بقلـــــم:د. مضاوي الرشيد
الحج: مهرجان السياسة المأزومة ...





الثلاثاء, 09 ديسمبر 2008


لقد تحول الحج وهو الركن الخامس من اركان الاسلام الى مهرجان سياسي اعلامي يعكس ازمة القيادة السعودية التي تتبنى شعار خدمة الحرمين الشريفين.

لا بد ان نعترف ان السلطة السياسية التي تهيمن على مراكز عبادة المسلمين من الشرق الى الغرب منوطة بمسؤوليات جسيمة تفرضها المعطيات الجغرافية ومتطلبات المسؤولية السياسية والواجب الديني تجاه قبلة المسلمين ومحطة حجهم السنوي وزياراتهم خارج موسم الحج المعروف. ومع الاسف تحول الحج الى مهرجان سياسي تستغله القيادة السعودية في تثبيت شرعية اسلامية تتخطى الحدود الجغرافية للقطر السعودي.

يفعل موسم الحج في الخطاب السياسي من خلال توظيفه ..

اولا : كمسرح تستعرض فيه السعودية مدى انفاقها على مراكز الحج فتكثر الاحصاءات والارقام التي تستعرض على العالم الاسلامي وكأنها هبة القيادة التي تغوص في جيوبها الخاصة وتتصدق على الاماكن المقدسة بغية تطويرها وتوسيعها خدمة للعالم الاسلامي.

ثانيا : تفصل القيادة مشاريعها التنموية الهادفة الى توسيع الحرم وزيادة استيعابه للحجاج وتنسى انها المسؤولة الاولى والاخيرة عن تشويه ليس فقط ارض مكة المكرمة بل حتى سمائها بفنادق شاهقة واعلانات تافهة ومبان مستوردة التصميم والمظهر لا تتوافق مع قدسية المكان او جوه الروحاني او هدفه الديني. مشاريع التوسيع وهدم المباني الأثرية واستبدالها بمراتع سياحة لا يستطيع المسلم العادي ان ينتفع منها بسبب تكاليف الاقامة الباهظة بها وتبقى حكرا على القيادة السعودية ذاتها تجعل هذه المشاريع نقطة جدل ورفض من قبل ليس فقط اهل مكة انفسهم بل العالم الاسلامي بأجمعه.

ثالثا: تتقمص القيادة السعودية من خلال مؤسساتها وسفاراتها في الخارج مهمة الحاجب الذي يقرر وفق متطلباته واحتياجاته هو من يدخل الى الاماكن المقدسة وتناط بهذه المؤسسات مهمة استبعاد غير المرغوب فيهم تحت ذريعة ما يسمى بالكوتا. وهي عملية حسابية يجري على اساسها تحديد عدد الحجاج القادمين من كل بلد حسب نسبة تقررها القيادة ويستغل هذا النظام في عملية انتقائية تستبعد من يصنف وكأنه غير مرغوب فيه. ومعظم الاستثناءات تبنى على اساس سياسي تفرضه المرحلة وعلاقة السعودية بفئات مسلمة او بلدان اسلامية.هذه العملية الانتقائية يعاني منها ليس فقط المسلمون الذين يصنفون بالمشاغبين في قاموس السعودية السياسي بل السعوديون المقيمون في الخارج وخاصة اولئك الذين يعارضون السعودية بشكل او بآخر. نستطيع ان نجزم ان جميع المعارضين السعوديين في بريطانيا ممن سحبت جوازات سفرهم السعودية لم يستطيعوا ولن يستطيعوا في المستقبل تقديم طلبات فيزا للسفارات السعودية من اجل اداء فريضة الحج.

وينضم الى هؤلاء طيف كبير من المسلمين المعروفين بآرائهم المناهضة للسياسة السعودية. وتعاقب السعودية جاليات مسلمة اخرى من خلال عرقلة وصولهم الى مكة والضجة الاخيرة حول حجاج غزة ما هي الا حلقة اخيرة في سلسلة من الاقصاءات السابقة التي تعرض لها بعض الحجاج الايرانيين والعراقيين في السابق.

رابعا: تتبنى السعودية وتروج لخطاب ديني ينفي وجود المقدس في اماكن اخرى. وتحاول هذه القيادة ان تحصر المقدس في مكة رغم انها قد لا تقبل بكل الحجاج الراغبين في زيارتها خلال موسم الحج. ورغم ان مكة تبقى متصدرة للمكان المقدس الاول الا ان هناك اماكن اخرى ذات اهمية عظيمة ومن اهمها القدس التي لا تعطيها القيادة نفس الوزن السياسي رغم ان ثقلها الديني للمسلمين معروف للجميع. نعم تبقى مكة المحجة الاولى لركن جوهري.

ولكن تطلع المسلمين في الماضي والحاضر الى زيارات مهمة لاماكن مقدسة فرضه التطور الديني للاسلام خلال القرون السابقة وقد نمت هذه الاماكن وتطورت من خلال عملية تراكمية ووجد زوارها فيها تجربة روحانية لا تعوضهم عن زيارة مكة ولكنها متممة ومكملة للزيارة الجوهرية.

لا تنفي السعودية أهمية الأماكن الأخرى فحسب بل هي تشجب وتدين المكان الآخر وزواره وفي نفس الوقت تمارس عملية انتقائية للحجاج تحت ذريعة تأمين الخدمات وتسهيل مرورهم والطاقة الاستيعابية لمكة والمدينة.

خامسا: تحول الحج تحت ظل القيادة السياسية السعودية إلى عملية تطهيرية هدفها تنقيح اسلام المسلمين من شوائب تعتبرها البيروقراطية الدينية السعودية أنماطاً من الكفر والشرك حتى تحول الحج إلى زيارة محفوفة بالمخاطر والخوف من سوط الرقيب الذي نصب نفسه مطهراً للاسلام والمسلمين. لقد وثق الكثير من الحجاج المسلمين تجربتهم في كتب ووثائق آخرها كتاب عالم الانثروبولوجيا المغربي المعروف عبدالله حمودي والدكتورة الباكستانية قنتا أحمد حيث نجد في الكتابين سرداً لتجربة قاسية بدل أن تكون رحلة تقرب بين العبد وربه.

ونتساءل لماذا لم يشكر هؤلاء وغيرهم القيادة السعودية على تشويه أرض مكة والخدمات الصحية المزرية وأهرام النفايات المتكاثرة. ولماذا لم يطهر هؤلاء اسلامهم من بدع تعلموها في بلادهم ولم يدخلوا في الاسلام السعودي من جديد نافين بذلك خصوصية عباداتهم وشعائرهم كما تربوا عليها. وقد يتساءل بعض المسلمين لماذا لم تسلمهم السلطات السعودية جثث أقرباء لهم لقوا حتفهم خلال موسم الحج منهم من ينتظر منذ أكثر من 29 سنة رداً على استفسارات عن ظروف وفاة أب أو أخ أو أخت. يطرح الكثير من المسلمين تساؤلات كبيرة حول تدبيرات السعودية المتعلقة بالحج وهيمنتها على تلك التجربة الدينية التي يتوق لها الملايين ومنهم من يموت قبل أن تتاح له الفرصة التي قد تصبح خطوة نحو الموت. وإن كانت الأرقام أو تعداد الحجاج هي المشكلة فالكل يعلم أن كثيراً من مراكز الحج المتعلقة بديانات أخرى كالهندوسية مثلاً تتلقى في مواسم معينة أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الحجاج المسلمين لمكة. ناهيك عن كون بعض محطات القطارات في المدن الصناعية الكبرى تستوعب الملايين من المسافرين أو من يقوم برحلات يومية إلى مكان عمله وبخاصة بين المدن والضواحي دون أن يركل أو يدهس تحت الأقدام. في حال حدوث الكوارث خلال موسم الحج تستنجد السعودية والناطقون بإسمها بمقولات تحمّل الحجاج وجهلهم وتخلفهم مسؤولية مصائبهم وتظهر الاستعلائية السعودية الرسمية بأبشع صورها عندما تتبجح بعبارات تستحضر صورة بشعة ومتخلفة ونعوتاً تلصق بأفقر شعوب العالم الذين لا يسافرون في سبيل النزهة أو العلاج إلى الخارج بل يجمعون حصاد عمرهم لزيارة في سبيل الله.

عندما حولت القيادة السعودية موسم الحج إلى مهرجان سياسي يستجدي الشرعية من المسلمين فتحت الباب على مصراعيه أمام مهاترات سياسية واتهامات تقابلها اتهامات مضادة من ملايين المسلمين الذين يتوقون إلى حجة واحدة في العمر. وان كانت السعودية تستمر في استغلال الحج بهذه الطريقة البشعة فالأحرى بقيادتها أن تسلم مهام الحج والاشراف عليه الى لجنة عليا تتكون من الدول الاسلامية المعنية بالأمر رغم انها ستظل تدفع فاتورة الحج الباهظة ليس لأنها دولة غنية بل لأنها تروج نفسها خادماً للحرمين الشريفين ومن مسؤولية السعودية التي تقع مكة والمدينة داخل حدودها المعترف بها دولياً أن تتحمل تكلفة هذا الرمز والمسؤولية المرتبطة به المالية والدينية اذ انها ايضاً منتفعة من هذا الموسم الديني الذي كان قبل عصر النفط المصدر الأول الذي صادرته القيادة لصالحها وصالح تجارها والمرتبطين ببروقراطيتها ومؤسساتها من مطوف الى صاحب فندق. لقد سئم العالم الاسلامي من عملية استغلال الحج الموسمية وتحول هذه الشعيرة الى ملعب كرة تتقاذفه من جهة السعودية ذاتها ومن جهة أخرى قوى سياسية تريد تصفية حسابات سياسية مع السعودية.

ان تفكك العالم الاسلامي بالاضافة الى سحر الثراء السعودي قد أعميا بصائر الكثيرين عن حقيقة المهرجان السياسي السنوي والحملة الاعلامية المرافقة له التي تنظمها الاجهزة الاعلامية السعودية علّها بذلك تؤصل لعملية التضليل والإستغلال. وان انتقد المسلمون بعض جوانب التقصير السعودية فهذا لا ينطلق من كونهم ناكرين للجميل غير معترفين بصدقات وهبات القيادة السعودية بل لأنهم يقرون بمسؤولية الدولة الحاضنة للحج ويتضايقون من اطروحات التمنين والصدقة.

ليقتنع من يقوم ويشرف على شؤون الحج ان هذا الركن ليس بمشروع تنمية أو مدينة صناعية أو عملية تطهيرية لمعتقدات وشعائر المسلمين او محاولة بائسة لمحو مراكز ومحطات مهمة جغرافية قد أبادتها السعودية ودمرتها تحت ذريعة محاربة الشرك او ضرورات التوسع وزيادة استيعاب الحجاج او حركة استئصالية لذاكرة المسلمين الجماعية وتاريخ مكة القديم ومبانيها التي انتهت واندثرت امام المعول السعودي الهدام. الكل يعلم ان تاريخ مكة لم يبدأ عام 1932 وتقع المسؤولية اولاً واخيراً على أهل مكة لأنهم أدرى بشعابها ولكنهم مع الاسف استسلموا للمعول السعودي. اما بقية المسلمين فحدث ولا حرج اذ ان القوة الشرائية السعودية قد أعمتهم في المحافل الاسلامية العالمية حيث نجد التزلف والاستجداء يتسيدان المواقف الخانعة المتملقة. ويدفع ثمن حالة الركود هذه المسلم الحاج الذي يظل طيلة حياته غير قادر على اتخاذ مواقف قد تعطل طلب فيزا للحج او العمرة يقدمها للحاجب وحارس الاسلام او من نصب نفسه لاعباً مراوغاً لهذا الدور. عندما حولت السعودية الحج الى مهرجان سياسي في دولة مأزومة نجدها فتحت الباب على مصراعيه امام الاتهامات والاتهامات المضادة ولا يسعنا الا ان نقول ان البادئ أظلم.

' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية