النتائج 1 إلى 11 من 11
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    Arrow |الوحدة الإسلامية بين المثالية و الواقعية |محمد حسين فضل الله|

    [align=center][frame="7 80"][align=center][motfrk]الوحدة الإسلامية[/motfrk][/align][align=center]
    [overline]بين المثالية و الواقعية

    [/overline]
    [/align][align=center]سماحة آية الله العظمى
    السيد محمد حسين فضل الله
    "دام ظله"
    [/align][/frame][/align]



    [align=justify]طريق التفكير في مشروع الوحدة (1)



    أودّ أن أثير التفكير حول طريقتين في أسلوب مواجهتنا لقضايانا العامة المتصلة بحركة الأهداف الكبيرة في حياتنا، سواء في ما نثيره من قضايا الوحدة على مستوى الطائفة أو الإقليم أو الأمّة أو الحزب وما إلى ذلك، أو من قضايا المصير الأخرى المرتبطة بمواجهة التحديات السياسية والعسكرية والاقتصادية، المفروضة من جانب المحاور الداخلية أو الإقليمية أو الدولية.

    أولاً: الطريقة الحالمة:

    أولى هذه الطرق هي تلك التي تتعاطى مع المشروع أو الهدف الكبير بشكل عاطفي انفعالي، غارق في ضباب الأحلام الوردية التي يحلِّق معها الإنسان في عالـم من السحر السابح في الخيال..

    وتتميز هذه الطريقة بالتفكير المطلق الذي يتعامل بالتبسيط الساذج مع كلّ المشاكل التي تعترض حركة الوصول نحو الهدف، وذلك باعتبارها مشاكل بسيطة يمكن للزمن أن يحلها، أو للأجواء الشعبية الحماسية أن تخفف الكثير منها. وهكذا يشعر السائرون في هذا الاتجاه بأنَّ المشروع لا يواجه أية مشكلة، بل سرعان ما يواجهون كلّ علامات الاستفهام التي يثيرها الآخرون حول جدية المشروع وواقعيته، باعتبارها لوناً من ألوان التشاؤم أو الانهزامية، أو الحالة العدوانية ضدهم. وربَّما يتحرك هؤلاء بطريقة اندفاعية حماسية من خلال الظروف القلقة التي تساعد على هذا التحرك في نطاق المرحلة، فيحققون نتائج كبيرة على مستوى المساحات الواسعة التي يقطعونها، والنتائج الإيجابية التي يحصلون عليها، والأهداف المرحلية التي يحققونها، فيغريهم ذلك بالاندفاع بشكل أكبر لاعتبار أنَّ ذلك يمثل البرهان على نجاح الخطة وواقعية التجربة.. وقد يعتبرون أنَّ إثارات المثبطين لـم تنتج من حالة واقعية شاملة، بل كانت منطلقة من التربية التقليدية الهادئة التي عاشها هؤلاء، فخُيِّل إليهم أنَّها الطريقة الوحيدة للتحرّك. وإذا وقعوا في بعض المشاكل الصعبة أو واجهوا بعض الهزائم، فإنَّهم يملكون لها تفسيراً واحداً وهو الظروف الطارئة والقوى الغاشمة التي لا يستطيعون مجابهتها الآن، ولكنّهم يستطيعون مجابهتها غداً أو بعد غد. أما كيف ذلك؟ فإنَّهم يجيبون: هذا ما يمكن أن نفكر به في المستقبل لأنَّ القضية هي أن تظل القافلة تسير، وليس من المهم أن نفكر كيف تسير.

    وقد نجد من خصائص هذه الطريقة العمل على إثارة الجماهير بالخطب الحماسية والشعارات المثيرة والمهرجانات الصاخبة، ممّا يجعلها تصفق لبلاغة هذا الخطيب، وتهتف لحماس ذلك القائد... وهكذا تبقى القضية لديهم هدفاً يبحث عن طريق، ودوراً يبحث عن ساحة..

    ثانياً: الطريقة الواقعية:

    وهي الطريقة التي تواجه الهدف بمنطق الواقع، فلكلّ ظاهرة أسبابها الكافية في الواقع، ولكلّ واقع ظروفه المحدودة بالزمان والمكان والأشخاص، ولكلّ هدف وسائله ومراحله وآفاقه. ولذلك فإنَّ الذين يفكرون بهذه الطريقة يعملون على دراسة المشروع من خلال معرفة الأرض التي يقوم عليها، والشروط التي ينبغي توفرها، والأشخاص الذين يتحركون معه في الداخل والخارج، والمشاكل التي تواجهه على جميع المستويات، ثمّ يرسمون الخطة على أساس ذلك، وتتقدم الخطّة في بعض المراحل، وتسقط في البعض الآخر؛ فلا يسقطون أمام سقوطها، ولا يحاولون أن يحمِّلوا الآخرين مسؤولية السقوط، بل يعملون على دراسة أسباب الفشل في الواقع، ليعدّلوا الخطة ويطوّروها ليصلوا بها إلى النتائج العملية في نهاية المطاف.

    وتتميز هذه الطريقة بالتأكيد على التحليل الدقيق للأشياء والأشخاص والواقع، ومواجهة الأخطاء بشجاعة، والبعد عن أجواء الاستعراض وعن ذهنية التبسيط. وعندما تفكر هذه الفئة الواقعية بالحماس، فإنَّها تفكر به كجزء من الخطة، لا كحالة مزاجية طارئة. وهكذا يملك القائمون عليها وضوح الصورة، وواقعية التفكير، بعيداً عن كلّ أجواء الأحلام والسرعة والارتجال، وعن كلّ ألوان التفسير الغيبي للأشياء، مما يوفر لهم الكثير من الوعي، والصبر، والهدوء، في مواجهة المشاكل والتحديات، والشجاعة عند الوقوع في الأخطاء، للاعتراف بها، ومواجهتها بالمزيد من عمليات النقد والتصحيح.

    هاتان هما الطريقتان اللتان تحكمان الواقع العملي للإنسان، فأين نحن منهما الآن في ما نستهدفه من التفكير بالوحدة؟

    بين حلم الوحدة وسجن الخصوصية:

    لعلّ الوحدة ـ في أكثر من موقع في حياتنا ـ هي أكبر حلم للإنسان في كلّ مجتمع يعاني من التجزئة، لا سيما إذا ما كانت هذه التجزئة وضعاً طارئاً فرضته ظروف تاريخية وسياسية وثقافية وحتى اجتماعية واقتصادية معينة.

    لكنَّ هذا الحلم سرعان ما كان يصطدم بعناصر التجزئة التي تحولت إلى عقدة شعورية في داخل إنساننا، الأمر الذي جعله يعيش بين تجاذبين: الأول يشده إلى العقدة التي تجره إلى الخصوصية لتسجنه في داخل ذاته، الثاني يشده نحو الحلم الذي يرتفع به إلى الشمولية ليطير به إلى أجواء المطلق. وقد خلق ذلك لديه ارتباكاً بين ما هو الواقع وما هو الحلم، حتى إذا انتصر الحلم في وعيه، مشى إليه بعيون مشدودة إلى السماء لا تبصر ما في الأرض من مشاكل وحواجز، ولذا كان الحلم يسقط، باستمرار، صريعاً أمام ضغط واقع الخصوصية. فلماذا كان ذلك؟

    قد تكون المشكلة في أنَّ الإنسان حمل هذا الحلم الكبير كعنوان عام، ولـم يحمله، في حياته، كتجربة حيّة مستقلة بعيداً عن أجواء الخصوصية، بل على العكس حوّله إلى شأن من شؤونها، حتى كاد أن يتحول إلى واجهة لها. ولذلك، لـم يعش الإنسان الشمولية إلاّ من خلال الخصوصية، مما جعل حماسه للخصوصية أكثر من حماسه للعمومية، انطلاقاً من الحالة الشعورية التي تخلقها التجربة.

    وفي هذا الإطار، يمكن القول إنَّ الوحدة لـم تنطلق من تصور فكري أو روحي للقاعدة التي يفترض أن ترتكز عليها، بل انطلقت من حالة ذاتية عاشت ردود فعل قاسية أنتجتها مشاكل التجزئة، لكنَّ غياب التصور، وعمق الذهنيات الانقسامية على مستوى الشخصيات المتعددة التي تتحرك في الساحة، كانت تولّد المزيد من السلبيات العملية في الحاضر والمستقبل، مما يجعل الصورة التي يتطلع إليهـا الإنسان الوحـدوي، صورة غائمة لا تغريه بالمزيد من الاندفاع، ولا تدفعه لتقديم الكثير من التنازلات الخاصة لحساب القضية العامة.

    وهذا هو ما عشناه عندما انطلقت فكرة الوحدة الإقليمية في البلد الذي تتعدد فيه القوميات والطوائف، أو الوحدة العربية في المنطقة التي تنوّعت فيها الأقاليم، أو الوحدة الإسلامية في الساحة التي تختلف فيها المذاهب. فقد كانت الوحدة حلماً للروح يبحث عن الأفق الذي يتخلص فيه من مشاكل الواقع التجزيئي والتعددي، ولكن المعالجة كانت دائماً تأتي من خلال الفكرة الغائمة التي توحي بأنَّ التعدد هو المشكلة، مما يجعل من الخلاص منه نهاية للمشكلة، وهو ما يمهِّد للالتصاق بالوحدة على أساس أنَّها الحل، دون دراسةٍ عميقة للموضوع. وقد يدفعنا ذلك إلى الابتعاد عن فهـم الأسس الواقعيـة للمشكلة التي قد تكون خاضعة لمؤثرات ذاتية في حركة الواقع الداخلي، بعيـداً عن قضية التعدد والوحدة، في طبيعة المسألة المطروحة على الساحة..

    وقد نكتشف ـ في نهاية المطاف ـ أنَّ الوحدة لـم تكن حالة فكرية روحية عميقة، بل كانت حالة انفعالية عاطفية سريعة، بينما مثَّلت التعددية أو التجزيئية عمق التجربة التي ارتبطت بها كلّ قضايا الإنسان اليومية، وكلّ علاقاته الاجتماعية، مما يُعجّل بهزيمة الوحدة ـ بشكل سريع ـ أمام عوامل التجزئة، كما لاحظناه في أكثر من عمل وحدوي سياسي انطلقت به الجماهير في صرخة راعدة واعدة، ولكنَّها تراجعت بشكل سريع ضاغط، لتكتشف أنَّ الحلم الكبير لـم يكن إلاَّ كابوساً مرعباً في ما يتمخض به الواقع من مشاكل وأوضاع.

    قضية الوحدة في ضوء الواقع:

    تلك هي بعض الأفكار التي حاولت إثارتها أمام الموضوع لنواجه تفصيلات المسألة بعد ذلك من خلال عملية رصدٍ للواقع.

    لقد مرّت فكرة الوحدة الإسلامية في حياة المسلمين بتاريخ طويل من الدعوات الإصلاحية التي انطلق بها المصلحون، في ما كانوا يثيرون أمام الأمّة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الداعية إلى الوحدة، على أساس الاعتصام بحبل اللّه، والالتقاء على رسالته، والبعد عن التنازع والاختلاف الذي يبعثر القوى ويضيّع الطاقات، ولكنَّ ذلك لـم يغير من واقع التجزئة شيئاً، بالرغم من الحماس الذي تثيره الخطابات الحماسية والمواعظ الانفعالية في نفوس النّاس، فقد كان ذلك الجو يهدأ ويخف تدريجياً حتى يتبخر في الهواء ويرجع كلّ فريق إلى قواعده سالماً؛ فلماذا حدث ذلك؟

    ربَّما كان بعض السبب في أنَّ الدعوة إلى الوحدة كانت ردَّ فعل ولـم تكن فعلاً، فيما كان يعيشه العاملون من الحالة المعقدة على المستوى النفسي والحياتي في واقع المسلمين، مما يؤدي إلى التنازع والتحاقد والتقاتل على أساس غير معقول، كأن يواجه المسلمون بعضهم البعض بأساليب التجريح والتنكيل بعيداً عن كلّ عقلانية أو موضوعية أو إيمانية، فيسقطون بذلك في ساحات الصراع تحت تأثير النتائج السلبية، ليكونوا فريسة سهلة لكلّ لاعب ومحتلّ وغاصب. وهكذا كان العاملون يواجهون ذلك كلّه بالثورة على الواقع، تماماً كما هي الحالة النفسية التي تريد أن تتخلص من المشكلة بأيّ ثمن، وبشكل سريع ولهذا كان الحماس في أساليب الدعوة هو الطابع لكلّ هذا الخطّ.

    على أنَّ هذا الفشل في الدعوة إلى الوحدة كان يواجَهُ بإلقاء اللوم على الشعب الجاهل المتخلف الذي لا يعي مشاكله الحقيقية، ولا يتطلّع إلى آفاق المستقبل بوعي، أو بتحميل الاستعمار مسؤولية ذلك كلّه على أساس سياسته المعروفة (فرّق تسُد).. وربَّما كانوا يرتاحون لهذا التبرير الذي يوحي لهم بأنَّهم قد قاموا بواجبهم خير قيام.

    وربَّما نلاحظ في هذا الاتجاه أنَّ مثل هذا الأسلوب في الدعوة إلى الوحدة، غير المدروس بدقة وشمولية، قد يخلق حالة تراجعية لدى النّاس، عندما يلاحظون عدم جديتها، أو عدم واقعيتها، فيخافون من الضياع أمامها، فيرجعون إلى مواقعهم المذهبية بشغف واندفاع وخوف، تماماً كما يفعل الطفل الخائف من التهاويل الغامضة المحيطة به عندما يفزع بكلّ لهفته وخوفه إلى حضن أمّه، مما يقوّي الروح الانقسامية أكثر، ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

    وكان يعزّز هذا المناخ التقسيمي، اتهامات بعض النّاس المتحمسين لمذهبيتهم الضيقة للعاملين في سبيل الوحدة الإسلامية بأنَّهم منحرفون عن خطّ المذهب لأنَّهم وحدويون، كما لو كانت الوحدوية جريمة تعني المروق من الدين.

    نظرة واقعية إلى سلبيات الدعوة المثالية:

    إذا أردنا التوقف عند ملامح الدعوة المثالية إلى الوحدة، وتوقفنا عند النقاط السلبية في أسلوبها العملي، فإنَّنا نجد فيها ملامح الدعوة المثالية التي تحلّق في السماء ولا تتحرك في الأرض، لأنَّ من أبسط القضايا التي يجب أن ندركها، هي أنَّ التاريخ المعقّد الذي عاش المسلمون مشاكله الدامية، وأساليبه المتخلّفة، ومواقعه القلقة، لا يمكن إلغاءه بخطبة بليغة أو حركة سريعة، لأنَّ الرواسب التي يتركها في الأعماق من مشاعر وأفكار وتعقيدات، تخلق حاجزاً نفسياً مقدساً ضد الفريق الآخر، وتنقل الصورة في منهج التفكير من موقع الاجتهاد في فهم العقيدة أو الشريعة ـ الذي يفسح المجال لاجتهاد آخر مخالف له، على أساس إمكان اختلاف وجهات النظر في فهم المسألـة الواحدة ـ إلـى موقع التأكيد على نفي الإسلام عن الفريق الآخر، لأنَّ الخصوصية تحاصر الشمولية، والجزئيات تطوّق الكليات..

    وبذلك يتحول المذهب إلى دين مميز، تماماً كالدين الذي يتميز عن دين آخر، ويعود الارتباط بالشخصيات الإسلامية ـ سلباً أو إيجابـاً ـ عنصراً من عناصر تحديد الشخصية الإسلامية فيمن هو المسلم أو فيمن هو غير المسلم.

    فإذا التقيت بالواقع في الحاضر، فستجد أنَّ الفرز المذهبي قد تحول إلى حالة طائفية تشبه الحالة العشائرية في أفكارها وعواطفها ومواقعها ومواقفها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأصبح لهذه الحالة مصالحها الخاصة في مواجهة كلّ فريق للفريق الآخر، مما جعل الشخصية الضيقة تتعمق أكثر في الانحراف عن خطّ الوحدة استناداً إلى امتيازات مزعومة لهذا الجانب أو ذاك، بعد أن كان الانقسام يتمحور حول الأفكار والمقدسات. وهكذا رأينا أنَّ العلاقة بين الطوائف قد تحولت إلى ما يشبه العلاقة بين الدول، فلكلّ منها منطقته الخاصة التي لا يجوز للآخرين التدخل في شؤونها أو الامتداد إليها، ولكلّ منها أوضاعه الداخلية التي لا يجوز المساس بها من الفريق الآخر، وهكذا أصبح للساحة أحاسيسها الملتهبة التي يمكن أن تشعل الحريق لأول بادرة نزاع أو خلاف.

    وتدخلت المحاور السياسية في الساحة، على المستوى الإقليمي أو الدولي، مما جعل الجانب المذهبي يدخل في الحسابات السياسية كأداة من أدوات التفجير هنا، أو كوسيلة من وسائل تسليط الأضواء هناك، وذلك من خلال سياسة التخويف التي تتحول إلى لون من ألوان الخوف المتبادل الذي يثيره هذا المحور أو ذاك، لتكون النتيجة أن تتحرك الحالة السياسية لتفرز حالة مذهبية، ويتطور الخلاف السياسي ليتحول إلى خلاف مذهبي. ودون أن تُعرف طبيعة العلاقة بين هذا وذاك، إلاّ من خلال الحساسيات الذاتية التي يحاول الكثيرون تحويلها إلى حساسيات طائفية.

    هذه هي بعض ملامح الواقع الذي تحرك من التاريخ إلى الحاضر، وتطور حتى أصبح صورة من صور تعليب الشخصية الإسلامية في داخل العلبة الطائفية، بحيث لا يشعر الإنسان معها أنَّه يتفاعل مع روح الإسلام فيها بقدر ما يتفاعل مع أحقاد الطائفة وحساسياتها. والسؤال: كيف يمكن لنا أن نهمل ذلك كلّه أو نتناساه في حركة الوحدة الإسلامية؟ وهل يمكن أن نحقق خطوة واحدة إلى الأمام في مثل هذه الساحة؟

    قد لا يكون هذا هو كلّ الواقع، ولكنّنا نشعر أنَّه يشغل الساحة الكبيرة للساحة الإسلامية. وبذلك يكون القفز عنه بمثابة القفز عن المشكلة بالأساس، والتعامي عن مواجهة جذورها الحقيقية في الواقع، مما يجعل من المحاولة هروباً من المشكلة لا حلاً لها، وهذا هو الذي اعتبرناه لوناً من ألوان المثالية في تصور الحل للمشكلة، فلا الاستغراق في الغيب عند مواجهة الصعوبات والتعقيدات المطروحة على الساحة، ولا توجيه الأنظار إلى غيرة المسلمين على إسلامهم وضرورة وحدتهم أمام عدوّهم، ولا انتظار الظروف الملائمة، والاعتماد في الوصول إلى النتائج على عامل الزمن، تشكل عوامل جذرية لمعالجة المشكلة.

    إنَّ واقعنا بات موغلاً في الطائفية، فهي التي تحدد الأعداء أو الأصدقاء من مقاييس الطائفة لا من مقاييس الدين، حتى أنَّ محوراً سياسياً إذا اتفق مع طائفة ما لتحقيق مصالحها في مواجهة الطائفة الأخرى، فإنَّه يعتبر صديقاً لها وإن كان عدوّاً للأخرى، وإذا كان الأمر كذلك، فأين يكون العدوّ الواحد؟ وكيف نتصور الغيرة على الإسلام إذا كنت لا أعتبر المسلم الآخر مسلماً؟ وبالتالي فلا يكون اضطهاده منافياً للإسلام والدفاع عنه دفاعاً عن كرامة المسلم؟ وهل يمكن أن يحمل لنا الزمن إلاّ تأكيداً لمثل هذه الأجواء ما دامت المقدمات تتحرك في طريق تحقيق تلك النتائج؟

    هل هذا الذي نثيره يمثّل لوناً من ألوان التشاؤم؟ إنّنا لا نريد ذلك، ولكنّنا نريد أن نتلمس الواقع بطريقة ميدانية. فكيف يمكن أن نفكر؟ قد يكون من الخير لنا اعتبار أنَّ أي عمل وحدويّ لا بُدَّ من أن ينطلق من الاهتمام بالقاعدة التي ترتكز عليها الوحدة، لنعرف ما إذا كانت تتسع لخطّ الوحدة أو تضيق عنه. وقد لا يكون من الصعوبة اكتشافنا أنَّ الإسلام هو تلك القاعدة، ولكن كيف لنا أن نثير الاهتمام به لنعرف كيف يمكن أن تكون الوحدة حركة إيجابية في وجوده، وكيف تكون التعددية حركة سلبية في ذلك؟

    ربَّما كان المسلمون غير بعيدين عن الاهتمام بالإسلام، ولكن بطريقة عاطفية، لأنَّ الكثيرين منهم قد لا يجدون له معنى في حركة الحياة، بل كلّ ما هناك أنَّه يمثّل حالة في وعي الذات، ولذا فإنَّه لا يتصل بالواقع في حركة فعل، بل يتصل بالذات في انطلاقة وجدان، ولهذا فقد تحوّل الاهتمام به إلى اهتمام بالصورة العبادية والأخلاقية الغائمة من جهة، وبالصورة الاجتماعية المشوّشة من جهة أخرى، وبذلك كانت قضية الوحدة تتعلّق بالجانب الفردي من ناحية الفكرة، وبالجانب الاجتماعي من ناحية الانتساب، مما يجعلنا نواجه التعددية خارج نطاق المشكلة الحياتية الفكرية والعملية في ما نختلف فيه، وبذلك لا يعني الفرز الطائفي شيئاً لنا في حركة الحياة من حولنا، لأنَّ بإمكاننا أن نتمحور عند ذلك في أي محور سياسي أو اجتماعي آخر، دون أن يسيء ذلك إلى عملية الانتماء الفكري في طبيعة المضمون، مما يجعلنا لا نمتنع عن الاندماج العملي تحت أية صفة أخرى على مستوى الوطن أو الإقليم أو القومية أو أي شيء آخر، وبذلك تفقد صفة السنية أو الشيعية أي مضمون لها في ما يتصل بواقع النّاس، لأنَّها لا ترتبط بأي شيء خارج نطاق الذات، وتبقى لأصحابها صفة النسب الطائفي المشترك في المسألة الإنسانية الاجتماعية(1).

    ولعلّ هذا هو الذي جعل عملية اللقاء على أساس الإسلام لا تعني شيئاً للكثيرين، إلاّ بقدر ما يعنيه اللقاء تحت أية صفة أخرى تتصل بالظروف الموضوعية لحركة الشخصية أو لحركة الحياة كالإقليمية أو القومية أو الحزبية. وبذلك قد تتقدم أية صفة أخرى على صفة الإسلام كإطار جامع تبعاً للأجواء السياسية التي تحيط بهذا البلد أو بذاك، فإذا كان النظام السياسي ينطلق من حالة وطنية أو قومية، كانت الوحدة الإسلامية مرتبطة بعلاقتها سلبياً أو إيجابياً بتلك الحالة، وإذا كان ينطلق من حالة طائفية على مستوى الدين، فإنَّ القضية تتخذ لها بعداً في المسألة السياسية لتجمع المسلمين في مواجهة غيرهم، أمّا إذا انطلق من حالة طائفية على مستوى المذهب، فإنَّ الوحدة تصبح مشكلة للطائفيين، لأنَّها تتحول إلى عنصر يُضعف من شخصية الطائفة وامتيازاتها في النظام الذي يتحرك على تلك الأسس الذاتية للمجتمع الطائفي. وفي ضوء ذلك، تتحول الحالة الإسلامية إلى حالة تابعة بدلاً من أن تكون حالة أصيلة، وبذلك تكون القضية المطروحة هي قضية تخدير الخلافات والابتعاد بها عن دائرة الضوء، بقدر ما تحتاجه الحالات السياسية الأخرى في الأمّة.

    وربَّما كان هذا الفهم التقليدي للإسلام هو الذي جعل المسلمين يتجمّدون في فهمهم للجانب الذي يختلفون فيه، فيما يمثله من مفهوم الالتزام والتقوى، فيُخيّل إليهم أنَّ التعصّب هو الالتزام، وأنَّ الانغلاق هو التقوى، وأنَّ الابتعاد عن الفريق الآخر من المسلمين هو الإخلاص للخط الإسلامي الأصيل... وفيما يستتبعه ذلك من فقدان العناصر المنفتحة التي تتيح لهم التفكير بالأشياء من الأفق الأوسع، فتراهم يتوقفون أمام كلمة هنا وحركة هناك، ويواجهون التاريخ بسلبياته وإيجابياته من خلال النوازع الذاتية الطائفية التي تجعل الارتباط بالشخصية التاريخية ارتباطاً بالذات، لا بالفكرة، ولذلك فإنَّ الإخلاص لها ـ في ما يطلقونه عليها من نعوت أو يمنحونه لها من أدوار ـ قد يتم في كثير من الحالات على حساب الفكرة. وبذلك استطاعت هذه الذهنية أن تخلق في الساحة تعقيدات كثيرة من خلال بعض السلبيات التي يثيرها هذا الفريق ضد اسم معين، ليقابله فريق آخر باسم آخر.. وهكذا ينسى الجميع الديـن والمصيـر والمستقبل من أجل الكلمات التي تصنع الإثارة في النفس ـ ولكن دون مضمون ـ على مستوى وعي القضية التي يدافعون عنها أو يحملونها، فهم ليسوا مستعدين للمناقشة أو للحوار أو للبحث عن خلفية الموقف أو الكلمة أو الشخص، لأنَّ القصة هي قصة الحريق الداخلي الذي يعمل من أجل إشعال الحريق في الساحة كلّها، للتنفيس عن عقدة هنا، ولمعالجة وضع ذاتي هناك، وتلك هي قصة الآفاق الضيقة التي تستغرق في الجزئيات فتنسى القضايا الكلية معها في حالة غيبوبة وخدر واسترخاء.

    تلك هي بعض الأفكار والتأملات حول الواقع ـ المشكلة والفهم والمسار، فماذا عن الحل، وكيف نبحث عن الخطوات العملية للوصول إلى النتائج الإيجابية المطلوبة؟

    قد يكون من الأفضل لنا أن نفكر بالجوانب الواقعية التي يمكن أن تحيط بفكرة الحل، فنلاحظ أنَّ هناك آفاقاً ثلاثة للوحدة من خلال تنوع آفاق المشكلة، فنحن نجد في الداخل حواجز نفسية ذات حالة عاطفية سلبية، ومشاكل فكرية في نطاق تفاصيل المفاهيم الإسلامية العامة وجزئيات الأحكام الشرعية، ومشاكل سياسية في نطاق الواقع الطائفي الذي يعمل على فرز المواقع السياسية تبعاً للطابع المتنوع، مما يجعل للوحدة طابعاً عاطفياً وفكرياً وسياسياً. ومن الطبيعي أن تختلف وسائل المعالجة وأدواتها وساحاتها وأشخاصها تبعاً لاختلاف أجواء الوحدة مشكلةً وحلاً.

    أخوّة الإيمـان

    ففي الجانب الأول (النفسي أو العاطفي)، نلاحظ التاريخ المعقّد الذي أحاط بالعلاقات العامة والخاصة بين المسلمين وما عاش فيه من أحداث دامية، واضطرابات وخصومات، وما أفرزه من تباعد بينهم بالمستوى الذي جعل لكلّ فريق منهم مجتمعاً خاصاً يتميز بخصوصيته المذهبية، ويعمل على إقامة الحواجز أمام أيّ تقارب نفسي بين أفراد المذاهب المتنوّعة، حتى خيّل لكلّ واحد منهم أنَّه يملك الإسلام كلّه دون أن يملك الآخرون منه أي شيء، ممّا يوحي بأنَّ هناك مجتمعين مختلفين لا يلتقيان على شيء، حتى أصبح هذا الجو الذي يركّز على مواطن اللقاء يحمل بعض الطرافة في العرض، فنسمع حديثاً يقول: إنّنا نختلف في الإله من خلال اختلافنا في بعض صفاته، وفي النبيّ من خلال اختلاف الاجتهاد في بعض خصوصياته، وفي القرآن وفي الآخرة، بحيث تكون مواطن الخلاف أساساً للفرز بدلاً من أن تكون مواطن اللقاء أساساً للوحدة.

    إنَّ من الممكن إثارة الحديث عن ذلك بطريقة عاطفية شعبية تتحدث عن الوحدة في الخط العام كهدف كبير، وتركز على واقعيتها من خلال التأكيد على نقاط اللقاء التي يلتقي عليها المسلمون في محاولة لتبسيط الفكرة وتسهيلها على الجمهور بالأسلوب الذي يأخذ من مفردات الحياة اليومية التي يلتقي فيها النّاس على المسلّمات التي توحدهم دون أن يفسحوا المجال للخلافات الجزئية أن تهزم هذه الوحدة أو تسيء إليها، ويأخذ من مفردات اختلاف الاجتهادات في المذهب الواحد الأساس النفسي الذي يوحي بأنَّ ذلك لـم يسىء إلى وحدة أتباع المذهب الواحد، بل هي أشياء طبيعية لا تمنع من المشاعر الحميمة التي يحس بها تجاه الآخرين في نطاق المذهب، الأمر الذي يؤدي إلى اعتبار وحدة العقيدة الإسلامية في خطوطها العامة، ووحدة الخطّ التشريعي العام في قواعده ومصادره، أساساً للوحدة الروحية التي تفتح قلب المسلم للمسلم في أفراحه وأحزانه وهمومه ومشاكله، من خلال أخوّة الإيمان التي جعلها اللّه عقداً بين المؤمنين في الجانب الإيجابي للعلاقة، وهذه الأخوّة يجب أن تستحضر كلّما تعرّضت العلاقة بين المسلمين لانتكاسة ما، ممّا يوحي بأنَّ هذه الحالة الشعورية تمثّل عمقاً إسلامياً في شخصية المسلم، بحيث إنَّ الإسلام قد أكدها في القرآن عند ذكر ما كان يحدث بين المسلمين من خلاف أو ما يمكن أن يحدث بينهم، فلم يدعُ إلى إلغاء العلاقة حين تتوتر أو تهتز، بل عمل على رسم المنهج الذي يرجع إليه المختلفون في حل خلافاتهم، وذلك بالرجوع إلى اللّه ورسوله، في الكتاب والسنّة، ليحكما في ما شجر بينهم، وليكون ذلك هو القاعدة التي يتفق عليها الجميع دون اعتراض(2).

    وإذا كان الجانب العاطفي هو الذي نريد معالجته في قضية الوحدة من أجل إزالة الحواجز النفسية التي تحول بين المسلمين وبين اللقاء على أرض واحدة، فلا بُدَّ لنا من اكتشاف كلّ عوامل الإثارة الروحية والفكرية والعاطفية التي يمكن أن تثير أفكار الجماهير وأرواحها وعواطفها بطريقة واقعية مدروسة، وأن تُمنح الأمة القاعدة التي تنطلق منها الوحدة، وتُعرَّف كيف يمكن للوحدة أن تعيش في نطاق التنوع، ليكون ذلك إغناءً للتجربة لا إسقاطاً لها، كما يفعل البعض في عملية الإثارة المضادة.

    ونعتقد أنَّ اللقاءات العامة والخاصة بين القيادات والفعاليات وبقية أفراد الأمة من المذاهب المختلفة(3)، يمكن أن تساهم مساهمة كبيرة في تذويب الجليد، وتوضيح الصورة، وإزالة الغموض، وتقريب وجهات النظر وتأليف القلوب، كما يمكن أن تساهم في ذلك علاقات الزواج المتبادلة التي تصنع قرابة النسب إلى جانب الإسلام(4). وقد نستطيع الوصول إلى بعض النتائج الإيجابية في العمل على القضاء على المجتمعات المذهبية المنفصلة على مستوى القرى والمناطق والمحلات، حتى لا يكون لدينا مجتمع شيعي مغلق في مقابل مجتمع سني مغلق، بل نصل إلى المجتمع المنفتح المتفاعل الذي تمتزج فيه التجربة الإسلامية فيما تحمل من عناصر اللقاء والخلاف معاً على أساس فكري أو اجتماعي أو سياسي.

    وربَّما كان من الضروري للمحافظة على هذا الهدف الكبير، أن نفتح للأمة آفاق الشعور بالهدف الكبير الذي ينتظرها في حاضرها ومستقبلها حين تخدم الوحدة قضاياها المصيرية على أكثر من صعيد، وأن نعمل على تعميق روح التقوى والالتزام بعيداً عن كلّ أوضاع العصبية والانغلاق. وقد نكتشف أساليب أخرى في الوصول إلى تحطيم الحواجز النفسية بين المسلمين، لأنَّنا لـم نقصد الحصر في ما ذكرناه، بل كنّا نستهدف تقديم النماذج التي توحي بالفكرة.
    [/align]





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]

    النقاش العلمي للأفكار

    ونلتقي في الجانب الفكري بالفوضى التي يعيشها المفكرون المسلمون في تقويم أفكار بعضهم البعض، كنتيجة لأجواء الجدل التقليدي المتخلّف الذي لـم يكن يبحث عن الحقيقة في ما يمارسه من أساليب، بل كان يبحث عن تسجيل النقاط السلبية ضد هذا الفريق أو ذاك، بعيداً عن النقاط الإيجابية. فليست القضية عندنا أن نبحث عن الواقع الفكري الإسلامي لهذا المفهوم أو ذاك، بل أن نكتشف نقاط الضعف في ما يعتقده الفريق الآخر لنثبت سقوطه، فإذا لـم نصل إلى نتيجة من خلال الحجج المقنعة، فإنَّنا نعمل على الوصول إليها من خلال التلفيقات التي نمنحها صفة الحجة وإن لـم تكن كذلك. ومن خلال ذلك لـم يكن النقل دقيقاً في ما ينقله كلّ فريق عن الآخر، ولـم تكن الدراسة بالمستوى العلمي الموضوعي في ما يناقش بعضهم بعضاً في فهم المضمون، ونقد السند، ودراسة الأجواء. فقد يكفي أن نجد نصاً يدين الفريق الآخر لنكتشف فيه أساس الضلال، وربَّما كان المصدر غير أمين، أو لـم يكن قطعياً يؤكد القناعة، لأنَّ المصادر لـم تمثّل في أكثرها ـ فيما عدا القرآن ـ الحقيقة المعصومة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فقد درج المؤلفون في الرِّوايات على خلط الغثّ بالسمين، وقد يحمل بعضهم رأياً شخصياً فينسبه الآخرون إلى المذهب كلّه، لأنَّ صاحب الكتاب ينتمي إلى هذا المذهب، دون الالتفات إلى أنَّ النّاس الذين قد يتفقون معه في صفة المذهب قد لا يتفقون معه في هذا الرأي، وقد يفسرون النص الذي اعتمد عليه بطريقة أخرى، وقد لا يكون محل اعتمادهم أساساً.

    ولكنَّ العقلية الجدلية لا تلتفت إلى ذلك ولا تحاول التدقيق في ما ينفع الخصم، بل كلّ ما عندها أن تدقق في ما ينفع فريقها، ولذلك يبقى الحوار من بعيد، فيكون ذلك أقرب إلى الابتعاد عن الوصول إلى نتيجة حاسمة في صحة الفكرة وفسادها.

    إنَّ علينا في هذا المجال ـ كعلماء وكمفكرين ـ أن نبحث عن أسس الخلاف والوفاق من خلال البحث عن المصادر الأصلية التي يمكن أن يعتمدها الفريقان أو الفرقاء في قبول رأي أو رفضه، لنصل من خلال ذلك إلى القاعدة الموحدة التي يمكن أن تحكم أصول التقويم للمصادر في سندها ودلالتها كما يقول الأصوليون، ثمّ نبحث في المصادر التي نختلف عليها لنعرف ما هي أسس اعتماد هذا الفريق عليها دون ذاك، ولندقق في مدى اعتماده عليها من ناحية المبدأ والتفاصيل، لئلا نقع في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون من نسبة قول إلى شخص لـم يقله، أو نقل فكر عن شخص لـم يلتزم به. وهكذا نرتكز في المسألة على أساس الموضوعية في النقد والتقويم والاقتناع، بعيداً عن الفكرة المسبقة التي تسبق الدليل وتفرض نفسها عليه، تماماً كما هو الحال في ما نعالجه من خلافات ومواقف فكرية إزاء الأفكار التي لا تتصل بالجانب العقيدي من حياتنا، بل تتصل بالجوانب العلمية النظرية والعملية في تفكيرنا، فنعالج المسألة الكلامية في ما نختلف فيه من تفاصيل العقيدة فلسفياً، كما نعالج أيّة قضية فلسفية أخرى لا تتصل بالانتماء المذهبي، ونناقش أي حكم شرعي من موقع البحث العلمي تماماً كما هو الحال عند مناقشة الأحكام القانونية لمبادئ أخرى أو أديان أخرى مما لا يرتبط بالجانب العاطفي من شخصيتنا الفكرية(5)، ثمّ نبدأ بالدراسات المقارنة على أكثر من صعيد من أجل عرض كلّ الأفكار المتفق عليها أو المختلف فيها، من أجل الوقوف أمامها وقفة نقد وتأمل واجتهاد، لنختار الأفضل من حيث دليله الشرعيّ، فقد يختار الشيعي رأياً سنياً في المسألة الفقهية أو الكلامية، وقد يختار السني رأياً شيعياً في ذلك، لأنَّ البحث الموضوعي يلغي الخصوصية من أجواء البحث، وربَّما حمل الواقع القانوني في بعض بلداننا الإسلامية بعض التجارب الإيجابية في هذا المجال.

    وسيقودنا ذلك إلى اكتشاف الحقيقة العلمية الواقعية، وهي أنَّ مواطن الوفاق بين المسلمين تصل إلى نسبة ثمانين بالمائة، لأنَّ اختلاف الاجتهاد لدى الشيعة الآن، ولدى السنة في الماضي، قد استطاع أن يحمل إلينا تنوّعاً في الآراء لدى الفريقين، بحيث لا ترى رأياً في الفقه الشيعي إلاّ وترى ما يقابله في الفقه السني، والعكس صحيح أيضاً..

    وقد عاشت جامعاتنا العلمية في النجف وقمّ والأزهر هذه التجربة في الدراسات المقارنة من ناحية المبدأ، وننتظر أن تتطور إلى الأفضل في المستقبل القريب، لنصل من خلال ذلك إلى الوحدة الفكرية على أكثر من صعيد.

    وربَّما كنّا نحتاج إلى التأكيد على تأصيل المفاهيم العامة لبعض القضايا المهمة، كما في مسألة التوحيد والشرك والكفر والإيمان.. التي قد يكثر الحديث عنها لدى المسلمين في ما قد يتهم بعضهم بعضاً بالشرك تارة، وبالكفر أخرى، وبالمروق عن الدين ثالثة، وذلك من خلال ما يحملونه من آراء حول مفهوم الكفر والشرك، أو في ما يعتقدونه من معتقدات، دون إفساح المجال لهم ليوضحوا فكرتهم وليناقشوا فكرة الفريق الآخر(6). إنَّ مناقشة ذلك بموضوعية وفكر، تجعلنا نلتقي على المقياس الصحيح لما هو الكفر والشرك. وقد نصل بذلك إلى قناعة إسلامية بأنَّ كثيراً ممّا نعتبره كفراً لا يمثّل الدقة في تطبيق هذا المفهوم على الواقع، كما قد يكون بعض ما يعتبره النّاس إيماناً لا يمثّل خطّ الإيمان بدقة وعمق وتحليل.

    وقد يكون من الخير لنا أن نشير إلى ضرورة التوفر على دراسة الأسلوب القرآني في الحوار ومواجهة الفكرة المضادة، ومتابعة الفكرة الموافقة، لنستطيع من خلال ذلك أن نتقي اللّه في ما نختلف فيه كما نتقيه في ما نلتقي عليه، فإنَّ ذلك يبعدنا عن أساليب المهاترات الكلامية والمزايدات الفكرية الحماسية، ويقربنا إلى الحقيقة والعلم انطلاقاً من الحياد الفكري في مواجهة كلّ الأفكار والآراء.

    ومن المهم في هذه المناسبة أن نلفت الأنظار إلى أنَّ مثل هذه الساحة الفكرية تحتاج إلى شجاعة في مناقشة الأفكار، وفي اتخاذ القرار المنسجم مع نتائج المناقشة، كما تفرض على المتحاورين فيها أن لا يقفوا في دائرة الضوء الاستعراضي الذي يغري بالمزايدات، ويبعث على التعصب، بل لا بُدَّ لهم من أن يواجهوا المسائل بالفكر الهادئ، والعقل الـمتّزن، والعاطفة العاقلة، وأن لا يستعجلوا الوصول إلى النتائج، لأنَّ ذلك قد يؤدي إلى السطحية والارتجال في معالجة القضايا التي تقع محلاً للبحث والمناقشة. ولعلّ من البديهي أن تبقى الساحة مفتوحة للعلماء وأصحاب الفكر بعيداً عن مواقع العامة من النّاس المستغرقين في مناخ الإثارات العاطفية، وغير المهتمة بالأخذ بأسباب العلم.

    وحدة القضية والمصير

    أما في الجانب السياسي من الوحدة، فإننا نلتقي بالواقع الطائفي في الحقل السياسي الذي يحوّل كلّ طائفة من المسلمين إلى كيان مستقل في قضاياها، وفي مصالحها، وفي حركة الحاضر والمستقبل، حتى أصبح لنا في ساحتنا اللبنانية قضايا شيعية في المناطق التي يعيش فيها المسلمون الشيعة، وقضايا سنية في المناطق التي يعيش فيها المسلمون السنة. لقد تـمّ اعتبار جنوب لبنان في وقت ما قضية شيعية، كما اعتبرت قضية إقليم الخروب وطرابلس مثلاً قضية سنية، بحيث يشعر كلّ فريق بأنَّ علاقته بقضية الفريق الآخر ليست قضية ذاتية، بل هي قضية خارجية تحكمها الظروف السياسية، أو المجاملات الاجتماعية، وما إلى ذلك.

    وقد لا يكون الأمر بهذه الدقة بشكل شامل، ولكنَّ الظاهرة تتحرك في هذا الاتجاه. وربَّما كان لطبيعة النظام اللبناني الطائفي الأثر الكبير في ذلك، عندما ربط مصالح النّاس بطبيعة الانتماء الطائفي، الأمر الذي دفعهم دفعاً إلى الارتماء في أحضان التجربة الطائفية التي تعمل على ترسيخ القوقعة الطائفية وتعميقها في داخل الذات في حركة الفكر والشعور وفي نطاق واقع العلاقات. وقد استطاعت اللعبة السياسية التي خططت لها "المارونية السياسية" أثناء حكمها للبنان، أن تثير حالة خوف مضاد في النطاق الإسلامي الداخلي، في ما كانت تثيره من إمكانية أن تأخذ هذه الطائفة دور تلك، وبالعكس، لتخلق في داخلهم حساسيات مذهبية، في مستوى العقدة المستحكمة التي تتحول بالتالي إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تفجّر الساحة كلّما أريد لها أن تنفجر بالحقد والعداء والبغضاء. وما زالت اللعبة تتحرك في كلّ اتجاه، وعلى أكثر من صعيد.

    هذا في الواقع اللبناني، أمّا في الواقع الذي يعيشه المسلمون خارج لبنان، فليست هناك حالة سياسية معقدة بين المسلمين على أساس مذهبي في ما تعنيه الامتيازات والمصالح، بل كلّ ما هناك أنَّ في هذا البلد أو ذاك حكماً معيّناً ضاغطاً على شعبه، من دون فرق بين أهل مذهب ومذهب، ولكن قد تكون هناك أكثرية تخضع لاضطهاد كنتيجة لمعارضتها للحكم، وقد تكون هناك أقلية معارضة مضطهدة، وربَّما يتخذ ذلك وضعاً طائفياً سلبياً عندما يختلف الحكم في صفته الطائفية عن فئات المعارضة في صفتها الطائفية، مما قد يوحي بوجود مشكلة طائفية سياسية في الساحة.

    وقد يحدث لبعض الأوضاع السياسية المتنوعة أن تؤدي إلى بعض حالات الصراع، فقد تُثار الأجواء الطائفية ـ مثلاً ـ انطلاقاً من العلاقات التي تحكم أحد الأنظمة بطائفة معينة تعيش في ظلّ نظام آخر تسوده طائفة أخرى، ممّا قد يخلق معارضة في داخل هذا البلد لمصلحة النظام في البلد الآخر، وتكون النتيجة أن يقع المعارضون تحت تأثير الاضطهاد، أو يشعر الحاكمون بأنَّ هذه الطائفة أو تلك لا تحمل الانتماء الإيجابي لبلدها، فتصبح موضع شك أو اضطهاد. وهكذا تصور القضية كما لو كانت حالة طائفية في ما تسنّه الطائفية السياسية من مضمون، لا سيما إذا كان هذا النظام يتحمس لمذهب معين، ويحمل همّ الدعوة إليه، ولو من ناحية رسمية سياسية، ويرفض المذهب الآخر، فيختلط جانب العقدة المذهبية بالعقدة السياسية، لتتحول المسألة إلى كارثة كبرى تزيد التناقضات بين المسلمين اشتعالاً.

    وقد نلاحظ أنَّ بعض المحاور الدولية والإقليمية تعمل على الاستفادة من بعض تلك السلبيات في تحويل الصراع إلى صراع طائفي، لتضع القضية السياسية في نطاق الصراع المذهبي، فتتوتر الساحة مذهبياً في ما يمكن أن يخلقه هذا الوضع من عناصر الإثارة الطائفية، في الوقت الذي نعلم فيه جميعاً، أنَّ موضوع السنّة والشيعة بمدلوله الفقهي والشرعي، لا دخل له في ذلك، بل كلّ ما في الأمر أنَّ هناك صراعاً دولياً وإقليمياً يتحرك في الساحة من منطلقات سياسية بعيدة كلّ البعد عن هذه الأضواء(7).

    والآن، كيف يمكن مواجهة هذا الطابع السياسي للخلاف بين المسلمين(8). إنَّنا نلاحظ في هذا المجال في الحالة اللبنانية أنَّ الواقع الطائفي لـم يستطع أن يتحول إلى حالة تعطي القوّة لأحد، إلاَّ في نطاق الزهو الاستعراضي الفارغ الذي لا يمثّل شيئاً في ساحة الواقع.

    ولهذا، فإنّنا قد نجد في هذا الواقع السياسي الذي يعيشه المسلمون فرصةً للتأمل والتفكير في ضرورة توحيد الموقف، أو محاولة تقريبه من أجل قضايا مشتركة، أو مشاريع موحّدة، لمواجهة الهيمنة الضاغطة بموقف حاسم ينطلق من وعي قضية المسلمين كقضية إنسانية في ما تعيشه قضايا الإنسان من مواقع الحرية والكرامة والعنفوان، من دون إثارة الموضوع بطريقة طائفية معقدة.

    وقد لا يكون من الواقعي أن نطلب الآن من المسلمين إلغاء خصوصياتهم المذهبية في ظل هذا الواقع الطائفي المتجذر في أعماق حركة الواقع السياسي، لأنَّ ذلك يمثّل طرحاً مثالياً على مستوى المرحلة ـ على الأقل ـ في ما تفرضه من وجود زعامات، ومواقع قوّة، ومصالح، وعلاقات، وتحالفات داخلية وخارجية، ممّا لا يمكن إلغاءه دفعة واحدة.

    ولكنّنا نثير في الجو إيجاد حالة وحدوية من خلال القضايا المصيرية التي يعيشها المسلمون على مستوى ما يمثّله الوجود الإسلامي في مقابل الوجود الآخر، سواء في ما يتحرك على مستوى الداخل أو في ما يتحرك على مستوى الخارج من قضايا المسلمين في المنطقة وفي العالـم، وذلك بمحاولة ربط هذه القضايا بالمبادئ والقيم الإسلامية السياسية والاجتماعية في الحياة، لتتحول هذه الحالة الوحدوية إلى حالة إسلامية عميقة في وجدان كلّ مسلم، ليكون ذلك أساساً للبحث في المواضيع الواقعية المختلف عليها، بعيداً عن الحواجز النفسية، لأنَّ وحدة الموقف السياسي في بعض المواقع عندما تمتزج بالحالة الإيمانية الوجدانية الملتزمة بخطّ الإسلام في أجواء التقوى، سوف تسهّل الكثير من الحلول للمشاكل العالقة في الساحة(9).

    إنَّنا نعتقد أنَّ مثل هذا الاتجاه في مواجهة التشنّج السياسي الطائفي في داخل المجتمع الإسلامي، يمكن أن يحقق لنا خطوة متقدمة في سبيل الوحدة، لأنَّنا سنكتشف أنَّ هناك أكثر من أرض صلبة نقف عليها في مواقعنا الإسلامية، وأنَّ ما نختلف فيه يمثّل حالة طبيعية واقعية.

    وفي المجال الإسلامي العربي العام، يمكن لنا أن نلتقي بالطروحات الوحدوية الإسلامية التي تتحرك في الساحة، لنقوّيها ولنتفاعل معها، ولنعمل على اكتشاف الجوانب الإيجابية فيها، ومعالجة الجوانب السلبية بالكثير من الدراسة للقضايا المثارة على أرض الصراع بطريقة ميدانية تحاول أن تفصل بين ما هو المحور الإقليمي أو الدولي المرتبط بالمواقع الاستراتيجية للصراع في العالـم، وما هو الخطّ الإسلامي الذي تتحرك فيه المصلحة الإسلامية العليا. فقد نرى أنَّ كثيراً من المواقع التي نمنحها الصفة الإسلامية في الصراع ليست كذلك، سواء أعطيناها سمة شيعية أو سنية. وقد نلمح في الساحة استغلالاً لذلك لحساب أعداء الإسلام والمسلمين.

    إنَّنا نؤكد على ملاحقة التجارب الوحدويّة في العمل الفكري والسياسي والاجتماعي على مستوى الساحة السياسية، وعلى الاستفادة من الإيجابيات كنافذة تطل على المواقع المشرقة من مواقع الأمل، والاستفادة من السلبيات في معرفة الأخطاء الواقعية في الساحة، لنتفاداها ولنفكر معها بأنَّ الفشل في ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة أو سقوط المشروع، فقد يكون من الضروري أن نفكر بالتجربة الواحدة بعد الألف، لأنَّ ذلك هو خيارنا الوحيد في بقاء الإسلام حياً متحركاً في الساحة كفكر وكشريعة، وكمنهج حياة، وكأمة طليعية تحمل رسالة التغيير للعالـم من أجل الحضارة الفريدة التي تتآخى فيها الروح والمادة، والعلم والإيمان، ويمتزج فيها الغيب بالواقع، والعبادة بالسياسة، والفرد بالمجتمع..

    لا وحدة بدون إسلام

    إنَّه الإسلام الذي نحمله من موقع الإشراق الذي ينفتح على الحياة بكلّ عمقه وامتداده، ليجعل الحياة تتحرك في إشراقة الروح المتحركة في نطاق الواقع.

    ولنتذكر دائماً أنَّه لا معنى للتفكير بوحدة إسلامية على مستوى العاطفة والفكر والشريعة والسياسة بدون إسلام، لأنَّ الصفة التي نحملها في كلمة الإسلام، ليست مجرد واجهة تشير إلى المجموعة البشرية العددية التي نمثّلها، بل هي كيان متكامل في الفكر والروح والعمل في ما يمثّله من قاعدة للفكر والعاطفة والحياة.

    ليبق لنا من الإسلام المضمون، لا الشكل، والصورة والإطار، وبذلك يمكننا التحرك من أجل معالجة المشاكل التي تحكم واقع المسلمين، ويمكننا أن نلتقي مع الآخرين من غير المسلمين، ونتعايش معهم من مواقع الانفتاح المنطلق من الفكر والروح، لا من مواقع الانغلاق القائم على التعصب والبغضاء.

    أطلقوا الإسلام في الهواء الطلق ليتنفس في دائرة الضوء، ولا تحبسوه في العلب الطائفية المظلمة، فإنَّكم بذلك تحررون أنفسكم وواقعكم وحاضركم ومستقبلكم من كلّ أغلال الآخرين. لنكن الفكر الذي يصرخ ويوحي ويحاور في ساحات الإنسان، لا الطبل الذي يرنّ ويدوّي في الفضاء، ولكنَّه لا يحمل لنا إلاَّ الدويَّ والرنين من دون معنى ولا حياة. ولنكن الواقع الذي لا يبتعد عن مواقع السمو، لا الخيال الذي يحلق بعيداً في الفضاء في متاهات الأوهام والأحلام.

    (1) ربَّما كنت أحتاج إلى أن أوضح الصورة بطريقة أكثر جلاءً. إنَّنا نلاحظ أنَّ المسلمين لا يعيشون الصفة الإسلامية كفكر في حياتهم، لأنَّهم عندما جعلوا الإسلام يعيش في زاوية ضيقة، أمكن لهم أن يرتبطوا بأي فكر حتى ولو كان يواجه الإسلام وجهاً لوجه. ولهذا نحن نتكلم فكراً ولا نتكلم سياسة على مستوى الشارع. ولهذا نرجو ألا نتعقد من الأمثلة.

    فيمكن للمسلم أن يبقى مسلماً وأن يكون شيوعياً على مستوى فكري. عندنا لا مانع من ذلك. يمكن له أن يكون مسلماً وأن يكون وجودياً على مستوى فكري. لماذا؟ لأنَّ الإسلام ليس حركة فكر وحياة، وإنَّما هو حركة ذات وانتماء بشري لا يخضع لأي مضمون فكري.

    (2) أن ننطلق من وحدة المذهب وتعدد الاجتهادات، لنؤكد على إمكان وحدة الدين مع اختلاف المذاهب، حتى ننطلق من هذا إلى اعتبار أنَّ الحالة الشعورية التي يعيشها أتباع المذهب الواحد مع اختلاف الاجتهادات، يمكن أيضاً أن تساهم في خلق حالة شعورية إسلامية مع اختلاف المذاهب.

    (3) وهذا ما يجعل العوائل المتنوعة في المذهب تستطيع أن تكتشف أنَّ الصورة التي كانت تحملها من خلال البعد، تختلف كثيراً عن الصورة الواقعية التي استطاعت أن تعيشها على الأرض، عندما هيأت لها العلاقات هذا الجانب. لأنَّه من الممكن للإنسان في حالات البعد الطائفي أن يتصور أنَّهم يجاملون أو أنَّ الآخرين ممّن يعتبرون التقية شيئاً مبرئاً، ولكن إذا نفذت إلى الداخل وإلى الواقع وأصبحت العلاقات علاقات عائلية طبيعية تستطيع من خلالها أن تقتحم المجتمع من خلال علاقاتك، عند ذلك تستطيع أن تكتشف أنَّ القضية هل هي مجاملة في ما يحاول الآخرون أن يوحوه أم أنَّها قضية حقيقية.

    (4) ولو بالطرق الرسمية الاستعراضية، لأنَّ القضية هنا ليست قضية العمق في المعالجة وإنَّما هي قضية الحالة الشعورية التي نريد أن نثيرها في الأمّة.

    (5) أن ندرس خلافاتنا الفكرية الإسلامية في تفاصيل العقيدة وفي الشريعة وفي التاريخ تماماً كما ندرس تاريخ الرومان وقوانين الرومان، وكما ندرس الجانب الفكري للفلسفة اليونانية أو لأية فلسفة أخرى. هناك ندرس تلك الأفكار من موقع يلتصق بالفكر فقط ولا يلتصق بالذات، وبهذا نستطيع أن نكون موضوعيين أمام النّاس. ومشكلتنا أنّنا نواجه خلافاتنا الفكرية من موقع الذات لا من موقع الفكر، وعندما تفرض الذات نفسها على الفكر، فإنَّ الفكر لا يستطيع أن يتحرك بحرية عند ذلك من الناحية الذاتية أو من الناحية العلمية.

    (6) لأنَّ المفاهيم الغائمة لا تخلق إلاَّ حالة غائمة وتتيح المجال لكلّ الطامحين الطامعين في خلخلة الموقف وفي انتهاز الفرص أن يلعبوا عليها من خلال تقديس الأخطاء ومن خلال تقديس المواقف المنحرفة.

    (7) من خلال المعنى المصطلح، إنَّ هناك استحقاقات سياسية لكثير من القضايا والمشاكل الملتهبة في الساحة يراد ترتيب الساحة من خلالها لتتوصل إلى النتائج التي تدخل في حساب هذا المحور الدولي أو ذاك. ولكن يعرفون أنَّ السياسة بمفهومها المجرد لا تحرك عواطف الجماهير بقدر ما تحركهم العناصر الطائفية، لذلك يحاولون إعطاء الجو السياسي شيئاً من الالتهاب العاطفي الذي تتكفل به الأحاسيس الطائفية.

    (8) قد نلاحظ الصعوبة في بحث هذا الموضوع، لأنَّه يتصل بكلّ الواقع السياسي الذي نعيش فيه وبكلّ اللعبة السياسية التي تتحرك على أكثر من صعيد، لا في بلدنا ولا في منطقتنا ولكن في العالـم كلّه. لهذا لن يستطيع الإنسان أن يُبسّط المشكلة ليدخل في الحلول البسيطة التي تحاول إلغاء المشكلة بجرة قلم. لكنَّنا نحبّ إثارة الفكر نحو ذلك لنفكر أكثر ولنتابع اللعبة. نحاول التفكير في الحل من خلال المفردات التي نكتشفها في تجاربنا المختلفة، أو من خلال المفردات التي تستقبلنا في ما نستقبل من تطورات على الأرض، أو في ما نستطيعه من اكتشاف كثير من خلفيات اللعبة التي ربَّما كنّا ضحيتها دون أن نفهم طبيعتها. إنّنا، كما قلنا في البداية، نريد إثارة الفكر نحو هذه المسألة، ولا نريد معالجتها بطريقة شاملة.

    (9) مثلاً يمكن أن تعتبر الآن القضية الفلسطينية شيئاً نجتمع عليه كمسلمين من خلال القيم الإسلامية التي نرتبط بها. يمكن أن نجعل قضية مواجهة الاستعمار ورفض خططه السياسية والاقتصادية والعسكرية أساساً للّقاء كمسلمين، لأنَّ الإسلام لا يمكن أن يقبل، من خلال المفهوم الحقيقي لما هي الحرية والعزة لدى المسلم، أية حالة استعمارية. وهكذا نستطيع أن نبحث عن القضايا المصيرية التي تمسّ وجودنا بالذات والتي تنبع جذورها من المبادئ الإسلامية الأصيلة.
    [/align]





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]
    طريق التفكير في مشروع الوحدة (2)
    مداخل إلى حلول واقعية



    قد يكون من الأفضل لنا أن نفكر بالجوانب الواقعية التي يمكن أن تحيط بفكرة الحل، فنلاحظ أنَّ هناك آفاقاً ثلاثة للوحدة من خلال تنوع آفاق المشكلة، فنحن نجد في الداخل حواجز نفسية ذات حالة عاطفية سلبية، ومشاكل فكرية في نطاق تفاصيل المفاهيم الإسلامية العامة وجزئيات الأحكام الشرعية، ومشاكل سياسية في نطاق الواقع الطائفي الذي يعمل على فرز المواقع السياسية تبعاً للطابع المتنوع، مما يجعل للوحدة طابعاً عاطفياً وفكرياً وسياسياً. ومن الطبيعي أن تختلف وسائل المعالجة وأدواتها وساحاتها وأشخاصها تبعاً لاختلاف أجواء الوحدة مشكلةً وحلاً.

    أخوّة الإيمـان

    ففي الجانب الأول (النفسي أو العاطفي)، نلاحظ التاريخ المعقّد الذي أحاط بالعلاقات العامة والخاصة بين المسلمين وما عاش فيه من أحداث دامية، واضطرابات وخصومات، وما أفرزه من تباعد بينهم بالمستوى الذي جعل لكلّ فريق منهم مجتمعاً خاصاً يتميز بخصوصيته المذهبية، ويعمل على إقامة الحواجز أمام أيّ تقارب نفسي بين أفراد المذاهب المتنوّعة، حتى خيّل لكلّ واحد منهم أنَّه يملك الإسلام كلّه دون أن يملك الآخرون منه أي شيء، ممّا يوحي بأنَّ هناك مجتمعين مختلفين لا يلتقيان على شيء، حتى أصبح هذا الجو الذي يركّز على مواطن اللقاء يحمل بعض الطرافة في العرض، فنسمع حديثاً يقول: إنّنا نختلف في الإله من خلال اختلافنا في بعض صفاته، وفي النبيّ من خلال اختلاف الاجتهاد في بعض خصوصياته، وفي القرآن وفي الآخرة، بحيث تكون مواطن الخلاف أساساً للفرز بدلاً من أن تكون مواطن اللقاء أساساً للوحدة.

    إنَّ من الممكن إثارة الحديث عن ذلك بطريقة عاطفية شعبية تتحدث عن الوحدة في الخط العام كهدف كبير، وتركز على واقعيتها من خلال التأكيد على نقاط اللقاء التي يلتقي عليها المسلمون في محاولة لتبسيط الفكرة وتسهيلها على الجمهور بالأسلوب الذي يأخذ من مفردات الحياة اليومية التي يلتقي فيها النّاس على المسلّمات التي توحدهم دون أن يفسحوا المجال للخلافات الجزئية أن تهزم هذه الوحدة أو تسيء إليها، ويأخذ من مفردات اختلاف الاجتهادات في المذهب الواحد الأساس النفسي الذي يوحي بأنَّ ذلك لـم يسىء إلى وحدة أتباع المذهب الواحد، بل هي أشياء طبيعية لا تمنع من المشاعر الحميمة التي يحس بها تجاه الآخرين في نطاق المذهب، الأمر الذي يؤدي إلى اعتبار وحدة العقيدة الإسلامية في خطوطها العامة، ووحدة الخطّ التشريعي العام في قواعده ومصادره، أساساً للوحدة الروحية التي تفتح قلب المسلم للمسلم في أفراحه وأحزانه وهمومه ومشاكله، من خلال أخوّة الإيمان التي جعلها اللّه عقداً بين المؤمنين في الجانب الإيجابي للعلاقة، وهذه الأخوّة يجب أن تستحضر كلّما تعرّضت العلاقة بين المسلمين لانتكاسة ما، ممّا يوحي بأنَّ هذه الحالة الشعورية تمثّل عمقاً إسلامياً في شخصية المسلم، بحيث إنَّ الإسلام قد أكدها في القرآن عند ذكر ما كان يحدث بين المسلمين من خلاف أو ما يمكن أن يحدث بينهم، فلم يدعُ إلى إلغاء العلاقة حين تتوتر أو تهتز، بل عمل على رسم المنهج الذي يرجع إليه المختلفون في حل خلافاتهم، وذلك بالرجوع إلى اللّه ورسوله، في الكتاب والسنّة، ليحكما في ما شجر بينهم، وليكون ذلك هو القاعدة التي يتفق عليها الجميع دون اعتراض(1).

    وإذا كان الجانب العاطفي هو الذي نريد معالجته في قضية الوحدة من أجل إزالة الحواجز النفسية التي تحول بين المسلمين وبين اللقاء على أرض واحدة، فلا بُدَّ لنا من اكتشاف كلّ عوامل الإثارة الروحية والفكرية والعاطفية التي يمكن أن تثير أفكار الجماهير وأرواحها وعواطفها بطريقة واقعية مدروسة، وأن تُمنح الأمة القاعدة التي تنطلق منها الوحدة، وتُعرَّف كيف يمكن للوحدة أن تعيش في نطاق التنوع، ليكون ذلك إغناءً للتجربة لا إسقاطاً لها، كما يفعل البعض في عملية الإثارة المضادة.

    ونعتقد أنَّ اللقاءات العامة والخاصة بين القيادات والفعاليات وبقية أفراد الأمة من المذاهب المختلفة(2)، يمكن أن تساهم مساهمة كبيرة في تذويب الجليد، وتوضيح الصورة، وإزالة الغموض، وتقريب وجهات النظر وتأليف القلوب، كما يمكن أن تساهم في ذلك علاقات الزواج المتبادلة التي تصنع قرابة النسب إلى جانب الإسلام(3).

    وربَّما كان من الضروري للمحافظة على هذا الهدف الكبير، أن نفتح للأمة آفاق الشعور بالهدف الكبير الذي ينتظرها في حاضرها ومستقبلها حين تخدم الوحدة قضاياها المصيرية على أكثر من صعيد، وأن نعمل على تعميق روح التقوى والالتزام بعيداً عن كلّ أوضاع العصبية والانغلاق. وقد نكتشف أساليب أخرى في الوصول إلى تحطيم الحواجز النفسية بين المسلمين، لأنَّنا لـم نقصد الحصر في ما ذكرناه، بل كنّا نستهدف تقديم النماذج التي توحي بالفكرة.

    النقاش العلمي للأفكار

    ونلتقي في الجانب الفكري بالفوضى التي يعيشها المفكرون المسلمون في تقويم أفكار بعضهم البعض، كنتيجة لأجواء الجدل التقليدي المتخلّف الذي لـم يكن يبحث عن الحقيقة في ما يمارسه من أساليب، بل كان يبحث عن تسجيل النقاط السلبية ضد هذا الفريق أو ذاك، بعيداً عن النقاط الإيجابية. فليست القضية عندنا أن نبحث عن الواقع الفكري الإسلامي لهذا المفهوم أو ذاك، بل أن نكتشف نقاط الضعف في ما يعتقده الفريق الآخر لنثبت سقوطه، فإذا لـم نصل إلى نتيجة من خلال الحجج المقنعة، فإنَّنا نعمل على الوصول إليها من خلال التلفيقات التي نمنحها صفة الحجة وإن لـم تكن كذلك. ومن خلال ذلك لـم يكن النقل دقيقاً في ما ينقله كلّ فريق عن الآخر، ولـم تكن الدراسة بالمستوى العلمي الموضوعي في ما يناقش بعضهم بعضاً في فهم المضمون، ونقد السند، ودراسة الأجواء. فقد يكفي أن نجد نصاً يدين الفريق الآخر لنكتشف فيه أساس الضلال، وربَّما كان المصدر غير أمين، أو لـم يكن قطعياً يؤكد القناعة، لأنَّ المصادر لـم تمثّل في أكثرها ـ فيما عدا القرآن ـ الحقيقة المعصومة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فقد درج المؤلفون في الرِّوايات على خلط الغثّ بالسمين، وقد يحمل بعضهم رأياً شخصياً فينسبه الآخرون إلى المذهب كلّه، لأنَّ صاحب الكتاب ينتمي إلى هذا المذهب، دون الالتفات إلى أنَّ النّاس الذين قد يتفقون معه في صفة المذهب قد لا يتفقون معه في هذا الرأي، وقد يفسرون النص الذي اعتمد عليه بطريقة أخرى، وقد لا يكون محل اعتمادهم أساساً.

    ولكنَّ العقلية الجدلية لا تلتفت إلى ذلك ولا تحاول التدقيق في ما ينفع الخصم، بل كلّ ما عندها أن تدقق في ما ينفع فريقها، ولذلك يبقى الحوار من بعيد، فيكون ذلك أقرب إلى الابتعاد عن الوصول إلى نتيجة حاسمة في صحة الفكرة وفسادها.

    إنَّ علينا في هذا المجال ـ كعلماء وكمفكرين ـ أن نبحث عن أسس الخلاف والوفاق من خلال البحث عن المصادر الأصلية التي يمكن أن يعتمدها الفريقان أو الفرقاء في قبول رأي أو رفضه، لنصل من خلال ذلك إلى القاعدة الموحدة التي يمكن أن تحكم أصول التقويم للمصادر في سندها ودلالتها كما يقول الأصوليون، ثمّ نبحث في المصادر التي نختلف عليها لنعرف ما هي أسس اعتماد هذا الفريق عليها دون ذاك، ولندقق في مدى اعتماده عليها من ناحية المبدأ والتفاصيل، لئلا نقع في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون من نسبة قول إلى شخص لـم يقله، أو نقل فكر عن شخص لـم يلتزم به. وهكذا نرتكز في المسألة على أساس الموضوعية في النقد والتقويم والاقتناع، بعيداً عن الفكرة المسبقة التي تسبق الدليل وتفرض نفسها عليه، تماماً كما هو الحال في ما نعالجه من خلافات ومواقف فكرية إزاء الأفكار التي لا تتصل بالجانب العقيدي من حياتنا، بل تتصل بالجوانب العلمية النظرية والعملية في تفكيرنا، فنعالج المسألة الكلامية في ما نختلف فيه من تفاصيل العقيدة فلسفياً، كما نعالج أيّة قضية فلسفية أخرى لا تتصل بالانتماء المذهبي، ونناقش أي حكم شرعي من موقع البحث العلمي تماماً كما هو الحال عند مناقشة الأحكام القانونية لمبادئ أخرى أو أديان أخرى مما لا يرتبط بالجانب العاطفي من شخصيتنا الفكرية(4).

    وسيقودنا ذلك إلى اكتشاف الحقيقة العلمية الواقعية، وهي أنَّ مواطن الوفاق بين المسلمين تصل إلى نسبة ثمانين بالمائة، لأنَّ اختلاف الاجتهاد لدى الشيعة الآن، ولدى السنة في الماضي، قد استطاع أن يحمل إلينا تنوّعاً في الآراء لدى الفريقين، بحيث لا ترى رأياً في الفقه الشيعي إلاّ وترى ما يقابله في الفقه السني، والعكس صحيح أيضاً..

    وقد عاشت جامعاتنا العلمية في النجف وقمّ والأزهر هذه التجربة في الدراسات المقارنة من ناحية المبدأ، وننتظر أن تتطور إلى الأفضل في المستقبل القريب، لنصل من خلال ذلك إلى الوحدة الفكرية على أكثر من صعيد.

    وربَّما كنّا نحتاج إلى التأكيد على تأصيل المفاهيم العامة لبعض القضايا المهمة، كما في مسألة التوحيد والشرك والكفر والإيمان.. التي قد يكثر الحديث عنها لدى المسلمين في ما قد يتهم بعضهم بعضاً بالشرك تارة، وبالكفر أخرى، وبالمروق عن الدين ثالثة، وذلك من خلال ما يحملونه من آراء حول مفهوم الكفر والشرك، أو في ما يعتقدونه من معتقدات، دون إفساح المجال لهم ليوضحوا فكرتهم وليناقشوا فكرة الفريق الآخر(5).

    وقد يكون من الخير لنا أن نشير إلى ضرورة التوفر على دراسة الأسلوب القرآني في الحوار ومواجهة الفكرة المضادة، ومتابعة الفكرة الموافقة، لنستطيع من خلال ذلك أن نتقي اللّه في ما نختلف فيه كما نتقيه في ما نلتقي عليه، فإنَّ ذلك يبعدنا عن أساليب المهاترات الكلامية والمزايدات الفكرية الحماسية، ويقربنا إلى الحقيقة والعلم انطلاقاً من الحياد الفكري في مواجهة كلّ الأفكار والآراء.

    ومن المهم في هذه المناسبة أن نلفت الأنظار إلى أنَّ مثل هذه الساحة الفكرية تحتاج إلى شجاعة في مناقشة الأفكار، وفي اتخاذ القرار المنسجم مع نتائج المناقشة، كما تفرض على المتحاورين فيها أن لا يقفوا في دائرة الضوء الاستعراضي الذي يغري بالمزايدات، ويبعث على التعصب، بل لا بُدَّ لهم من أن يواجهوا المسائل بالفكر الهادئ، والعقل الـمتّزن، والعاطفة العاقلة، وأن لا يستعجلوا الوصول إلى النتائج، لأنَّ ذلك قد يؤدي إلى السطحية والارتجال في معالجة القضايا التي تقع محلاً للبحث والمناقشة. ولعلّ من البديهي أن تبقى الساحة مفتوحة للعلماء وأصحاب الفكر بعيداً عن مواقع العامة من النّاس المستغرقين في مناخ الإثارات العاطفية، وغير المهتمة بالأخذ بأسباب العلم.

    وحدة القضية والمصير

    أما في الجانب السياسي من الوحدة، فإننا نلتقي بالواقع الطائفي في الحقل السياسي الذي يحوّل كلّ طائفة من المسلمين إلى كيان مستقل في قضاياها، وفي مصالحها، وفي حركة الحاضر والمستقبل، حتى أصبح لنا في ساحتنا اللبنانية قضايا شيعية في المناطق التي يعيش فيها المسلمون الشيعة، وقضايا سنية في المناطق التي يعيش فيها المسلمون السنة. لقد تـمّ اعتبار جنوب لبنان في وقت ما قضية شيعية، كما اعتبرت قضية إقليم الخروب وطرابلس مثلاً قضية سنية، بحيث يشعر كلّ فريق بأنَّ علاقته بقضية الفريق الآخر ليست قضية ذاتية، بل هي قضية خارجية تحكمها الظروف السياسية، أو المجاملات الاجتماعية، وما إلى ذلك.

    وقد لا يكون الأمر بهذه الدقة بشكل شامل، ولكنَّ الظاهرة تتحرك في هذا الاتجاه. وربَّما كان لطبيعة النظام اللبناني الطائفي الأثر الكبير في ذلك، عندما ربط مصالح النّاس بطبيعة الانتماء الطائفي، الأمر الذي دفعهم دفعاً إلى الارتماء في أحضان التجربة الطائفية التي تعمل على ترسيخ القوقعة الطائفية وتعميقها في داخل الذات في حركة الفكر والشعور وفي نطاق واقع العلاقات. وقد استطاعت اللعبة السياسية التي خططت لها "المارونية السياسية" أثناء حكمها للبنان، أن تثير حالة خوف مضاد في النطاق الإسلامي الداخلي، في ما كانت تثيره من إمكانية أن تأخذ هذه الطائفة دور تلك، وبالعكس، لتخلق في داخلهم حساسيات مذهبية، في مستوى العقدة المستحكمة التي تتحول بالتالي إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تفجّر الساحة كلّما أريد لها أن تنفجر بالحقد والعداء والبغضاء. وما زالت اللعبة تتحرك في كلّ اتجاه، وعلى أكثر من صعيد.

    هذا في الواقع اللبناني، أمّا في الواقع الذي يعيشه المسلمون خارج لبنان، فليست هناك حالة سياسية معقدة بين المسلمين على أساس مذهبي في ما تعنيه الامتيازات والمصالح، بل كلّ ما هناك أنَّ في هذا البلد أو ذاك حكماً معيّناً ضاغطاً على شعبه، من دون فرق بين أهل مذهب ومذهب، ولكن قد تكون هناك أكثرية تخضع لاضطهاد كنتيجة لمعارضتها للحكم، وقد تكون هناك أقلية معارضة مضطهدة، وربَّما يتخذ ذلك وضعاً طائفياً سلبياً عندما يختلف الحكم في صفته الطائفية عن فئات المعارضة في صفتها الطائفية، مما قد يوحي بوجود مشكلة طائفية سياسية في الساحة.

    وقد يحدث لبعض الأوضاع السياسية المتنوعة أن تؤدي إلى بعض حالات الصراع، فقد تُثار الأجواء الطائفية ـ مثلاً ـ انطلاقاً من العلاقات التي تحكم أحد الأنظمة بطائفة معينة تعيش في ظلّ نظام آخر تسوده طائفة أخرى، ممّا قد يخلق معارضة في داخل هذا البلد لمصلحة النظام في البلد الآخر، وتكون النتيجة أن يقع المعارضون تحت تأثير الاضطهاد، أو يشعر الحاكمون بأنَّ هذه الطائفة أو تلك لا تحمل الانتماء الإيجابي لبلدها، فتصبح موضع شك أو اضطهاد. وهكذا تصور القضية كما لو كانت حالة طائفية في ما تسنّه الطائفية السياسية من مضمون، لا سيما إذا كان هذا النظام يتحمس لمذهب معين، ويحمل همّ الدعوة إليه، ولو من ناحية رسمية سياسية، ويرفض المذهب الآخر، فيختلط جانب العقدة المذهبية بالعقدة السياسية، لتتحول المسألة إلى كارثة كبرى تزيد التناقضات بين المسلمين اشتعالاً.

    وقد نلاحظ أنَّ بعض المحاور الدولية والإقليمية تعمل على الاستفادة من بعض تلك السلبيات في تحويل الصراع إلى صراع طائفي، لتضع القضية السياسية في نطاق الصراع المذهبي، فتتوتر الساحة مذهبياً في ما يمكن أن يخلقه هذا الوضع من عناصر الإثارة الطائفية، في الوقت الذي نعلم فيه جميعاً، أنَّ موضوع السنّة والشيعة بمدلوله الفقهي والشرعي، لا دخل له في ذلك، بل كلّ ما في الأمر أنَّ هناك صراعاً دولياً وإقليمياً يتحرك في الساحة من منطلقات سياسية بعيدة كلّ البعد عن هذه الأضواء(6).

    والآن، كيف يمكن مواجهة هذا الطابع السياسي للخلاف بين المسلمين(7).

    ولهذا، فإنّنا قد نجد في هذا الواقع السياسي الذي يعيشه المسلمون فرصةً للتأمل والتفكير في ضرورة توحيد الموقف، أو محاولة تقريبه من أجل قضايا مشتركة، أو مشاريع موحّدة، لمواجهة الهيمنة الضاغطة بموقف حاسم ينطلق من وعي قضية المسلمين كقضية إنسانية في ما تعيشه قضايا الإنسان من مواقع الحرية والكرامة والعنفوان، من دون إثارة الموضوع بطريقة طائفية معقدة.

    وقد لا يكون من الواقعي أن نطلب الآن من المسلمين إلغاء خصوصياتهم المذهبية في ظل هذا الواقع الطائفي المتجذر في أعماق حركة الواقع السياسي، لأنَّ ذلك يمثّل طرحاً مثالياً على مستوى المرحلة ـ على الأقل ـ في ما تفرضه من وجود زعامات، ومواقع قوّة، ومصالح، وعلاقات، وتحالفات داخلية وخارجية، ممّا لا يمكن إلغاءه دفعة واحدة.

    ولكنّنا نثير في الجو إيجاد حالة وحدوية من خلال القضايا المصيرية التي يعيشها المسلمون على مستوى ما يمثّله الوجود الإسلامي في مقابل الوجود الآخر، سواء في ما يتحرك على مستوى الداخل أو في ما يتحرك على مستوى الخارج من قضايا المسلمين في المنطقة وفي العالـم، وذلك بمحاولة ربط هذه القضايا بالمبادئ والقيم الإسلامية السياسية والاجتماعية في الحياة، لتتحول هذه الحالة الوحدوية إلى حالة إسلامية عميقة في وجدان كلّ مسلم، ليكون ذلك أساساً للبحث في المواضيع الواقعية المختلف عليها، بعيداً عن الحواجز النفسية، لأنَّ وحدة الموقف السياسي في بعض المواقع عندما تمتزج بالحالة الإيمانية الوجدانية الملتزمة بخطّ الإسلام في أجواء التقوى، سوف تسهّل الكثير من الحلول للمشاكل العالقة في الساحة(8).

    إنَّنا نعتقد أنَّ مثل هذا الاتجاه في مواجهة التشنّج السياسي الطائفي في داخل المجتمع الإسلامي، يمكن أن يحقق لنا خطوة متقدمة في سبيل الوحدة، لأنَّنا سنكتشف أنَّ هناك أكثر من أرض صلبة نقف عليها في مواقعنا الإسلامية، وأنَّ ما نختلف فيه يمثّل حالة طبيعية واقعية.

    وفي المجال الإسلامي العربي العام، يمكن لنا أن نلتقي بالطروحات الوحدوية الإسلامية التي تتحرك في الساحة، لنقوّيها ولنتفاعل معها، ولنعمل على اكتشاف الجوانب الإيجابية فيها، ومعالجة الجوانب السلبية بالكثير من الدراسة للقضايا المثارة على أرض الصراع بطريقة ميدانية تحاول أن تفصل بين ما هو المحور الإقليمي أو الدولي المرتبط بالمواقع الاستراتيجية للصراع في العالـم، وما هو الخطّ الإسلامي الذي تتحرك فيه المصلحة الإسلامية العليا. فقد نرى أنَّ كثيراً من المواقع التي نمنحها الصفة الإسلامية في الصراع ليست كذلك، سواء أعطيناها سمة شيعية أو سنية. وقد نلمح في الساحة استغلالاً لذلك لحساب أعداء الإسلام والمسلمين.

    إنَّنا نؤكد على ملاحقة التجارب الوحدويّة في العمل الفكري والسياسي والاجتماعي على مستوى الساحة السياسية، وعلى الاستفادة من الإيجابيات كنافذة تطل على المواقع المشرقة من مواقع الأمل، والاستفادة من السلبيات في معرفة الأخطاء الواقعية في الساحة، لنتفاداها ولنفكر معها بأنَّ الفشل في ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة أو سقوط المشروع، فقد يكون من الضروري أن نفكر بالتجربة الواحدة بعد الألف، لأنَّ ذلك هو خيارنا الوحيد في بقاء الإسلام حياً متحركاً في الساحة كفكر وكشريعة، وكمنهج حياة، وكأمة طليعية تحمل رسالة التغيير للعالـم من أجل الحضارة الفريدة التي تتآخى فيها الروح والمادة، والعلم والإيمان، ويمتزج فيها الغيب بالواقع، والعبادة بالسياسة، والفرد بالمجتمع..

    لا وحدة بدون إسلام

    إنَّه الإسلام الذي نحمله من موقع الإشراق الذي ينفتح على الحياة بكلّ عمقه وامتداده، ليجعل الحياة تتحرك في إشراقة الروح المتحركة في نطاق الواقع.

    ولنتذكر دائماً أنَّه لا معنى للتفكير بوحدة إسلامية على مستوى العاطفة والفكر والشريعة والسياسة بدون إسلام، لأنَّ الصفة التي نحملها في كلمة الإسلام، ليست مجرد واجهة تشير إلى المجموعة البشرية العددية التي نمثّلها، بل هي كيان متكامل في الفكر والروح والعمل في ما يمثّله من قاعدة للفكر والعاطفة والحياة.

    ليبق لنا من الإسلام المضمون، لا الشكل، والصورة والإطار، وبذلك يمكننا التحرك من أجل معالجة المشاكل التي تحكم واقع المسلمين، ويمكننا أن نلتقي مع الآخرين من غير المسلمين، ونتعايش معهم من مواقع الانفتاح المنطلق من الفكر والروح، لا من مواقع الانغلاق القائم على التعصب والبغضاء.

    أطلقوا الإسلام في الهواء الطلق ليتنفس في دائرة الضوء، ولا تحبسوه في العلب الطائفية المظلمة، فإنَّكم بذلك تحررون أنفسكم وواقعكم وحاضركم ومستقبلكم من كلّ أغلال الآخرين. لنكن الفكر الذي يصرخ ويوحي ويحاور في ساحات الإنسان، لا الطبل الذي يرنّ ويدوّي في الفضاء، ولكنَّه لا يحمل لنا إلاَّ الدويَّ والرنين من دون معنى ولا حياة. ولنكن الواقع الذي لا يبتعد عن مواقع السمو، لا الخيال الذي يحلق بعيداً في الفضاء في متاهات الأوهام والأحلام.




    ----------------------

    (1) أن ننطلق من وحدة المذهب وتعدد الاجتهادات، لنؤكد على إمكان وحدة الدين مع اختلاف المذاهب، حتى ننطلق من هذا إلى اعتبار أنَّ الحالة الشعورية التي يعيشها أتباع المذهب الواحد مع اختلاف الاجتهادات، يمكن أيضاً أن تساهم في خلق حالة شعورية إسلامية مع اختلاف المذاهب.

    (2) وهذا ما يجعل العوائل المتنوعة في المذهب تستطيع أن تكتشف أنَّ الصورة التي كانت تحملها من خلال البعد، تختلف كثيراً عن الصورة الواقعية التي استطاعت أن تعيشها على الأرض، عندما هيأت لها العلاقات هذا الجانب. لأنَّه من الممكن للإنسان في حالات البعد الطائفي أن يتصور أنَّهم يجاملون أو أنَّ الآخرين ممّن يعتبرون التقية شيئاً مبرئاً، ولكن إذا نفذت إلى الداخل وإلى الواقع وأصبحت العلاقات علاقات عائلية طبيعية تستطيع من خلالها أن تقتحم المجتمع من خلال علاقاتك، عند ذلك تستطيع أن تكتشف أنَّ القضية هل هي مجاملة في ما يحاول الآخرون أن يوحوه أم أنَّها قضية حقيقية.

    (3) ولو بالطرق الرسمية الاستعراضية، لأنَّ القضية هنا ليست قضية العمق في المعالجة وإنَّما هي قضية الحالة الشعورية التي نريد أن نثيرها في الأمّة.

    (4) أن ندرس خلافاتنا الفكرية الإسلامية في تفاصيل العقيدة وفي الشريعة وفي التاريخ تماماً كما ندرس تاريخ الرومان وقوانين الرومان، وكما ندرس الجانب الفكري للفلسفة اليونانية أو لأية فلسفة أخرى. هناك ندرس تلك الأفكار من موقع يلتصق بالفكر فقط ولا يلتصق بالذات، وبهذا نستطيع أن نكون موضوعيين أمام النّاس. ومشكلتنا أنّنا نواجه خلافاتنا الفكرية من موقع الذات لا من موقع الفكر، وعندما تفرض الذات نفسها على الفكر، فإنَّ الفكر لا يستطيع أن يتحرك بحرية عند ذلك من الناحية الذاتية أو من الناحية العلمية.

    (5) لأنَّ المفاهيم الغائمة لا تخلق إلاَّ حالة غائمة وتتيح المجال لكلّ الطامحين الطامعين في خلخلة الموقف وفي انتهاز الفرص أن يلعبوا عليها من خلال تقديس الأخطاء ومن خلال تقديس المواقف المنحرفة.

    (6) من خلال المعنى المصطلح، إنَّ هناك استحقاقات سياسية لكثير من القضايا والمشاكل الملتهبة في الساحة يراد ترتيب الساحة من خلالها لتتوصل إلى النتائج التي تدخل في حساب هذا المحور الدولي أو ذاك. ولكن يعرفون أنَّ السياسة بمفهومها المجرد لا تحرك عواطف الجماهير بقدر ما تحركهم العناصر الطائفية، لذلك يحاولون إعطاء الجو السياسي شيئاً من الالتهاب العاطفي الذي تتكفل به الأحاسيس الطائفية.

    (7) قد نلاحظ الصعوبة في بحث هذا الموضوع، لأنَّه يتصل بكلّ الواقع السياسي الذي نعيش فيه وبكلّ اللعبة السياسية التي تتحرك على أكثر من صعيد، لا في بلدنا ولا في منطقتنا ولكن في العالـم كلّه. لهذا لن يستطيع الإنسان أن يُبسّط المشكلة ليدخل في الحلول البسيطة التي تحاول إلغاء المشكلة بجرة قلم. لكنَّنا نحبّ إثارة الفكر نحو ذلك لنفكر أكثر ولنتابع اللعبة. نحاول التفكير في الحل من خلال المفردات التي نكتشفها في تجاربنا المختلفة، أو من خلال المفردات التي تستقبلنا في ما نستقبل من تطورات على الأرض، أو في ما نستطيعه من اكتشاف كثير من خلفيات اللعبة التي ربَّما كنّا ضحيتها دون أن نفهم طبيعتها. إنّنا، كما قلنا في البداية، نريد إثارة الفكر نحو هذه المسألة، ولا نريد معالجتها بطريقة شاملة.

    (8) مثلاً يمكن أن تعتبر الآن القضية الفلسطينية شيئاً نجتمع عليه كمسلمين من خلال القيم الإسلامية التي نرتبط بها. يمكن أن نجعل قضية مواجهة الاستعمار ورفض خططه السياسية والاقتصادية والعسكرية أساساً للّقاء كمسلمين، لأنَّ الإسلام لا يمكن أن يقبل، من خلال المفهوم الحقيقي لما هي الحرية والعزة لدى المسلم، أية حالة استعمارية. وهكذا نستطيع أن نبحث عن القضايا المصيرية التي تمسّ وجودنا بالذات والتي تنبع جذورها من المبادئ الإسلامية الأصيلة
    [/align]





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]
    عوامل تمزق المسلمين‏ وإشكالية الوحدة

    في دراستنا الحالية لواقع المسلمين، نلاحظ أنّ‏َ العلاقة التي تشدّ المسلمين إلى بعضهم البعض، ليست بالمستوى الذي تتمثّل فيه الرابطة الوثيقة في وجودهم كأمّة، فلا نجد أمامنا إلاَّ بعضاً من المشاعر العاطفية المغلّفة بضباب كثيف من الأفكار المضطربة المتنوّعة، التي قد نلمحها في بعض الهزّات السياسية والإنسانية في حياة بعض الشعوب الإسلامية، ثمّ‏َ لا شيء بعد ذلك، إلاَّ بعض الاحتجاجات الطارئة والانفعالات الهادرة، التي سرعان ما تتلاشى صرخاتها في الهواء .

    ويتساءل الباحث، وهو يرصد هذه الظاهرة القلقة في حياة المسلمين، عن العوامل المؤثرة في ذلك.

    قد يفضّل البعض أن يُرجع ذلك إلى ضعف روح الإسلام في نفوس المسلمين، الأمر الذي جعلهم يبتعدون عن الشعور العميق بالأسس الفكرية والروحية والشعورية التي توحدهم وتخلق في داخلهم الإحساس بعمق الوحدة المصيرية التي تشدّهم إلى الواقع. ثمّ‏َ يضيف هذا البعض إلى ذلك، أن‏َ الحل الوحيد يكون بالعمل على إعادة الإسلام إلى وعي المسلمين فكراً وعاطفة وسلوكاً، وإعادة المسلمين إلى الإسلام. وإنَّنا إذ نتوقّف عند هذا الخطّ في عرض المشكلة ومعالجتها، قد نوافق على طبيعة الفكرة، ولكنَّنا لا ننسجم مع الطريقة السهلة المبسّطة لأسلوب الطرح والعلاج، إذ إنّ‏َ مواجهة المشاكل بهذه الطريقة، تبعدنا عن الدراسة الواعية للجذور العميقة التي ترتبط بها المشاكل، و تبعدنا - في الوقت نفسه - عن فهم الواقع الموضوعي في نطاق الظروف الطبيعية المحيطة.

    ولعلّ الكثيرين منّا لا يزالون يعالجون القضايا المعقّدة بهذا اللون من التبسيط والسهولة، حتى يخيل للآخرين أنّ‏َ البعد عن الشعور العميق بوحدة المسلمين، لا تمثّل مشكلة في حساب الواقع، وإنَّما تمثّل شبح مشكلة، ما يبعدنا عن الشعور بالخطر، وبالتالي عن التعامل مع الواقع من موقع وعي الخطورة.

    الحواجز التي تعمّق الفواصل بين المسلمين‏

    إنَّنا نحاول هنا الإشارة إلى بعض العوامل والمؤثرات الطبيعية التي أسهمت في تمزّق المسلمين، وخلقت في داخلهم الحواجز النفسية والفكرية التي تعمّق الفواصل بينهم، ذلك أنّ‏َ المسلمين قد ورثوا من التاريخ الكثير من الخلافات المذهبية المتمحورة حول عناوين وقضايا عدّة ، لعلّ أبرزها ما له صلة بشؤون الخلافة والإمامة، وبشؤون الفقه والشريعة، وبقضايا الفلسفة والكلام، وبجوانب الحكم والسياسة العامة. وقد كان لهذه الخلافات التاريخية دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، وفي تفجير الحروب، وفي إهراق الدماء البريئة الطاهرة. وربَّما كان البعض من هؤلاء الذين يعيشون هذه الخلافات، ممّن يدفعه الإخلاص للفكرة الخطأ إلى القتال باسم القداسة والتديُّن لغفلته عن طبيعة الخطأ في فكرته، وربَّما كان البعض منهم يقاتل باسم المنافع والمغانم بعيداً عن أيّ‏ِ ارتباط بالحقّ أو بالإسلام، ولكنَّه يستلّهما من أجل مآربه، كما روي عن الإمام عليّ (ع) وهو يشير إلى الموقف من الخوارج في جانب، وإلى الموقف من معاوية في جانب آخر أنَّه قال:

    "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه، كَمَنْ طلب الباطل فأدركه"(1).

    وفي كلتا الحالتين، كانت الخلافات تتّجه إلى العنف الجسدي والفكري والكلامي انطلاقاً من المواقف المخلصة للخطأ ظناً أنَّه الحقّ، أو من المواقف المشدودة للأطماع والنزوات الشخصية السائرة في اتجاه الباطل.

    وقد أدى الفهم الخاطى‏ء للحديث النبوي دوره الكبير عندما تمّ توظيفه في إضفاء صيغة القداسة على ما يختلفون فيه، فقد شعر الحاكمون وأتباعهم والنافذون من الشخصيات الذين يرعون هذا الخلاف، أنّ‏َ قدسية الخلاف تفرض وجود شرعية دينية لما يختلفون حوله من أشخاص، وما يفيضون فيه من قضايا، لذا كان لا بُدَّ من وضع الأحاديث على لسان محمَّد (ص) في مختلف هذه الأمور، ما أوجد في نفوس الساذجين والبسطاء من المسلمين بعداً جديداً للقضية، يجعل الاندفاع في هذا السبيل- الذي يسّروا طريقه - شأناً دينياً مقدَّساً، ويجعل من التضحية في هذا الاتجاه هدفاً شرعياً عظيماً، ولا بُدَّ لهذا كلّه من أن يثير الحماس في نفوس هؤلاء وأولئك، حتى يدفعهم إلى السير في الخطوات والمواقف الحادّة التي تغري بالقتل والقتال.

    وسارت الحياة الإسلامية شوطاً بعيداً في هذا المجال، وساعدت على خلق الحواجز وتعميق الفواصل بين المسلمين، بالمستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية في المجالات العامة. وتطوّر الأمر إلى أبعد من ذلك، فكانت فتاوى التكفير، التي يكفّرون بها بعضهم بعضاً بمختلف التحليلات والتأويلات القريبة والبعيدة، حيث يتحوّل المسلم إلى كافر نتيجة فكرة فرعية، أو فكرة خلافية لا تمسّ الجذور في العمق. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تتوتّر المشاعر الدينية في مثل هذا الجوّ المشحون، في الاتجاه المضادّ للعلاقات الطبيعية التي يجب أن تشمل المسلمين في واقعهم الاجتماعي والسياسي والنفسي.

    وما زالت هذه الأجواء التاريخية تفرض نفسها على الساحة، وتترسّخ بفعل ذلك التراث الضخم من الكتب الإسلامية في قضايا الكلام والفلسفة والشريعة والتاريخ، ما جعل للقضية عمقاً ثقافياً وفكرياً يتوارث المسلمون أفكاره كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه، في أجواء متنوعة قد تفرض عليهم اللقاء والتعاون، ولكنَّه يبقى في حدود المجاملة والتقيّة والمداراة التي لا تنفتح فيها النفوس على الحقيقة بتجرّد وموضوعية وحيادية، بل يظل للحقيقة المزعومة في نفوس أصحابها، المعنى الجامد الذي لا يمكن أن يتحوّل إلى أيّ‏ِ شي‏ء يثير الحركة في اتجاه اللقاء، لأنّ‏َ القضية المفروضة من خلال ذلك كلّه، هي أنّ‏َ الصفة الطارئة تحوّلت إلى ما يشبه الصفات الذاتية التي لا تنفصل عن الشخص مهما اختلفت الظروف والأفكار.

    وبهذا، أصبح للمجموعات التي تمثل هذا الفريق أو ذاك مصالح مستقلّة، تختلف عن مصالح الفريق الآخر، تماماً كما هي الدول المستقلّة، وربَّما ينتج الموقف لكلّ منهما تحالفات مع أعداء الإسلام للاستعانة بهم على الجانب الآخر.

    اليد الاستعمارية والهوس الطائفي‏

    ومن هذا كلّه، نشأت الطائفية السياسية التي تحاول أن تنظر إلى الشخصية الطائفية كإطار يحدِّد للأفراد صفتهم السياسية، وكان أن دخل الاستعمار الكافر مع كلّ جنود الكفر الفكريين، ليعبث بالمسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية، من خلال الإيحاء لهم بالحماية الطائفية لكلّ فريق منهم، أو بتغليب جانب على آخر، في حالات الإثارة التي يصنعها بأساليبه الشيطانية الخفيّة، وذلك بإبراز عناصر الإثارة والتّفرقة والخلاف في الساحة، ما يؤدّي إلى التقاتل والتنازع في المجالات الثقافية والاجتماعية والعسكرية... ثمّ‏َ يتدخّل بينهم بصفة الفريق الحياديّ الذي يحمل لواء الصلح والسلم وإنهاء النزاع ضمن شروط وأوضاع جديدة لا تخلو من ثغرات وسلبيات تخدم مصالحه الاستعمارية في العاجل والآجل.

    ولو درسنا أغلب الحالات الطائفية السلبية وفتّشنا عن جذورها، لرأينا اليد الاستعمارية الخفيّة تختفي وراء كثير من أساليب الإثارة والتفجير، التي يُستغلّ‏ُ فيها الهوس الطائفي، والبدائية السياسية، والتخلّف الفكري، من أجل توليد المزيد من المشاكل والخلافات التي تزيد القضية عمقاً.. ولا تزال اللعبة تفرض نفسها على الساحة، واللاعبون يتحرّكون فيها بكلّ حرية، وتبقى أدوات اللعبة المتوفّرة فيها تكفل لحركة اللعب بمصائر الإسلام والمسلمين كلّ الشروط الموضوعية للنموّ والازدهار، وتستمر المخطّطات الاستعمارية تعمل في الإسلام والمسلمين تمزيقاً على جميع المستويات باسم الطائفية والطائفيين من الزعماء الذين يعيشون على حساب الإسلام، ولكن من دون إسلام.

    وكانت العصبيّات والقبليات والعنصرية التي ألغاها الإسلام من حسابه في أفكار المسلمين ومشاعرهم، تأخذ حجمها الطبيعي في حياة المسلمين، بمختلف عناصر الإثارة في العهود الإسلامية الأولى، كما هو شأن المشاكل التي تحرّكت في اتجاهات مضادّة بين فريق يحتقر الموالي الذين دخلوا الإسلام، باسم التفوّق العنصري للعرب والعروبة، وبين فريق يحتقر العرب أو يحاول التقليل من شأنهم على أساس التفكير الشعوبي.

    وفي ظلّ هذا الصراع، وجدت أحاديث المفاضلة بين العرب والموالي مجالاً رحباً لها في النشاطات الفكرية المختلفة، سواء في النثر أو الشعر أو الخطابة، وكان لا بُدَّ لهذه النشاطات من أن تستذكر أحاديث العصبيات، مثل التفاخر بالآباء والأجداد والغزوات، والتاريخ المتحرّك في أجواء الكفر، فوسموا الانتصارات التي تحققت في المعارك الإسلامية بطابع الزهو بالقبلية أو العنصرية بعيداً عن الطبيعة الإسلامية لهذه المعارك والانتصارات. وكان أن حاول كلّ فريق من هؤلاء وأولئك أن يأخذ لنفسه حجماً قومياً داخل الحياة الإسلامية من أجل تحقيق مزيد من الانتصارات على الآخرين من المسلمين. وبذلك بدأت الصراعات القومية تفرض نفسها على حركة التاريخ الإسلامي في مسار بعيد عن الروح الإسلامية المنفتحة الواعية. وإنَّنا نجد في تاريخ الخلافة العباسية نماذج كثيرة من ملامح هذا الصراع الذي استطاع أن يهزَّ قواعد الخلافة والخلفاء حتى انتهى بها وبهم إلى الزوال.

    "القومية" الأوروبية عامل تمزيق لا توحيد

    وجاء العصر الحديث، والأجواء الإسلامية لا تبتعد عن هذا الاتجاه، من خلال بروز العنصر التركي الذي كان يحاول أن يفرض نفسه على الواقع الإسلامي كعنصر مميّز في شخصيته، وذلك من خلال الخلافة العثمانية التي كان الخلفاء فيها أتراكاً وكان مركزها تركيا. وقد فرض هذا الواقع نفسه على الجانب الشعوري للإنسان المسلم غير التركي، لا سيما وأنّ‏َ القضية لم تتّصل بالناحية النفسية فحسب، بل اتّصلت بالجوانب الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بفعل ما كان يعاني منه المسلمون الآخرون من اضطهاد وتشريد وتخلُّف وتجهيل، الأمر الذي خلق أرضية صالحة لولادة الشعور القومي أو الإقليمي، ولكنَّه شعور كان يتميّز بالتململ والخجل والحياء والخوف من التعبير عن نفسه من خلال النوازع الدينية التي تدعوه إلى أن يمارس جهداً كبيراً في سبيل ضبط مشاعره وخطواته حفاظاً على القوّة الإسلامية، ما خلق في داخله نوعاً من التردد والقلق والحَيْرة، فكان يتمنّى أن تعمد الخلافة الرسمية إلى تجاوز أخطائها والقيام بالإصلاحات الضرورية، وكانت هذه التمنّيات تتمثّل في المطالب الإصلاحية التي تقدّم إلى المسؤولين، لكنّها لم تقابل إلاّ بالرفض والتنكيل والتعذيب والإعدام.

    الهوس القومي كمعوّق للوحدة

    وكانت الدول الأوروبية تراقب كلّ هذا التململ وتشجّعه لتحوّله إلى ثورة، وبما أنّ‏َ هذه الدول كانت تخاف الروح الإسلامية، لأنَّها تعرف أنّ‏َ هذه الروح تشكل مانعاً لها من تنفيذ مخططاتها الاستعمارية، لأنَّها تمثّل القوّة الروحية التي تدفع الإنسان المسلم إلى مواجهة الكفر، أيّاً كان نوعه، بكلّ قوّة وإصرار، حتى في أشدّ الحالات صعوبة وضراوة، فكان أن أطلقت في الساحة الفكرية والسياسية ألواناً من الشخصيات المصطنعة التي سعت إلى ربط الإنسان المسلم تارة بتاريخه السابق على الإسلام، كالفرعونية والآشورية والفينيقية والساسانية والطورانية وغيرها، وتارة أخرى ب"القومية" ذات العصب العربي والفارسي والهندي والتركي وغيرها من العناصر التي يختلف النّاس حولها، فتحوّل الإسلام بفعل هذا المخطّط الاستعماري إلى عنصر طارئ على الشخصية، فلم تعد له أصالته في عمق الإنسان المسلم وفي تاريخه، حتى أنَّنا أصبحنا نقرأ الكتب والأبحاث التي تتحدّث عن الفتح الإسلامي في بعض البلدان الإسلامية كانتكاسة قومية في نطاق حالات القهر والغزو الخارجي الذي تتعرّض له الأمّة، وبدأت القضية تفرض نفسها من خلال استغلال الواقع السيئ الذي يشوّه الحكم الإسلامي في نفوس أتباعه ليأخذ صورة الحكم التركي بدلاً من صورة الحكم الإسلامي، وتحوّل المستعمرون في وعي بعض الأمم لا سيما العرب إلى منقذين ومحرّرين على أساس الوعود التي قطعوها على أنفسهم للعرب بتحريرهم من السلطة العثمانية، ليحقّقوا لهم الحكم الواحد في الدولة العربية الواحدة. وقد استغلّ الاستعمار الكافر ذلك التفكير الساذج لدى أبناء الأمّة، فدخل إلى بلاد المسلمين تحت عنوان الفاتح المحرّر وفي زهو الفاتحين المقبولين في البداية، إلاّ أنّ‏َ المسلمين المخلصين لإسلامهم، وكما تؤكد أخبار تلك الفترة، وقفوا أمام هذه المخطّطات، وواجهوا الاستعمار البريطاني بكلّ قوة بقيادة علماء المسلمين، كما يحدّثنا التاريخ عن ثورة العشرين في العراق.

    وفي ظلّ هذه الأجواء، أخذت الدراسات والأبحاث الفكرية تفسح في المجال للشخصيات المصطنعة كي تفرض نفسها على الذهنية والنفسية المسلمة، وبدأت الكتب التعليمية التي تقدّم التاريخ إلى الناشئة تحفل بالكثير من البرامج التي تتحدّث عن التاريخ القديم وعن الشخصية القومية الإقليمية، أمّا الشخصية الإسلامية، فلم يرد ذكرها إلاّ في بعض الحالات كنتاج للشخصية القومية، أو كدين لا دخل له بتكوين الشخصية، بل يكتفي بأن يمنح الإنسان المزيد من الروح العبادية الخاشعة أمام اللّه، دون أن تكون له أيّةُ علاقة بالحياة الخاصّة والعامّة.

    العصبية الإقليمية

    وما لبثت أن دخلت مفاهيم جديدة ك "القومية" و"الإقليمية" الحياة العقائدية والسياسية، فأصبح لكلّ منها إطار عقيدي يرتكز إلى فلسفة مادية أو روحية. وتحوّل هذا الإطار إلى تنظيم حزبيّ يفرض نفسه على الساحة، وتنوّعت الأحزاب الوطنية والقومية في صيغ متشابهة مرّة ومتباينة أخرى، وعادت العصبيات لتفرض نفسها من خلال هذه الشخصيات الجديدة، وبدأ الحديث عن الإخلاص للأرض بعيداً عن المبدأ والرسالة، وعن التضحية في سبيل القومية بعيداً عن الإسلام. وسرعان ما تمخضت في وعي اللاعبين على الساحة صورة أدوات اللعبة، فكانت الاتّهامات التي تنطلق وتوجّه إلى هذه الفئة لأنَّها اتصلت بهذا الأجنبي مع التأكيد على صفة الأجنبي بما تحمله من معان نفسية وفكرية مع أنَّه مسلم، وتُوجّه إلى تلك الفئة لأنَّها تعاونت مع القومية الأخرى في إطار الإسلام بعيداً عن قضايا الوطن بمفهومه الغربي، أو عن قضايا القومية بمفهومها المحدود، وهكذا تمّ انفصال المسلمين عن الشعور بالشخصية الإسلامية بما تمثّله من معان وأوضاع وتحرّكات وعلاقات، وتحوّلوا إلى جماعات متنوعة، كما قال الشاعر الحماسيّ القديم:

    [align=center]وتفرقوا شيعاً فكلّ قبيلة
    فيها أمير المؤمنين ومنبرُ[/align]


    وقد أسهم ذلك في تضخيم الشخصيات التي تبحث عن طموح سياسي من خلال هذه الأوضاع المرتبكة - في نطاق ما تسمح به لعبة الأمم - وعادت لنا القضية في ثوب جديد من ألوان الحكم وأساليبه وشخصياته، بعيداً عن كلّ كفاءة أو إخلاص، إلاّ كفاءة التنفيذ الدقيق لما يريده الآخرون، كلّ الآخرين.

    "الوحدة الإسلامية" شعار دون مضمون‏

    في ظلّ هذا الواقع المتمزق المهلهل للحياة التي يعيشها المسلمون في العالم، نلاحظ تنامي الشعارات في الساحة التي تتناول "الوحدة الإسلامية" و"التضامن الإسلامي" و"الدول الإسلامية" كمجموعة تحمل وجهاً واحداً إسلامياً.. وقد يواكب هذه الشعارات حركة انفعالية قوية تتمثّل بالأصوات التي ترتفع بحماس دفاعاً عن مصالح المسلمين المهدورة في هذا الجزء من العالم أو ذاك، وتتحرّك في علاقات ومعاهدات ومؤتمرات بين الحكّام المسلمين، وتنطلق في قرارات وتوصيات لها أول وليس لها آخر. ولكنَّنا عندما نبحث عن خلفيات ذلك كلّه، سنجد أمامنا الكثير من مصالح الاستعمار هنا وهناك في صراع الدول الكبرى التي تريد أن تختبئ خلف الشعور الإسلامي العاطفي الذي يحمّل هذه الشعارات الكبيرة الكثير من الأمنيات، ساعية لكي تجعل منه أداة من أدوات الصراع التي يُحارب بها المسلمون بعضهم بعضاً. ولذا، فإنَّها لا تحاول أن تعطيها أيّ مضمون جدّيّ وأيّة روح حركية، بل تجعلها خالية من كلّ مضمون، فارغة من كلّ روح، لأنّ‏َ مهمتها هي مهمة الطبل الذي يرنّ دون أن يحمل في داخله سوى عنصر الإثارة والضجيج.. ولعلّ السرّ في ذلك كلّه، هو أنّ‏َ الذين يوكل إليهم أمر تحضير الشعارات في اللجان التحضيرية والتنفيذية، هم أوّل من يخاف منها على ما يملكون من امتيازات داخلية وخارجية.. ولذا فإنَّهم مؤتمنون على الاحتفاظ بسرّ المهنة، وعلى توفير الشروط الضرورية للعبة السياسية التي يُراد لها أن تمرّ بسلام.

    ونحن قد لا نعدم الأوضاع الإسلامية التي قد تدفع اللعبة إلى أن تتجاوز ما يخطّط لها من أصول وقواعد وحدود، فتنقلب على اللاعبين من خلال الظروف الموضوعية التي قد تكون جاهزة للتحرّك بعيداً عن وعي الآخرين ومخطّطاتهم وأساليبهم وتمنّياتهم، وذلك كما ينقلب السحر على الساحر في كثير من الحالات. وقد نلاحظ، في دراستنا لهذا الواقع، وجود كثير من العوامل الجزئية المتمثّلة ببعض الأوضاع الشخصية التي تتجسّد في طموح سياسيّ شخصيّ أو عائليّ يطرح نفسه في الساحة كأداة من أدوات اللعبة التي تحرّكها القوى الكبرى في تخطيطها الشيطانيّ لتفجير العالم الإسلامي وتقسيمه، وإجهاض طموحاته الكبيرة في التكامل والنموّ والتقدّم.

    المخطط الشيطاني في مواجهة الروح الإسلامية

    ونتحسّس أثر هذا التخطيط الشيطانيّ في بعض العوامل الاقتصادية التي تتدخّل في حركة الواقع من أجل أن تأخذ لنفسها حجماً كبيراً في تحريك الاقتصاد لمصالحها الاستغلالية والاحتكارية، الأمر الذي يدفعها إلى مواجهة الروح الإسلامية التي ترفض مثل هذا المسار، بالحرب المتنوعة الألوان والأساليب التي تنسجم مع أجواء الكفر والضلال في عملية تنسيق وتخطيط، ما يفسح في المجال لكثير من القوى لتلعب لعبتها في تمزيق المسلمين بما يكفل لها تحقيق أغراضها وأطماعها في ثرواتهم، وهذا ما نواجهه في اللعبة الاستعمارية التي تحاول تفجير البلاد الإسلامية بمختلف الصراعات الشخصية والطائفية والإقليمية والقومية من أجل استنزاف الطاقات الإسلامية وتحويلها إلى طاقات تتفجّر ضدّ نفسها، وبذاك تصبح طاقات خائرة متعبة لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نواجه الهجمة الكبرى على الثروات الموجودة في بلاد المسلمين التي تتصارع الدول الكبرى في سبيل السيطرة عليها، وهي تعمل على أن يعيش المسلمون أجواء اللعبة، فينقسمون بين فئة تؤيّد هذا المعسكر لتنفّذ مخطّطاته في آفاق الحرب والسلم، وفئة تؤيّد المعسكر الآخر في الآفاق التي يتحرّك فيها.. وهكذا اندفع المسلمون إلى مجالات جديدة من مجالات التمزّق السياسي.

    وما زالت المخطّطات الاستعمارية المغلّفة بالواجهات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تلعب لعبتها، من أجل ألاّ يقف المسلمون على أقدامهم كقوّة جديدة تطرح الحلول الإسلامية الفكرية والعملية للإنسان وللحياة من أجل إقامة عالم الحقّ والعدالة الذي كان هدف النبوّات والأنبياء، في ما عبّر عنه اللّه في قوله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط" (الحديد:25)، وما زال الجهاد في هذا السبيل يتحرّك من أجل تركيز القاعدة الصلبة على أساس متين.

    وقد نجد أمامنا التمزق الاجتماعي الذي يحصل من تغليب فئة اجتماعية على فئة أخرى من ناحية الحقوق والواجبات، أو بمنح امتيازات لبعض الطبقات أو الطوائف على حساب أخرى، من أجل إيجاد حالة صراع دائمة تفجّر الحقد في حياة المجتمع.

    الاختلاف في إطار الوحدة

    وإذا كانت الصورة السائدة تتراوح ما بين التشرذم الطائفيّ والتمزّق القوميّ والإقليميّ والتخلّف الحضاريّ، وما بين الصراعات التي تلتهب بعد كلّ تصريح من هذا وخطاب من ذاك، أو على قطعة أرض هنا وهناك، أو على مناطق نفوذ لهذه الجهة أو تلك، فكيف يمكن أن تتبدّل الصورة ويتغيّر الواقع؟ هل يكفي أن نقول في أسلوب بسيط سهل: ليعد المسلمون إلى إسلامهم، وليرجعوا إلى اللّه، وليعتصموا بحبله، ويلتزموا بميثاقه، فيجدوا أمامهم الأمّة الواحدة والهدف الواحد؟!

    إنَّه أسلوب جميل وسهل، ولكنَّه لن يقدم أو يؤخّر شيئاً ما دامت المشاكل كامنة في النفوس وفي الوسائل والأهداف.

    إنَّنا نعتقد أنَّه لا بُدَّ من البحث عن وسائل جديدة للعمل غير الوسائل الخطابية التي تكثر من الوصايا والنصائح والتوجيهات العامة التي لا تلامس الواقع، ففي النطاق الطائفي مثلاً، يحاول الكثير من المخلصين أن يتحدّثوا عن إسلام بلا مذاهب، وأن يواجهوا الموقف بشعارات الوحدة الإسلامية في جوّ ملي‏ء بالمثالية والخيال، كما لو كانت القضية مطروحة على ساحة خالية من العقد الصعبة.ولكن، هل يمكن أن تطرح القضية بهذه الروح، من دون النفاذ إلى عمق المشكلة وطبيعتها؟ وكيف يمكن أن نتجاوز هذا الفكر الضخم الذي يجرّ وراءه آلاف الكتب والأبحاث المشتملة على الردود حول هذا التشريع أو ذاك، أو في نطاق هذه الفلسفة أو تلك، أو من أجل هذا الشخص أو ذاك؟ وقد لا يقتصر تأثير ملف الانقسامات على الجانب الفكريّ، بل يتعدّاه إلى الجانب العمليّ والواقعيّ على الصعيد المجتمعيّ، ولا شكّ أنّ‏َ الهروب من هذا كلّه يمثّل تبسيطاً للأمور المعقّدة في غير اتّجاهها الصحيح.

    ربط المسلمين بالهدف الكبير

    وفي رأيي، لا بُدَّ من خطّة تربط المسلمين بالهدف الكبير، سيما وأنّ‏َ الخطر الكبير يتناول وجودهم، ومن الواضح أنّ‏َ عظمة الهدف وخطورته تربط الإنسان بالآفاق الرحبة، التي تتجاوز الحواجز النفسية في عملية انفتاح على الواقع المتحرّك أبداً في اتّجاه اللّه، وليس معنى ذلك أن نتنكّر للحواجز، بل كلّ ما هناك أن نتعامل معها بطريقة واقعية من خلال الاعتراف بالعوامل الفكرية والعملية التي ساهمت في وجودها وامتدادها، ما يدفعنا إلى تجميدها في الحالات التي يفرض علينا الواقع عملية التجميد، أو تحريكها في المجالات التي يمكن أن نتحرّك فيها بوعي ومرونة وإخلاص، أو تهديمها في ما نملك من وسائل واقعية تجمع بين عملية الهدم من جهة والبناء من جهة أخرى، لتكون السلبية خطوة في طريق الإيجابية، وذلك من أجل المواجهة المخلصة لعوامل الخطر الموجودة في الساحة.

    هذه هي الروح التي نلمسها في كلمات الإمام عليّ (ع) وهو يحدّثنا عن تجربته الذاتية في ما واجهه من عملية التنكّر لحقّه في الخلافة، وفي ما انطلق فيه من خطوات عملية بعيداً عن المسألة الذاتية، التي قد تعتبر السلبية موقفاً طبيعياً يمنعها من المشاركة في الحلول، أو التحرّك إيجابياً في الجانب المضادّ الذي يثير المشكلة في الواقع المرتبك الخطر، بل تحرك في مسارات إيجابية انطلاقاً من الإيمان بالهدف الكبير الذي يحدّد القضية من موقع المسؤولية الإسلامية الكبرى. يقول (عليه السلام ): "فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنَّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّعُ السّحاب؛ فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتَنَهْنَه.."(2).

    الوقوف على الأرض المشتركة

    إذاً، لقد شارك الإمام (ع) في حلّ المشاكل الكبرى التي تعترض الحياة الإسلامية آنذاك بفكره وخطواته العملية دون أن يعني ذلك تنازلاً عن الموقف، الأمر الذي نخرج منه بفكرة مهمّة يمكن لنا الاستفادة منها لتغيير الواقع الإسلاميّ المتشرذم، ألا وهي أنّ‏َ الإيجابية المتحرّكة من مواقع الاختلاف في الرأي لا تعني الانتقال إلى الجانب الآخر، بل تعني الوقوف على الأرض المشتركة لخدمة القضية المشتركة من دون تشنج وانفعال، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي يبقي القضية الواقعية في موقعها الطبيعي من قضايا الحقّ والباطل، ويفسح في المجال للروح الإسلامية العامة أن تتحرّك في وجه الخطر الداهم الذي يهدّد القضية من الأساس.

    ونستلهم هذه الروح من كلمته التي خاطب بها جماعة من جيش أهل العراق سمعهم يسبّون أهل الشام في قتاله في صفين، فقد قال لهم -في ما روي عنه -: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ‏َ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"(3). والإمام (عليه السلام) في هذا التوجّه، لا يُلغي الصراع، ولكنَّه يحدّد لهم روحيته التي لا تستهدف التدمير، بل تستهدف الحقّ في كلّ أساليبها وتطلّعاتها، ثمّ‏َ يحدّد لهم الأدوات التي تجعل من هذا الصراع أسلوباً عملياً يشارك في سلامة الموقف بدلاً من أن يشارك في تفجيره. أمّا الخطوات العملية في هذا الاتّجاه، فتتمثّل في دراسة الموقف دراسة فكرية تحترم فيها الأفكار، ولكن من خلال قابليتها للمناقشة والحوار، لا كأفكار مقدّسة لا تقبل النقد، وذلك باعتبار أنها ليست من المسلّمات القطعية. وقد لا ندّعي أنّ‏َ القضية تدخل في باب الحلول السهلة البسيطة، لأنَّنا نعرف أنّ‏َ مواطن الخلاف لا تخلو من حساسيات تمسّ‏ُ المشاعر والمواقف، ولكنّ‏َ الهدف الكبير المنطلق في رحلة الأخطار الكبيرة، والروحية التي تحكم الارتباط بالهدف، كفيلان بتذليل كثير من الصعاب في هذا الاتّجاه، وأحسب أنّ‏َ إثارة القضايا في نطاق الحوار على الأسس الإسلامية، يكفل لنا الوصول إلى تقارب في الفهم والرؤية والتصوّر، ما قد يُسهم في تقريب المسافات، إن لم يسهم في الوصول إلى وحدة ذلك كلّه.

    خطط عملية لمواجهة التحديات‏

    هذا من الناحية الفكرية. وأمّا السعي نحو التوجّه الوحدويّ، فيتمّ من الناحية العملية بالتأكيد الدائم على مواجهة التحدّيات المصيرية التي تواجه الإسلام والمسلمين بأساليب عملية في مستوى تلك التحدّيات، وذلك بالبحث عن مواطن اللقاء، وبالبحث الدائم في التصوّرات الإسلامية للقضايا العامة، وإثارة الشعور بالمسؤولية تجاهها، وتقديم الشواهد التاريخية على المواقف الواعية التي كان يقفها قادتنا الإسلاميون التاريخيون في خلافاتهم أثناء مواجهتهم لتحدّيات الكفر والضلال، وبالتركيز على الخسائر التي يمكن أن تلحق بالمسلمين أجمع بمختلف طوائفهم، من خلال الإفساح في المجالات للخلافات الطائفية التي يغذيها الاستعمار الكافر بأساليبه المتنوّعة، وبتقديم الأمثلة على ذلك من خلال حركة الواقع في ما نملك من أمثلة على ذلك كلّه في تاريخنا المعاصر. ولعلّ من البديهي أنّ‏َ ذلك لن يتحقّق إلاّ ضمن خطّة عملية متحرّكة في ظلّ قيادات واعية ترصد الواقع بعين يقظة مفتوحة على ما حولها، وترصد المستقبل بالخطط العملية الحكيمة، وذلك ضمن برنامج متكامل سليم وشامل.

    ونحسب أنّ‏َ مثل هذا الجوّ يسهم -ولو بعد وقت طويل- في إبعاد المسلمين عن التقاتل الطائفيّ إلى البحث الفكريّ العلميّ حول كلّ ما يختلف فيه المسلمون، من دون خلفيات حاقدة، بل بروح يدفعها الشعور بمسؤولية الفكر في الإسلام، إلى مواجهة كلّ القضايا المعلّقة، بصراحة وموضوعية وإخلاص، ويدفعها هذا الإحساس بالخطر إلى التجمّع في الموقع الواحد من أجل القضية الواحدة.

    التعاطي مع الفوارق بروح علمية

    أمّا أجواء الاختلافات الأخرى القومية والإقليمية والاقتصادية فتحتاج إلى العمل الطويل المجهد الذي بدأه رسول اللّه (ص) بتركيز الروح الإسلامية في وعي المسلمين، والتعاطي مع الفوارق بروح عملية، يكفل للنّاس حفظ خصائص متنوّعة تغني تجربتهم وأفكارهم وأوضاعهم، وتخلق بينهم نوعاً من التفاعل الحضاري، وبذلك تُزال الحواجز الروحية والواقعية بين أبناء الفكر الواحد والعقيدة الواحدة.. وعند ذلك فقط تتحوّل العقيدة في وعي حركتها الأساسية إلى معنى إنسانيّ يجمع الفصائل المتنوّعة من بني الإنسان في إطار واحد يتّسع للجميع دون أن يلغي خصائصهم الذاتية.

    أمّا التاريخ القديم، فإنّ‏َ بإمكاننا إثارته كما أثاره الإسلام، كعبرة، بما يحمل من أساليب العبر في الاتّجاه الإيجابيّ والسلبيّ، ولكن من دون أن نسمح له بأن يطبع شخصيتنا بطابعه، لأنّ‏َ الإسلام قد وضع حاجزاً كبيراً بين إيمان الإنسان باللّه والارتباط بالجاهلية، في كلّ ما تمثّله الجاهلية من فكر ومن تاريخ. ولا بُدَّ لنا في ذلك كلّه من حشد كلّ أساليب الفكر والتربية في الوقوف أمام هذه الاتّجاهات في خطّة حكيمة شاملة. وقد لا نستطيع أن نزعم لأنفسنا أنَّنا سنصل إلى الغاية المتوخّاة في هذا السبيل، لأنّ‏َ قوى الشّرّ والكفر والضلال ستقف بيننا وبين تحقيق ذلك، ولكن لا بُدَّ لنا من خوض هذا الصراع بكلّ ما نملك من وسائل في أيّ جانب من جوانب الحياة. إنَّها ضريبة الجهاد في سبيل اللّه التي يحمل عب‏ء تقديمها المجاهدون المخلصون.

    إنَّنا نشعر بأنّ‏َ قضية توحيد المسلمين ضمن مواقف موحّدة ليست عملية بسيطة لتعالج على مستوى الحلول النظرية العامّة، بل هي من أصعب القضايا تعقيداً، لأنَّها تصطدم بالعناصر الخارجية التي تمثّل القوى العالمية ذات المصالح السياسية والعسكرية في السيطرة على واقع المسلمين أرضاً وشعباً وفكراً واقتصاداً، ولذلك، فإنّ‏َ أيّة دعوة توحيدية تنطلق من واقع الشعور بالتمايز الحضاريّ الإسلاميّ ضدّ القوى الأخرى، تعتبر دعوة مضادّة ضدّ مصالح هذه القوى، ما يجعلها تحشد قواها من أجل القضاء على الحركة في مهدها. وفي هذا الاتّجاه، نرى أنّ‏َ القضية تحتاج إلى جهود متواصلة في هذا السبيل، وإلى بذل تضحيات كبيرة في أكثر من جانب، وإلى التمسّك بحبل الصبر والإيمان وصولاً إلى الغاية الكبرى.

    ويجب أن نشير في نهاية المطاف، إلى أنّ‏َ شعار توحيد المسلمين والقضاء على التمزق، لا يعني الوحدة في كيان سياسيّ موحّد يجمع المسلمين في دولة، لأنَّنا لا نجد ذلك ضرورياً في عملية التوحيد، فيمكن أن يجتمع المسلمون على الإسلام كعنصر توحيديّ أساسيّ مع اختلاف الكيانات القانونية التي لا تمثّل حاجزاً نفسياً ضدّ بعضهم البعض.

    إنّ‏َ القضية، كلّ القضية، هي أنّ‏َ الإسلام يظلّ يمثّل الوحدة العميقة بين المسلمين وإن اختلفوا على أكثر من جانب في التاريخ والتشريع والفلسفة، ولنصغ إلى نداء اللّه سبحانه: "إنّ‏َ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربُّكم فاعبدون" (الأنبياء:92).

    "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم..." (الأنفال:46).



    -------------------------------


    (1) نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه الخطبة:61، ص:53، دار التعارف للمطبوعات، ط1 :1410هـ 1990م.

    (2) نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الكتاب:62، ص: 340 339.

    (3) نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الخطبة:206، ص: 236.
    [/align]





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]مرجعية البيت الإسلامي

    س: إذا حاولنا إعادة ترتيب أوراق البيت الإسلامي التي ستحظى بإهتمامكم بماذا سنخرج؟

    ج: مشكلة البيت الإسلامي أنه يفقد المرجعية الفكرية التي تلاحق الواقع في جميع تطلعاته، ليدرسها وليجمع مفرداتها وليعمل على إيجاد لقاء فكري بين مختلف أفراد العائلة الإسلامية، لتقوّم كل جهة أفكارها وتصوراتها ومشاكلها وقضاياها... وذلك مقارنة بالقضايا التي تقدمها الجهة الأخرى، ليخرج الجميع من خلال هذا الحوار الإسلامي المتميز بدارسة الخصوصيات العميقة التي تمثل تنوع واقع الحركة الإسلامية بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن الشعارات، وليخرج الجميع باستراتيجية واحدة تتوزع فيها المواقع الإسلامية المتعددة الأدوار حتى يكون لنا خط إسلامي واحد في مواجهة التحديات التي يطلقها موقع الكفر الواحد والاستكبار الواحد. إن المشكلة التي نواجهها في هذه المرحلة، هي أن كل فريق إسلامي حركي يعيش مشاكله الخاصة بعيداً عن الاهتمامات التي تربطه بالآخر، ما يجعل من كل طرف أو جهة فريقاً، وإن أراد الاهتمام بمشاكل الفريق الآخر، فإنه يريدها من خلال خدمة خصوصيته لا من خلال خدمة الجو العام. إنني أزعم أنه ليست هناك حركة إسلامية واحدة، هناك حركات إسلامية قد تكون متباعدة في الفكر أو في الخط السياسي أو في أساليب العمل السياسي، ومن الضروري لأية قيادة إسلامية أن تعمل على تجميع هذه المواقع وترتيبها، والعمل على إيجاد حالة من التعارف في ما بينها.

    وعلينا في هذه المرحلة بالذات، إذا لم نستطع الوصول إلى اتفاق على تحديد سلّم الأولويات التي يجب مواجهتها، أن نعمل على إيجاد تواصل بين الإسلاميين يوحد إعلامهم في مواجهة الإعلام الاستكباري العدواني الواحد، المتعدد الأصوات، المتنوع الأدوار، الذي يشن حرباً عالمية إعلامية سياسية على كل المواقع الإسلامية.

    إن علينا أن نعمل على إيجاد قاعدة إعلامية موحدة، يمكن أن تواجه هذه الحرب الموحدة، حتى نستطيع أن نحمي أنفسنا من هذا الهجوم الصاعق، لتبقى لنا مواقعنا في الوجدان العالمي، ولنتمكن بعد ذلك من أن نرتب أمورنا في وضع طبيعي أو قريب إلى الوضع الطبيعي.

    * * *

    التقريب الموضوعي بين المذاهب

    س: في هذا المجال هل يمكن الحديث عن تقريب حقيقي بين المذاهب الإسلامية؟


    ج: إن مسألة التقريب تحتاج إلى نوعين من العمل، الأول في الحركة الفكرية بمعنى أن يبحث كل فريق من المسلمين، وفق المعايير الفكرية العلمية، عقائده وخطوطه الفكرية من جديد، بحيث يعرف الشيعة ما هو خط التشيع في العمق، بالمعنى العلمي الذي يمكن لهم أن يدافعوا من خلاله عن أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم الفقهية ومفاهيمهم الإسلامية استناداً إلى المصادر الإسلامية الأصيلة؛ وأن يدرس السنّة كذلك عقائدهم ومذاهبهم الفقهية، وفق هذه المعايير أيضاً، بحيث يشعرون أن بإمكانهم أن يدافعوا عن المذهب بطريقة إسلامية منفتحة على كل المصادر الإسلامية، لأن المشكلة التي تواجهنا هي أن كل فريق يحاول أن ينطلق بالحجة مذهبياً لا إسلامياً بالمعنى المنفتح، ولهذا لا نجد هناك لغة للتفاهم بينهم، لأن كلاً منهم يتحدث مع الآخرين باللغة التي يحركها في دائرته الخاصة بعيداً عن اللغة الإسلامية الأشمل، لذلك فإننا نلاحظ أن ما يتحدث به السنة والشيعة في خلافاتهم هو ما كانوا يتحدثون به قبل أكثر من ألف عام.

    في ضوء ذلك، فإننا نرى أن مفردة واحدة لم تتغير، أو أُعيد النظر فيها عند الطرفين، لا على مستوى الإشكالات التي يوجهها كل فريق للآخر ولا على مستوى الأسلوب.. ولا على مستوى الحجج التي يقدمها هذا الطرف أو ذاك بالرغم من أن الحياة الفكرية تطورت وطرحت أشياء كثيرة يمكن إستخدامها في حل الكثير من المشكلات.

    أما أسباب هذه المشكلة فتعود إلى أن السنّة لا يريدون أن يتنازلوا عن شيء مما ورثوه، والشيعة أيضاً لا يريدون أن يتنازلوا عن شيء مما ورثوه، بغض النظر عما إذا كان ما ورثوه يخضع للبرهان أو للدليل. ومن هنا علينا أن ندرس ما عندنا، وعليهم أن يدرسوا ما عندهم بطريقة علمية موضوعية، فلا يكون معيار القبول أو الرفض لهذه المفردات الفكرية أو تلك، التزام العلماء القدماء بها أو عدم التزامهم، بل أن يكون المعيار العلمي هو الاستناد إلى تلك القاعدة الأساسية التي تدعونا إلى الرجوع في كل ما نتنازع حوله إلى الله وإلى الرسول، مما يجعلنا نحتاج إلى فهم قرآني منفتح وإلى توثيق الأحاديث وفهمها فهماً منفتحاً. هذه هي النقطة الأولى، وإن لم نعالجها فمن الصعب أن يكون هناك تقارب فكري بين السنة والشيعة، لأن التقارب إنما ينطلق من خلال الحوار النقدي للذات مع الذات الذي يشكل أساساً للحوار مع الآخر.

    * * *

    القواسم المشتركة لأمة واحدة

    س: ألا يمكن أيضاً محاولة دراسة قواسم مشتركة يلتقي السنة والشيعة عليها؟

    ج: تماماً ومن هذه النقطة التي أشرت إليها، نحن نستهدي بالقرآن في ذلك، فعندما نقرأ قوله تعالى:{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}[آل عمران:64] وكذلك عندما نقرأ قوله تعالى:

    {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}[العنكبوت/46] عندما نقرأ هذين النصين نجد أن القرآن أراد أن يدعو أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الكلمة السواء، وهي التوحيد والإيمان بالرسالات، ونحن نعرف كم هي المفردات التفصيلية التي يختلف المسلمون مع النصارى واليهود حولها، في ما يتعلق بعقيدة التوحيد وفي تفاصيل عقيدة النبوة، ولكن الله سبحانه وتعالى عندما أراد لنا أن نلتقي على الأرض المشتركة قال لنا: انطلقوا من الخط العام للمبدأ ولا تدخلوا في التفاصيل فإذا وضعتم أرجلكم على الأرض المشتركة وقفتم وأطلقتم كلماتكم على أساس الكلمة السواء، فإن بإمكانكم أن تناقشوا المفردت الخلافية بروح اللقاء بدلاً من مناقشتها بروح الفراق.

    إذا كانت الدعوة الإلهية للوصول إلى الكلمة السواء بين المسلمين والمسيحين، إذن، فإنّه على الرغم من الكثير من المفردات التفصيلية الخلافية بينهما، فإنه من الأولى التوصل إلى هذه الكلمة السواء بين السنة والشيعة التي لا تشمل المفردات الخلافية بينهما إلا مقداراً ضئيلاً بمقارنة بما بين المسلمين والمسيحيين.. هذا هو المنهج الإسلامي في معالجة هذه المشكلة، أما إذا كنا نريد أن نبحث التفاصيل في البداية، لنجعل منها حاجزاً بيننا ليمنعنا ذلك من اللقاء، فإن ذلك ليس من دين الإسلام في شيء. إن منهج الإسلام هو الإلتزام بنداء {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}، الذي يدعو إلى اللقاء على قاعدة الاتفاق، لا إلى مجرد الحوار فقط.

    * * *

    بين الاجتهاد المعاصر والإسلام التاريخي

    س: إن من الواضح أن نظرتنا للإسلام تأثرت كثيراً بوجهات نظر المجتهدين الإسلاميين الذين سبقونا في التاريخ، في حين حدثت متغيرات كثيرة لا تحكمها نصوص محددة، ما يتطلب الاجتهاد لمواكبتها، الذي يؤدي إلى آراء متعددة يختلط فيها انتسابها إلى التاريخ وإلى الحالة المعاصرة، كيف نواجه هذا التحدي؟

    ج: عندما يرث المسلمون إسلامهم من التاريخ، ولا يمنعوا النظر والفكر في النصوص والمصادر الأصلية أو في طبيعة واقعهم المعاصر، فإن التعصب سيحكم عملية انتسابهم إلى هذا الدين، وسيصبح الإسلام هنا يدخل في دائرة الأرث التاريخي.

    على أن المذهبية الفكرية أو تعدد الاجتهادات، يما تعنيه من تعدد وجهات النظر في فهم الإسلام، سواء على مستوى علم الكلام وعلم الفقه وغيره، هي مسألة طبيعية في التصور الإسلامي للفكر والشريعة، وليس الإسلام بدعة من الأديان أو من الأفكار في هذا المجال. نحن نعرف أيضاً أن النصرانية تحتوي عدة مذاهب في المفاهيم العامة العقيدية والطقوسية وكذلك اليهودية، وإذا أردنا أن ننفذ إلى العناوين العلمانية المتحركة في عالمي القومية والماركسية، نجد أكثر من خط قومي وماركسي يختلف عن الآخر، ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن الديمقراطية التي يكثر الحديث عنها.

    لقد انطلقت المذهبية الفكرية في الإسلام من موقع اختلاف المسلمين في فهم النص والتأويل والقواعد العامة، التي تحكم المتغيرات الحادثة في الواقع، مما لم يكن له نص محدد حوله، ولذلك كان بالإمكان أن يكون هذا التنوع المذهبي في المسألة الفكرية والفقهية مصدر غنى للمسلمين، يثري التجربة الاجتهادية الإسلامية ويفتح من خلال الخلاف الفكري أكثر من أفق، مما قد لا نحصل عليه لو كان الاجتهاد واحداً. لأن الاجتهاد الواحد سيعيق تطور النتائج الفكرية والفقهية في الإسلام من خلال تصور الفهم الاحادي المجافي لإمكانية تنوع المذاهب الجديدة في داخل الواقع الإسلامي الفكري.[/align]





  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]

    الحوار في الإسلام


    للحوار في الإسلام معنى الإيمان في حركيته في انتماء الذات، فلا إيمان، في عمق الفكر وامتداده، من دون حوار، حتّى كأنّ الإسلام كله حركة حوار.


    الحوار الذاتي:

    يبدأ الحوار، بعيداً عن المصطلح، في حديث الإنسان مع ذاته، في حركة الفكر الداخلية حين يدور الجدال بين احتمال واحتمال، وفكرة وفكرة، وظاهرة ودلالة في نطاق السلب هنا، والإيجاب هناك وذلك هو دوره في صنع العقيدة عند الشخص المنتمي. وربما يتحرك الحوار الداخلي في عملية الالتزام، والاستقامة في الخط والواقع، عندما يدور التجاذب بين منطق العقل ومنطق العاطفة، ونقاط الضعف ونقاط القوة.

    وذلك هو دوره في تركيز الشخصية الملتزمة المستقيمة.

    وفي كلتا الدائرتين، تكون المهمة الحوارية، الوصول إلى وحدة الإنسان في التزاماته الذاتية، فلا يبقى في الازدواجية التي تجعل منه إنساناً يتحرك بين الشيء ونقيضه في عملية اهتزاز فكريّ وحسّيٍ وعاطفي، لأن التعددية المتحركة في الذات لا تمنح الإنسان الطمأنينة والاستقرار.

    إن الأساس، في هذا كله، هو أن الإيمان حركةٌ في العقل، وليس فوقه، فالإنسان يؤمن بما يعقل، ولذلك عندما يخوض تجربة الشك لا بد أن ينتهي من خلالها إلى اليقين، في الرحلة الطويلة التي تتجاذبه فيها الاهتزازات من خلال الاحتمالات المتناقضة، أو الاتجاهات المتعارضة، ليناقشها في وجدانه الفكري بكل موضوعيةٍ وانفتاحٍ ليعرف الحق من الباطل، وينتقل من الجهل إلى العلم.

    القرآن يدعو للحوار الذاتي

    ولذلك كان القرآن دعوةً إلى الحوار الداخلي من خلال دعوته إلى التفكير الذاتي المنفتح على ظاهر الكون والإنسان والحياة كلها من أجل الوصول إلى النتائج الحاسمة فنقرأ قوله تعالى:

    (ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً) [آل عمران:191] (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى )[الروم:8] فنلتقي بالتفكير في الظاهرة الكونية التي تثير القناعة بأن هناك أسراراً في داخلها تتصل بحركة النظام الكوني كله على أساس قانون السببية الذي يربط بين الظاهرة ومدلولها ومؤثراتها.

    ثم نقرأ قوله تعالى: «في الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون» [الذاريات:20-21]

    فنلاحظ أن المطلوب هو إثارة التفكير في امتداد الأرض، وفي داخل النفس فيما يتمثل فيها من الآيات الدالة على وجود الله من حيث طبيعة الأسرار الكامنة في مفرداتها الموحية بالخلفية الغيبيّة في نوعية القدرة والحكمة والدّقة والامتداد.

    وقد لا نحتاج إلى المزيد من الشواهد القرآنية، لأن القراءة الواعية للقرآن تجعل الإنسان يلتقي بعشرات الآيات التي تتحدث عن العقل والعلم والفكر والملاحظة في الاستقراء المتحرك في الماضي والحاضر في حركة التاريخ والواقع، من أجل الوصول إلى الحق الحاسم باعتبار أن ذلك هو الذي يؤكد الحجة للإنسان في تأييد فكرةٍ ورفض أخرى، بينما يؤكد أن الشك والظن والوهم، واتّباع الهوى، وتقليد الآباء والأجداد لا يصل بالإنسان إلى القناعة الحقيقية، ولذلك فإنّ القرآن يتحدّث عن الناس الذين ينحرفون عن التوحيد الإلهّي بأنهم لا يعلمون، وأنهم يتبعون الظن والتخمين من دون أن يملكوا وضوح الرؤية للأشياء.

    ويلاحظ علماء الكلام أن العقيدة لا تخضع للتقليد، بل يجب أن تنطلق من فكر اجتهادي، ينطلق بالإيمان من موقع التفكير في مفرداته بالدرجة التي يحصل فيها الإنسان على القناعة الوجدانية في علاقة الفكرة بالدليل، فلا يُعذر المقلّد في العقيدة، في حال الخطأ، كما يُعذر المقلِّد في تفاصيل الشريعة، إذا أخطأ مجتهده في الاجتهاد.

    الحوار مع الآخر

    وإذا كان الإسلام يشدد على الحوار الذاتي، على أساس أن يكون العقل قاعدة الإيمان، من حيث هو الذي يحدّد الحجة ويقيم البرهان، فإن من الطبيعي أن يشدد على الحوار مع الإنسان الآخر الذي يحمل الفكر المضادّ باعتبار أن ذلك يمثل التفكير بصوت مسموع.

    وهذا هو الذي طرحه الأنبياء في دعوتهم الرسالية للحوار الفردي والجماعي من أجل أن يدخل الناس معهم في مناقشةٍٍ جدية لما يطرحونه من أفكار، ولكن الآخرين كانوا يواجهونهم بالسباب والأفكار المسبقة لما يظنّون من تعارض فكرة النبوة مع طبيعة البشرية وبالاضطهاد المتنوع الذي يصل إلى حد القتل.

    الحوار والمقدسات

    ولم تكن هناك موضوعات محدّدة في الحوار، بل كانت المسألة هي أن كل شيء قابل للحوار حتى وجود الله، ورسالة النبي وشخصيته، والإيمان باليوم الآخر، وغير ذلك من القضايا التي تمثل الموقع الأساس في العقيدة مما أثار القرآن الحديث عنه في الحوار حولها. وليس هناك أشخاص ممنوعون من الحوار، فقد لاحظنا أن الله حدّثنا عن حواره مع إبليس، كما حدثنا عن حوار الملائكة معه في مسألة خلق الإنسان في الأرض، وتساؤلهم عن الفائدة في ذلك إذا كان يفسد فيها ويسفك الدماء، مما يجعلنا نفكر بأن الإسلام لا يعتبر أيّ شخص يرتفع من خلال موقعه عن الحوار، فللناس حق المعرفة، وللمعرفة شروطها التي تنفتح على أكثر من احتمال، وعلى الذين يملكون عناصر المعرفة أن يقدّموا للناس كل ما لديهم من العلم في سبيل الوصول بهم إلى الحقيقة الحاسمة، وأن يتابعوا معهم كل علامات الإستفهام في المبدأ وفي التفاصيل، من أجل الإجابة عليها بدقةٍ وموضوعية ليحققوا لهم أسس القناعة، أو ليقيموا عليهم الحجة، وقد هدّد القرآن هؤلاء الذين يكتمون ما أنزله الله من البينات، باللعنة الإلهية التي تلتقي مع لعنة الناس الذين يحتاجون إلى هذا العلم الذي كتموه عنهم.

    الحوار والحرية

    وإذا كان الإسلام يؤكد الحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة بطريقة علمية موضوعية، فلا بدّ له من حماية حرية المحاور في طرح كل فكر مضادّ بطريقته الخاصة، حتى لو كان على خلاف العقيدة العامة للناس، فليس لأحدٍ أن يقابله بعناصر الإثارة الإنفعالية في إطلاق كلمات الكفر والضلال والخروج عن الدين وما إلى ذلك من الكلمات المثيرة التي تدفع إلى الغوغاء والإساءة للفكر.

    إن الحوار يرتكز على الحرية الفكرية في الساحة الحوارية، لأن الإنسان الذي لا يملك حريته في طرح ما يريد من سؤال أو اعتراضٍ أو مناقشة، لا يستطيع الوصول إلى الحق إذا لم يجد الفرصة للإجابة على سؤاله، ومناقشة وجهه نظره.

    ثقافة الحوار

    ولذلك فإن الإسلام يتقبل أيّ موضوع، ولكنه يضع شرطاً مهماً، وهو أن يكون المحاور مثقفاً بالفكرة التي يخوض حولها من موقع الفكر المضاد، أو منفتحاً على آفاق المعرفة في ما يريد أن يسأل عنه، وهذا مضمون الآية الكريمة: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّونَ فيما ليس لكم به علم) [آل عمران :66].

    وقوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إنْ في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير) [غافر:56].

    فنحن نلاحظ أنّ القضية التي أثارها القرآن أمام هؤلاء أنهم لا يملكون العلم ولا سلطان الحجة فيما يجادلون به، وهذا ما يجعل من طريقتهم في الحديث طريقة انفعالية ناشئة من عقدة الكبر الكامنة في نفوسهم، الأمر الذي لا يحقق للحوار أية نتيجة حاسمة.

    وإذا حاولنا الاقتراب من المنهج الإسلامي الحواري، فإننا نجد تأكيداً على ضرورة انسجام المضمون مع واقعية الفكرة الحق، ليكون المحاور أميناً على الإلتزام بالحقيقة في حركة الحوار حتى لا يتحوّل الأمر إلى ما يشبه اللعب بالألفاظ، أو بالقفز على المشاعر، أو بتسجيل النقاط على الآخر من باب الإلتزام بموقف لا يمثل الحق، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بالجدال بالباطل في الحديث عن أسلوب خصومه العقيديين في قوله تعالى: (ويجادل الذين كفروا ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً) [الكهف: 56].

    وفي قوله تعالى في بعض أساليب اليهود، عند حديثه عن أهل الكتاب: (وإنّ منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)[آل عمران: 78].

    فقد نلاحظ أن المسألة المطروحة، هي أن القوم لا يخوضون معركة البحث عن الحقيقة، بل يتحركون في معركة الغلبة للموقف؛ أيَّا كان المضمون، في صدقه أو كذبه، أو حقّه أو باطله، وهذا ما يجعل من القضية قضية قتالٍ بالكلمة لا حوارٍ بالفكرة، أو جدالٍ للحق، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من العبث والضياع.

    الجدال بالباطل

    وربما يتصور البعض أن القرآن يرفض هذا الأسلوب من قِبَل خصومه ولكنه لا يرفضه في صراعه مع الآخرين عندما يدير الحوار معهم لمصلحة ما يعتقد أنه الحق، فقد يبرر ذلك لنفسه، بأن يستخدم الباطل لإلزام خصومه بالحق من خلال الضغط عليهم بذلك مما لا يرضاه لهم في الموقف المضاد له.

    ولكننا نستوحي من الآية، أنها تؤكد على عنوان الجدال بالباطل كعنوان مرفوض في الصراع، فإن الإستنكار على هؤلاء بما يجادلون به من الباطل يخضع للفكرة التي تلزم الإنسان المؤمن أن يرفض الباطل جملةً وتفصيلاً في أي موقع من مواقعه، سواءً في حالة الصراع لإضعاف الحق بالباطل، أو في حالة الصراع بالباطل في جانب وإقرار باطل مثله في جانب آخر، لأن القضية في كلتا الحالتين تقف في موقع واحدٍ، وهو موقع إقرار الباطل والاعتراف بشرعيته من دون فرق بين نتائجه سواء أكانت إلى جانب الحق أم إلى جانب الباطل.

    هذا هو ما تحدث به الإمام جعفر الصادق (ع) مع أحد أصحابه الذي كان يدير الجدل مع شخص آخر مخالفٍ له في المذهب، في حضرة الإمام (ع)، وذلك بقوله: «لا تمزج الحق بالباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل».

    وتحدث الإمام في حديث آخر عن الفرق بين الجدال بالتي هي أحسن والجدال بغير التي هي أحسن: «أما الجدال بغير التي هي أحسن، فأن تجادل مبطلاً فيورد عليك باطلاً فلا تردّه بحجة قد نصبها الله، ولكن تجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف تتخلص منه، فلذلك حرام على شيعتنا أن يصير فتنة على ضعفاء إخوانه وعلى المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في ما يده حجة على باطله. وأمّا الضعفاء منكم فتغم قلوبهم لما يرون من ضعف الحق في يد الباطل».

    ولذلك فإن الإسلام يرفض الأساليب الجدلية التي تبتعد عن الحق وتعتمد على التلاعب بالحقائق، في محاولةٍ لإخفاء ضعف المجادل عن ممارسة الموقف القوي ضد الباطل.

    الحوار بين العنف واللين

    لقد لاحظ الإسلام، من خلال القرآن الكريم، أن هناك طريقتين للحوار الفكري، أو للصراع في جميع مجالاته، فهناك طريقة العنف التي تعتمد مواجهة الخصم بأشد الكلمات وأقساها، بحيث يتركز الإختيار على كل ما يساهم في إيلامه وإهانته وإهدار كرامته، فلا مجال لمراعاة مشاعره وعواطفه، ودراسة واقع حياته، والإحاطة بظروفه من أجل المحافظة على الإنسجام معها، بل الأمر ربما يكون، على العكس من ذلك، تحدياُ للمشاعر في كل المجالات.

    وقد لا نحتاج إلى التأكيد، بأن مثل هذه الطريقة لا تنتج إلا مزيداً من الحقد والعداوة والبغضاء، والبعد عن كل الأجواء التي تقرّب الأفكار وتساهم في الوصول بالصراع إلى نتيجة طيبة.

    وهناك طريقة اللاعنف، أو الطريقة السلمية التي تعتمد اللين والمحبة أساساً للصراع، انطلاقاً من القاعدة الإسلامية التي تعتبر موضوع الصراع، بمختلف مستوياته ومجالاته، وسيلة من وسائل الحركة المنفتحة للوصول إلى الهدف والانسجام معه، ولا بدّ لهذا الخط من الإلتقاء بكل الكلمات والأساليب الطيبة المرنة التي تفتح القلوب على الحق، وتقرّب الأفكار إلى مفاهيمه وأحكامه، بعيداً عن كل المعاني الشرّيرة والسلبيّات القاسية.

    وقد ركّز الإسلام على هذه الطريقة في كل أساليب الحوار والجدال من أجل الوصول إلى المعرفة من جهة، أو إلى الموقف الحق من جهة أخرى، وأطلق على ذلك كله «التي هي أحسن» فهو الطابع الذي يطبع كل وسائل الحوار وأساليبه.

    قال تعال: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السّيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليّ حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) [فصلت:33-35].

    والمقصود بالحسنة الأسلوب السلمي، وبالسيئة الأسلوب العنيف.

    ونلاحظ أن القرآن الكريم حين يختار لنا أسلوب اللاعنف، فإنه يشير إلى النتائج الإيجابية لهذا الأسلوب، وهو أن تحوّل أعداءك إلى أصدقاء يفكرون معك فيما تفكر فيه أو تعمل له، ثم يعقب على ذلك بأن الأمر يحتاج إلى مزيد من الصبر وإلى حظ عظيم من الوعي الإيماني والإنفتاح على الواقع، لأن ذلك يخضع لقوة الأعصاب، ومرونة الشخصية في مواجهتها لتحديات الخصومة، ومشاكل الصراع.

    وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في آيتين أخريين تتعلقان بالدعوة والحوار بشكل مباشر وهما:

    (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) [النحل: 125].

    (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمناً بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) [العنكبوت: 46].

    ولن نحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لنعرف أن الجدال بالتي هي أحسن يتمثّل في اتبّاع أفضل الأساليب وأحسنها في إقناع الخصم بالفكرة التي يدور حولها الحوار، بحيث يبقى الداعية في ملاحقة جادةٍ واعية بكل الأساليب المطروحة المعروفة وغير المعروفة ليختار منها الأسلوب الأحسن، سواء في ذلك الكلمات التي يستخدمها، أو المعاني التي يعبّر عنها.

    ولعل النموذّج الذي طرحه القرآن الكريم في الآية الأخيرة هو المثل الحيّ على الفكرة، فقد بدأت الآية الكريمة بالحوار مع أهل الكتاب بالطريقة التي تركّز على مواطن اللقاء من خلال رسالتنا وفكرنا. فنحن لا نتنكر لما يؤمنون به من كتاب، وما يعتقدونه من رسالة، فإن القيمة الكبرى للإسلام هي أنه ينطلق من الإيمان بكل الرسالات السماوية، والتصديق بجميع الأنبياء، والشعور المشترك، منا ومنهم، بالعبودية لله سبحانه وتعالى وحده والتسليم، له ولرسالته، وعلى هذا الأساس يبدأ الحوار من قاعدة مشتركة توحي بإمكانية اللقاء في القضايا الأخرى.

    المنهج الإسلامي للحوار

    إن القيمة في المنهج الإسلامي للحوار، تتجلّى في ابتعاده عن الذاتية في المضمون الفكري ابتعاداً كلياً، على خلاف القاعدة المتبعة في المنهج العلمي للحوار، التي تؤكد الجانب الذاتي في الالتزام بالفكرة، مع إعطاء موقع احتمالي للإنفتاح على الفكر الآخر.

    حيث إن المنهج المعروف في العالم يتلخص في هذه الكلمة «رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».

    وفي هذا المنهج السائد تأكيد على النسبة الكبرى لصوابية الفكرة المتبناة مع نسبة احتماليةٍ ضئيلة لصوابية الفكرة الأخرى، ليكون احتمال الخطأ في فكرنا ضعيفاً وقوياً في الفكر الآخر.

    أمّا المنهج القرآني فيتلخص في الآية الكريمة في قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعل هدىً أو في ضلال مبين) [سبأ: 24].

    فإننا نلاحظ أن المحاور لم يطرح صوابية فكره وخطأ الفكر الآخر على أساس القناعة القوية، بل طرح المسألة على أساس وجود فكرة مطروحة في الساحة يتساوى فيها احتمال الخطأ والصواب في طبيعتها الواقعية، كما تتساوى صفة الهدى والضلال في التزام هذا بالفكرة إيجاباً من هذا الجانب أو سلباً من الجانب الآخر. فليست هناك حالة شعورية في حركة أجواء الحوار، بل هناك حالة موضوعية تلاحق عناصرها ومفرداتها في موقف حيادي يلاحق الحقيقة أينما كانت من دون تعقيد أو تهويل...

    وربما كانت قيمة هذا الأسلوب العملي، أنه يعتمد على تفريغ الموقف من الأفكار المسبّقة التي قد تحوّل الموقف إلى عقدةٍ تفرض نفسها على كل مواطن الحوار، وتشكل حاجزاً يمنع الأطراف من الشعور بحرّية الحركة فيما يقبلون وفيما يرفضون، ويتمثل ذلك، في اعتبار الشك في الفكرة موقفاً مشتركاً بين الطرفين بحيث يوحي لكلٍّ منهما بضرورة إعادة النظر في القضية، ومحاولة مواجهتها من جديد، كما لم يواجهها من قبل، فليس هناك حكم سابق من أيٍّ من الطرفين على خصمه بالهدى والضلال، بل هو الموقف المشترك الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة من خلال الحوار الإيجابي القائم على الوعي والشعور العميق بالحاجة إلى الوقوف مع خط الإيمان أيّاً كانت النتائج.

    وهناك وجه آخر في هذا الأسلوب ويتمثل في مخاطبة الخصم بالقناعات الفكرية، من خلال عناصر البرهان الذي يملكه في الاحتجاج عليه، ولكنه لا يجعل من هذه القناعات سدّاً منيعاً يغلق على الموقف أبواب التحرك مع قناعات الآخرين، بل يترك الباب مفتوحاً للفكر الآخر على أساس ما يملكه من أدلة الفكرة التي يؤمن بها ليثبت أنها أفضل وأهدى سبيلاً.

    ولعل وجه القيمة، في هذا الأسلوب، أنه يجرد الموقف من حالات التعصّب والتزمّت التي تحجّر الفكرة، فلا يُسمح لها بالتحرك مطلقاً في حين هو تمتع الأفكار بقدرة التحرك، لتنتج موقفاً إيمانياً واضحاً قوياً يتحدى ويقبل التحدي، بحيث يكون جاهزاً لذلك، في كل وقت، كلما برزت هناك حاجة جديدة للصراع، أو كلما استطاع الخصم أن يحصل على دليل جديد للفكرة المضادة، وهذا هو الذي توضحه لنا الآية الكريمة: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين) [القصص:49].

    فالقضية كل القضية هي أن هناك هدىً يجب أن يتبع في الطريق أو في الغاية، وقد كان إيماننا ومسيرتنا في خط هذا الإيمان، على أساس قناعتنا بأنه الهدى، وأنّ غيره ضلال وانحراف، فإذا كان لديكم طريق أفضل، أو كتاب أهدى فدلونا عليه لنتبعه، لأننا لا نخضع لعقدةٍ ذاتيةٍ في هذا المجال.

    إننا نحب إثارة هذا الحديث، حول الحوار في الإسلام، الذي قد يجد الأخوة كثيراً من تفاصيله في كتابنا الحوار في القرآن، من أجل تذكير الإسلاميين، أن الأساليب الانفصالية ليست من الإسلام في حواره مع الآخرين، وتذكير غير الإسلاميين بأن الإسلام ليس ديناً يتحرك في الأجواء البعيدة عن حركة العقل، وروحية العلم، وأساليب الحوار السلمي.

    وفي ضوء ذلك فإن العنف ليس هو سبيل الإسلاميين في مواجهة الفكر الآخر، أو الإتجاه الآخر، أو الواقع الآخر، ولكنهم ينطلقون من الموضوعية والعقلانية والجدال بالكلمة الأحسن والأسلوب الأفضل، والجوّ الأهدأ، في المسألة الثقافية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك.

    وذلك في الحالات التي تكون الساحة فيها ساحة حوار وحركة في الطريق إلى الحقيقة.

    أما عندما تكون الساحة ساحة عنف وإلغاء وتهميش واتهامات وتشويه وكلمات غير مسؤولة، فإن من حق الإسلاميين، أن يبحثوا عن الأسلوب المناسب الذي يدافعون به عن أنفسهم، ليكون العنف لمن يفرض عليك العنف بوسائله المتنوعة وليكون الرفق هو الأصل والقاعدة في حركة الفكر والواقع في الحياة كلها ومع الإنسان كله.


    --------
    المنطلق، العدد98، رجب 1413 هـ/ ك 2 -يناير 1993 م.
    [/align]





  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]

    بالوحدة والوعي نحبط مخططات الاستكبار لندجين الاسلام

    التحدي الثقافي:

    الحديث عن الوحدة الإسلامية ومصيرها في واقعنا المعاصر ينطلق من الحديث عن الإسلام، ومن حركة الإسلام في الواقع ودوره في هذه الحركة، لأنّ المسألة أنّهُ لم يمرّ في كل تاريخنا الإسلامي مرحل في خطورة هذه المرحلة المختزنة في داخلها حالة الاهتزاز الذي يصيب العقل والقلب والشعور، وهو يتعاظم حتّى تهتزّ الأرض من تحت أقدامنا..

    إنّ المسألة الآن هي أن التحدّي للإسلام هو التحدّي الذي يطال المسألة الثقافية، حيثُ بدأت كُلّ مواقع الثقافة في العالم بغضّ النظر عن طبيعتها تتحدّث عن مفاهيم الإسلام.. وينطلق الاستكبار الثقافي ليضع آلاف علامات الاستفهام على هذا الموقف أو ذاك الموقف، أو على هذه الشريعة أو تلك الشريعة.. ثمَّ التحدّي الاجتماعي الذي يحتضن التحدّي الأخلاقي فيما نواجهه في عالمنا الإسلامي من كل هذه المتاهات التي يُراد لنا أن نسير فيها في محاولة لصنع أخلاق جديدة باسم الحريّة الإنسانيّة، وباسم الكثير من العناوين التي يُرادُ لها اجتذاب مشاعرنا لتحُرِّف مفاهيمنا عن مواقعها.

    ولن نتحدّث عن التحدّي الاقتصادي الذي يُرادُ من خلاله مصادرة كُلّ مواقع الاقتصاد في العالم الإسلامي ليكون اقتصادهم هو الأصل واقتصادنا هو الهامش على جميع المستويات، ليصبح اقتصادنا على هامش اقتصادهم.لقد بدأ الاستكبار يعتبرُ أن كُلّ اقتصادنا هو اقتصاده: في أسواقه واستثماراته ومقدّراته.

    التحدي السياسي:

    ثمّ يأتي التحدي السياسي الذي يُرادُ من خلاله إسقاط كُلّ معنى للاستقلال السياسي في كُلّ مواقعنا، من خلال أكثر من وسيلة تسعى لتمزيق الأُمة وخلق الخطوط والتيارات التي يتحوّل فيها الإسلام السياسي كما يتحدّثون عنه إلى جريمة ، ويتحول فيه تطبيق الشريعة الإسلاميّة إلى تهمة وتخلّف وصدمة للحضارة، حتّى من الذين يتحدّثون رسمياً باسم المسلمين.وتطوّرت المسألة السياسيّة، فأصبحنا نلاحق كُلّ من يعيش عزّة الإسلام مقابل الذين يريدون مصادرة حريته، فاستحدثوا كلمات الإرهاب والتطرّف.

    إن المعركة تشمل الإسلام كُلّه، فلم يبقَ جانب في كيان الإسلام لم يخطط له الآخرون من المستكبرين وحلفائهم الكافرين معهم، فلم يتركوا موقعاً إلا استهدفوه بالخطة التي يُرادُ فيها تدجين الإسلام، حتى يمكن توظيفه لخدمة بلاط هنا وموقع استكباري هناك، ليعطي فتوى بحرب تتحرك في خطط المستكبرين هنا، وبسلم يتحرك هناك.

    في هذا المناخ تبرزُ مسألة الوحدة الإسلاميّة، لتنطلق في حركة ارتباط عضوي بالإسلام، فأن تكون مسلماً يعني أن تكون وحدويّاً، لأن القضية التي تواجهنا هي تجميع النقاط لا تسجيل النقاط، حيثُ تكون المسألة كيف يمكن أن نعزل بعضنا عن بعض، وكيف يمكن أن نرمي اتهامات التكفير والتضليل، لا بين المذاهب فحسب، بل حتّى في المذهب الواحد، لأننا كنّا معنيين بالذاتيات الضيقة تارةً والواسعة أخرى.

    مذهبيتان:

    لقد بدأت المذهبيّة تأخذُ مكان الإسلام في حياتنا.. وللمذهبيّة عنوانان: المذهبيّة الطائفيّة والمذهبيّة الفكريّة فالمذهبيّة الفكريّة غنىً للإسلام والاجتهاد غنىً للإسلام، لأنّ مسألة أن يكون لك مذهب في فهم الإسلام هو غنىً: دراسةً وتفكيراً وحواراً.. يمكن من خلال الالتزام بخط الفكر أن نسهل التقارب إن لم نصل إلى الوحدة..

    إنًّ الفكر لا يتعصّب، ومن يلتزم مذهب الفكر لا يتعصّب، أمّا الغريزة فتتعصّب، والمتعصبون هم الذين لا يملكون عمق الفكر ورحابته وامتداده.. والعصبية تضيِّقُ فكرك وصدرك وحياتك وساحتك..

    فالتعصب والحقد جاءا من المذهبيّة الطائفيّة، وحين نتحدّث عن الوحدة، فإنّنا نتحدّث عن الإسلام الوحدة والغنى الفكري، المنفتح على الكتاب والسّنة، والمنفتح على النّص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ينفتح لا ليتجمد عنده ، كما يتهمنا الآخرون بالجمود أمام النّص.. إنّ النص ككلمات وأصوات وحروف ثابت ولكنّ المضمون متحرك...فالعدل مثلاً يتحرك في كل المجالات، ويمكنك أن تفكر في العدل شريعةً وأسلوباً وحركةً وسياسةً واقتصاداً وأمناً. هو كلمة في عدة حروف، ولكنها كلمة تشتمل على مكنونات العالم كله.

    الحوار في مسألة الوحدة:

    على ضوء هذا، قد نحتاج إلى أن ننفتح على هذا الجانب ونحن نعالج مسألة الوحدة الإسلامية في واقعنا المعاصر من حيث المصير، لنلتقي بقضية أخرى، وهي مسألة الذهنية الموضوعية؛ والذهنية الموضوعية هي الذهنية العقلانية التي تنطلق إلى الفكرة كما لو لم تكن هناك أية مسبقات لها، سواء في الجانب الذاتي أو في الجوانب المحيطة بالبيئة وغيرها.. وأن لا تكون لها أيضاً في المجال الآخر نظرة إلى النتائج السلبية المسبّقة، أن تنظر إلى المسألة كما لو كانت حقيقة ضائعة تريد أن تكتشفها مع الآخر، وهذا هوالمنهج القرآني للحوار الذي سبق كلّ مناهج الحوار في الجانب الثقافي للحوار، ولم يقترب منه أي منهج حوار آخر بالرغم من تطور أساليب التخاطب والحوار في العالم..

    إنّ الحوار في العالم يرتكز على أساس أن تقتنع بنسبة كبيرة أنك على حقّ وتعطي الآخر فرصة صغيرة ونسبة ضئيلة أنه على حق: هناك ذاتية في النظرة إلى رأيي ورأي الآخر. أما القرآن الكريم في حديث الله تعالى لرسوله(ص) وفي خطاب الرسول (ص) للآخرين:<وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين>، فهل كان النبي شاكاً وهو الذي جاء بالصدق وصدق به، وهو الداعية إلى الله؟! ولكنّ للحوار منهجه وأسلوبه، وهذا المنهج يقول قد أكون على ضلال وقد أكون على هدى، وقد تكون أنت على ضلال أو هدى، فهناك حقيقة ضائعة بيننا، فعلينا أن نترافق في رحلة البحث عن الحقيقة.. ليس هناك ذاتية في المنهج القرآني الرسالي، بل هناك موضوعية عقلية لم يرق إليها منهج آخر.

    فإذا كان النبي(ص) يخاطب الكافرين والمشركين بهذا المنطق، أفلا نخاطب بعضنا بعضاً بهذا المنطق، ونحن نلتقي على ألف موقع للقاء في هذا المجال. فالموضوعية هي أن نعيشها في أي موضوع حواري؛ رفقة في رحلة البحث عن الحقيقة. وإذا كنت تملك ما تعتقد أنه عناصر الحقيقة وأملك عناصر البحث عمّا أعتقد أنه الحقيقة، فسنلتقي، لأن الذات لن تدخل في الجوّ الحواري، ولأنّ العصبية لا مجال لها في هذا الجوّ.. فلماذا نبتعد وأمامنا الأساليب القرآنية في الدعوة للقاء والحوار والبحث عن مواقع اللقاء مع الآخر.. فكم بيننا وبين النصارى في المسألة العقيدية وحدود التوحيد ونحو ذلك من التفاصيل الكثيرة، ولكن الله تعالى يقول:<قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله><ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم>.

    أن نلتقي عند مواقع اللقاء لنعيش مناخ اللقاء، فهذا المناخ اللقائي الحواري إذا عشناه وانتقلنا إلى مواقع الخلاف، كانت روحيّة اللقاء هي التي تحكم الحوار.. هذه هي الروحية التي لا يكفي أن تنطلق في عقول العلماء والمثقفين، بل لا بدّ أن تكون حالة ذهنية شعبية، أن نثقف بها قواعدنا الإسلامية، حتى نستطيع أن نعيش المنهج القرآني الذي ربّما يمتد حتى إلى بيوتنا وإلى مواقعنا السياسية والاجتماعية والأمنية وغير ذلك. وإنني أخشى أن كلّ ما أطلق من محاضرات ونداءات وشعارات ومؤتمرات حول الوحدة الإسلامية كان يتحرّك في السطح لافي العمق..

    وكانت المجاملة هي التي تسيطر عليه.. وربما في بعض المواقع ولا أريد أن أسجل اتهاماً لأحد ربما كان التكاذب هوالذي يتحرّك. لا أريد أن أستشهد بآية أنزلها الله في المنافقين، لأن المسلمين فوق ذلك كله.. <.. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزئون>. نتكلّم بالوحدة، وينطلق كلّ واحد إلى قاعدته المذهبية ليتحدّث أننا مضطرون أن نتحدّث بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب، لأن الوضع يقتضي ذلك ويفرض حديث الوحدة في مؤتمر الوحدة الإسلامية.. وهكذا بقى الواقع الإسلامي يعيش التعقيدات الكبيرة.. إننا بحاجة إلى أن نفكر بطريقة شعبية في هذا الموضوع، إن عصبيات مذهبياتنا في أي جانب إسلامي لم تخلق معنا، فليست عضواً من أعضائنا، وإنما ورثناها في ما يرث الناس من عصبيات، أو اخترناها في ما يختار الناس من مذاهبهم.. هي ليست شيئاً ذاتياً فينا، بمعنى أن الخروج عنه هو خروج عن الذات.. هو فكر ورثناه أو فكر اخترناه.. فحين تكون المسألة في هذا الإطار، فلماذا نصر على أن يظل كل واحد منا واقفاً مكانه والآخر كذلك.. وليس مستعداً لحوار الآخر أو التقدم معه خطوة واحدة إلى الأمام، ويبقى الحوار قائماً على ما يعرف بقاعدة حوار الطرشان..

    وإلا لماذا مع آلاف الكتب والدروس على مرّ السنين لم يستطع أحد أن يتقدّم نحو الآخر، وزادت التعقيدات عقدة... وإنني لا أريد الحديث عن صورة سوداء للمسألة، فهناك نقاط من الضوء، ولكن أريد الحديث عن واقع نريد الخروج منه.. فلقد أراد الله لنا ألا نعتقد أن الظلام دامس مئة بالمئة، فهناك نقاط ضوء تطرد الليل، وهي موزعة في أنوار الكواكب التي تشير إلى أن وراء هذه الليالي فجراً، وحين تأتي الليالي البيض نشعر من خلال ضياء القمر بمعنى الفجر داخل الليل .

    الاستكبار وقضايانا السياسية:

    إن هناك نقطة نواجهها الآن، وهي إدخال المسألة السياسية التي لا تتصل بنا تماماً، وإنما تتصل بالمسألة الاستكبارية .. فحين يحدث حدث وتتخذ بعض الدول الإسلامية المتمذهبة بمذهب معين هنا أو هناك أو عندما تتحرك بعض المنظمات والحركات الإسلامية لتتخذ موقفاً هنا وهناك ربما يخالف موقفاً آخر لحركة متمذهبة بمذهب آخر.. فرأساً تثار المسألة المذهبية، وقد تكون الدولة والحركة والمنظمة منطلقة من مصالحها، ومتحركة من خلال فهمها السياسي لهذه المسألة.. ولكنّ المسألة أنّ ما يقال: إنّ هذا الموقف ضد الشيعة من السنة أو ضد السنة من الشيعة، ولا علاقة للتشيع والتسنن بالموضوع كله... وإنما هناك بعض المنظمات أو الحركات الإسلامية تعتبر العنف الوسيلة الوحيدة أو المُثلى للتغيير وبعضها لا تعتبر ذلك.. فالمشكلة بعدما حصل في أفغانستان أو غيرها أننا ركبنا الموجة، مع أنّ الكثيرين هم ممن لا يوافقون على ما يسمى بأساليب العنف أو التطرف أو الإرهاب.. ولكن ليس معنى ذلك أن يتحوّل العالم الإسلامي إلى فرع من جهاز المخابرات الأمريكية يلاحق كل مسلم ينفتح على إسلامه من خلال انفتاحه على حريته واستقلاله.. فماذا هناك الآن؟ إن أغلب الدول الإسلامية تلاحق المسلمين والإسلاميين في كل مكان، حتى على مستوى الاحتمال الموهوم بالعلاقة مع »القاعدة«، وأصبحنا مجانياً فرعاً من فروع المخابرات المركزية الاميركية نقدّم المعلومات ونلاحق ونقتل ونسجن.. وكل ذلك لا لاقتناعنا بذلك، بل لنعتقل ونسلّم المعتقلين إلى أمريكا لتحاكمهم، فما معنى ذلك؟ وهذه مسألة من أخطر المسائل. ولعلّ الصورة التي نواجهها في العالم الإسلامي والعربي تتحرك في هذا الاتجاه.. والقضية هي السعي كي يخرس كل صوت إسلامي يحمل حرارة الحرية في تصوره للإسلام.

    نقول لا مانع لدينا أن نختلف، وقد صرحنا أننا نختلف مع طالبان في فهمها للإسلام، وما حدث في أمريكا في 11 أيلول، لأنه أساء إلى الواقع الإسلامي أكثر مما خدمه ولو كان مبرراً في ذاته، ولكنْ هناك فر بين مواجهة هذا التيار في داخل الحركة الإسلامية أو الواقع الإسلامي، أو أن نكون الوكلاء عن أمريكا في ملاحقة كل حركة إسلامية ومسلم يعيش التوتر الإسلامي في هذا المجال.

    تفعيل روحية الحوار والوحدة:

    أعتقد أننا بحاجة إلى هذه الروح «التوتر الإسلامي»، ولكن علينا معالجة المضمون لهذا التوتر.. فقد يكون الإنسان المتوتر مخلصاً للإسلام وهو يخطى‏ء في أسلوبه وعمله. لهذا فنحن نتحسس الآن أن هناك وحدة إسلامية شعورية على المستوى السياسي، وهو ما لاحظناه في المواقف الشعبية الإسلامية على مستوى قضية أفغانستان، وقبلها قضية البوسنة والهرسك، وهذه الوحدة تتجلى الآن في القضية الفلسطينية التي يقف كل العالم الإسلامي على الأقل على مستوى الشعوب مع الانتفاضة ومواجهة إسرائيل، هي وحدة إسلامية شعورية حقيقية، نرجو أن تتحول إلى وحدة إسلامية سياسية على مستوى حركة الواقع السياسي، ولا أقصد من الوحدة السياسية الوحدة الاندماجية.. إن علينا الاستفادة منها وتقويتها، وأن لا نبعد الصفة الإسلامية عنها، لأن كثيراً من الدعوات تنطلق لإبعاد الصفة الإسلامية عن هذا الموقف، ونحن نعتقد أنه حتى بعض العلمانيين الحركيين يتحركون من الرواسب الإسلامية الموجودة داخل نفوسهم... إن علينا ألا نجعل الإسلام يفقد هذا العنصر وهذا الموقف... كما أننا نعتقد أن هذه اللقاءات التي تحدث في المؤتمرات الإسلامية على مستوى الدول ومستوى الحركات الإسلامية، وعلماء المسلمين من سائر المذاهب، وبين الحركيين المسلمين، أوجدت نوعاً من التفاهم والتقارب إذا لم يستطع أن يلغي الكثير من الفروق فإنه استطاع أن يقلّصها، واستطاع أن يوجد نوعاً من العلاقات الشخصية والثقافية... ونحن نعتقد أن لبنان يمثل البلد الذي استطاع أن يوجد نوعاً من الوحدة على المستوى الشعبي لا نجده الآن في أيّ بلدٍ إسلامي آخر.. ولعلّنا نلاحظ قضيّة التزاوج بين المسلمين ومن مختلف المذاهب كيف ~متدّت على مستوى لبنان، وتجربة تجمع العلماء المسلمين التي ندعو لتفعيلها وتحريكها ولقاءات الحركات الإسلامية التي نريد أن لا تقتصر على المسألة السياسية، بل يجب تخطّيها إلى الجوانب الثقافية، ولا سيما في لبنان، ما يفعّل عمل هذه الحركات أكثر ويتنسّق القضايا بشكل أشمل وأعمق.. وبهذا نتخلص من مقولات العلمانيين أنّ الإسلام صار إسلامات متعددة، فعلينا إثبات الإسلام الواحد، وأنّ هناك تنوّعاً في الوحدة واجتهادات في فهم الإسلام..

    <قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني> فلنبدأ الخطوة الأولى، لأن الكفر كله قد برز إلى الإسلام كله، فعلى الإسلام كله أن يبرز للكفر والاستكبار كله، فلنعتصم بحبل الله جميعاً ولا نتفرق ونعدّ نعمة الله علينا، حيث جعلنا إخواناً وكنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا منها..

    علينا أن ندرس الواقع، وكيف يمكننا تغييره من خلال تغيير الكثير من ذهنياتنا في فهمه والانطلاق معه، وعلينا التحديق بكلّ الواقع الإسلامي، ولا سيما في قضايانا الحيوية في فلسطين والعراق وغيرهما.. ومواجهة الهجوم الأميركي والفرعونيّة الجديدة الساعية لإسقاط الواقع الإسلامي كله.
    [/align]


    -------------------
    تحت عنوان: «مصير الوحدة الإسلامية في واقعنا المعاصر»حاضَرَ سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، وذلك في النّدوة الفكريّة الإسلاميّة التي عُقِدَت في «أَزهر البقاع» تحت عنوان: «الدّعوة إلى الله تعالى مناهج متنوّعة لغايةٍ واحدة» صباح الأحد 22 رجب1423 هـ / 29 أيلول 2002.





  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]
    الاختلاف والتفرّق في الأمة

    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيُّها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.

    منشأ الاختلاف

    كنا نتحدث عن الآيات التي تحثُّ المؤمنين على الاعتصام بحبل الله جميعاً، وعدم الأخذ بالتفرقة، ونتابع في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران/105).

    يؤكّد القرآن في هذه الآية، أنّ هناك نوعين من الاختلاف ومن التفرّق، أولاً: هناك نوعٌ يرتكز على عدم وضوح المسألة المختلف عليها عند بعض الناس، كأن يأخذ بعضهم برأي، والبعض الآخر برأيٍ آخر مخالف، كالكثيرين ممن يختلفون في الآراء على أساس عدم وضوح الفكرة بشكل حاسم.

    وقد جعل الله منهجاً لحلّ هذا الخلاف، وهو: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59)، أي إذا اختلفتم وأخذ كل واحد منكم برأي، فعليكم أن ترجعوا إلى القاعدة التي تلتقون عندها، لأنكم تؤمنون بها من خلال العقيدة، فأنتم تؤمنون بالله، وتؤمنون بالنبي، وتلتزمون كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتلتزمون سنَّة رسول الله الذي لا بدَّ أن تطيعوه فيها.

    {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر/7)، فهذه هي القاعدة التي ينبغي أن يرجع إليها المختلفون الذين لا يملكون وضوح الرؤية للأمور بشكل حاسم. وهناك فريق آخر يملك وضوح الرؤية، لأنّ الحجة التي تؤكد له الفكرة أو الخطّ قد قامت عنده بوضوح، ولكنه لا يلتزم بها، بل يأخذ لنفسه منحىً آخر من أجل الاستفادة من هذا النوع من الاختلاف والتفرق، وذلك إما لأنّ لديه عقدةً ضد الإنسان الذي يأخذ بهذا الرأي أو ذاك، أو لأنه يريد أن يتزعَّم، فيجعل لنفسه خطاً من دون الاقتناع به، ليتزعّم من خلال هذا الخطّ.

    الصورة الأخروية لأفعال الإنسان

    الآن نرى الكثير من الأحزاب والطوائف قد يلتقي بعضها مع بعض في الأفكار بنسبة 90% تقريباً، ولكن مع ذلك نجد أن هذا يؤسِّس حزباً وذاك يؤسس حزباً آخر، وهذا يجمع جماعة حوله وذاك يجمع جماعةً حوله، من أجل أن يتزعَّم كلُّ واحدٍ في المجتمع، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم في هذه الآية: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا}، فأخذ كلُّ واحدٍ منهم مساراً وطريقاً {وَاخْتَلَفُوا}، بحيث طرح كلّ واحدٍ خطاً أو فكراً {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} بعد قيام الحجة عليهم، فهؤلاء ليسوا معذورين، لأنهم جحدوا الحق بعد أن قامت الحجَّة عليهم. {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(آل عمران/105)، لأنّ الله يعذّب الجاحدين للحقّ الّذين قامت عليهم الحجّة، فيواجهون بذلك العذاب يوم القيامة. والله يعبِّر عن يوم القيامة بقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}(آل عمران/106)، بحيث ينقسم الناس في يوم القيامة إلى قسمين، فتنعكس أوضاعهم في الدنيا على صورتهم في الآخرة، وعبّر عن هذه الصورة ببياض الوجه وسواده. في هذا المجال، قد نحتاج إلى بيان حقيقة الأمر الذي يلزم عن سؤال بعض الناس، وهو: هل إن بياض الوجه يمثِّل القيمة عند الله، بينما السواد يمثل حالة سلبية؟ ربما بعض الناس تكلموا بهذا الشكل، وهذا أوجب تعقيد المسلمين السود، بحيث شعروا بأن سوادهم هو نتيجة غضب الله عليهم بسبب ذنوب قد ارتكبوها، وحتى إنَّ البعض قد يتعقَّد حينما يقرأ في السيرة الحسينية أنّه عندما برز جون مولى أبي ذر الغفاري، وكان أسود الوجه، قال له الحسين(ع): إنك إنما اتبعتنا للعافية، فلا تبتل بطريقتنا. أي أنك مشيت معنا لتأكل وتشرب وتعيش معنا، والآن أصبحت الأمور مختلفة، فإمَّا حياة وإمّا موت، وأنت لست مسؤولاً بأن تسير على طريقتنا لتستشهد بعد ذلك، فقال له: إن لوني لأسود، وإن حسبي للئيم، فادعُ الله أن يبيِّض لي وجهي ويشرّف حسبي، فقال الحسين(ع) بعد استشهاده: اللهمَّ بيض وجهه. الفكرة أن الأسود هو خلق الله، والأبيض هو خلق الله، وهناك بعض الناس أصفر الوجه. هذا من شأن الله {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}(الروم/22). لذا فإنَّ البياض لا يمثِّل القيمة الإيجابية للأبيض، كما أن السّواد لا يمثّل قيمة سلبيّة للأسود. كأن البياض مثل النهار، يمثل حالة الإشراق، فمعنى ابيضَّ وجهه أي أشرق، لأنَّ اللّون الأبيض هو لون الإشراق، بينما اللون الأسود يشبه الليل، وهو لون الظلمة. فعندما نقول تبيضّ وجوههم، أي تشرق وجوههم من خلال إيمانهم، وأولئك اسودَّت وجوههم، أي ليس عندهم إشراق في هذا المقام.

    البياض الروحي الإيماني

    ولذا فإنَّ الله عبّر في آية أخرى عن مسألة المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات بقوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}(الحديد/12)، {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}(التحريم/8)، فالبياض يعبَّر به عن الإشراق، بينما السواد يعبّر به عن الظّلام، ولكنّ ذلك لا يعني أن البياض يمثل قيمة إيجابية والسواد يمثل قيمة سلبية، بل هو كناية _ أليست الكناية أبلغ من التصريح عندنا في اللغة العربية _ عن إشراق الوجه من خلال إشراق النفس، وإشراق الروح، وإشراق العمل. والظّلام عن ظلام الروح وظلام العمل وما إلى ذلك.

    {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ _ فمن أين وصل هذا الظلام الذي طبع على وجوههم ليعبِّر عما في داخلهم، فيقال { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ _ باعتبار أن الكفر يعبّر عن حالة ظلام روحي وفكري وما إلى ذلك _ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ _ لأنهم آمنوا بالله وأطاعوه _ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(آل عمران/106-107) لأنهم انسجموا مع إرادة الله سبحانه وتعالى في ذلك كله.

    {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} هذه الآيات التي تؤكد للنّاس مسألة الخطِّ المستقيم في السير على أساس الاعتصام بحبل الله، والبعد عن التفرّق، والدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} يا محمد {بالحق} لتبيّن هذا الحق للناس {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ}(آل عمران/108)، فالله لا يظلم الناس عندما يعذبهم {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(يونس/44)، لأنّ الله قد أقام عليهم الحجَّة، فلم يلتزموا بها، ولم يتحرَّكوا في هذا المجال {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}(آل عمران/109) فعلى الإنسان أن يعرف عندما يتطلّع إلى السماوات، ويتطلّع إلى الأرض، أنّ الله هو مالك السماوات ومالك الأرض، وبذلك يدخل في مقارنة مع الناس الذين يملكون بعضاً من المال أو من الجاه أو القوّة، فيعرف أنَّ الله هو الأكبر وهو الأعلى، وأنَّ الله هو المرجع في كلِّ أمورهم، فلا يستبدلون بالله غيره.
    [/align]


    ----------

    درس التفسير القرآني الذي ألقاه سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله





  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    [align=justify]

    تأمُّلات في الخطاب الإسلامي المعاصر

    الخطاب في حركة الدَّعوة:

    للخطاب الإسلامي في حركة الدعوة إلى الإسلام، الدور الأساس في انفتاح الوجدان الإنساني على الإسلام، من خلال انسجامه مع مستوى الذهنية العامة في طريقتها في تكوين التصوّرات والانطباعات المتنوّعة، وإدراك القضايا العامة، وتحريك المشاعر والانفعالات، وتقديم المضمون الحيوي الذي يلتقي مع الحاجات الإنسانية، والمنطق العام الذي يرتكز على العقل تارةً، وعلى العاطفة أخرى، وقد يدخل في تزاوج بينهما تبعاً للمفردات التي تختلف حركتها في النفس من خلال التأثيرات المضمونية في علاقتها بالحسّ والعقل والوجدان، وفي نوعية الأسلوب وصلته بالأجواء المهيمنة على الواقع والكلمات المتحركة في الخطاب... ثم حركة الرصد المستمر للمتغيرات في الأحداث والأشخاص والعلاقات والمواقف والمواقع.

    إنَّ ذلك هو الخطُّ العام الذي لا بد للخطاب الإسلامي من أن يتمثّل به، في حركة تجدّد دائم في الشكل والمضمون والحركة والمنهج والصوت والصدى، لأنّ الإنسان الذي يتوجّه الخطاب إليه في عقله وقلبه ورغباته ومخاوفه، هو مخلوق متحرك من موقع حركة الإرادة في ذاته، متغيّر تبعاً للمؤثّرات التي تترك آثارها المختلفة على كيانه، ما يجعله بعيداً عن الاستقرار الذاتي الذي يربطه باللون الواحد، والمضمون المحدّد، والشكل الخاص، والمنهج الثابت، وهذا هو الذي يفرض التوازن بين خصوصية الخطاب وخصوصية الإنسان.

    وربما كان هذا الخطُّ هو ما يقصده علماء البلاغة في تعريفهم للبلاغة في الكلام، أنها "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، حيث يريدون بذلك، أن الكلام البليغ الذي يصلُ بالمتكلم إلى هدفه في اجتذاب الإنسان الآخر إلى مضمونه لتكوين قناعاته على ذلك الأساس، هو الكلام الذي يتوازن فيه المعنى والواقع، بحيث تتطابق الفكرة مع الحاجة، والأسلوب مع الذهنية، ولن يتحقق ذلك له إلاّ إذا كان يملك ثقافة اللّغة في خصوصياتها الإفرادية والتركيبية، وأسرارها الدلالية والإيحائية والإيمائية، وأساليبها التعبيرية، وكان يحيط بالإضافة إلى ذلك بثقافة الواقع على مستوى الإنسان والظروف والأجواء والأوضاع وحركة التغيير لينطلق في خطابه، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى عقل الإنسان وقلبه من أقرب طريق.

    أسلوب الحكمة

    وقد نستوحي ذلك - في الخطِّ الإسلامي العام - من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل/125)، فنرى أنّ الحكمة - كما يقولون - هي وضع الشيء في موضعه، "بمعنى عدم خروج السلوك القولي والعملي عن دائرة الواقع في حاجاته وتطلّعاته ومستواه". أما الموعظة الحسنة، فهي الطريقة التي تنفذ إلى العقل بسهولة وإلى القلب بسرعة، وإلى الحياة بيسر وانسجام، من خلال الحسن في مضمون الوعظ الذي هو معنى الوعي في حركة الخطاب، والحسن في الأسلوب الذي هو سر الحركة في اتجاه الوجدان.

    ويأتي الجدال بالتي هي أحسن، ليعبِّر عن حركة الصراع في الدعوة بين فكرها والفكر المضادّ، لتنطلق بالطريقة الفضلى، والمنهج الأحسن، والجوّ الأفضل، فلا تثير الحساسيات التي تحوّل الموقف إلى انفعال لا عقل له، وإلى كلامٍ لا معنى له، وإلى حديثٍ لا فكر له، ولا يحرّك التعقيدات التي تغلق نافذة العقل عن الحقيقة من خلال العصبية العمياء، وتبتعد بالفكر عن التركيز من خلال الفوضى، وتثير المشاكل على أساس نوازع الشرِّ في الذات، بل تتجه إلى العقل لتفتحه، وإلى القلب لتجتذبه، وإلى الواقع لتحتويه، فلا تكون ساحة الصراع مفتوحة على الحقد والخصام، بل على التكامل والتفاهم للوصول إلى الحقيقة هنا وهناك.

    الإسلام رسالةُ اللهِ للإنسان

    ثمَّة حقيقة "حيوية" في الإسلام، وهي أنه رسالة الله إلى الإنسان، والّتي أراد للرسول أن يجعل منها نوراً يخرج بها هذا الإنسان من كهوف الظلمات إلى ساحة الشمس المشرقة الواسعة، وهدى ينقذه من الضياع، وذكرى ليتذكر حقائق الحياة والغيب والإنسان والدنيا والآخرة، ونافذة على العقل والفكر من أجل وعي الذات والله والحياة. ولذلك، فإنه يتحرَّك من أجل تحويل الإنسان بالفكر، ليكون طاقةً حيّةً منتجةً ومبدعةً، الأمر الذي يفرض عليه أن يعرف كيف يجتذبه إليه، ليرتبط به على قاعدة القناعة التي ترتكز على الفكر والإحساس، وينطلق منه نحو الآفاق الرحبة التي تطلُّ على الله وعلى الحياة والإنسان من خلاله، وهذا هو الذي يجعل من الخطاب الإسلامي عنصر حركة وتغيير، لا عنصر جمود وسكون.

    مشاكل الخطاب المعاصر

    وربما نجد أن مشاكل الخطاب الإسلامي المعاصر، تكمن في أن هناك اتجاهين في تجربته الفعلية يحكمان الطابع العام للحركة الإسلامية المعاصرة:

    الاتجاه الأول: الخطّ التقليدي الذي ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخية وأساليبها، من دون دراسة المتغيرات الكبيرة التي تحكم الواقع في تطور قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته، سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإدارته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسية التي تحيط به، أو من جانب التحديات الفكرية التي تترك تأثيراتها على المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أو من حيث واقع الاستكبار العالمي المتحالف أبداً مع الكفر العالمي.

    إننا نلاحظ أن اللغة التي يتحدّث بها هذا الاتجاه على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللغة المعاصرة، ونقصد باللغة - هنا - الذهنية التي تتحرك بها وسائل التعبير ومفردات التفكير، لأنّ الذهنية المتنوّعة تمثل حاجزاً عن التفاهم تماماً كما هي اللّغة في طبيعتها، ولهذا انطلقت الرسالات في خط الأنبياء، لتدفعهم إلى أن يخاطبوا الناس بقدر عقولهم، كما جاء في الحديث المأثور عن النبي محمد(ص): «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم».


    وقد نلاحظ في طريقة هذا الاتجاه، أنَّ بعض دعاته يخلطون بين فقه الدولة والفقه الفردي، فيحاولون تغليب الفقه الخاص الذي يتحرّك من خلال جزئيات القضايا، على الفقه العام الذي يضع الأمة والمجتمع في حساباته، فيخيّل إليك أن على الدولة أن تتجمَّد في دائرة الحالات الفردية، لأن هؤلاء لم يعيشوا _ في ثقافتهم _ تجربة الدولة، بل عاشوا تجربة الإنسان خارج نطاقها، فكانت اجتهاداتهم خاضعةً للظروف الجزئية، كما أنَّ ملاحظاتهم محكومة للتجارب الخاصة.

    وربما عاش بعض هؤلاء الاستغراق في الجانب الغيـبي المطلق، بحيث تحوَّلت حركة الحياة لديهم إلى حالة غيب، وذلك من خلال التأكيد أن "الإيمان بالغيب" يمثِّل قاعدةً مهمةً من قواعد الإيمان الإسلامي. ولذلك كانت الأجواء الغيبية هي الأجواء الغالبة لديهم في تفسير التاريخ والواقع، وفي تحريك الخطوات نحو المستقبل. ولكننا نلاحظ، في هذا المجال، أنَّ الله _ سبحانه _ قد سنّ للحياة سنناً تحكم حركتها، وخطّط للإنسان، في حياته الفردية والمجتمعية، قوانين عامة في طبيعة علاقته بالوجود من حوله، بحيث أراد للحياة والإنسان، أن يتحركا في دائرة السنن الكونيّة المحدودة، من دون إغفال دور القدرة الإلهية في أن تتدخل في بعض الحالات، لتجمد قانوناً كونياً أو مجتمعياً لمصلحة قضية حيوية تتصل بالمسار الكوني والإنساني، في دائرة الإعجاز أو نحوه.

    بين السنن الكونية والغيب

    ولذلك، فلن يكون التفسير الطبيعي للأحداث والتطورات والأوضاع العامة، خروجاً عن الإيمان بالغيب، واستغراقاً في الاتجاه المادي؛ لأن حيثيات الطبيعة في دائرة السنن الكونية، والقوانين الطبيعية، هي من غيب الله الذي لا نعرف عمق أسراره، فإذا كانت السببية المادية هي قانون الحركة في الحياة والإنسان، فإن ذلك لا يلغي جانب الغيب فيها، باعتبار أن سرّ السببية في عمق الوجود مما لا نعرف حقيقته، ليبقى غيباً في علم الله.

    إن مثل هؤلاء يغفلون عن حقيقة إيمانية حاسمة، وهي أنَّ الله أطلق إرادته في حركة الكون والإنسان، في ما يملك الإنسان رؤيته ووعيه وحركته، وهو الجانب المادي من الوجود، كما أطلقها في ما لا يملك الإنسان سرّه وشهوده وتحركه بإرادته، فهما _ معاً _ مرتبطان بالله، فلا يكون الانفتاح على أحدهما دون الآخر، وذلك انطلاقاً من حقيقة الإيمان التي تفرض على المؤمن الأخذ بهما معاً، بحيث تكون للحياة ماديتها الوجودية، وروحيتها الغيبية. هذا من جهة.

    ومن جهة أخرى، فإنَّ الاستغراق الغيـبي في الشخصيات القدسية، التي يتحوّل أصحابها إلى مخلوقات غيبية، لا علاقة لهم بالوجود الحسي المادي إلاّ من حيث الشكل، بالدرجة التي قد تتحوّل القضية معها إلى ما يشبه التصوّر الغيـبي لكل ما يحيط بهم، قد يساهم في إبعاد الناس عن الانفتاح على حياتهم من الموقع الإنساني الطبيعي، لأنّ صورتهم ليست صورةً إنسانيةً في ملامحها وتطلّعاتها وحركيتها.

    وربما كان السرُّ في هذا الاتجاه، هو فقدان المنهج التوثيقي للتراث الإسلامي، في "الحديث" الذي عاش الكثير من الإرباك في السند والمتن، ما جعل البحث العلمي ضرورياً في توثيق الفكرة في مصدرها ومضمونها، لنستطيع أن نحصل على التكامل الفكري بين خطِّ القرآن وخط السنة، كما هو العمق في الواقع الإسلامي.

    وقد تأثَّرت النظرة الاجتماعية والسياسية بالكثير من هذه الأجواء، بحيث ابتعد الكثيرون من هؤلاء الذين يملكون مواقع إسلامية متقدمة، عن وعي الذهنية المعاصرة، فلم يستطيعوا أن ينفذوا إلى عمق الإنسان المعاصر، الأمر الذي أدى إلى حدوث المزيد من الفواصل بينهم وبين الواقع.

    وهذا هو الذي يزال الحديث مستمراً عنه، لجهة الهوَّة القائمة بين الحوزة والجامعة، أو بين الوسط الديني والوسط العصري _ إذا صحّ التعبير _ ما يعمل الداعون من العاملين والقياديين على معالجته بالطرق الواقعية، التي تحاول تقريب المفاهيم المختلّفة، والأساليب المتنوّعة لدى كلٍ منهما.

    الخطاب التقليدي

    وقد نلاحظ _ في هذا الخطّ _ أن الذين ينطلقون فيه، قد يملكون عناوين سياسية كبيرة، تنفتح في شعاراتها على أجواء في مفرداته وحاجاته، وعلى اللغة المعاصرة في طريقة التحرك، وقد يتحرَّكون في الخط الجهادي بالمستوى الذي يتقدمون فيه كلَّ التيارات السياسية الموجودة في الساحة، ما يوحي بأنهم قد يملكون الموقع القيادي في المسألة السياسية.

    ولكننا قد نجد _ إلى جانب ذلك _ ضياعاً في المسألة الفكرية على مستوى تحديد الخطِّ والمنهج والمفردات بشكلٍ واضح، على مستوى المشروع الإسلامي الثقافي، لفقدان الوحدة الفكرية في هذا المجال، واستغراق الحركة في الجو السياسي والجهادي، ما يفرض على قادتها أن يواجهوا تحديات المستقبل، بالتخطيط الدقيق للخطاب الثقافي الذي يمثل قاعدة الخطاب السياسي، وينفتح بشمولية وامتداد على المشروع الحضاري الإسلامي، الذي يكفل للمسلم المعاصر الحصول على التصوّر الواضح للخطِّ الإسلامي الحركي في مواجهة الخطوط الأخرى.

    مشكلة الخط التقليدي، أنّه يعاني حالةً من الضياع والتمزّق، لأنّه يفكر بطريقة مغايرة للطريقة التي يفكر فيها الإنسان المعاصر. ولذلك فإن التجديد الذي أثاره بعض هؤلاء، كان تجديداً في الشكل لا في الحركة الثقافية، ما جعل دخول الحركة الإسلامية التي تتبناه في الواقع المعاصر، مشكلةً تبحث عن حلّ، لأن خطابها لا يتناسب _ غالباً _ مع تكوين ذهنية الإنسان العامة.

    الاتجاه الثاني: الخطّ التوفيقي بين المضمون الإسلامي والمضمون العصري _ إذا صحَّ التعبير، وهو الذي ينتهجه المثقفون الإسلاميون في انفتاحهم على الخطوط الثقافية المعاصرة المتأثّرة بالتفكير الغربي، في اتجاهاته المتنوعة، في الدوائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي استطاعت التأثير في المجتمعات الإسلامية، بفعل السيطرة الاستعمارية على الواقع الإسلامي كلّه، ما جعل الكثيرين من المسلمين خاضعين لتأثيرات مفاهيمه وطريقته في الحياة ونظرته إلى الأمور، بحيث وجد الإسلاميون المعاصرون، أن الطريقة الفضلى لاجتذاب هؤلاء المسلمين من جهة، ولإقناع العالم الغربي بواقعية الإسلام، وانفتاحه على تطورات العصر، وقدرته على مواجهة المتغيرات في حركة الحياة، من جهة أخرى، هي في الانسجام مع العناوين الكبرى المطروحة في الساحة المعاصرة الغربية، كالديمقراطية، أو الاشتراكية، أو الاقتصاد الحر، أو قضايا الحريات، وما إلى ذلك من العناوين التي تخضع لقواعد فكرية تختلف مع القاعدة الفكرية الإسلامية، لأنهم لاحظوا إمكانية إخضاع بعض التشريعات الإسلامية لها، أو التوفيق بينها وبين الإسلام.

    وربما حاول بعض هؤلاء _ أمام ضغط الواقع السياسي المضادّ، الذي قد يجعل من طرح الإسلام كعنوان سياسي للواقع، مشكلة صعبة، و طرحاً غير عملي _ أن يطلقوا شعار دولة بلا دين "الدولة المدنية"، أو "رفض الجمهورية الإسلامية" في المجتمع المتنوّع الذي تتنوع مذاهبه وطوائفه، على أساس مصلحة المسلمين أو الناس الموجودين داخل هذا المجتمع في ذلك، بحيث يتحوّل هذا إلى طرح إسلامي في عمق "قاعدة التزاحم" في المنهج الاجتهادي الأصولي _ في نظر هؤلاء _، ليبقى الإسلام حركة في الدائرة الإيمانية للإنسان المؤمن، بعيداً عن حركة الواقع السياسي الملتزم الذي قد يتحوّل إلى متاهات من الطروحات الخيالية التي قد تقود الناس إلى الضياع.

    مشاكل المنهج التوفيقي

    وقد تكون المشكلة في خطاب هؤلاء، أنَّهم وقعوا تحت ضغط الواقع الصعب الذي يمثِّله المنهج المعاصر في تأثيره على الذهنية العامة، ولا سيما في المجتمع المسلم الخاضع للسيطرة الغربية بشكل مباشر أو غير مباشر، ما جعل استعارة العناوين التي تملك "الشعبية" الواسعة، حركةً في المناورة، وأسلوباً في المرونة، ووسيلةً من وسائل قبول الناس للحركة الإسلامية، أو للواقع الإسلامي الذي يمثلونه أو يتحركون فيه.

    وربما يزداد الضغط الخارجي، عندما تطرح الدول المستكبرة على هذه الحركة الإسلامية المعارضة أو تلك، أن تتبنى، في برنامجها، الأخذ بالديمقراطية كشرطٍ لقبولها في المستقبل السياسي لهذا البلد أو ذاك، الذي تملك هذه الدول _ أو بعضها _ القوة في التأثير على حاضره ومستقبله، الأمر الذي يجعل الحركة الإسلاميّة محكومةً للظروف السياسية الضاغطة، التي تفرض عليها الانسجام مع الطروحات المذكورة، أو اختيار العزلة عن الساحة، ليسيطر عليها الآخرون من غير الإسلاميين. وفي هذا المجال، ربما ينطلق البعض من الغرب لاستقطاب الجهات العلمانية المثقفة، من خلال الطروحات العامة التي تتجاوز الصفة الإسلامية في المسألة السياسية، أو تعارض طرح هذه الصفة من قبيل الحركة الإسلامية.

    وربما كان من الضروري التأكيد، أنّ الشخصيات الإسلامية التي قد تأخذ بالأساليب التوفيقية، تختلف في درجة انسجامها مع هذا الخط، سواء من حيث تأثر بعضها بالمضمون الغربي من خلال الاستغراق فيه، أو انفتاح البعض على الأسلوب من باب المرونة، أو تحرّك بعضهم من باب التقية السياسية، أو نحو ذلك مما يتصل بالانفعال بالتيار الفكري أو السياسي الضاغط في هذا الموقع أو ذاك.

    إنَّ القضية التي نريد أن نعالجها في هذه المداخلة السريعة، هي أنّه من الضروري للحركات الإسلامية، أن تستند إلى مشروع إسلامي شامل ينطلق منه الخطاب الراهن، بحيث يملك القائمون عليه وضوح رؤية الواقع والأشياء، فلا تكون الحركة في حالة طارئة تحت تأثير ضغطٍ معين لمواجهة عنوان سياسي ضاغطٍ، ما قد يهيئ للتحرك ظروفاً ملائمة للحركة تقودها إلى الانتصار الذي يحقق لها النجاح الكبير قبل أن تستكمل مشروعها، أو تخطط للبرنامج الفكري والعملي الذي تتحرك من خلاله، لأن مشكلة النجاح قبل تثبيت المشروع، وتأكيد المنهج، تجعل الخطاب ارتجالياً سريعاً، وانفعالياً ضعيفاً، وتؤدي إلى حركةٍ ساذجةٍ تملك انتفاخ الشكل وفقر المضمون.


    نقد المنهجين التقليدي والتوفيقي:

    1- المنهج التقليدي:

    أما ملاحظتنا على الاتجاه التقليدي الذي يتمظهر في أكثر في شكل، فهي أنه لا يكلف نفسه عناء التفكير في القضايا المطروحة على صعيد الاجتهاد الجديد، الذي قد يكتشف بعض الأخطاء في آراء القدامى من السلف الصالح، الذين قد يكونون خاضعين في اجتهادهم لثقافةٍ ظرفيةٍ محددةٍ، أو تجربةٍ فقهيةٍ معينةٍ، بحيث كان لهذه المؤثرات دور كبير في النتائج، إذ قد تبعد الإنسان عن الاستقلال الفكري في نظرته إلى النص أو القاعدة، الأمر الذي يتيح الفرصة لإعادة نظر المجتهدين المحدثين في المسألة بشكل أكثر عمقاً، وأوسع أفقاً، وأكثر أصالةً، وقد تطرأ بعض العناوين الثانوية التي تغير الموضوع، فيتغيّر الحكم تبعاً له، وقد تتغير الوسائل التي كانت تحقِّق بعض النتائج السلبية والإيجابية، ليكون سلبياً الآن ما كان إيجابياً في الماضي، وبالعكس، كما في مثال حرية الفكر المضادّ في مستوى العقيدة والحركة والحياة، فقد كان الموقف الإسلامي سلبياً بالمطلق، حيث انطلق التحريم لأيِّ قولٍ أو فعلٍ أو موقف يتحدث عن فكر الكفر والضلال أو اتجاهات الانحراف السياسي، حتى إنَّ الفقهاء أجمعوا على تحريم حفظ كتب الضلال بأية وسيلة من الوسائل، وكانت الضغوط العملية الواقعية تتكامل مع الضغوط التشريعية. أما الآن، فقد نلتقي ببعض التحفّظات الواقعية التي قد يتحوّل فيها اضطهاد الفكر الآخر إلى سبب من أسباب حصوله على العطف الشعبي، ما قد يشارك في قوته لديهم، وإثارة التساؤل عنه عندهم، بحيث تنطلق المبادرة في عملية بحثٍ عنه، ودراسةٍ له، وإعجابٍ به، وتفاعل معه، من خلال أنه الفكر المضطهد الذي يثير عطف الناس من حوله، كأي حالة من حالات الاضطهاد.

    ومن ناحية أخرى، فإنَّ وسائل الإعلام من جهة، وحركة الضغط السياسية والاقتصادية والإعلامية والأمنية من جهة أخرى، من قبل الدول المستكبرة والكافرة التي تترك تأثيرها في الرأي العالمي الإسلامي بشكل خاص، قد تجعل الموقف الإسلامي في اضطهاد الفكر الآخر ضعيفاً، وتساهم في تقوية هذا الفكر بالمستوى الذي قد يهدّد فيه الكيان الإسلامي، بينما نجد أن إعطاء هذا الفكر حريته في نطاق الواقع المتوازن في خط النظام العام، وتحريك الفكر الإسلامي في اتجاهه، في عملية توعية وحوار وحركة، يمنح الموقف الإسلامي القوة على صعيد المواجهة الحضارية لأصحاب هذا الفكر، ما يساعد في إقناعهم أو إبطال حجتهم أمام الرأي العام الإسلامي والعالمي، كما يضعف الموقف لدى الآخر، وبذلك لا تكون حرية الفكر الباطل وسيلةً من وسائل تقويته، بل قد تكون _ من خلال الخطة الحكيمة _ من وسائل إضعافه، كما قد يكون الاضطهاد سبباً من أسباب تقويته.

    ومثال آخر، قد يعيش المسلمون في بعض البلدان التي لا يحكمها الإسلام، أو يحكمها غير المسلمين، أو ينطلق فيها الحكم في وضع مختلط بين المسلمين وغيرهم حسب القانون العام، فقد نلاحظ أن الفتوى المعروفة لدى بعض الفقهاء من الأقدمين، حرّمت الدخول في الوظائف العامة، ولا سيما المتصلة بالجانب العسكري والأمني ونحوها، لحرمة إعانة الظالم وتقويته. لكنّ هذا الأساس في الاستدلال، قد خضع _ في طبيعته _ لنوعية الحكم ونظامه، من خلال شخصية الرجل الواحد المتمثل بالأمير أو الخليفة أو نحو ذلك، بينما نجد الحكم _ في هذه المراحل _ جماعياً، متمثلاً بالمؤسسات التي يشارك فيها جميع المواطنين، ليكون لكل فريق منهم حصة في الحكم. وإذا كانت مشاركة الناس في الحكم _ سابقاً _ تؤدي إلى تقوية الحكم الجائر، فإنها _ في التجربة الحاضرة _ قد تقوي الموقع الإسلامي، أو الخط الإسلامي الحركي الذي يملك أكثر من فرصة لتأكيد مفاهيمه ونشرها وتحريكها في الساحة العامة، بينما تؤدي المقاطعة _ في أكثر حالاتها _ إلى ضعف المسلمين وعجزهم عن تقوية المواقع وتهيئة الظروف الواقعية لمستقبل الحكم الإسلامي، أو للقوة الكبرى في البلد.

    الإسلاميّون والعمل السياسيّ

    وربما يتصل بهذا الموضوع، دخول الإسلاميين إلى المجالس النيابية القائمة على أساس النظام الديمقراطي الذي يختلف معه النظام الإسلامي في خلفيته الفكرية وفي بعض مرتكزاته، فقد كانت الفتوى حرمة المشاركة فيها، سواء بالتصويت للمرشحين، أو بالترشّح لدخولها، لأنها مجالس تشريعية لتشريع الأحكام والقوانين المخالفة للإسلام. وربما كانت الظروف الماضية لا تسمح بأية إيجابية لمصلحة الإسلام في المشاركة في هذه المجالس تصويتاً ودخولاً، لانعدام الفرصة أمام الإسلاميين للتأثير الإيجابي، بل كانت المسألة سلبيةً على الإسلام، من خلال سيطرة الاستعمار والقوى اللاإسلامية على هذه المجالس، ما يجعل نتائجها التشريعية على نقيض القوانين الإسلامية.

    أما في المراحل الحاضرة، فإن دخول الإسلاميين يمثل فرصة جيدة للإسلام ليؤكد بعض قوانينه، أو ليمنع بعض القوانين المضادّة، أو ليساعد في بعض القرارات والمشاريع السياسية، في خطِّ المصلحة الإسلامية العامة، أو ليمنع بعض العلاقات الدولية المخالفة لمصالح المسلمين والمستضعفين، كما أن المجلس النيابي يمثِّل منبراً إعلامياً للأصوات الإسلامية في إعلان المواقف الإسلامية، ما قد يجلب لها التأييد على صعيد المجلس أو الرأي العام بما لا يتوفر في موقع آخر.

    وإذا كانت حركة التغيير صعبة التحقق على مستوى أسلوب الثورة، فإنّ من الممكن التخطيط المدروس، ولو على مستوى المستقبل، للحصول على الفرص من خلال المؤسسات السياسية، كالمجلس النيابي ونحوه.

    وإذا كان البعض يقول: إن المشاركة هنا تعني الاعتراف بشرعية النظام الذي لا شرعية له، فإننا نقول: إنه ليس من الضروري أن تكون القضية بهذا الشكل، لأنّ من الممكن للمسلمين الحديث عن تفسير مشاركتهم في نطاق النقاط التي ذكرناها آنفاً.

    وهكذا نلاحظ أن الكثير من القضايا العامة التي اجتهد الفقهاء السابقون فيها، قد تختلف في عناوينها الجديدة، بما يبرر تغيير الاجتهاد فيها على ذلك الأساس. ولهذا، لا بد للتقليديين من الانفتاح على قضايا العصر بروح جديدة، وفهم جديد لمواكبة المتغيرات السياسية والاجتماعية، ليتخذوا منها المواقف التي تتناسب مع طبيعة هذا الموقع أو ذاك.

    وهناك نقطة أخرى لا بدَّ للاتجاه التقليدي من دراستها، وهي أنّ صورة الإسلام الإجمالية والتفصيلية التي تقدَّم للناس، لا بد فيها من الانطلاق من الدراسة العلمية الموضوعية التي تدخل في استقراء النصوص الدالة على مفاهيم الإسلام في العقيدة والشريعة والمنهج والحياة، بطريقة دقيقةٍ، على أساس القواعد الصحيحة في التوثيق والاستدلال... ثم المقارنة بينها في حالة التعارض واختلاف المدلولات، للوصول إلى نتيجة حاسمة في التصور الصحيح، حتى لا نأخذ بالأحاديث المخالفة للكتاب في مفهومه الأصيل للحقيقة الدينية، لنؤوّله لحساب هذا الحديث أو ذاك، ولا نخضع لما يخالف العقل من ذلك، أو الحقائق الأساسية للإسلام، لأن المشكلة، أنَّ هناك ركاماً من الأحاديث الموضوعة التي وضعها الغلاة والزنادقة والكذابون، بما يشوِّه الصورة الإسلامية، ويسيء إلى حيوية الإسلام في مفاهيمه، فلا بد من اكتشافه بالوسائل العلمية قبل الأخذ بهذا الحديث أو ذاك كأساس للحكم الإسلامي.

    2- المنهج التوفيقي:

    أمَّا ملاحظتنا على المنهج التوفيقيّ في الخطاب الإسلامي، فهي في استعارة هذا الاتجاه لعناوين أخرى، مما استحدثه الغرب من تيَّارات متنوّعة لا تخدم أصالة الإسلام من قريب أو بعيد، بل يفتح الذهنية الإسلامية على تلك التيارات من خلال عناوينها التي تأخذ من الإسلام عنوانه، ليجد النَّاس فيها القيمة السياسية التي تمنح الإسلام قيمته، بحيث يخيَّل للمسلمين أنّها تمثِّل أصالة القيمة التي لا بد من تأويل المفهوم الإسلامي لمصلحة مفهومها الذاتي. هذا، مع ملاحظة أخرى: وهي أن لهذه العناوين أبعاداً تتجاوز الأبعاد الإسلامية في تفاصيلها الدقيقة، كما تبتعد عن روحية الإسلام في خلفياته العقائدية، مما لا يمكن للمسلم أن يلتزم به، الأمر الذي يفرض على المستفيدين منها، أن يدخلوا عليها بعض التعديلات والقيود والأجواء التي تخفِّف من تأثيراتها السلبية على واقع التفكير الإسلامي. وفي هذه الحال، قد يواجهون ردود الفعل التي تتّهمهم بخروجهم عن الحدود التي يفرضها هذا المصطلح أو ذاك.

    إن الانسحاب من عنوان الإسلام، هنا وهناك، من أجل الضغوط السياسية أو الطائفية التي تفرض التغيير على الإسلاميين في شعاراتهم وفي برامجهم للحصول على رضا الآخرين، يؤدي إلى الدخول في سلسلة تراجعات فكرية وسياسية، لحساب الآخرين، إذا انطلقت الظروف لتفرض أوضاعاً جديدة تجتذب منّا شعارات جديدة في اتجاه إسقاطات عملية للتيار الإسلامي.

    ولن يصدّقنا الآخرون الذين يقارنون بين التزامنا بالإسلام ديناً وبين تنازلاتنا عن بعض مفرداته لحساب الأوضاع العامة لديهم، الأمر الذي يجعلهم في حالة شعور بأن خطابنا ليس جدياً، بل هو خطاب ترضية للمجتمع الذي لا يتقبَّل الإيديولوجية الإسلامية لأنها تثير الأحاسيس الطائفية السلبية، فيكون أكثر حذراً من هؤلاء، لأنهم يتحدثون بطريقة لا تنسجم مع التزاماتهم الانتمائية الدينية.

    ولعلَّ أفضل تعبير عن هذا الأسلوب التوفيقي الذي يتحرك _ على خلاف خط الالتزام _ لإرضاء الآخرين، هو قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}(البقرة/120)، وقد ذكر اليهود والنصارى كنموذج للفئات المضادَّة، فيمكن لنا أن نضع أي عنوان من عناوين التيارات الأخرى المخالفة للإسلام في قاعدتها وامتداداتها الفكرية والعملية.

    وإذا كان هؤلاء يتحدثون _ في مجال الدفاع عن أسلوبهم _ عن المرونة والتقية السياسية والاجتماعية، فإن هناك أكثر من طريقة لا تبتعد عن العنوان الإسلامي، بل تبقى في أسلوبها منفتحة عليه، مع التجديد في الكلمة والجوّ والإيحاء والحركة والتحديث الواعي في الواقع بتطوراته ومتغيراته.

    واقع الخطاب الإسلامي وأفقه:

    والآن، ما هي سلبيَّات الخطاب الإسلامي؟ وما هي تطلّعاته؟

    1- إنَّ هناك الكثير من مفردات هذا الخطاب يثير إشكالات الماضي في قضاياه ومشكلاته، ويعمل على تحريك نزاعاته وخلافاته، لإشغال الساحة بالأوضاع السلبية التي لا علاقة لها بالواقع من قريب أو بعيد، بل قد نجد أنهم يخلقون لنا أكثر من مشكلة أو فتنة قد تعطِّل على الحركة الإسلامية خططها وبرامجها وتحالفاتها مع أكثر من حركة إسلامية أو أي مجتمع إسلامي آخر.

    2- إنَّ بعض الإسلاميين يثيرون في خطابهم بين وقت وآخر، قضايا هامشية أمام تحديات الكفر والاستكبار المتَّصلة بالقضايا المصيرية الكبرى، ما يضعف من اندفاع التحدي في ساحة الصراع، ليتضاءل ويضعف تحت تأثير القضايا الصغيرة، وبذلك تدخل الحركة في متاهات الجزئيّات التي تأكل الكليات.

    3- إنَّ العنف المسلَّح الذي تأخذ به بعض الحركات الإسلامية كوسيلةٍ وحيدة للوصول إلى النتائج السياسية الحاسمة، قد يدفع بالحركة إلى التطورات السلبية لوسائل العنف، بحيث قد يدفعها الآخرون، من الأنظمة التي تقف ضد الإسلاميين من الداخل، أو من القوى الكبرى المستبدة في الخارج، إلى القيام بأعمال لا تتناسب مع الصورة الأخلاقية العامة للمنهج الأخلاقي الإسلامي، ونلاحظ ذلك في خطف الأبرياء أو قتل الأجانب، أو الاعتداء على المثقفين، ونحو ذلك من الأساليب التي قد تكون لها مبرراتها أمام الضغوط القاسية التي تطبق على الحركة الإسلامية، بحيث لا يكون لها مناص إلا القيام بها للدفاع عن مواقعها وأشخاصها، ولكنَّ النتائج السلبية التي قد تترتَّب على ذلك، لا سيما في دائرة الإعلام السلبي، ربما تشوّه صورة الحركة الإسلامية، حتى لدى الناس الذي يتعاطفون معها.

    إنَّنا نؤمن بأنَّ العنف الذي يقوم به الإسلاميون في أكثر من موقع، كان ردّ فعل على عنف الأنظمة المحلية في البلاد الإسلامية التي خنقت الحريات، ولم تسمح لمواطنيها بالتحرك السياسي والإعلامي، أو ردّ فعل على خطط القوى المستكبرة التي تحرك أجهزتها الاستخباراتية لإرباك الواقع الإسلامي، ولكن هذه الجهات تعمل على إيقاع الإسلاميين في بعض الأخطاء الكبيرة في ممارساتهم السلبية، بحيث تعزلهم عن الرأي العام في الداخل، وتشوّه صورتهم في الخارج. لذلك، لا بد من دراسة حركة الفعل وردِّ الفعل في خطِّ المواجهة بين الحركة وأعدائها، بحيث تبتعد عن الوقوع في الأخطاء التي تفرض عليها، لتنطلق في خطّتها المرسومة من دون أخطاء ولا مشاكل.

    4- إن "البعض" من الإسلاميين لا يزال يأخذ بأساليب الانفعال التي تتحرك في عناوين غير مدروسة، في الوقت الذي تجاوزت المرحلة هذا اللون من الخطاب الانفعالي، لأنّ لكل مرحلة أسلوبها تبعاً لنوعية التحديات التي تمرّ بها، وهذا مما قد يسيء إلى القضايا المصيرية المطروحة في وجدان الرأي العام، الذي يحتاج إلى أسلوب جديد يتميز بالموضوعية والتعقّل والحسابات الدقيقة. إنَّنا لا نقول بعدم حاجة الخطاب إلى جرعة من الحماس الوجداني، والتوتّر الروحي، الذي يمنح الواقع الشعبي حالة من الإثارة، ولكنّنا نتصوّر أنّ الموقف الانفعالي يحتاج إلى الكثير من الحساب العقلي، والنظرة الموضوعية، ليتوازن الخطاب في دائرة العقل والانفعال، حتى لا يغرقنا هذا الانفعال في الخيال، ولا يجمّدنا العقل أو الموضوعية في الأرض الباردة.

    5- إنّ هناك قضايا جديدة لا بد للخطاب الإسلامي من أن يتحدث عنها بقوة وإثارة وتركيز، كقضية الحريات الإنسانية، وحقوق الإنسان والتنمية والنمو السكاني والإرهاب والتخلّف، وما يسمى بالنظام العالمي الجديد، حتى لا يضيع المسلمون في متاهات الطروحات والإثارة الإعلامية، والاهتزازات الواقعية المتحركة في هذه المفردات، ولنكون في موقع الفعل الذي يؤكّد مفاهيمه في القضايا، بدلاً من موقع ردّ الفعل الذي يمثِّل خط الدفاع أمام اتهامات الآخرين، فنكون صدىً لهم وللطريقة التي يعالجون بها الأمور، فإنّ ذلك هو الذي يؤكِّد أصالتنا الفكرية والواقعية.

    6- إنَّ التحديات التي تواجه الإسلاميين _ والمسلمين جميعاً _ في قضايا الصهيونية والاستكبار العالمي، والظلم الداخلي، تتحرك _ بأجمعها _ في الخط العسكري والأمني والسياسي، الأمر الذي جعل هذا الجانب من الواقع الإسلامي في ساحة الصراع، هو الشغل الشاغل للحركات الإسلامية، بحيث ابتعدت كثيراً عن الجانب الثقافي الذي يمثل التكوين الداخلي الذاتي للحركة الإسلاميّة، كما يقدم صورة الإسلام المشرقة للعالم، ويحرّك الأفكار الإسلامية في مواجهة الأفكار الأخرى الّتي تعمل على إطلاق التحديات في وجه الإسلام.

    إننا نعتقد أنَّ التوازن في الخطاب الإسلامي، بين ما هو عسكري وسياسي، وما هو فكري وثقافي، هو الذي يضع هذا الخطاب في إطاره الصحيح، ويحقّق له الكثير من النتائج الإيجابية على صعيد الحاضر والمستقبل في ساحة الصراع الفكري والسياسي والأمني، لأنَّ التحرك الخارجي لا ينطلق بقوة إذا لم يكن البناء الداخلي في الحركة الإسلامية والواقع الإسلامي قوياً في مضمونه، منفتحاً في آفاقه، متوازناً في مواقعه وتطلّعاته وحاجاته وأهدافه، فلا يطغى جانب على جانب، ولا يقوى موقع على حساب إضعاف آخر، إلا في حالات الضرورة.

    الإسلام وتحديات العصر

    إننا نواجه تحديات كبرى في حجم العالم، لأننا نتعرض _ كمسلمين وكإسلاميين _ لحرب عالمية ثقافية وسياسية وأمنية واقتصادية، فلا بد من أن ندرس مواقع التحدي وأساليبه وأولوياته وخلفياته ونتاجه، لنكون على بصيرة من أمرنا، ووضوح من أفكارنا، وثباتٍ في مواقعنا ومواقفنا، وانفتاح متحرك على الآخرين، في حركة الحوار مع الشعوب، واحترام أمنها، والعمل على التفريق بينها وبين حكومتها، فإننا إذا لم نستطع أن نتفادى عدوان الحكومات، وتبديل ذلك بعلاقات الصداقة القائمة على احترام حقوقنا في مقابل احترام حقوق الآخرين، فإنّ علينا أن نعمل على الوصول إلى علاقات صداقةٍ مع الشعوب، وربما استطعنا من خلال ذلك أن نحقِّق اختراقاً إسلامياً في داخل تلك الدول، الأمر الذي قد يحقق لنا الكثير من النتائج الجيدة لمصلحة قضايانا. وفي ضوء ذلك، قد يكون من الحكمة ومن المصلحة، أن نمتنع عن الخطاب الإسلامي الذي يتضمن التهديد العدواني للشعوب لمجرد أن حكوماتها تضطهدنا، وعن القيام بعمل سلبي ضد بعض مواطنيها الأبرياء، لأنّ ذلك قد يسيء _ بطريقة وبأخرى _ إلى النظرة إلى الإسلام الذي ننتمي إليه، ونتكلم باسمه فضلاً عن مشكلة شرعية في ما نقوم به.

    إننا نعرف أن البعض من مجموعات هذه الشعوب يشارك حكوماته في العدوان علينا، وفي التخطيط المضادّ لمصالحنا، ولكننا نخشى أن بعض الممارسات السلبية في الخطاب والممارسة، قد يساعد أجهزة الاستخبارات الدولية التابعة لهذه الدول ضد مصالحنا، سواء في الإعلام أو في الخطط العدوانية الموجهة ضدنا. وليس معنى ذلك أن نقف مكتوفي الأيدي أمام الحرب المعلنة على الإسلاميين في العالم من خلال الاستكبار العالمي والصهيونية العالمية وحلفائهما، فقد تفرض علينا الضرورة الأمنية القيام ببعض الأعمال السلبية من أجل حماية مواقعنا وأهلنا ومجاهدينا، ليكون ذلك رادعاً للعدوان في حركة التوازن الواقعي، ولكن لا بد من أن تكون المسألة مدروسة بشكل دقيق جداً، يراقب الجزئيات حتى على مستوى الفواصل والأرقام، لأنّ القضية ليست عرضاً لعضلات القوة، ولكنها قضية سلامة الإسلام والمسلمين العامة، على مستوى الصورة والحركة والواقع والإنسان.

    وأخيراً، إن شخصية المسلم الأخلاقية، وروحيته وانفتاحه على الله، ومحبته للناس، هي القاعدة الأساس في عمق الخطاب الإسلامي الذي هو خلاصة الشخصية الإسلامية في وجود الإنسان المسلم، لأنّ المضمون الفكري أو الروحي أو السياسي، ينبغي أن ينطلق من إنسان مثقَّف بالإسلام، وروحاني في الوجدان، وسياسي في خط التوازن، حتى يكون الخطاب الإسلامي إنساناً ينفتح، ويكون الإنسان خطاباً يتجسد.


    وهذا هو الذي يحقِّق للحركة الاندماج بالإنسان والاتّحاد به، ويدفع بالإنسان إلى أن يكون تجسيداً حياً للإسلام، حتى يرى الناس في الإنسان الإسلام الحركي، ويبصر في الإسلام كل مفاهيم الإنسان وتطلّعاته وتصوراته وحركته في الحياة.

    وفي هذا الجو المتحرّك في أكثر من موقع، والمنفتح على أكثر من بعدٍ وأوسع من أفق، ينطلق الخطاب الإسلامي لينقد ذاته وإنسانه وحركته، ويقوم في عملية تجدد دائم، في قلق المعرفة لكل أسلوب جديد، ومستقبل كبير.



    ----------
    المنطلق، العدد:108-109، 1415هـ/1994م.
    [/align]





  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    ذهنية تستهلك التاريخ دون تحقيق

    إنها لفرصة مباركة وسعيدة أن ألتقي بكم، من خلال ما تمثلون من حركة الفكر الإسلامي، في مواجهته لكل السلبيات التي يثيرها الآخرون ضد المفاهيم الإسلامية العامة، والتي يحاول الكثيرون من خلالها أن يستعيدوا تاريخ الخلافات الإسلامية، ولكن بطريقة غير علمية، لأن من مشاكلنا في الواقع الإسلامي، أننا لسنا مستعدين لدرس التَّاريخ بحقائقه، بل ربما نحاول أن نستهلك ما يقدَّم لنا من التاريخ من دون أيِّ تحقيق. وهذه ذهنيَّة تطبع الواقع الإسلامي السني والشيعي على حدٍّ سواء. ولهذا، فإنّ هناك الكثير من التراكمات التي تراكمت في ذهنية الناس، وأصبحنا نزرع الحقد في النّفوس، ونؤكد مسألة التكفير، حتى أصبحت قضية الحكم على شخص بالكفر، لمجرّد أنّه يناقش رواية يعتقد صحة صدورها عن النبي(ص)، بينما يراها الآخر غير صحيحة، فيعتبر ذلك من قبيل تكذيب الرسول، وبهذا يصدر حكمه التكفيري على الآخر.

    ونحن نلاحظ أنَّ هذه المشكلة الَّتي امتدت في العالم الإسلامي، ليست مسألة القاعدة أو الزّرقاوي، بل هي حالة جذورها تاريخية، حتى أصبح ما يحدث في العراق ظاهرة في العالم الإسلامي كلّه، ولولا وجود بعض العلماء الوحدويين المنفتحين، لتحركت الأحقاد في كل مجال هنا وهناك.

    وإنّ قيمة المؤتمر أنّنا عندما نكرِّم السيد عبد الحسين شرف الدين، إنّما نكرِّم رجلاًَ عقلانياً موضوعياً، لم يهرب من الخلافات، وإنّما واجهها بكلِّ موضوعية وبكلِّ عقلانية، وهذا ما جعله يطرح فكر أهل البيت(ع)، وفكر ما يعبِّر عنه بمدرسة الخلافة أو مدرسة الصحابة، بطريقة علمية موضوعية عقلانية، ولو أنّ السيد عبد الحسين شرف الدين موجودٌ بيننا وفي مجتمعنا هذا، لكُفِّر من قبل الناس الذي يحركون الحساسيات هنا وهناك.

    وأحد نماذج الموضوعية في معالجته القضايا، هو إجابته (رحمه الله) عندما سُئل عن السَّبب في موقف الصحابة الذين استمعوا إلى الغدير، كيف ابتعدوا عن هذا الجو؟ وكان جوابه أنهم لم يفهموا الحقيقة كما نفهمها الآن، فهم درسوا الأمور بطريقة غير موضوعية وغير علمية، فأخطأوا في الفهم، ولم يقل إنهم كفروا أو إنهم كانوا مرتدّين. ولو أنَّ إنساناً الآن قدَّم هذه الفكرة في حوزاتنا، ولدى الكبار منا، لاتهموه بالضلال وربما بالكفر. هذه العقليّة المنطلقة من إيجاد عذر للآخر الذي يختلف معه، بقطع النظر عما إذا كان هذا العذر مقبولاً منه أو غير مقبول، هي عقليّة تنسجم مع النص القرآني.

    لكن نحن، مع الأسف، لا نفهم مسألة الحوار في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يدعونا إلى أن نبحث عن مواقع اللقاء مع الآخرين لا عن مواقع الافتراق {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}(آل عمران/64). وكم بيننا وبين أهل الكتاب من خلافات؛ إنّهم يقولون ربنا يسوع المسيح، ونحن نقول إن السيد المسيح هو رسول الله وكلمته وروح منه ألقاها إلى مريم، ومع ذلك يقول تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46).

    ثم إنّنا نلاحظ أن الحوار في القرآن الكريم، في منهجه العلمي ومنهجه الإنساني والموضوعي، لم تقترب منه كل مناهج الحوار في العالم، وكنت في لقاءاتي مع الكثيرين من الصحفيين الغربيين والمفكِّرين، أقول لهم: "إنَّكم لم تصلوا إلى إنسانية الحوار الإسلامي، فضلاً عن أنكم تتجاوزونه"، فالله تعالى يقول على لسان النبي(ص): {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(سـبأ/24). فهل كان النبي شاكاً لا يعرف أنه هو المهتدي؟ هو نبيّ الهدى، ومع ذلك كان يقول لهم قد أكون أنا مهتدياً وقد أكون ضالاً، وقد تكونون مهتدين وقد تكونون ضالين! بمعنى أن هناك حقيقة ضائعة بيننا، فتعالوا نتشارك في رحلة البحث عن الحقيقة. لم يقل أنا المهتدي وأنتم الضالون، ولكنه جعل القضية موضع بحث.

    من منا في هذه الظروف التي أطبق فيها الكفر والاستكبار والضلال على الإسلام، وحتى على خط أهل البيت(ع)، من منّا يتقبّل هذا المفهوم؟ بعض الناس الذين يختلفون مع بعض الناس الآخرين في الرأي في موضوع إسلامي معين، يقول أنا الإسلام وكل من يختلف معي هو ضد الإسلام، هذه هي الذهنية الموجودة عندنا. لذلك أنا أعتبر أن إعادة بحث السيد عبد الحسين شرف الدين في أفكاره، وفي كل مبادراته، وفي كل حركته، تعطينا ثقافة جديدة، ليست ثقافة تجريدية، ولكنها ثقافةٌ تتحرك في الواقع، وتستطيع أن تصنع جيلاً جديداً.

    هناك نقطة لا يعرفها الكثيرون عن المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين، وقد عشتها معه في الخمسينات، عندما كنت أذهب إلى خدمته، وهو أنّ السيد شرف الدين كان يُمثل الأخلاق النبوية في الدرجة العليا؛ وقد كان يجلس مع الصغير ومع الكبير، كان يحتضن كل من يلتقي به ويتواضع له، وقد رأيت منه ما لم أره من الكثيرين. لذلك ينبغي أن تدرس أخلاقية السيد شرف الدين، لأنّه الرجل الذي إذا تطلَّعت إليه في سلوكه الأخلاقي الروحي، رأيت أنك تعيش مع أخلاق النبوّة وأخلاق الإمامة، وهذا أمر يجب أن نعيشه، حتى نستطيع أن نصنع في قياداتنا، كل قياداتنا، المعنى الإنساني الذي ينفتح على الناس، تماماً كما كان الصحابة يقولون عن الرّسول(ص): "كان فينا كأحدنا". لقد كان المسألة عنده، أنّ ما يصل إليه الإنسان على مستوى العلم أو المرجعية، أيِّة مرجعية كانت، لا يبرر له أن يرتفع بنفسه عن الناس.

    ولا بدَّ من أن ندرس السيد شرف الدين سياسياً في مرحلة كانت من أقسى المراحل في العالم الإسلامي، وفي هذا المجال، كان دوره لافتاً ولا سيما في مرحلة أبناء الشريف حسين، وخصوصاً الأمير فيصل، حيث تفاقمت المشاكل السياسية في ظل الاستعمار الفرنسي، وعلى مستوى الأوضاع التي كان يضج بها الواقع.

    أيُّها الأحبة، إننا نعتبر أن دراستكم في هذا المؤتمر العلمي، تمثل قيمة علمية مهمة جداً، قد تجعلنا نكتشف شيئاً جديداً وعلماً جديداً وخُلقاً جديداً وسياسةً جديدةً في هذا المجال. إننا بحاجة إلى أن يكون لدينا أكثر من إمام شرف الدين، ونحتاج إلى أن لا نواجه الذين يملكون هذا الانفتاح وهذا التطلع وهذه الثقافة، أن لا نسمح بإسقاط هؤلاء المثقفين والعلماء الذين يواجهون الواقع، لأنّ مشكلتنا أننا نقدِّر ونحترم الذين فارقونا، أما الذين يعيشون معنا، فإنّنا نرميهم بالحجارة ونواجه واقعهم من دون أن نسمح لأيّ صاحب فكر أن يطرح فكره أو أن يناقشه. ما أحب أن أقوله: إنّنا لا نزال كظاهرة في الحوزات، ولا أقول شمولية، نلاحظ أنه ليست لدينا حرية الفكر، نحن لسنا مستعدين لأن نناقش الكثير من الأفكار التي يثور حولها الجدل، بل إنّنا نُكفِّر بعضنا بعضاً، ونضلل بعضنا بعضاً.

    إن الإسلام يحتاج إلى حرية الفكر، ونحن نعتقد أنّ الفكر كلما كان حراً كلما انتشر أكثر، فالعالم، أيها الأحبة، يرى أن للفكر حريته، سواء كان فكراًَ إيمانياً أو فكراً علمانياً أو ما إلى ذلك، ونحن نخاف من الفكر، ولعلنا نقرأ في كتاب "المكاسب" عن أنّ حفظ كتب الضلال، هو مما يحكم العقل بقبحه، ولكن الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، عندما يتحدث عن مستثنيات حفظ كتب الضلال، يقول: "بالجملة، فإن الموارد التي يجوز فيها حفظ كتب الضلال لا تُعدُّ ولا تُحصى"، لأنه من خلال علمه كان منفتحاً.

    علينا أن لا نختبئ في زوايانا، وأن نعمل على أن ندخل العصر، لأنّ نبينا كان رحمةً للعالمين، وكان كافة للناس بشيراً ونذيراً، وكما كانت الرسالة للعالم كافّة، علينا أن نكون نحن للعالم كافة. ونحن نعتبر أنّ هذه الجمهورية الإسلامية التي انطلقت من أجل أن يكون الإسلام دولة، وأن يكون الإسلام قوة، وأن يكون الإسلام حركة، وأن ينطلق الفقه الإسلامي من أجل أن ينشئ الدولة ومن أجل أن يصنع الحرية للناس كافة، نعتبر أن علينا أن نحفظ هذه الجمهورية الإسلامية، أن نحفظها بكل ما عندنا، أن نحفظها برعايتها وبالدفاع عنها، وأن نحفظها بأن ننقدها وأن نعمل على أساس أننا إذا وجدنا خطأً ننبه عليه. إن قضية النقد العلمي البنّاء، هو الذي يجعل الإسلام قيمةً وقوةً وامتداداً وانفتاحاً.

    أيُّها الأخوة، نحن الآن نعيش في العالم التحديات الكبرى، فأمريكا تحاول أن تسيطر على العالم كلّه؛ ثقافياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً، وهي تأتينا من بين أيدينا، كما هو الشيطان، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.

    علينا أن نستعدَّ لأمريكا التي استطاعت أن تحتوي أوروبا التي سقطت تحت تأثير مصالحها مع أمريكا، أن نعيد إلى الإسلام قوته، أن نعيد إليه عنفوانه، أن ننطلق من أجل أن نجرب ولو إلى ما بعد خمسين سنة، أن يكون العالم مسلماً.


    ----------------
    هذا نص الكلمة التي ألقاها العلامة المرجع السيد فضل الله أمام وفد لجنة تكريم السيد عبد الحسين شرف الدين





  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,113

    افتراضي

    الوحدة الإسلامية هي من الضرورات الدينية في هذا العصر

    ونحن نعتقد أن هذا اللقاء الإسلامي لقاءٌ مبارك، ولا سيما في هذه المرحلة التي برز فيها الكفر كلّه والاستكبار كلّه إلى الإسلام كله، ما يفرض أن يبرز الإسلام كلّه إلى الكفر كلّه والاستكبار كلّه.
    ولعل دراستنا للخطط الاستكبارية التي تقودها أمريكا ومعها أوروبا، تبيّن أنّها تأخذ أكثر من مظهر ووجه، وهذه الدول وإن أبرزت وجهاً سلمياً في بعض الأحيان، إلا أنها في العمق تعيش العقدة ضد الإسلام، وقد تمثلت هذه العقدة مؤخراً في الصور القبيحة المسيئة للنبي الأعظم(ص)، التي شاركت فيها أكثر صحف أوروبا حقداً على الإسلام والمسلمين. وقد أدَّى ذلك إلى أن وقف العالم الإسلامي كلّه في وجه هذه الحرب التي أثارها بعض الأوروبيين، وشجَّع عليها الاستكبار الأمريكي، ولعلها كانت أفضل وحدة إسلامية انطلق فيها الإسلام من أقصاه إلى أدناه ليستنكر ذلك.

    أيُّها الأخوة المؤمنون، نحن الآن نعيش في قوميات متعدّدة، وبلدان متعددة، ولغات متعددة، ومذاهب متعددة، وقد أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نكون أمة واحدة، تصنع القوّة التي تجعل المسلمين يقودون العالم. لقد كنّا في وقت من الأوقات نقود العالم، واستطعنا أن نصل إلى أوروبا، ولولا بعض الظروف، لاستطعنا أن نحكم كل أوروبا. لذلك، نحنُ الآن نعيشُ في مرحلةٍ يحاولُ فيها الاستكبار العالمي أن يمزِّق البلاد الإسلامية، وأن يصادر كلَّ ثرواتها، وأن يتدخل في كلِّ سياستها، وأن يعمل على إسقاط كلِّ أمنها.

    وهذا ما نلاحظه في حركة الاحتلال اليهودي الأمريكي الأوروبي لفلسطين، وفي الاحتلال الأمريكي مع دول الحلف الأطلسي لأفغانستان، وأيضاً في الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق، وفي ممارسة الضغط الأمريكي الأوروبي على إيران لمنعها من استكمال مشروعها في الملف النووي السلمي، بعد أن أعلنت للعالم أنها لا تريد صنع السلاح النووي، لأنّ الفتوى قد صدرت في إيران بتحريم صنع السلاح من أعلى سلطة دينية فيها. ومع ذلك، يعملون من خلال العولمة الاقتصادية على مصادرة كل ثرواتنا، حتى أنهم لا يسمحون لنا في أن نتصرف بأسعار النفط ولا حتى بالاحتفاظ بثمنه، فنحن نبيعهم النفط، وهم يضعون كل هذه المبالغ في البنوك الأمريكية حتى يستثمروها، ولا يضعونها في الواقع الاقتصادي.

    هناك حربٌ عالمية ضدّ الجمهورية الإسلامية في إيران، ومن أسلحة هذه الحرب، التَّفرقة بين السنّة والشيعة، وخصوصاً في داخل إيران. نحن نعرف أن الاستكبار العالمي، مع بعض حلفائه في العالم الإسلامي، يعمل على إثارة بعض الأمور السلبية في إيران، فيقول للمسلمين في بلوشستان وغيرها، إنّ هناك حرباً ضد السنة، ويشجِّع بعض المواقع الشيعية على التكلم بشكل سلبيّ ضد الصحابة، من خلال بعض الكتب التي تصدر، ومن خلال بعض الخطباء الذين يتحدثون، لأنهم لا يريدون للمسلمين أن يكونوا قوّةً، لذلك يعملون على إثارة الخلافات الاجتهادية بيننا.

    نعم، نحن نختلف في اجتهاداتنا، لكنني أحبُّ أن أقول في هذا المجال، إنّ الإمام عليّاً أمير المؤمنين(ع)، هو أوَّل من جسَّد الوحدة الإسلامية، فالإمام علي(ع) كان يعتقد، كما نعتقد نحن أيضاً، أنّ الخلافة هي له، ومع ذلك عندما رأى حروب الردّة، ورأى أن مملكة الفرس من جهة، ومملكة الروم من جهة ثانية، تحاولان القضاء على الإسلام، وقف مع الذين تقدَّموه بالنسبة إلى الخلافة، وهذا ما أكَّده في كتابه(ع) إلى أهل مصر الذي يقول فيه: «فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».

    في موردٍ آخر يقول(ع): «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة». ونحن نعرف موقفه عندما استشاره الخليفة عمر بن الخطاب في الذهاب إلى الجبهة، عندما كانت الجبهة في فارس، وأشار عليه المسلمون أن يذهب، ولكن الإمام(ع) أشار عليه أن لا يذهب، لأنّه رأس الأمّة، وعليه أن يبقى حفظاً لها. وأيضاً عندما سمع قوماً من أهل العراق يسبون أهل الشام، عندما كان ذاهباً إلى صفين لقتال معاوية، قال لهم: «إني أكره لكم أن تكون سبابين ـ أنا لا أرضى لشيعتي أن يكونوا سبابين ـ ولكنكم لو وصفتم أعمالهم ـ أعطاهم المنهج ـ وذكرتم حالهم ـ فكروا في أن تتحدثوا في ما تختلفون معهم فيه ـ كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم. ربَّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به».

    أيها الأحبة، نحن كعلماء نختلف في اجتهاداتنا، السنّة يختلفون فيما بينهم في اجتهاداتهم، لا في المذاهب الأربعة فقط، فهناك مذهب الأوزاعي والمذهب الظاهري ومذاهب في داخل كل مذهب في هذا المجال، حتى داخل المذاهب هناك قول قديم وقول جديد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسلمين الشيعة، هناك اختلافات اجتهادية بين المجتهدين الذين قد يُفتي أحدهم بفتوى ويفتي الآخر بفتوى تختلف عنها. نحن نتحرك في اجتهاداتنا من خلال الكتاب والسنة، قد نُخطئ ويخطِّئ بعضنا بعضاً، ولكن ليس هناك من يتعمّد الخطأ.

    لذلك، نحن نقول في هذا المجال، إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أرشدنا إلى الأسلوب الأسلم في إدارة خلافاتنا كمسلمين نؤمن بالكتاب والسنة، بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59). أي أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، ونتحاور في ما اختلفنا فيه؛ أن نتحاور حواراً علمياً، فلا يفسِّق بعضنا بعضاً، ولا يضلل بعضنا بعضاً، ولا يكفِّر بعضنا بعضاً. كما قال رسول الله(ص) في حجة الوداع حين خاطب المسلمين: «لا ترجعوا كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

    أيها الأحبة، أنا أعتقد أنكم تتفقون معي بأنّ الوحدة الإسلامية هي من الضرورات الدينية في هذا العصر، وليس معنى الوحدة الإسلامية أن نقول للشيعي كن سنياً، أو نقول للسني كن شيعياً، ولكن أن نلتقي على الله وعلى رسوله، وأن نتحاور في اجتهاداتنا التي نختلف فيها مع بعضنا البعض، ثم نعتصم بحبل الله جميعاً ولا نتفرق. ونحن قدّرنا للسيد القائد مساهمته في تفعيل دور المجمع العالمي لأهل البيت(ع) ومجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية. كما أنني تحدثت قبل مدة مع السفير المصري الذي زارني، في إعادة التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي أطلقه المرحوم الشيخ محمد تقي القمي في مصر، ومعه العلماء الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت وأمثالهم، حتى يلتقي مجمع التقريب في مصر بمجمع التقريب في إيران، لنستطيع أن نعرِّف ونثقّف أمَّتنا كيف يتفق المسلمون بمستوى ثمانين في المئة فيما بينهم.

    ولكنَّ مشكلتنا، أننا نركّز على مواقع الخلاف ولا نركِّز على مواقع اللقاء، مع أن الله سبحانه وتعالى أمرنا عندما نخاطب أهل الكتاب، أن نقول لهم: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}(آل عمران/64). ونحن نعرف كم بيننا وبين أهل الكتاب من فروق في التوحيد، وفي أمور أخرى كثيرة، ومع ذلك يقول تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46).

    أيُّها الأحبة، إني أعتقد أنَّ كل من يفرِّق بين المسلمين ويحاول أن يثير الأحقاد بينهم، أو يكفِّر المسلمين، أو يثير السبَّ واللّعن بينهم، هو خائن لله ولرسوله ولأئمة أهل البيت(ع) وللصحابة، وهو خائن للإسلام كلّه. إنّ الإسلام يواجه حرباً عالمية في كل العالم الكافر والمستكبر، وعلينا أن نقف لنكون في مواجهة ذلك كالبنيان المرصوص {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(الصف/4)، إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله قتالاً عسكرياً، وقتالاً سياسياً، وقتالاً ثقافياً، أن يكونوا فيما بينهم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً.

    نحن نعتبر أن الجمهورية الإسلامية، هي حُصن الإسلام القوي، وعلينا جميعاً سنّةً وشيعةً أن ندعمها ونقويها، ولا سيما في حربها ضد الاستكبار العالمي، لأنّ قوتها قوة للإسلام، ولأنّ سلامتها سلامة للإسلام
    .



    ------------------
    كلمة العلامة المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله خلال استقباله وفداً من المجمع العلمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران





ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني