[align=center][/align]

[align=center]العلامة السيد حسن الامين : [overline]انموذج فريد للعلامة الموسوعي: جهد نير، جراة نادرة، بصيرة نافذة[/overline]..[/align]

[align=center]د. عبدالمجيد زراقط[/align]

[align=justify]توفي العلامة الموسوعي السيد حسن الامين، وهذا العدد في طور اعداده النهائي، شعرنا بمرارة الفقد ولوعته، وادركنا فداحة المصاب... وعظم الخسارة التي منيت بها الحياة العلمية في العالمين العربي والاسلامي، وبخاصة نحن دار الغدير للدراسات الاسلامية ومجلة المنهاج، فالسيد الامين (رحمه الله) اسهم، ومنذالبداية، في تاسيس هذين المركزين العلميين، واستمر يرفدهما برعايته وتوجيهه، ويغني انتاجهما بعطائه. ونحن، اذ نقدر ذلك كله بالغ التقدير، نتوجه بمزيد من الاسى واللوعة، الى اسرته الكريمة والى اهل العلم والادب من فاقديه، باحر التعازي سائلين الله، سبحانه وتعالى، ان يتغمده بواسع رحمته وان يسكنه فسيح جنانه...

وان كان لنا من كلمة فيه، في هذا المقام، فهي كلمة سريعة نرجو، في اعداد تالية، ان تليها دراسات تفيه وتفي انتاجه الموسوعي حقهما.

السيد حسن الامين (رحمه الله) في ذمة الله...، في العينين صورته..، ترصعها الدموع...، صورة الانسان الحبيب تسكن العينين والقلب ولا تفارق... ثم تتجلى صورة العلامة - المعلم...، بعض ملامحها: نظرات نافذة حانية، وحديث هادىء واثق ورؤية نافذة الى جواهر الامور...

(1)

تعود الى الذاكرة مشاهد جلسات مع السيد حسن الامين، تعلمت فيها الكثير...، اقتطف منها لهذا الحيز محدود المساحة مشهدا لم يفارقني مذ ذقت مرارة فقدمعلم كبير فضله علي لا ينسى.

قيل لي، آنذاك:

- اتصل بك السيد حسن الامين، ويريد ان يراك.

لم تكن لي معرفة به، لكن معرفتي باتصاله بي اثارت في ارتياحا يعود الى تلك الصورة التي تسكن ذاكرتي عن والده، المغفور له السيد محسن الامين(رضوان الله عليه)، فقد نشات في بيت يجله، ولا انسى، مهما تقدم بي العمر، ان جدي الحاج مصطفى زراقط (رحمه الله)، الذي كان يلزم في معظم اوقاته بيته لا يفارقه، كان يذهب، في كثير من ايام الجمعة، هو ومجموعة من رجال قريتنا مركبا، الى شقراء ليلتقي السيد الامين ويصلي خلفه ويتزود من علمه، ويعود ليشيد به، ويعددم آثره..

لبيت دعوة السيد حسن، وبي قلق وتهيب، ما لبثا ان اخليا مكانهما لطمانينة وفرح...، وهذا ما اعتدت ان اشعر به، في ما بعد، كلما التقيته. لم يطل الكلام على التعرف، كان قد استنتج من اكون، كانت معرفته بمركبا وابنائها وبي وبكتابي: «الشعر الاموي بين الفن والسلطان» الذي كان قد صدر آنذاك مدخلا لحديث طويل عن طرق تحصيل المعرفة وتقديمها.

ما بقي في الذاكرة من اقواله: انت بحثت في الشعر العربي، وتاثير السلطان في تطوره، لكن بحثك تاريخ ايضا... فوجئت، توجهت اليه بنظرات مستغربة سائلة.ابتسم، واضاف: لدراسة الشعر ينبغي ان نعرف الظروف التي انتجته، وان نقرا القصيدة كاملة. وبهذا نصل الى مزايا الشعر ومعناه، هذا ما فعلته في كتابك الذي حرصت على ان اقراه مذ عرفت بصدوره..، ولهذا اتصلت بك، اود ان اهنئك...

قلت: كانك تتحدث عما نسميه المنهج الاجتماعي، البنيوي التكويني في البحث، وهو ما استخدمته في كتابي.

ابتسم، وقال: انا لم اطلع على المناهج الحديثة.

قلت: المناهج يصنعها العلماء، ونحن انما نفيد منكم، انتم الباحثون الكبار، في استقاء اصول مناهجنا.

ضحك، وقال: بدانا نجامل... لا عليك، انت لم تعرفني بعد...

ستكثر لقاءاتنا، لذا لست بحاجة الى مجاملتي في شيء، وبخاصة في الامور العلمية.

بقيت ساكتا، فاضاف:

- امر آخر...، التراث العربي الاسلامي وحدة معرفية...، المؤسف ان الكثيرين يلغون الاخر لاسباب اهمها المذهبية، فيحذفون قسما كبيرا من التراث العربي الاسلامي، فان كان لبعضهم عذر لا نقبله، وهو المذهبية، في ظلم شعراء كبار، فما عذر من لا يختلف مع هؤلاء مذهبيا، هل يريد ان يتخلى عن ذاته ليقبله الاخر!؟ انه في هذه الحالة يتخلى عن ذاته فلا يكونها ولا يكون الاخر، وهذه هي المصيبة الكبرى في كثير من رجالاتنا على مختلف المستويات. المهم ان تعي ذاتك وان تكونها قولا وفعلا من دون ازدواجية...

ابتسمت وهززت راسي. قال: ما الامر؟

قلت: المؤسف ان هذه العقلية بمنحييها: الغاء الاخر، والغاء الذات ارضاء للاخر لا تزال قائمة، وحكيت له الكثير مما اعرفه في هذا المجال.

تنهد، وقال: يؤخذ علينا اننا نعنى ب «اعيان الشيعة»، الحقيقة اننا، اذ نفعل ذلك، نؤدي مهمات كثيرة: اولاها ايفاء هؤلاء الاعيان حقهم، في ان يعرفوا وان يعرف عطاؤهم، وكثير منهم مظلوم جنى عليه قرار الغاء الاخر، وثانيتها، تقديم معرفة بانجازات مهمة، وفي ذلك احياء للتراث، وثالثتها بيان ان اعيان الشيعة هم اعيان المسلمين، في مختلف المجالات، ان من يعرف هؤلاء يدرك ان جميع التهم التي توجه الى الشيعة غير صحيحة، وهي في الحقيقة وليدة جهل وتعصب، وهذا مانريد التخلص منه، بغية الوصول الى وحدة اسلامية قائمة على معرفة الاخر وقبوله، والحوار معه...

صمت واستعدت موقف ذلك الاستاذ الجامعي الكبير، والباحث الذي تملا كتبه رفا في المكتبة العربية، من الفصل الذي كتبته عن الشيعة، وصراخه بي آنذاك: لا،لن تمر رسالتك هذه...، وتذكرت صراخ استاذ جامعي كبير آخر: الامويون سادة الدنيا، ماذا جئت تفعل انت برسالتك هذه!؟ كان السيد يتاملني ويترقب ان احكي، وانتبهت اليه، حكيت له، واضفت: انا كتبت من منظور محايد، مستخدما منهجا علميا، ولم استخدم مصدرا شيعيا واحدا، ولا انكر اني فجعت بهذا الموقف غير العقلاني.. فقال: هذه هي مشكلتنا الكبرى، انها تتمثل في مصادرة الحقائق من ناحية وفي مصادرة العقل من ناحية ثانية...انا واجهت هذه المشكلة وحللتها. لا للالغاء، لا للمصادرة. ضحك، وقال: هاتان لاءتان لالاءات العرب الثلاث..

ثم ابتسم، وقال: لا تخف، ابحث عن الحقيقة، في مظانها، ولا تدخر وسعا في الوصول اليها، وان حصلتها واقتنعت بما توصلت اليه اعلنها، ولا تخش لوما، المهم ان يكون العقل رائدك، فالامام علي (ع) يقول: «ما عبد الله بشيء افضل من العقل». انك اذ تحكم العقل، في مختلف امورك، انما تكون قد قمت بفعل عبادة...

دهشت حينها: تحكيم العقل فعل عبادة!؟ انا لا انكر اني لم اكن على دراية، في تلك الايام، بهذه الرؤية الدينية، فقلت للسيد الذي كان يراقب الدهشة المرتسمة على وجهي: اتدري انك فتحت امامي طريقا لم اكن اعرفه.

قال: هو طريق طويل وعليك ان تسلكه، اتعدني؟

قلت: اعدك، ومنذ ذلك اليوم بدات افي بوعدي، واستانفت رحلتي ومعي زاد ما انفك يربو ويتجدد في كل لقاء، وهو قول الامام علي (ع): «ما عبد الله بشيءافضل من العقل».

(2)

في آخر لقاء لي مع السيد حسن الامين وجدته بين اوراقه وكتبه، يعمل كعادته بهمة الشباب.. حدثني عما انجز من مشروعاته، وعما يود ان ينجز..، ثم صمت وابتسم، وقال:

- يبدو اني اسابق الزمن، يبدو ان علاقتي بهذا الرفيق القديم التي امتدت حوالى قرن تقترب من نهايتها.

قلت: كيف تنتهي علاقتك به، وانت لا تزال تكشف حقيقته منذ اول عهدك بمعرفته!؟ ثم انك بكشفك هذا تغلبه، فتبقى خالدا بانجازاتك.

قال، وقد عرضت ابتسامته: حقيقته! كانك لا تدري ان الحقيقة مرة، وبخاصة في فم ابناء هذا الزمن، من يقبل ان يذوق الحقيقة، ويعلمها!؟

صمت لحظة واضاف بسرعة، كانه يسابق خاطرا يكاد يهرب منه: اتدري ان ابن ابي سلمى حاضر في قولي عن العمر وعن ذوق الحقيقة وعلمها، ورفض مجتمعه لها.

غامت عيناه لحظات، وبدت لي بقايا ابتسامته فوق شفتيه كانها فراشة ترفرف في ضوء، وخلته يستعيد ردات الفعل التي كانت تلي ما يقدمه من حقائق تاريخية، وما يتخذه من مواقف مبدئية صلبة...

وارتسمت امام عيني كلمات في دراسة كتبها الباحث المغربي الحسن الادريسي، فلم اضع الفرصة، وقلت: لكن بعض الكبار، من ابناء هذا الزمن، يرون انكم تحلون مرارة حقيقة اخرى...

سدد الي نظرات تسال: وكيف؟

أضفت: كتب الباحث الادريسي، في العدد السادس والعشرين من مجلة المنهاج: «لكن الحقيقة المرة التي لا يمكننا ان نتجاوزها تخبرنا بان التراث الادبي والفكري في الغرب الاسلامي ظل مغيبا من جل الدراسات الادبية والفكرية، وحتى ان اهتم بعضهم به كانت النتائج مشوهة اما لعدم سلامة المنهج او لعدم مراعاة خصوصية هذا التراث وتميزه عن غيره».

قال: هذا صحيح..، ولعل المشكلة التي يتحدث عنها تكاد تكون عامة..

واكملت: ويضيف الباحث الادريسي: «... ولا نريد ان نسقط في التعميم لان هناك دراسات جديرة بالتقدير على مستوى التاليف والتحقيق والتاريخ، ولقد كان بحث السيد حسن الامين: (بنو مرين)، في العدد الرابع عشر من مجلة المنهاج، ضمن هذا المجهود النير والعلمي الذي لا يجب اغفاله...».

حطت الفراشة على الوجه النير، وعادت للوجه اشراقته، ثم انفرجت الشفتان انفراجة سخرية، انبتت كلمات: مع حفظ الفارق طبعا، ...انتظرناه من المشرق فجاءنامن المغرب. ..!

ضحكنا...، وقال: سامح الله العرب، دائما يحدث ما لا ينتظرون..

صمت لحظات، ثم اضاف: لا تخلو الدنيا من منصف...

قلت: الا يحتاج تاريخنا المعاصر، مثله مثل تاريخنا، القديم الى شيء من هذا الجهد النير المتميز، كما يصفه الباحث الادريسي، على مستوى التاليف والتحقيق والتاريخ والمنهج ومراعاة الخصوصية!؟

قال: بلى... ومد يده الى جانبه، وتناول كتابا قدمه لي، وقال: هوذا آخر العنقود. انه كتاب عن تاريخ جبل عامل القديم والحديث، وقبله، كما تعلم، صدر لي غيركتاب في التاريخ القديم والحديث.

بادرت الى القول: الدالية، ان شاء الله، ملاى بعناقيدها وكل اشهى من اخيه.

ضحك، وقال: قلت لك اشعر باني اسابق الزمن...، واخشى ان يسبقني، فتبقى هذه الاوراق اوراقا!

كان شعور المؤرخ والاديب الكبير صادقا، وجاء الموت يطوي الزمن، وما درى ان زمنا اءشبع بالعطاء لا يطوى.

(3)

ان يكن الموت حقيقة، وحقيقة ليس امر منها، يرتضيها المرء ولا يقول الا ما يرضي الله، سبحانه وتعالى، فانه وفي الوقت نفسه ليس فقدا ان كانت ثمرات الجهدالنير باقيات تقهره وتصنع الخلود. ان ثمرات الابداع تقهر الموت، لانها لا تموت، وبهذا يتمكن الانسان من امتلاك سر الخلود... هذا ما فكرت فيه، وانا استعيد ماخلفه السيد حسن الامين من انتاج علمي.

واني، في هذا المقام، اود الحديث وبايجاز يقتضيه المقام عن هذه الثمرات التي اقر اني طعمت منها، وافدت منها ومن رعاية صاحبها.

لكن الحديث عن السيد حسن الامين، في هذا المقام، يبدو صعبا...، ويتهيب المتحدث الاقدام عليه.

فالسيد الامين من نحو اول علامة موسوعي المعرفة: اديب: شاعر وناثر، كاتب قصة ومقالة ادبية وادب رحلات.. محقق، مؤرخ، استاذ اجيال يوجه ويتعهد طلاب العلم بالعناية والرعاية، وقد بقي بيته محط رحال الباحثين، وكانوا يجدون فيه ليس العلم فحسب، وانما العلاقة الانسانية الحميمية ايضا...

والسيد الامين، من نحو ثان، رجل عاش احداث عصره، منذ بدايات هذا القرن، وكان حاضرا فاعلا فيها على غير مستوى، ومثل في سيرته ومواقفه المثال والانموذج لما ينبغي ان يكون عليه الرجل العظيم المسهم في اعلاء شان امته ووطنه.

(4)

يتهيب المتحدث الكلام على العلامة الامين خشية من تقصير، خشية من عدم ايفائه حقه، ولطالما عانى من تقصير ذوي الشان في هذا البلد... كان يعمل وحده في اعداد الموسوعة الاسلامية، ويجهد في ذلك، ولم يشك الى احد، ولم يسع الى احد...، وتقصير هؤلاء، ولا اعني السياسيين فحسب، وانما كل من كان قادراعلى ايفاء صاحب الحق حقه ملموس، فمعظم مالكي القرار يعنيهم الكسب الاني، ويكادون يسخرون من كل مهتم بالشان التاريخي الكبير، وهذا الشان هو مايعني السيد الامين وامثاله، فيبقى لهم الزمن يملكون ناصيته، ويصنعون التاريخ.

وللتقصير ازاء العلماء الكبار، صانعي انتاجنا المعرفي، تاريخ في بلادنا، فهو ليس جديدا في تاريخنا، فقديما هاجر الخليل بن احمد الفراهيدي من مدينته لانه لم يجد فيها فرصة لتوفير غذائه، كان يقول لمن يلومه على مغادرة مدينته: كيلة باقلاء...، لا اجد من يوفرها لي في مدينتكم العامرة هذه!

ان تامل مسار حياة هؤلاء العلماء الكبار، والسيد حسن الامين في طليعتهم، يجعل الكلام الصعب سهلا. هذه مفارقة، كما يبدو، تتمثل في ان يصعب الكلام ويسهل في آن. وهي مفارقة تتمثل في شخصية كل كبير من كبار الناس وفي سيرة حياته، فالسيد الامين الذي اسهم بفعالية، وعلى غير مستوى، في تكوين مسارحياتنا في هذا القرن، مضى في نهج ارساه الاسلاف من العلماء الكبار الذين اقتفوا نهج الرسول الاعظم (ص) والائمة الاطهار (ع). وهو النهج المتمثل في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، (وقفوهم انهم مسؤولون) [الصافات/24]، وفي قوله عز وجل الاخر: (فاستقم كما امرت) [هود/111]، وفي قوله سبحانه: (واصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين) [هود/115].

انه النهج المتمثل باحساس المرء بالمسؤولية امام الله سبحانه وتعالى، فيمضي في مسار حياته مستقيما، كما امره المولى عز وجل، يبتغي رضى الله ورضوانه صابرا ومؤمنا بانه، جل وعلا، لا يضيع اجر الذين احسنوا العطاء في هذه الدنيا.

هذا هو وجه السهولة في الكلام على علامة موسوعي ورجل عظيم اسهم في صنع احداث قرن من الزمان مثل السيد حسن الامين. انه ينهج هذا النهج منذ ان غداهذا النهج طبيعة له في نشاته، على يدي والده المقدس الغني عن التعريف سماحة العلامة المجتهد السيد محسن الامين (رضوان الله عليه).

اننا نلمس الاحساس بالمسؤولية المفضي الى الاستقامة فالصبر، في مختلف مجالات حياة السيد حسن الامين، وان كان لي ان اتحدث عن هذه المجالات، فعلى سبيل المثال والاشارة فحسب.

(5)

نعود الى البدايات فنرى الفتى - الطالب يقف في مواجهة صاحب السلطان، وكان آنذاك منتدبا فرنسيا، فينطق بالسنة الناس، ويجهر بجراة ليس بحاجاته هو،وانما بحاجات منطقة محرومة من طرقات ومدارس ومستشفيات الخ...

تمر الايام ويغد الفتى محاميا، ونرى المحامي الشاب القادم من دمشق الى بيروت، وليس في جيبه سوى اجرة الطريق، يرفض ان يتولى قضية تدر الوفير من المال، وتتيح له موقعا في النظام القائم آنذاك، لان هذه القضية مشبوهة.

ثم يغدو المحامي قاضيا، ونرى القاضي النزيه، المثقف ثقافة حقوقية وشرعية، في آن، يصر على الرغم من الضغوط والتدخلات على ان يحكم في قضية كماتقضي الاستقامة التي امر بها، ووفاقا للمسؤولية التي انيطت به، وكان من نتائج هذا الحكم ان حدث ما دفعه الى الاستقالة، فغادر الموقع عندما راى انه لايستطيع ان يؤدي الدور الذي يراه واجبا عليه كما ينبغي.

هاتان القضيتان اللتان واجههما المحامي والقاضي الشاب تتعلقان بالقضية القومية المركزية في تاريخ العرب والمسلمين الحديث، وهي القضية الفلسطينية، فكان السيد الامين، منذ بدايات هذه القضية، مدركا حقيقتها وواعيا ما يخطط لها، فكان، ومنذ ذلك الحين، المقاوم الصلب، في ميدانه، ما يعني في ما يعني، ان المقاومة هي في صلب هذا النهج الذي مضى فيه بوصفه مسارا طبيعيا، وهو النهج نفسه الذي مضى فيه فتية آمنوا وصدقوا وصدقوا... فغيروا معادلات عرفهاالصراع العربي - الصهيوني منذ بدا، وحققوا، لاول مرة في تاريخ هذا الصراع، نصرا مؤزرا يؤكد ان الامة قادرة على صنع الانتصارات، ان مضت في نهج يامرهاربها، سبحانه وتعالى، ان تمضي فيه..

وتفضي التجربة بالسيد الامين الى الاعتقاد بان لا مكان لامثاله في ذلك النظام، فيستقيل من الوظيفة في القضاء، وينصرف الى حيث يكون فاعلا في حيز يختاره،وتكون له فيه حرية القول والفعل وتحقيق الانجازات.

فنراه، في مجال التربية والتعليم، يسهم في تنشئة اجيال المستقبل، وقد اثمرت هذه التنشئة، فنذكر، على سبيل المثال، انه حين اءعلن قرار التقسيم عام 1947،تظاهرت تلميذاته في احدى ثانويات العراق مستنكرات، طالبات من العرب التنبه لما يحاك من مؤامرات... والعمل على انقاذ فلسطين. فحين حدث هذا حياهن بقصيدة منها:

هيهات تنسيني الليالي المنسيات دروسهنه
استاذهن، وانني عند الوفا تلميذهنه


ثم تفرغ للتحقيق والبحث والتاليف، فحقق تراث والده المقدس السيد محسن الامين، ونشره، وجعل موسوعة اعيان الشيعة في متناول طلابها، وما اكثرهم، ثم اتبعها بمستدركات تكملها... وفي هذه الاثناء، كان يعكف على اعداد دائرة المعارف الاسلامية واصدارها...

ومن الاشارات الدالة على حجم هذا العمل واهميته ان احد الباحثين كان يعتقد بان مركزا كبيرا من الابحاث، بموظفيه وباحثيه واجهزته، يقوم بهذا العمل، ودهش واعجب عندما علم ان شخصا واحدا ينهض بهذا العمل الجبار هو السيد حسن الامين.

وفي مجال آخر، راح يعيد النظر في كتابة التاريخ الاسلامي، بعدما راى ان كثيرا من المؤرخين يمدح بلا تحفظ حين يرضى، ويذم بلا توقف حين يغضب، اويركب التاريخ وفاقا لهواه، كانه، وعلى حد تعبير السيد الامين، «يركب التاريخ بالابرة والسنارة».

ومن الطرائف الدالة، في هذا المجال، ان احد المؤرخين الموصوفين بالكبار ركب مقولة مفادها ان الامير فخر الدين المعني ارسل الشيخ لطف الله الميسي العاملي الى الدولة الصفوية في ايران لتؤيده في سعيه الى الاستقلال... والحقيقة التاريخية تفيد، كما يقول السيد الامين، ان الشيخ لطف الله لم ير فخر الدين وفخر الدين لم يره لانه ولد وعاش ومات في ايران..

ولا يخفى غرض ذلك المؤرخ السياسي من اختراع هذه الحادثة.

وكان السيد الامين، يرحل بحثا عن مصادره، وكان يرحل في هذه المصادر.. انها رحلات بحث عن المصادر وفيها، وتثمر الرحلات ادبا يغني نوعا ادبيا عرفه الادب العربي هو ادب الرحلات، وتثمر شعرا يمثل تجربة البعد والفراق والحنين... وتثمر حقائق تاريخية يتبينها الباحث ببصيرة نافذة ويقولها بجراة نادرة، فيفاجى المستكينين الى السائد، ويخض فيهم الركود، ففيهم من يستفيق فيه حب المعرفة فيكشف عن وعيه النعاس، وفيهم من يركن الى ما وجد عليه اسلافه، فتاخذه الحمية، فيثور على من يسعى الى ان يفتح له نوافذ الهواء والضوء.

يناقش السيد الامين واحدا من هؤلاء ردد مقولة سائدة مفادها ان الدولة الفاطمية كانت بلاء على الاسلام والمسلمين، فيقدم له وللقراء وقائع تدحض هذه المقولة، ثم يقول ساخرا: «ولعل من هذا البلاء ان الدولة الفاطمية اورثتنا القاهرة والازهر!».

ويناقش آخرين ما زالوا يرددون اسطورة عبدالله بن سبا، ويقول لهم مؤيدا قوله بالادلة موضحا الشك الذي ذهب اليه طه حسين في شان وجود هذه الشخصية: ان شخصية عبدالله بن سبا مخترعة، وان الذين اخترعوا هذه الشخصية ونسبوها الى اليهود، اخترعوا الى جانبها دعوة سموها السبئية،... والمخترع هو سيف بن عمرالتميمي الذي اجمع رواة الحديث وعلماء الرجال على تكذيبه...

ويبين، في مثال آخر، بالادلة الدامغة ان نصير الدين الطوسي الذي هاجمه مركبو التاريخ بالابرة والسنارة، استطاع ان يهزم بالعقل والعلم والتدبير الدولة الطاغية الباغية، دولة المغول، ونجحت خططه في تحويل المغول من وثنيين الى مسلمين، وروض شارب الدماء هولاكو، فمثل بذلك انموذج المثقف الكبير الذي وظف علاقته بالسلطان الطاغية في خدمة مشروعه التاريخي، المتمثل بتحويل القوة الوحشية العاتية الى قوى تسهم في بناء حضارة وثقافة.

هذه هي، كما راى السيد الامين، وظيفة المثقف التي ادركها الطوسي ولم يتخل عنها ويهرب، على الرغم من انه كان معرضا للوقوع في انياب الوحش في كل يوم.

وهكذا حقق السيد الامين مكانة تجعلنا نقول: انه يكاد ينطق بلسان الشريف الرضي عندما قال:

يصول علي الجاهلون واعتلي
ويعجم في القائلون وأعرب

ولا اعرف الفحشاء الا بوصفها
ولا انطق العوراء والقلب مغضب

لساني حصاة يقرع الجهل بالحجا
اذا نال مني العاضة المتوثب

وبقي السيد حسن الامين يعرب عن الحقيقة التي يتبينها، ويقرع الجهل بالحجار بالعقل بعزم لا تفله السنون. واني لاكاد اسمعه يقول:

أأمل ما لا يبلغ العمر بعضه
كأن الذي بعد المشيب شباب


انه لشباب بقي يتجدد طوال عمر مديد، شباب العلامة الباحث ابدا متبعا نهج المسؤولية والاستقامة والصبر...

ان هذا الشباب، وان غيب الموت جسد صاحبه، باق في الكتبر الدوالي التي تبقى طوال الزمن مثقلة بعناقيدها تضيء وتمتع وتغذي...

(6)

يمثل العلامة المؤرخ والاديب السيد حسن الامين انموذجا للمثقف قل وجوده في حياتنا الثقافية، فهو العلامة موسوعي المعرفة من نحو اول، والمتفرغ الى ابحاثه ينجزها مهما كلفه ذلك من مشاق من نحو ثان، والقادر على تحصيل معرفة موضوعية باحداث التاريخ وشخصياته واموره وتقديمها بوضوح وشجاعة فائقة من نحو ثالث، والمؤرخ الاديب القادر على صوغ الحقيقة في لبوس يمتع القارى من نحو رابع، والصديق المحبب الى طلاب المعرفة يحتفي بهم ويقدم لهم ما يتوافر لديه من كتب ومعلومات وخبرة، ومن حب ينشى علاقات انسانية حميمية من نحو خامس، والمحدث اللطيف اللبق الذي يجيد المزج بين الجدو المزاح الراقي من نحو سادس، والشخصية المواكبة احداث الحياة والفاعلة فيها والقادرة على اتخاذ المواقف المنبثقة من نهج وضعه الدين الحنيف وارساه العلماء الكبار عندما عملوا بمنطوق الاية الكريمة: (وقفوهم انهم مسؤولون) من نحو سابع.

أمضى السيد حسن الامين حياته في رحلات: اولاها بحث عن الكتب - الوثائق، وثانيتها بحث في هذه الكتب - الوثائق عن الحقائق، وثالثتها بحث في الذات الانسانية، فكان اديبا: شاعرا ناثرا، ومؤرخا، ومصنف موسوعات، ومحققا، وموجها يحظ ى قاصدوه بالرعاية والمحبة...، وفي ذلك كله كان يبذل جهدا نيرا اثمركتبا تتيح له الصدارة بين الخالدين
.[/align]