[align=center]الصدر الأول.. حركية مرجع [/align]

محمّد جواد سنبه
Tuesday, 08 April 2008



مثلما للمرجع خصوصيات، تحدد موضوع الإطار العام للبنية العلميّة لمرجعيّته، كذلك القائد له خصوصيات، تحدّد إطار المعيّته في القيادة الميدانية الناجحة. والصدر الأوّل (قدس سره)، قد جمع هاتين الصفتين معاً، في شخصيته بشكل ملفت للنظر.


لقد كان مشروع الإمام الصدر الأوّل (قدس سره)، مشروعاً متفهماً لحقيقة الإسلام التكامليّة، فكان انعكاساً واقعياً لشموليّة الإسلام. هذه المرجعيّة أرادت أنْ تستنهض جميع طاقات الأمّة، كلّ الأمّة دون استثناء، لأنّها كانت مؤمنة بأنّ الإنسان وليد بيئته، ومتى ما توفرت البيئة الصالحة، يكون الإنسان الصالح موجوداً بين ثناياها. لقد كانت في زمن الإمام الصدر الأوّل (قدس سره)، كلّ الأمّة الإسلاميّة، مهددة بانهيار عقيدتها وفكرها، إنّ لم يكن كلاً فجزءاً بلا ريب، جرّاء حملة عنيفة، ذات بريق أخّاذ، سحرت طروحاتها المسماة بالتقدميّة عقول الشباب. إنّها طروحات الشيوعيّة الماركسيّة، التي تعلن بأنّها تتبنى الحداثة والعلميّة، كمنهج فلسفي يؤطر الفكر الشيوعيّ العالميّ، و أيديولوجيته الأمميّة. هذه الفلسفة تتبنى فكرة محاربة الدين (أيّ دين) وتعتبره نمطاً من أنماط التخلف والتقوقع والتحجر، وتدعو إلى الانفتاح والانعتاق، من قيود التاريخ، والأعراف والمثاليات والتقاليد. فكل هذه المفردات في نظرها، هي عناوين تحكي التخلف، والانعزال عن روح العصر، و التخلي عن طموح الفوز بمستقبل مزدهر للشعوب. وكان الدّين في نظرها، ما هو إلاّ أفيون للشعوب، الدّين عبارة عن ترياق مخدّر، يستلب من الشعوب حيويتها وطاقاتها الإبداعيّة، فتلجأ بعد ذلك إلى تحكيم الغيّبيّات، في حياتها العمليّة. و رجل الدين حسب النظريّة الماركسيّة، هو المستفيد الأوّل والأخير، من حالة الخمول والتخلف الاجتماعي، لأنّه الشخص القادر على فكّ عناصر الغيّبيّات للآخرين (كما يعتقد أنصارهم)، لامتلاكه موهبة فريدة، يخدع بها البسطاء والسذّج، لذا فإنّه يحظى بتقديسهم، وهم يحظون برعايته ومباركته.

وكان ثمة محوراً آخراً يعمل في الساحة الإسلاميّة، هو المحور الغربي، حيّث استطاع هذا المحور، من خلال الحملات التبشيريّة والمدارس الأجنبيّة، التي فتحتها الدول الغربيّة في فترة الاستعمار، في الكثير من البلدان الإسلاميّة، خلال فترة منتصف القرن التاسع عشر، وما بعدها، فأعطت هذه المؤسسات ثمارها، منذ بداية القرن العشرين، حيث أعدّت هذه المدارس، الكثير من المثقفين المتأثرين بالغرب، ثقافة وعلماً وتقاليداً. فمن هذه المدارس، كانت تنطلق البعثات إلى بلدان الأم، حتى يطّلع الطالب المسلم على واقع الغرب، ويتأثر به، ويقارن بينه وبين واقع المسلمين المتردي. هذا الواقع المتدهور، كان ساحة عمل الإمام الصدر الأوّل(قدس سره)، وكان الإمام الصدر، هو المتحدي لهذا الواقع أيضاً، لذا حمل الإمام في فكره مشروعاً تغييرياً شاملاًً، اشتمل على ثلاثة مستويات.

المستوى الأوّل (تحديث المرجعيّة الدينيّة وتوابعها). كان لابدّ للإمام الصدر الأوّل (قدس سره)، أنْ يكون منهجه التغييري، منصبّاً على تشجيع الحركة العلميّة، في الاختصاصات الدينيّة، وتفجير ثورة تغيريّة، تشمل مناهج التدريس وموادّه، التي كان الكثيرون يتورعون عن تجديدها أو تطويرها، باعتبارها مؤلفات تجسّد أفكار علماء أعلام، لهم منزلتهم العلميّة المتميّزة، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال، التجاسر بالوصول إليها، على مستوى صياغتها أو منهجها أو طروحاتها. أنا شخصياً أدركت هذه الفترة، فكان المكلّف لا ينفك في فهم مطالبه الشرعيّة، من دون اللجوء إلى رجل الدين الأدنى من المرجع، وهو وكيل المرجع في المدينة، المختصّ بتفسير المسائل الفقهية، الواردة في الرسالة العملية للمرجع الأعلى، الذي يقلده رجل الدين والمكلف معاً. فالعبارات الواردة في الرسائل العمليّة، كانت تصاغ بلغة حوزويّة، لا يهتدي إلى تفكيكها الإنسان العادي. لقد أدرك الإمام الصدر الأوّل(قدس سره)، بوعيه الرسالي أنّ المكلف المسلم، ينبغي أنْْ تُيسّر له مسائل الشريعة ببساطة، و لكن بدون فقدان فحواها الفقهي المحدد، الذي يحددها بالمضمون والموضوع سويّة. فأصدر الإمام الصدر الأوّل (قدس سره) رسالته العمليّة (الفتاوى الواضحة)، ليضع بين أيدي الناس مصدراً فتوائياً، يستطيع المكلف البسيط، أنْ يعرف عن طريقه ما يحتاجه من أحكام شرعيّة، تتعلق بحياته العمليّة، بمجرد قراءة الباب الذي يختص بالمسألة المعنيّة التي أشكلت عليه، فيجد الحكم الشرعي موجوداً، بطريقة مبسطة واضحة، بدون تردد في احتمالات الحكم الشرعي بين موضوع أو آخر.

المستوى الثاني (إثراء الحاجة الفكريّة). لقد أدرك الإمام الصدر الأوّل(قدس سره)، أنّ الفجوة التي نفذ منها الشيوعيون، والعلمانيّون الغربيّون، هي تلك الثغرة التي تفصل المرجع عن المجتمع. لقد كانت المرجعيّة تصرّ، بأنْ تبقى بمستوى يحفظ قدسيّتها في أعين الناس، فكانت تتحاشى الإندماج بالمجتمع بشكل مباشر، وإنّما كان حضورها، مسجلاً بشكل يحدّده هامش تفسير الشرع المقدس، والإهتمام بالأعمال الخيريّة، إضافة إلى عملها الرئيسي، هو العمل العلميّ في مجال علوم الشريعة الإسلاميّة.

أمّا المستوى الثالث (الحاجة السياسية). صحيح أنّ المرجعية التقليديّة، قد تصدت للدفاع عن حياض الإسلام في العراق، إبّان الغزو البريطاني عام 1914، وقاتلت ببسالة، فاقت شجاعة قوات العثمانيين، (رعاة الخلافة الإسلاميّة في تلك الفترة)، الذين كانوا يضطهدون المرجعية وأبناء طائفتها، لأسباب تتصل بالعصبيّة المذهبيّة. إنّ هذه الحرب الجهاديّة، كانت بحق مفخرة لجميع المسلمين في العالم، وليس لمسلمي العراق فقط. لكن عدم وجود مشروع سياسيّ وطنيّ، يحدّد الإجابة على السؤال التالي: ماذا يكون بعد انتهاء المواجهة مع الإنكليز، في حالة الإنتصار عليهم، أو الخسارة أمامهم؟. إنّ الإجابة على هذا السؤال ظلت مفقودة، ولم تسعفني المصادر التاريخيّة، التي وثقت أحداث تلك الفترة، باجابة مقنعة عنه. وبالنتيجة اكتسحت الجيوش البريطانية العراق، وسقطت بغداد في 21 آذار 1917. صحيح إنّ موقف المرجعيّة، كان مشرفاً لأنّه جسّد مشروع الدفاع الوطني، والدفاع عن الإسلام، بيّد أنّه لم يتحقق أي نصر سياسي على أرض الواقع، لقد أفضت أحداث إحتلال العراق، وإسدال الستار على نتائج حرب المجاهدين، الذين صمدوا على أرض المواجهة، بالرغم من انسحاب القوات العثمانيّة منها، هذا الموقف المتناقض بين المعسكرين (المجاهدين والعثمانييّن)، أدى إلى انتحار القائد العسكري العثماني (حسب بعض المصادر). وحتى ثورة 30 حزيران 1920، فإنّها سارت على نفس النسق، وحققت نفس النتائج. صحيح أنّ ثورة العشرين، أرهقت بشدّة الميزانيّة البريطانيّة، وكادت أنْ تفلس خرينة بريطانيا العظمى، والثورة وضعت بريطانيا في موقف صعب جداً. و صحيح أيضاً إنّ توجهات هذه الثورة وطنيّة بلا شكّ، لكن الكلام ينصبّ على فترة ما بعد الثورة، أو نتائج الثورة. فثورة العشرين فجرتها وقادتها المرجعيّة، ونفذها الشعب العراقي، لكن استثمرت نتائجها، شخصيات علمانيّة (عراقيّة وعثمانيّة)، وسبب ذلك مرّة أخرى، عدم وجود مشروع سياسيّ إسلاميّ، سواءاً قبل الثورة أو بعدها. لقد آلت بعد ذلك الأمور، إلى استيراد ملك عربي من الحجاز بإرادة بريطانيّة، وتنصيبه ملكاً على العراق في عام 1921. وبقي العراق تحت الإحتلال البريطاني، ثم الإنتداب البريطاني، ثم انتقل إلى مرحلة سيطرة حلف بغداد، والحكومات العميلة للبريطانيين، منذ حقبة الثلاثينات من القرن العشرين، حتى قيام ثورة 1958، التي أنهت جميع الأدوار المشبوهة، للسيطرة البريطانية على العراق.

إنّ هذه المستويات الثلاثة، أدركها الإمام الصدر الأوّل(قدس سره)، بوعي عميق و وضع لكلّ منها الحلول الناجعة، لمعادلة كفة الميزان وترجيحها إلى وضع الربح، بدلاً من الخسارة، لصالح الإسلام. لقد سلك (قدس سره)، مسلكاً حياتيّاً خاصاً قلّ نظيره، فقد صنع من نفسه المثل الأعلى للأمّة، فكانت البساطة سمة كلّ حياته المباركة، فاكتفى بأبسط مستوى معاشي، أسوة بفقراء المجتمع العراقي. و انتهج في حياته العلميّة أرفع مستوى علميّ، في زمن لم يكنْ فيه العلماء والمفكرون يشكّلون الندرة، على العكس، ففي زمن الإمام الصدر الأوّل(قدس سره)، كانت الحركة الثقافيّة والفكريّة، نشطة بشكل ملحوظ، وكانت حركة الترجمة وطباعة الكتب، في حالة رواج كبير، فالواقع يؤشر حالة إقبال الناس على حركة معرفيّة متصاعدة، حتى أنّ تلك الفترة سميّت بعصر الأيديولوجيات.

إنّ الإمام الشهيد الصدر الأوّل(قدس سره)، أسّس مشروعه النهضوي، على أساس قيام المرجعيّة الصالحة، التي تتحرك في الواقع وتعيش معه، على عكس المرجعيّات التقليديّة، المنغمسة في التنظير الفقهي، وتحقيق الإمتيازات الخاصة. فالأمر عند الإمام الشهيد الصدر(قدس سره)، ليس مجرد إعلان مرجعيّة جديدة على الملأ، وإنّما تأسيس قاعدة جماهريّة صلبة، تتقبل فكر التغيير الشموليّ للمرجعيّة الصالحة. ومن هذه النقطة كان خط الشروع لهذه المرحلة، فاندمج الإمام الشهيد الصدر الأوّل (قدس سره)، مع طلبة المدارس والجامعات، وطلبة العلوم الدينيّة، والمثقفين والتجار والكسبة، من خلال إسلوبين هما:- الإسلوب الأوّل ؛ منهج كتابة المؤلفات، التي تحدّد بهدف معيّن، لمعالجة احتياج أو احتياجات معيّنة، ونشرها بين طبقات المجتمع. والإسلوب الثاني ؛ تبني نشر المحاضرات عن طريق (الكاسيت) فكان (قدس سره)، يلقي المحاضرات في مختلف الجوانب، فضلاً عن محاضراته في التخصص الفقهي. محاضرات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وفي الاخلاق وفي التاريخ، وفي سيرة أهل البيت(ع)، وكانت هذه (الكاسيتات) تستنسخ بالالاف، ويتداولها الشباب(على وجه الخصوص) بسرعة، حتى أنّ السلطة البعثيّة، كانت تبحث وتفتش بدقّة عن هذه التسجيلات، وتعاقب من تضبطها عنده بأشدّ العقوبات. وتمّ تأسيس مجموعة كبيرة من المدارس الأهليّة، للبنين والبنات، في محافظات كثيرة من العراق، وقد اختيرت هيئاتها التعليميّة والتدريسيّة، من أحسن الكفاءآت في هذا المجال، والملتزمة بالخطّ الإسلاميّ العام. وكانت مواكب الطلبة، التي كانت تطرَح في المناسبات الدينيّة، أروع الشعارات النّاضجة، التي تعالج أخطاء المرحلة، وتطرح كذلك تصوّرات المستقبل أيضاً. وكانت هذه المواكب تتكون من طلبة الجامعات، وطلبة المدارس الإعداديّة والمتوسطة، وجدير بالذكر أنّ جميع تلك الشعارات، كانت تعبّر عن النَفَس الوحدويّ الإسلاميّ، وروح توحيد المسلمين، ومن المؤكد أنّ شعارات تلك المسيرات، كانت مسيطراً عليها مركزياً، وإنّ جميع تلك المسيرات، لم تطلق الشعارات الطائفيّة الساذجة، كالتي سمعناها (مؤخراً) من بعض المتخلفين (ما كو ولي إلا علي و نريد قائد جعفري)، وشعار (علي وياك علي)، الذي تصدح به حناجر الجهلة، عندما تستقبل أحد المسؤولين الكبار في الدولة (من أبناء الطائفة الشيعيّة)، وكأنه حصة الشيعة فقط، دون بقية العراقييّن. ولحد الآن لم تنتبه أيّة مرجعيّة، (ولا حتى المسؤولين الذين يسمعون ترديد هذه الشعارات ملئ آذانهم)، لخطر هذين الشعارين السطحيين، والمبادرة بالتثقيف على نبذ هذه الشعارات المريضة، لأنها تستبطن حالة فرقة الأمّة... إنّ الإمام الصدرالأوّل (قدس سره) قتله أعداؤه، لكن ربَّ سائل يسأل من هم أعداؤه.

الجواب: هم المتآمرون التقليديّون في سلطة الحوزة، والمتآمرون عليه في سلطة الدّولة. أمّا الذين يغتالون فكره ومنهجه الآن، فهم كلّ أولئك الذين يسعون إلى السلطة، لتحقيق المنافع المكاسب الذاتيّة، عبر استغلال فكره ورمزيّته (قدس سره)، من أجل استدرار مشاعر وعواطف الآخرين. فسلام على سيدي أبي جعفر والعاقبة للمتقين.