحمّل الاحتلال الأمريكي مسؤولية ما يحدث في العراق، لأنه هو السبب في كل الواقع الوحشي الذي يعانيه العراقيون في عملية امتداد للسياسة الأمريكية في الماضي والحاضر ضد العراق وأهله.

لبنان: ذهنية مغلقة لفريق السلطة

أما في لبنان، فإن الأزمة لا تزال تراوح مكانها بفعل الذهنية المغلقة التي تتميّز بها السلطة ويتحرك بها فريق من السياسيين الذين يدمنون الفوضى السياسية التي تتناغم مع المشروع الأمريكي في إثارة الفوضى في المنطقة، ولاسيما لبنان، ولذلك فإننا لم نجد أية فرصة لدراسة الحلول الواقعية التي قد يلتقي عليها اللبنانيون الذين لا يصنعون التعقيدات بطريقة وبأخرى. كما أننا نلاحظ أن هناك أكثر من صوت عربي يتحدث عن المبادرة العربية، ولكنه لا يحرّك ساكناً في إيجاد الأجواء الضاغطة على الفريق الذي ينتمي إليه أو يخضع له لتسهيل الحلّ. ولذلك فإننا نتصوّر أن البعض ممن يصنعون المتاهات الضائعة للشعب وللأمة لا يزالون يصفون المشكلة بالطريقة التي لا تنفتح فيها على حلّ. إنهم يتحدثون عن خطة الإصلاح من أجل مؤتمر باريس3، ولكنهم لا يواجهون الإصلاح لمواجهة التدمير المعيشي والاقتصادي والاجتماعي للشعب كله...

إن اللبنانيين بدأوا يدمنون الأكل غير المطبوخ للحرية والسيادة والاستقلال، ويواجهون الفقر والحرمان وفقدان الأمن باسم النظام الديمقراطي الذي لم يحقق ولن يحقق لهم أيّ حل في غياب المشاركة والتوافق والعيش السياسي المشترك. والسؤال إلى أين يسير لبنان في كل هذه الصحراء السياسية القاحلة، وكيف يواجه اللبنانيون الجوع القاتل والظمأ المحرق في أرض لا تبنت إلا الشوك ولا تزرع فيها إلا الألغام والقنابل العنقودية. إنه ليس كلام تشاؤم ولكنه مع الأسف كلام الواقع.