وجهة نظر اقتصادية - الحكومات أمام الوفاء بالتزاماتها
جواد العناني الحياة - 12/03/07//

من أهم مميزات الدول المتقدمة والتي لا تذكر عادة، الإصرار على تسديد الالتزامات بكاملها عند استحقاقها. وهكذا تستقر نظم المدفوعات في هذه الدول من دون ارباك لأحد. وعلى عكس ذلك، فإن دولاً نامية كثيرة تغض النظر عن أهمية الموضوع، ما يؤدي الى ارباك في موازنات الأفراد والأسر والمؤسسات.

ونرى في بعض الدول قدرات خارقة على ابتكار التنكيل بأصحاب الديون والأموال المستحقة على الدوائر الرسمية خصوصاً. وفي الوقت الذي تطالب هذه الدوائر المستحقة بسداد التزاماتهم نحوها سواء كانت رسوماً أو ضرائب أو غرامات، فإن هذه الدوائر تتقاعس عن سداد التزاماتها. وفي الوقت الذي يشكل عدد كبير من موازنات الاقطار العربية نسبة مرتفعة من الناتج المحلي الإجمالي قلما تقل عن 30 في المئة، وتصل الى 40 في المئة في بعض الحالات، فإن تأخر الحكومة عن سداد فواتيرها وديونها يشكل عبئاً كبيراً على قطاعات واسعة من الاقتصاد، وأهمها قطاعات المقاولات والانشاءات والتجارة والصناعة والضيافة.

وشهد بعض الدول العربية حالات واسعة من الافلاس بين صفوف المقاولين الذين أقبلوا على العروض الحكومية المغرية، وقبضوا الدفعة الأولى في وقتها، والثانية مع التأخير، والثالثة بعد تقاعس وتأخر كبيرين. وبعد انتهاء المشروع تبقى الدفعة الأخيرة التي قد تشكل ربح المقاول. وهنا يبدأ العراك والنضال والاتهامات المتبادلة بدءاً من لوائح التأخير والتقصير، والرد عليها بقوائم التغيير والتبديل في مواصفات المشروع قيد التنفيذ وإحداثياته.

وفي كل هذه الوقت يضطر المقاول الى الاقتراض من المصارف لردم الفجوه بين تدفقاته ومدفوعاته النقدية، ويُغرّم فوائد إضافية على الكفالات التي يضطر الى تمديدها، أو القروض التي عجز عن سداد أقساطها في مواعيدها المحددة. وهكذا يجد نفسه مضطراً للدخول في عرض جديد حتى يحصل على الدفعة الأولى التي يستخدمها لسداد التزاماته عن مشروع سابق. وهكذا يدخل في المشروع الجديد بعجز مالي يعطّل في النهاية أعماله.

ولا تقتصر ظاهرة التأخر في التسديد على قطاع المقاولات فحسب، وإن كان هو أبرزها، بل تنتقل الى قطاعات التجارة حيث تزود الدوائر الحكومية والرسمية بمستلزماتها المتنوعة. وهنا يكون التأخر في التسديد أكبر وأسرع دفعاً، خصوصاً ان موازنات هذه المؤسسات ليست كبيرة، ويعتمد استمرارها وربحيتها على قدرتها في تشغيل أموالها مرّات، والدخول في صفقات أكبر وتحقيق مبيعات أكثر.

وبسبب هذه الظواهر، تحصل ردود فعل كثيرة في الأسواق. وأولها ظاهرة الشيكات المرتجعة. ورأينا ان ارتفاع أسعار الفوائد أحياناً، أو تراجع قدرة الزبائن على الاقتراض من القطاع المصرفي بسبب الأخطار المتراكمة، يدفع الأفراد بخاصة للجوء الى استخدام الشيك على أنه «كمبيالة»، أو وعد بالسداد في وقت معين على أمل الفرج. واستخدام الشيك على أنه وعد بالدفع الآجل مخالف قانوناً لتعريف الشيك، وللهدف الذي من أجله اعتمدت هذه الأوراق. فهي في أساسها عملة يصدرها صاحب دفتر الشيكات وتعامل معاملة النقد الصادر عن المصرف المركزي. وعند استحقاق تاريخ صرف الشيك، يجد حامله أنه من دون رصيد كافٍ في المصرف المعني. ووصلت أحجام الشيكات المرتجعة من المصارف، والخاضعة للمساءلة القانونية، إلى أكثر من 450 مليون دينار أردني 560 مليون دولار)، وهنالك أمثلة أشد قساوة في دول عربية أخرى.

ومن ردود الفعل على تقاعس الحكومة في تسديد التزاماتها، أن أصحاب الأقساط المستحقة على الحكومة ينقلون عبئهم المالي الناتج من عدم سداد الحكومة مستحقاتها الى المدينين الآخرين، تنتج منها سلسلة من الآثار المتناقضة قد يؤثر استمرارها في الاقتصاد كله. وتؤثر هذه الاختلالات في الحكومة ذاتها على رغم ما تتمتع به من قوة القانون، واستخدام وسائل التوقف عن تقديم الخدمات حتى سداد حقوقها فتقع فريسة هذه المظاهر، وتتراجع إراداتها.