التدخل الايراني يؤسس للتبعية الناعمة
التغلغل الايراني شامل والبضاعة الايرانية من الطماطم الى الكهرباء تتدفق على العراق
واشنطن-بغداد-الملف برس:
برغم إنكار أطرف سياسية شيعية عدّة، وبرغم إصرار بعض التيارات الدينية "الشيعيةطبعاً" على السخرية ممّن يدعو إلى رفض مظاهر "التفريس" في الجنوب العراقي، ومظاهر التدخل في شؤونه الاقتصادية، وشؤونه الأمنية، وشؤونه السياسية، وشؤونه الطقوسية، ومنهم من يتحدث عن تدخل في شؤونه الطوبوغرافية أي السكانية. فإن الحقيقة تكاد تنطق بألف لسان ولسان. وسواء أكان هذا الرفض صادراً من أطراف "سنية" تـُتـّهم بالطائفية، أو من أطراف "شيعية" تتـّهم بالعلمنة أوبأنها "جحوش سنية" تماماً كما كان الأكراد يسمّون "فرق فرسانهم" المتعاونين مع نظام الرئيس السابق صدام حسين. فإنّ مؤشرات كثيرة ومهمة تعرضها –صحيفة النيويورك تايمز- عن لعب إيران دوراً متنامياً في التدخل بشؤون العراق الاقتصادية، يجب أنْ يدفع العراقيين إلى القلق على مستقبلهم برغم كل مظاهر "الخدمة" التي تكتنف طبيعة الازدهار التجاري بين العراق وإيران ولكن لرحلات الـ "one way" بلغة المطارات.
ومن العراق، بل ومن النجف تحديداً، كتب "إدورد ونغ" مراسل صحيفة "النيويورك تايمز" يقول: بينما تعمل إدارة بوش على إيقاف إيران من التدخل في اقتصاد العراق، فإنّ "مكيِّفات الهواء" تملأ مخازن عراقية عدّة، وإنـّك لترى "نوعاً من الطماطم الإيرانية الناضجة" على أعتاب مطابخ أهل النجف، وألوف من سيارات "البيجو" البيضاء الإيرانية الصنع مرصوفة في مداخل البيوت.
بنك إيراني في بغداد
إنّ بعض مدن العراق –يقول ونغ- بضمنها البصرة، المركز الجنوبي للنفط، تشتري أو تخطط لتشتري الكهرباء من إيران. وتعتمد الحكومة العراقية على الشركات الإيرانية في جلب الكازولين "النفط الأبيض" من تركمانستان، لتخفيف نقص حادٍّ. وفي الوقت الحاضر يراجع مسؤولون عراقيون طلباً رسمياً مقدّماً من إيران لفتح فرع لبنك إيراني في بغداد، وقد عرضت إيران تقديم قرض للعراق مقداره 1 بليون دورلار.
ويتـّجه الى التكامل – كما يقول مراسل صحيفة النيويورك تايمز- كلا الأقتصادين في إيران والعراق، البلدين ذويْ الأكثرية الشيعية من السكان، بإغراق الأسواق العراقية بالسلع والبضائع الإيرانية، وبتطلع المدن العراقية التي تتصاعد احتياجاتها الى تزايد الخدمات الأساسية إلى إيران. وبعد اقتتال البلدين في حرب مدمّرة طوال السنوات من 1980 الى 1988، كان صدام حسين يفرض رقابة مشددة على التجارة الحدودية، لكنّ وتيرة التجارة تصاعدت بحدة وانفجرب منذ غزو 2003 الذي قادته الولايات المتحدة.
برهم صالح: روابط غير متوازنة
وهذا يعني أنّ معظم المال يتـّجه في منحى واحد، ومع ذلك فإنّ العراق يصبح معتمداً على الاستيرادات، لإن الصناعات العراقية قد دمّرت بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة في التسعينات من القرن الماضي، وتـُدّمر الآن بأشكال العنف الطائفي. من جانب آخر تلكأت مشاريع الأمن وإعادة البناء حتى الآن، الأمر الذي دفع العراقيين البسطاء الى الفرح بالبضائع الرخيصة القادمة من إيران، ومن دول مجاورة أخرى، ومثل هذه البضائع تشكل مصدر راحة وحيدة في حياتهم اليومية.
ونقلت الصحيفة عن "برهم صالح" نائب رئيس الوزراء العراقي للشؤون المالية قوله: "ما يحدث في العراق في هذه اللحظة هو المزيد من التجارة، ولكنها غالباً تجارة باتجاه واحد، أي الاستيراد". أما بشأن الروابط الاقتصادية مع إيران وغيرها، وتجارة النفط العراقي معها –يؤكد صالح-: "هناك الكثير من عدم التوازن في هذه المسألة".
ويقول مراسل "النيويورك تايمز" إن الزعماء العراقيين من كتلة الشيعة ممن هم في السلطة حالياً، يؤكدون أنّ الروابط السياسية والاقتصادية مع إيران، التي يحكمها الشيعة الفرس، ستقوى حتماً. وكعوامل دافعة، فإنهم يستشهدون بما يسمّونه "عداوة" الدول العربية السنية للعراق، وازدواجية البيت الأبيض نحو الأطراف الشيعية المؤمنة هنا.
العسكري: إيران هي المعين الوحيد!
ونسبت الصحيفة إلى سامي العسكري، عضو البرلمان الشيعي ومستشار رئيس الوزراء نوري المالكي، وهو نفسه –أي العسكري- ذو علاقات وطيدة مع إيران، قوله: "إذا لم يشعر الشيعة بأنهم محميون. وإذا لا يشعرون بما ينجزونه، فإنهم لا يستطيعون البقاء. إن معظم أعضاء القيادة في البلد يجب أنْ تعمل مع إيران". وأضاف: "العرب والأميركان يقولون إنّ إيران سيئة، لكنها المعين الوحيد لنا".
وطبقاً لواحدة من الإحصائيات التي يـُستشد بها دائماً، فإنّ التجارة بين العراق وإيران، تنمو بأكثر من 30 بالمائة في السنة منذ سنة الغزو 2003. أما المسؤولون الأميركان في العراق، فيقولون: ليس هناك أرقام دقيقة متوفرة، والسبب أنّ إيران ترفض الكشف عن الاحصائيات الرسمية الكاملة. وترينا الاحصائيات الاميركية في القسم الاقتصادي الخاص في السفارة الأميركية، أنّ البضائع والسلع السورية تشكل 22 بالمائة من استيرادات العراق في سنة 2005. وتركيا 21 بالمائة. أما إيران، التي لها أطول خط حدودي مع العراق، فإن بضائعها تقل عن ذلك بكثير. هذا ما تحدث به مسؤولون في السفارة الأميركية. ويذكر كتاب حقائق عالمي أصدرته الـمخابرات المركزية الأميركية CIA يخمّن المجموع الكلي للواردات العراقية في سنة 2006 وحدها بـ 20.8 بليون دولار.
زيباري: أصدرنا أوامر مقيِّدة
وقد أباحت إيران "تقول النيويورك تايمز" بالقليل من إحصائيات التجارة. وكانت طهران قد أخبرت حكومة إقليم كردستان في شمال العراق، أنّ التجارة مع الإقليم تصاعدت الى أكثر من 1 بليون دولار في سنة 2006، هذا ما كشفه للصحيفة "حسن باكي" رئيس غرفة التجارة الكردية في السليمانية. ونقلت الصحيفة عن "هوشيار زيباري"، وزير الخارجية العراقي، وهو من الأكراد تأكيده أنّ الحكومات الإقليمية تـُجري تعاملاتها التجارية الخاصة مع المؤسسات الإيرانية، لكنه مؤخراً بدأ بإصدار أوامر الى هذه الاقاليم بأنْ تتم هذه التعاملات التجارية من خلال وزارة الخارجية. وقال "زيباري": لدينا عدد من الاتفاقيات مع ايران بشأن الطاقة، التجارة، النفط، زوار العتبات المقدسة؛ وهي مهمة جداً لكلا الطرفين.
أمول إيرانية ضخمة تخدم العراقيين
ويعلـِّق مراسل الصحيفة على هذا الكلام قائلاً: هنا في قلب الوسط الشيعي في الجنوب، ربح العراقيون بشكل رائع من الروابط الاقتصادية مع ايران. وأكد أنّ هذه المسألة تلاحظ بشكل واضح في المدن المقدسة كالنجف وكربلاء، حيث تجتذب الأضرحة الإيرانيين. فالزائرون بالألوف شهرياً. وفي هاتين المدينتين مقارٌ أو "أماكن إقامة" عدد من علماء الشيعة الكبار المبجلين، كآية الله السيد علي السيستاني، الذي تصله أموال ضخمة من دافعي "الخمس" عن طريق مكاتب شيعية في إيران. تلك الأموال تنتهي أيضاً الى الاقتصاد المحلي.
وأكد محافظ النجف " أسعد أبو كلل" لصحيفة "النيويورك تايمز" أن الحكومة الإيرانية تمنح مدينة النجف 20 مليون دولار كل سنة، لبناء وتحسين مرافق الخدمة السياحية للزوار. فيما قال "ابو جلال" عضو المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وهو أحد التنظيمات السياسية المتنفذة، أسسه الشيعة العراقيون في إيران،: إن كربلاء تحصل تقريباً على 3 مليون دولار في السنة. بالإضافة الى أن كل زائر إيراني يصرف ما معدله ألف دولار على نفقات الفندق والطعام و"سلع تذكارية" يشتريها الزائرمن الأسواق المحلية.
ويخمّن مسؤولو السياحة في المحافظات أن أكثر من 22 ألف زائر إيراني يحجون الى النجف كل شهر، وهناك في الأقل 10 آلاف يسافرون الى كربلاء، وغالبيتهم يجيئون في رحلات منظمة. كما أنّ المسؤولين في المحافظتين يودون أنْ يروا زواراً أكثر، لكنهم يقولون إنّ العديد منهم مع الأسف يواجهون مشاكل تقييدات منح الفيزا، إضافة الى قلق آخرين من الوضع الأمني. وقال محافظ النجف: "نحن يجب أن نزيد عدد الزوار الإيرانيين".
من ألغى صفقة مطار النجف
ونسبت صحيفة "النيويورك تايمز" الى مسؤولين عراقيين قولهم إنّ الروابط الحميمة مع ايران في الجنوب، تتعرّض غالباً لتفحص شديد من قبل أجهزة الولايات المتحدة الرقابية. كما يقول مسؤولون في المجلس الأعلى إنّ واحدة من نقاط التعاون أنّ محافظة النجف تقترب من التعاقد من شركة إيرانية لبناء مطار في المدينة، لكنّ الصفقة أحرقت في اللحظة الأخيرة من قبل وزارة النقل في بغداد، ويشك المسؤولون في المجلس أنّ الولايات المتحدة هي التي ضغطت على الوزارة.
وطبقاً للصحيفة فإنّ "أبو كلل" قال إن الأميركان لا يريدون جلب الإيرانيين الى النجف، ويريدون أن يتحكـموا حتى بالسماء. وأكد مراسل "النيويورك تايمز" أنّ أحد المسؤولين الأميركان رفيعي الشأن في بغداد رفض التعليق –بشكل خاص- على مشروع مطار النجف، لكنه قال إنّ الأميركان ينظرون بعناية الى التبادل التجاري مع إيران، وقال: "نحن منتبهون جدا لهذا الجانب". وأضاف: "نحن لا نريد الناس تعمل لدى المخابرات الإيرانية، ليمنحوهم صفقات تجارية للعمل هنا في العراق".
إنّ التوترات بين الولايات المتحدة وإيران –تقول الصحيفة- تزايدت بشكل هائل في الشهور الأخيرة. إنّ البيت الأبيض الأميركي الذي يعتقد أنّ إيران التي تريد أن تطوّر أسلحتها النووية، يحرّضُ الأمم المتحدة على فرض عقوبات قاسية ضدها. وهو يتهمها إيران ايضاً بتصدير متفجرات قاتلة الى الميليشيات الشيعية في العراق. لكنّ المسؤول الأميركي رفيع الشأن في بغداد، الذي رفض الكشف عن اسمه بحكم محددات البروتوكول الدبلوماسي، أكد أنّ نمو التجارة بين العراق وبين ايران هو عموماً إيجابي. وقال: "أنا لا أربط ارتفاع نسبة التعامل التجاري مع ايران بالنفوذ الإيراني السياسي". وأضاف" طالما هو نشاط اقتصادي بحت، ولا يـُعقد الوضع الأمني في العراق، فهو خطوة جيدة". وفي حديثه عن الزعماء الشيعة العراقيين، قال" "أعتقد هناك القليل من الميل نحو الإيرانيين، والتعامل معهم. لإن عدداً من هؤلاء الأشخاص يعدّون إيران –قليلاً أو كثيراً- أطاراً مرجعياً. أعتقد أنّ هذا الأمر يجب يكون مقبولاً لدينا".
"النور" قادم من إيران!!
ونقلت الصحيفة عن "كريم وحيد" وزير الكهرباء قوله: إن المدن الحدودية انعطفت الى إيران بحثاً عن المساعدة في تخفيف العجز المزمن في الطاقة الكهربائية. وإذا ما انتهينا من إعادة استبدال الأسلاك التالفة بحلول موسم الصيف المقبل، فإن البصرة وهي ثاني أكبر محافظة في العراق، سوف تكون عاجلاً مهيأة لسحب 250 ميكاواط من الطاقة الكهربائية من إيران بسعر 5.2 سنت لكل كيلوواط في الساعة.
وقال إن محافظة ديالى، التي تجاور شرق إيران وشمال بغداد، تستورد في الوقت الحاضر 120 ميكاواط بسعر 5.4 سنت لكل كيلوواط في الساعة. من جانب آخر أكد مسؤول كردي لمراسل "النيويورك تايمز" أن "حلبجة" المدينة الكردية، تنفق 1.8 مليون دولار لتطوير بنيتها التحتية، لاستيراد الطاقة الكهربائية من ايران لكنها لم تبدأ باستلام الطاقة حتى الان.
وأكد محافظ البصرة "محمد الوالي" أن البضائع الإيرانية قد انتشرت في جميع انحاء العراق. فسيارات "البيجو" البيضاء التي تنتجها المصانع الإيرانية تباع في كل مكان من العراق منذ عام 2005. وفي الجنوب البعيد تستورد البصرة ما قيمته 45 مليون دولار من السلع والبضائع الإيرانية كل سنة، وبضمنها مختلف أنواع السجاد، وآلات البناء ومعداته، حتى السمك والتوابل. وكل يوم يمر –تقول الصحيفة- فإنّ 100 الى 150 شاحنة تجارية تصل من إيران الى العراق عن طريق معبر "الشلامجة".
شعبية لـ "الهواء" الإيراني!
وفي مدينة بغداد، هناك أكوام من أجهزة التكييف الإيرانية بعلامات مثل "سونا" و"جيهان" وأسان" و"كازار" مرصوفة الى جانب أجهزة التلفزيون الصينية الصنع في المخازن أو خارجها على الأرصفة. إن المكيفات الإيرانية الزرقاء والبيضاء، المصنعة للعمل بقدرة الطاقة الكهربائية لمولدة عادية – يقول مراسل الصحيفة الأميركية- لها شعبية كبيرة بين العراقيين، الجائعين الى "النور". وكلفة الواحدة من هذه المولدات تبلغ ما قيمته 60 الى 140 دولار، وهي لم تصل الى الأسواق العراقية إلا بعد سقوط نظام الرئيس صدام.
ويضيف: رأيت محمود أبو أمير، صاحب محل يسمّى "ماسة الخليج" جالساً وراء منضدته يحتسي شاياً معطراً، وفي تلك العصرية البغدادية كان الحمالون يفرغون شحنة من المكيفات الإيرانية. أخبرني ابو أمير أنه يمتلك 2000 جهاز في مخزنه، وأضاف: "إنّ تكاليف النقل من ايران الى العراق، زهيدة وهي بالطبع أرخص فيما لو استوردناها من الصين".
الكتب والعلاج الإيراني "منقذان"!
أما الكتب التي تصدر من دور نشر إيرانية فهي تملأ رفوف المكتبات على امتداد العراق. وهي من حيث السعر أرخص، لإن الحكومة الإيرانية تدعم كلف الطباعة بما لا يقل عن 60 بالمائة من كلفتها، هذا ما أكده "صفاء داوود سلمان" مالك مكتبة صغيرة في شارع المتنبي الشهير، الذي أحرقته بالكامل متفجرات سيارة ملغومة في الخامس من آذار. وقالت "شيماء 29 سنة" بينما كانت تسلم حوالي 10 آلاف دينار –ما يساوي 8 دولارات الى "سلمان" ثمناً لكتاب سميك الغلاف عن تعاليم الرسول محمد (ص): هذه الكتب رخيصة جداً، وأنا أريد شراء ثلاثة كتب اخرى من هذه المجموعة عندما اجمع المال الكافي لشرائها.
وتنتهي الصحيفة الى موضوع غاية في الأهمية قائلة: إن العراقيين يواجهون عجزاً كبيراً في الأطباء، ذلك لأن العديد منهم هربوا من البلد، ولهذا فإنّ العراقيين يتوجهون بشكل متزايد الى ايران لتلقي العلاج والرعاية الصحية. العراقيون يديرون فنادق في طهران تؤوي القادمين المرضى، ومن العراقيين من يعرف اللغة الفارسية او شيئا منها أو أنهم يستخدمون مترجمين لقاء خمسة دولارات يومياً.
وتقول واحدة من سكان بغداد واسمها "افراح" أنّ أمها اقتربت من حالة العمى، لهذا فإن عائلتها طارت بها الى طهران، وهناك أجرت عملية جراحية لإصلاح شبكة عينيها المحطمتين. وتلقت أم "افراح" علاجاً أنهى مشكلتها مع العمى. وبعدها زاروا مدينة قم، المقدسة بالنسبة للشيعة. إن رحلة الشهر الى ايران كلـّفت العائلة ما لايزيد عن 6000 دولار. وقالت "أفراح 47 سنة": لنا أصدقاء ذهبوا الى هناك وأجري لمريضهم عملية ناجحة، وهذا بالطبع يشجعنا للذهاب الى إيران. لم تسمح "افراح" إلا بأنْ تعطيني اسمها الأول لإنها تخشى من المشاكل الامنية. وختمت حديثها لمراسل صحيفة "النيويورك تايمز" قائلة: "كنا مرتاحين جدا، ورأينا عراقيين كثيرين جداً هناك".