العراق : منافع الخطة «ب» - جابر حبيب جابر
خطة المرشح الرئاسي جو بايدن، والسناتور كارل ليفن، حول سحب القوات الامريكية بحلول اذار المقبل مع الإبقاء على قوة صغيرة، تحمل العديد من اوجه الشبه مع الخطة «ب» التي قيل ان البنتاغون قد اعدها في حالة فشل الاستراتيجية الحالية، وهي الخطة التي باتت تعرف بخيار السلفادور التي اعتمدت هناك خلال الثمانينات، وأديرت بعدد قليل من المستشارين الأمريكان، وحققت نجاحات لجهة ايجاد جيش محترف ودحر التمرد. الا ان هناك اتفاقا على اعطاء الخطة الراهنة فرصة لاختبار نفسها، وشبه اجماع على انها الخطة الاخيرة التي تقوم على مزيد من الانغماس النوعي والكمي في المشكلة العراقية.
الا ان السؤال هو، هل أعد العراقيون خطتهم البديلة، وهل بدأوا التفكير بوضع سياسي لا تكون الولايات المتحدة فيه منغمسة بشؤونهم الى الحد الذي تبدو عليه الآن ؟. لا يعني التفكير بالبديل التخلي عن الخيار القائم، بل الاعداد لاحتمال ان لا ينتهي هذا الخيار الى نتيجته المرجوة، ثم ان التفكير بالبدائل قد يساعد على ادراك حلول كانت مستبعدة لمجرد انها غير مفكر بها.
ان الجدل السياسي الامريكي الداخلي يجري اليوم بين اغلبية سياسية وشعبية رافضة للانغماس بالشأن العراقي ويقودها نوعان من الديمقراطيين، هما: ديمقراطيو الوسط ويمكن ان نضم اليهم معظم المرشحين البارزين للانتخابات الرئاسية كـ«هيلاري كلنتون وجون ادواردز وجو بايدن» بالاضافة الى نانسي بيلوزي نفسها، وهم يبحثون عن مخرج يتمتع باكبر درجة ممكنة من «العقلانية».. وديمقراطيو اليسار وهم يعتبرون ان الحرب لم تكن عقلانية اصلا، والخيار العقلاني هو بالانسحاب السريع، و«أفضل طريقة لعدم التخلي عن العراقيين هي بالتخلي عنهم»، اقتباسا لعبارة إحدى المقالات الأكثر تطرفا في تأييد خيار الانسحاب.
وبين خيار الاندفاع والبقاء المفتوح الذي يتبناه اليمين الجمهوري والادارة الحالية، وبين خيار الانسحاب السريع الذي يتبناه اليسار الليبرالي، يتم إنضاج الافكار عن خيار وسطي، ربما ستثمر عنه تفاعلات المشروع الجديد الذي سيطرحه الديمقراطيون على الكونغرس. الا انه، وبأي حال من الاحوال، على السياسيين العراقيين ان يدركوا ان تعويلا مطلقا على ما يمكن ان تنتجه الحلول الامريكية لمعالجة اخطاء، كثير منها امريكية، ليس تعويلا في محله، وان عليهم ان يؤسسوا خياراتهم الخاصة لزمن لا يكون الأمريكيون فيه الرقم الحاسم.
ان خيار عدم البقاء وعدم الرحيل هو خيار الخطة «ب» بالنسبة للامريكيين، على الاقل وفق المؤشرات الاولية الظاهرة، وبموجبه ستبتعد القوات الامريكية عن نقاط المواجهة وتنكفئ الى مناطق آمنة لتلعب دورا احتوائيا عن طريق منع انتشار الصراع الى الاقليم او التحكم بهذا الانتشار، او منع تمدد الاقليم اكثر نحو الصراعات او التحكم بهذا التمدد، من اجل عدم التسبب بخلخلة غير محسوبة للاوضاع الجيوسياسية في المنطقة، ومن اجل حماية موارد الثروة النفطية لمنع التحكم بها من قبل حكومة غير موثوقة بالنسبة للامريكيين ومن قبل الميليشيات والجماعات المسلحة، وفي حالة ضمان هذين الهدفين يفترض ان يتم تقديم الدعم اللوجستي والتدريب والاسناد للقوات الحكومية في صراعها الذي يبدو طويلا مع «الارهاب».
سيحقق هذا الخيار نوعا من السلام الداخلي المؤقت في الولايات المتحدة، لأنه يفترض الاقتران بتخفيض تدريجي لعدد القوات الامريكية في العراق، وهو ما يخدم مسعى الديمقراطيين، ويحافظ على قرب الولايات المتحدة من نقاط التوتر ويمدها بمرونة كافية لتحديد حجم انخراطها في القضايا العراقية، وما لا يقل اهمية هو فرصة ان يقلل هذا الخيار من أعداد القتلى الامريكيين، لان القوات ستمكث في مناطق محصنة وسيكون دورها رادعا في الغالب، اي ان تكون اهميتها الاساسية مستمدة من مجرد الوجود.
ما يمكن ان يفعله العراقيون هو استثمار هذا التحول والتكيف معه، بل والسعي لجعله متكيف مع خياراتهم. لأنه ليس من مصلحة الحكومة العراقية الارتماء تماما وراء خيارات الاقلية الجمهورية، اولاً لأنها اقلية، وثانيا لأن خياراتها لم تعد تحظى بالشعبية الكافية في الوسطين السياسي والجماهيري الامريكي. فالكثير من الديمقراطيين باتوا لا يتعاطفون مع العراق من زاوية انه يبدو اليوم جرحا في الخاصرة الامريكية، وعلينا ان لا ننتظر منهم ان يكونوا موضوعيين ويدركوا ان الجرح الامريكي هو خدش بسيط قياسا بالجرح العراقي الذي ساهم الامريكيون في نزفه المستمر. وإذا كان بعض الديمقراطيين قد استشاطوا غضبا لتصريح مرشحهم للرئاسة اوباما حين قال «ان الشعب الفلسطيني قد عانى طويلا» فلا تتوقعوا انهم سيكونون متعاطفين مع الحديث الطويل عن معاناة العراقيين، لانهم وخلافا للكثير من السياسيين العراقيين ينطلقون من الاولوية القصوى لمصالحهم الوطنية.
فالحكومة العراقية يجب ان تكون منفتحة حتى على اكثر خيارات الديمقراطيين تطرفا، لاننا مقبلون على زمن من تسيد الحزب الديمقراطي على الساحة السياسية الامريكية ما لم تحصل متغيرات غير متوقعة كظهور «منقذ جمهوري»، وليس من المصلحة «الوطنية» خسارة الديمقراطيين عبر الايحاء بأن العراق مجرد ورطة «جمهورية» وان حكومة العراق مجرد حليف متقاعس للادارة «الجمهورية». وحتى اذا كانت ادارة بوش غير راغبة بالحديث عن جدولة الانسحاب، فان مثل هذا الحديث سيفرض نفسه لا محالة، ومن الاجدى ان يكون بنوع من المبادرة العراقية المدروسة والمتفهمة لتعقيدات الوضعين العراقي والامريكي.
إن تبني خيار الجدولة سيكون بالتأكيد اختراقا على صعيد المصالحة الوطنية، لان معظم فصائل «المقاومة» ظلت تعتبر هذه الخطوة شرطا لأي مصالحة مقبلة، وعندما تكون الحكومة من يتبنى هذا الموقف فانها ستكون قد اسقطت هذا الشرط، وأصبحت بموضع المبادر، فإما أن تدفع تلك الجماعات الى رمي السلاح والانخراط في العملية السياسية، واما ستجردها من غطاء الشرعية الذي تدعيه لنفسها وتكشف حقيقة اهدافها التي هي في كثير من الحالات لاعلاقة لها بهدف «مقاومة الاحتلال». الجدولة ايضا ستسقط رهان بعض الكيانات السياسية على استثمار العامل الخارجي لتحقيق أوزان سياسية وهمية، واستثمار التوق الامريكي بالموازنة ولو على حساب وحدة البلاد وارادة غالبية ابنائها، وستجعل الكيانات السياسية امام واقع جديد يدفعها الى الانخراط في الصراع السياسي المحلي مجردة من ادوات القوة المصطنعة التي يضفيها الانخراط الخارجي بالمعادلة السياسية الداخلية.
والجدولة المرفقة بتقليل محتمل للانغماس الامريكي ستساعد في وضع نهاية لمبررات القاعدة التي استقطبت عبرها الكثير من المجندين العرب، وسيصبح صراعها المقبل مع «الحكومة العراقية» اقل جاذبية وشأنا خاصا بوكلائها المحليين، كما هو الحال في الكثير من البلدان العربية والاسلامية، وعندها ستغدو اقل خطرا وضررا.
ان جدولة الانسحاب المرفقة باتفاق امريكي داخلي واتفاق عراقي داخلي، وغطاء دولي قد يضمنه قرار من مجلس الأمن، سيحل جزءا اساسيا من المشكلة وسيتجنب الكثير من المشاكل التي يمكن توقعها في حالة الانسحاب السريع او استمرار الانقسام الداخلي الامريكي والعراقي، كما انه سيخمد مخاوف بعض القوى الاقليمية سواء كانت ناتجة عن خشية من هيمنة امريكية على العراق، أو من انتقال الفوضى الى خارج العراق او من سيطرة قوة اقليمية عليه، وسيجعل أنظمة حكمها تتنفس الصعداء باستبعاد سيف التغيير عنها، في حين سننأى بالساحة العراقية عن الصراع الايراني السوري ـ الامريكي، وسنحيد استقرارنا من ان يكون ورقة في صفقات الاخرين.. صحيح ان الحكومة العراقية ستكون امام عبء كبير لفرض الامن والاستقرار بدون التدخل الامريكي المباشر ولفترة، إلا ان هذه الصفقة ستمنحها المزيد من القدرة على ادارة مواردها وعلى اثبات جدارتها وتضعها امام مسؤولياتها في ان تكون حكومة ممثلة لتطلعات العراقيين.
الشرق الاوسط