ابن تيمية أكبر منظّر للاستبداد في التاريخ الاسلامي
ابن تيمية يؤيد نظرية القهر و الغلبة
من المعروف ان الفكر السياسي الاسلامي عموما انقسم ، منذ العصر الأول ، الى مدرستين رئيسيتين هما المدرسة السنية التي تقول بالشورى والمدرسة الشيعية (الامامية) التي تقول بالنص والتعيين ، حيث قالت المدرسة السنية ، بصورة عامة ، بنظرية الشورى في الحكم ، و عدم تعيين الرسول الأعظم محمد (ص) لأي خليفة من بعده بالنص ، خلافا للمدرسة الامامية التي قالت بأن النبي قد عين خليفته من بعده ، و أنه قد حصر الخلافة في أهل البيت. و تبعا لذلك فقد آمنت المدرسة السنية بشرعية خلافة ابي بكر و عمر و عثمان و علي ، عن طريق البيعة و الانتخاب بالصور المختلفة التي تمت بها .
وبغض النظر عن تحول الخلافة في العهدين الأموي و العباسي الى نظام وراثي قائم على القوة ، الا ان المتكلمين السنة ظلوا يتحدثون عن البيعة و الشورى كأساس لشرعية النظام ، كما فعل الأشعري في (الإبانة) والباقلاني في (تمهيد الاوائل): حيث قال " انما يصير الامام إماما بعقد من يعقد له الامامة من أفاضل المسلمين الذين هم أهل الحل والعقد المؤتمنين على هذا الشأن " .
ومع ان بيعة أهل الحل و العقد و أفاضل المسلمين لم تكن دائما تمثل عموم المسلمين ، الا انها كانت تلبي ، بدرجة ما ، طموح أصحاب نظرية الشورى و الراغبين بقيام الحكم الاسلامي على أساس من الشرعية الدستورية المبنية على الانتخاب و الشورى و رضا الأمة ، و ليس القوة و القهر و الغلبة. ولكن هذه الرغبة تراجعت قليلا ، في القرن الثالث الهجري مع الامام أحمد بن حنبل الذي اشتهر عنه القول:" بأن من غلبهم صار خليفة و سُمّيَ اميرَ المؤمنين ، ولا يحل لأحد يؤمن الله واليوم الآخر أن يبيت و لا يراه اماماً عليه ، براً كان أو فاجراً ، فهو أمير المؤمنين ". ثم جاء أبو يوسف الماوردي ، في القرن الخامس الهجري ، ليقبل في (الأحكام السلطانية) إمارة الاضطرار والاستيلاء ، الى جانب عملية العهد من الامام السابق الى اللاحق ، و اختيار أهل الحل والعقد.
ولكن الفكر السياسي الاسلامي عاد فارتقى من جديد الى روح الشورى ، مع الفقيه الحنبلي أبي يعلى (458هـ) الذي رفض عقد الخلافة الا ببيعة جمهور أهل الحل والعقد ، و رفض إمامة المعهود اليه الا بانعقادها بعد موت العاهد باختيار أهل الوقت. و فسر قول الامام أحمد (من غلبهم بالسيف صار خليفة) أنه أراد غلبة نظرائه ممن يطلب الأمر ، فاذا غلبهم فبايعه الناس بعد ذلك صار خليفة ، و لم يرد به أنه يصير بنفس الغلبة خليفة.
ثم أصبح الفكر السياسي الاسلامي (السني) أكثر واقعية و انعكاسا لطبيعة الانظمة القائمة ، عندما أخذ الفقهاء يعترفون بصراحة بشرعية الطريق الثالث القائم على القوة والقهر و الغلبة ، الى جانب أختيار أهل الحل والعقد و ولاية العهد ، حيث اعترف الجويني في كتابه (الغياثى) بإمكانية غياب الامام الحق ، و قرر امامة المستولي غير المستجمع للشروط ما دام متغلبا و مستبدا بالسلطة، وسماه (والياً) و اشترط عليه مراجعة العلماء. وقال ابن قدامة (630هـ) في (الكافي – كتاب أهل البغي ) :" كل من ثبتت امامته حرم الخروج عليه وقتاله سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه كإمامة أبي بكر الصديق أو بعهد الامام الذي قبله كعهد أبي بكر الى عمر ، أو بقهره للناس حتى أذعنوا له و دعوه اماماً كعبد الملك بن مروان". وأقر يحيى بن شرف النووي (677هـ) في (منهاج الطالبين) و (روضة الطالبين) : القهر و الغلبة كوسيلة مشروعة للاستيلاء على السلطة ، حيث قال بصراحة:" تنعقد الامامة بثلاثة طرق ... البيعة.. واستخلاف الامام من قبل و عهده اليه .. و أما الطريق الثالث : فهو القهر والاستيلاء ، فاذا مات الامام فتصدى للامامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة ، وقهر الناس بشوكته وجنوده انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين ، فان لم يكن جامعا للشرائط بأن يكون فاسقا أو جاهلا فوجهان: أصحهما انعقاده لما ذكرناه و ان كان عاصيا بفعله".
و هكذا قال البناني ، (1194هـ) ، المعاصر للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، في (حاشية البناني على شرح الزرقاني) : " اعلم أن الامامة تثبت بأحد أمور ثلاثة: اما بيعة أهل الحل و العقد ، واما بعهد الامام الذي قبله ، و اما بتغلبه على الناس ، و حينئذ فلا يشترط فيه شرط ، لأن من اشتدت على الناس وطأته وجبت طاعته".
بل ان فقيها مثل (ابن عابدين ) اعتبر الامامة مقرونة بالقوة و دائرة مدارها ، و سلب الشرعية من الامام الذي يبايعه الناس و لا يملك القوة ، وقال : " يصير (الامام) اماماً بالتغلب و نفاذ الحكم و القهر بدون مبايعة ، او استخلاف ، فان بايعه الناس ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه لا يصير اماماً ".
نظرية ابن تيمية السياسية
في هذا السياق من تدهور الفكر السياسي الاسلامي و اعترافه بالأمر الواقع ، أو إضفاء نوع من الشرعية عليه ، و الاستسلام لنظرية القوة والقهر و الغلبة ، و الإبتعاد عن نظرية الشورى ، جاء الشيخ أحمد بن تيمية ، الذي قام بمراجعة شاملة للفكر الاسلامي ، و دخل في مجادلات صاخبة مع جميع التيارات و المدارس و الفرق الاسلامية المختلفة ، و انتقد كثيرا من الظواهر السلبية في المجتمع الاسلامي ، فنظر الى المشكلة السياسية من زاوية انسجام الحكام مع الشريعة الاسلامية أو عدم انسجامهم ، وطرح نظرية التوحيد في الألوهية ، أي عبادة الله وحده لا شريك له ، تلك العبادة التي لا تتحقق الا باتباع الشريعة الالهية . وعلى رغم اقتضاء تلك النظرية للحديث بتفصيل عن العدالة في الحكم و شروط الحاكم و صفاته و كيفية وصوله الى السلطة بطرق شرعية ، الا إن الشيخ ابن تيمية لم يبحث مشكلة السلطة من ناحية طرق الحصول عليها ، ولم يجد أية ضرورة لبحث موضوع الشورى و اشتراط مجيء الحكام عبر أهل الحل والعقد ، أو حصولهم على رضا الأمة .
وقدم ابن تيمية نظرة واقعية الى موضوع السلطة شبيهة بنظرة المؤرخ الاجتماعي ابن خلدون ، إذ فصل مختلف الانظمة السياسية التي مرت على العالم الاسلامي ، عن خلافة النبوة ، التي قال انها استمرت ثلاثين سنة فقط ، و انها اختلطت بعد ذلك بالملك او تحولت الى ملك خالص . و اعتمد ابن تيمية في تحليله التاريخي لمسألة السلطة على حديث منسوب الى الرسول الأعظم يقول فيه:
"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها اذا شاء أن يرفعها.
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها اذا شاء الله أن يرفعها.
ثم تكون ملكاً عضوضا فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها اذا شاء الله أن يرفعها.
ثم تكون ملكاً جبريا ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها اذا شاء أن يرفعها.
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ثم سكت.
وقال ابن تيمية : " ان شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا ، ومعاوية قد شابها الملك ، وليس هذا قادحا في خلافته" وإن " انتقال الأمر عن خلافة النبوة الى الملك إما ان يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة ، أو اجتهاد سائغ ، أو مع القدرة على ذلك علماً وعملاً ، فان كان مع العجز كان ذو الملك معذوراً في ذلك... وان كان مع القدرة علما وعملا ، وقدّر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة و ان اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا ، فهذا التقدير اذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا". [12]
و بينما كانت الخلافة عند عامة العلماء من أهل السنة اما صحيحة و اما باطلة ولا توسط بينهما ، وان معيار الامامة الشرعية هو من جهة انعقادها أو توليتها ، لم يذكر ابن تيمية في (السياسة الشرعية) مسألة تنصيب الامام ، لأن الخلافة الراشدة انتهت في نظره خلال السنوات الثلاثين الاولى بعد وفاة الرسول الأعظم ، ولن تعود ثانية ، و أنها كانت تستند الى نصوص ولم تقم على أساس الشورى.
إضافة الى أنه كان يعتقد ان امامة الراشدين ذاتها كانت قائمة على الغلبة و السيطرة ، إذ يقول : إن " الامام هو من يقتدى به ، وصاحب يد وسيف يطاع طوعا وكرها... و هذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين".[13] ويقول: " إن الامام الذي يطاع هو من كان له سلطان ، سواء كان عادلاً أو ظالما". [14]
وقد توصل ابن تيمية من خلال ذلك التحليل الى جواز قيام الأنظمة السياسية على أساس القوة والقهر و الغلبة ، و قال: ان الامامة " تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ، و لا يصير الرجل اماما حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الامامة ، فان المقصود من الامامة انما يحصل بالقدرة و السلطان... و أما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة ، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين ، و قد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين".[15]
لقد كان ابن تيمية يعتقد ان الامامة تقوم على أساسين هما: (القوة والأمانة) بناء على نصوص قرآنية و رد فيها ذكر القوة قبل الأمانة مثل قوله تعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين) وقول صاحب مصر ليوسف (ع): (انك اليوم لدينا مكين أمين) و قول أحمد ابن حنبل : ( أما الفاجر القوي ، فقوته للمسلمين ، و فجوره على نفسه ، و أما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه و ضعفه على المسلمين). ومن هنا فقد جمع ابن تيمية صفات الولاية في صفتين رئيسيتين هما القوة و الأمانة ، وقد اختلف في هذا عن فقهاء أهل السنة و غيرهم من الذين اشترطوا صفات عديدة في الامام أو عينوا طرقا محددة لتولي السلطة ، حيث كانت القوة عنده أهم وأكثر ضرورة ولا بد منها ، و الأمانة تابع للقدرة ، فهي حينئذ مكملة لها أو هي التي تضفي عليها المثالية ، و بتعبير آخر فان القدرة هي أساس الولاية الواقعي ، بينما الامانة هي مطلوب الولاية الشرعي.
و بعد القبول بفلسفة القوة في السلطة كان لا بد من التراجع عن كثير من الأمور المثالية والشروط التي ذكرها العلماء السنة السابقون و أكدتها أحاديث نبوية عديدة ، تتعلق بصفات الحاكم الاسلامي ، مثل شرط "القرشية" الوارد في بعض الأحاديث النبوية مثل: (الامامة في قريش) أو ( ان هذا الأمر لقريش ما أقاموا الدين) ، و الذي دأب أهل السنة والحديث ، و خصوصا الحنابلة ، على الالتزام به ، وكذلك التقوى و العدالة والعلم و الكفاءة ورضا الامة أو بيعة أهل الحل والعقد.
وربما كان تخلي ابن تيمية عن مبدأ الشورى في الحكم ، يعود الى النظرة السلبية التي كان ينظر من خلالها الى (الأمة الاسلامية) بعد أن قال بانحرافها و تدهورها و ضلال معظم فرقها و طوائفها ، وبغربة الاسلام فيها ، استنادا الى بعض الاحاديث التي تتحدث عن (غربة الاسلام) وعن أفضلية القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. فقد كان ابن تيمية يعتقد أن الأمة الاسلامية ليست كلها على الحق ولا هي مضمونة النجاة ، و انما بعض منها وهم (أهل الحديث) الذين كانوا يشكلون (الفرقة الناجية).[16] و يقول:" ان الله لم يكن ليجمع هذه الأمة على ضلالة ، و إنه لا يزال فيها طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم و لا من خذلهم ، و لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعة الله".[17]
و من المعروف ان ابن تيمية قد أخرج معظم طوائف الأمة و فرقها حتى الأشاعرة (السنة) من أهل الحق. ولم يكن مفهوم (الأمة) عنده بالمعنى المعروف المتبادر ، أي الجماعة الشاملة التي تتخذ الاسلام دينا لها ، بكل فرقها ، وكما تكونت وتطورت في الواقع التاريخي ، بل كان معنى (الأمة) عنده هي: (الجماعة الجزئية ) وهي : (أهل الحديث) أو (أهل الحديث والقرآن) أو (أهل السنة والجماعة) كما يسميهم.[18]
وبما أن (أهل الحديث) ، أو (أهل الحق) لا يشكلون - بالضرورة - الأغلبية دائما ، وخاصة في زمان "اغتراب الاسلام" فقد كان من المستحيل ان يحتكم ابن تيمية الى الشورى و الأغلبية أو يشترط حصول الامام على رضا الامة ، وكان من الطبيعي ان يميل الى نظرية القهر والغلبة ، و يضفي نوعا من الشرعية على حكومات الأمر الواقع ، بغض الطرف عن الطريقة التي استولت فيها على السلطة.
أحب في الله من يبغضني في الله