عاشوراء: دروس الماضي وتحديات الحاضر
السيد علي فضل الله
عندما تحدث المآسي في الواقع المعاصر، كالمأساة الكبيرة التي تحدث في غزة بما تحمله من معاناة وآلام وتضحيات، ينطلق البعض ليتحدث عن جدوى استعادة مآسي الماضي، في ظل هذه الظروف، ويثيرون إلى ضرورة التأكيد على آلام الحاضر، كي لا ننسى واقعنا ونستغرق في الحديث عن آلام الماضي وتفاصيل الأحداث فيه..
مواجهة الانحراف:
فيما ينظر آخرون إلى موضوع المأساة من زاوية أخرى، فصحيحٌ أن هناك الكثير من مآسي التاريخ التي تتجاوز بفداحتها ما جرى في يوم عاشوراء، ولكننا لا نُحيي مأساة عاشوراء لاعتبار خصوصية المأساة فيها، وان كانت المأساة قد تجلّت بأجلى مظاهرها في هذا اليوم، ولكننا نحيي هذه المناسبة لأجل عدة أمور:
أولاً: الإشارة إلى طبيعة الانحراف الذي وصلت إليه الأمة آنذاك، والذي تحمّل الحسين(ع) لأجل مواجهته كل هذه الآلام والجراحات، حتى وصل الأمر إلى استشهاده مع أهل بيته ونساءه وأصحابه، بحيث لم يجد الحسين(ع) مجالاً إلاّ الوقوف في وجه الانحراف رغم التضحية العالية، وهذا هو المعنى الذي أكدّ عليه(ع) عندما قال: " ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمة واستحلوا حرام الله وحرموا حلاله واستأثروا بالفيء وعطلوا الحدود وأنا أحق من غيّر"...
وقال أيضاً: "يزيد رجل فاسقٌ فاجر قاتلٌ للنفس المحترمة شارب للخمر ومثلي لا يبايع مثله"..
ولهذا كان شعاره الأساسي: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
فعندما نستعيد الذكرى فإننا نؤكد من خلالها على وجوب التحرك ومواجهة الانحراف عندما يتولى الحاكم الظالم قيادة الأمة أو عندما تنقلب الموازين بفعل هذا الانحراف بحيث يتحول الحرام حلالاً والحلال حراماً، ويساء إلى مقدرات الناس وأموالهم، وتتحول القوانين لحساب المعتدين والظلمة.
فالإمام الحسين(ع) أراد أن يعطي للأمة شرعية الوقوف في وجه الظالم، بل وجوبه أيضاً، أما أسلوب المواجهة فيمكن أن يكون حسينياً أن توفرت ظروفه ومعطياته، كما يمكن له أن يكون مختلفاً بحسب مقتضيات الواقع.
ولذلك تأتي هذه الذكرى لتؤكد على الأفراد والمجتمعات ضرورة أن يتطلعوا بجدية إلى كل الانحرافات التي قد تحصل في داخل حياتهم ومجتمعاتهم بحيث يتحركون للإصلاح ومواجهة هذا الواقع.
وإذا واجهتهم الظروف الصعبة فإن عليهم أن لا يتراجعوا، بل أن يدرسوا كل الثوابت التي يمكن الاستفادة منها للوصول إلى عقول الناس وأفكارهم وعواطفهم.
فالأنسب هو استعمال الأسلوب الأحسن والكلمة الطيبة للتأثير على هؤلاء وإصلاح واقعهم، لكن هذا الأسلوب الهادئ قد لا يجدي نفعاً مع بعض الناس ممن ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم، وممن لا يستجيبون للنصح وللموعظة الحسنة ويصرون على غيّهم، مما يفرض استخدام أسلوب آخر لمواجهة الانحراف الذي يغلق الطريق أمام الحوار، ويمثل الظلم والطغيان، عبر التصدي لهذا المنكر بالسيف والثورة كما فعل الإمام الحسين(ع).
إستنهاض الأمة:
ثانياً: إحياء الذكرى لتحريك المجتمع الراكد وحضّه على عدم الرضوخ للأمر الواقع، لأن المجتمع الذي واجهه الإمام الحسين(ع) يمثل المجتمع المتخاذل الذي بات مستعداً ليتقبل كل حاكم، حتى لو كان حاكماً فاجراً ومستبداً مثل يزيد الفاسق والقاتل للنفس المحترمة.
وعندما يستمر هذا المسار فسيكون المجتمع أسيراً لكل الذين يملكون مواقع المال أو السلطة، حيث يفرضون واقعهم على الأمة من خلال مالهم أو سلطتهم أو نفوذهم.
ولهذا كان شعار الإمام الحسين(ع) هو استنهاض الأمة وإثارة الغيرة والحمية في داخل أفراد المجتمع من خلال قوله : "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه" وقوله: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد".
وكذلك قوله: "إلا وان الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السِلّة والذلة وهيهات منا الذلة"، حيث أراد الحسين(ع) أن يؤكد مع أصحابه على عدم القبول بيزيد كأمر واقع، ولا بكل الفئة الظالمة من أنصاره وأراد أن يعلن وقوفه في وجهها مهما كلف الأمر من تضحيات.
ولذلك فإن إحياء هذه الذكرى يؤكد على عدم الانصياع للمنطق الذي يقول بأنه لا قدرة لنا على مواجهة الظلم أو الاحتلال أو الفساد وبأن علينا أن نتعايش معه ونرتب أمورنا على أساس وجوده كأمر واقع.
وقد أكد الإمام الحسين(ع) على المسلمين ضرورة التصدي لهذا الواقع وإلا فإن من يرضخ له يعتبر شريكاً في الظلم والانحراف والاحتلال، ويتحمل كل النتائج المترتبة على ذلك.
وهذا ما قاله في حديثه عن رسول الله(ص): "أيها الناس سمعت رسول الله (ص) يقول: من رأى منكم سلطان جائراً مستحلاً لحُرَم الله ناكثاً بعهده يعمل في عبادة بالإثم والعدوان ولم يغير عليه بفعل ولا بقول كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله".
وبهذه الروحية استطاع الإمام الحسين(ع) أن يغير الواقع ويمتد في الزمن، فقد أعادت ثورته الحراك إلى الأمة، وعلمتها أن لديها الكثير من عناصر القوة التي يمكن استخدامها، وأنها قادرة على تغيير المعادلات، ولا ضرورة لاستعجال الأمور، فقد تتحقق في مرحلة لاحقة عندما تتهيأ ظروفها ومناخاتها، وهذا ما تثيره عاشوراء في أذهان المشاركين في إحيائها حيث تستثير فيهم روح التحدي من غير تهور، بل بناءً على وعي وتخطيط وحسن إدارة.
رفض الخضوع للظالمين:
ثالثاً: إن هذه الذكرى تؤكد على رفض الظلم ومواجهته، لأن القبول به في أية مرحلة يساهم في امتداده في كل المراحل اللاحقة.. في حين أن تحديه في البداية يمنعه من الاستمرار لاحقاً...
فلو أن المجتمع الإسلامي وقف في وجه الذين حاربوا الإمام الحسين(ع) ومنعهم من القيام بجريمتهم، لما حصلت فاجعة كربلاء فيما بعد، ولتراجعوا وارتدعوا عن دعمهم للظالمين، لكنهم وجدوا مجتمعاً مستكيناً راكداً سهّل لهم أن يسيئوا إلى أقدس رمز إسلامي في ذلك الوقت وهو الإمام الحسين(ع).
ولأجل ذلك تؤكد لنا هذه المناسبة أن الوقوف في وجه مجازر التاريخ يمنع حدوثها في الحاضر، كذلك فإن الوقوف في وجه مجازر الحاضر التي تصنعها أميركا والكيان الصهيوني كما يجري في غزة، يمنع من استمرارها وامتدادها إلى المستقبل، لذلك فإن مسؤولية الأمة أن تُظهر مزيداً من التحدي لصنّاع المجازر كي يرتاح المجتمع وتسلم الأمة في مستقبلها.
إعادة إنتاج الجيل:
رابعاً: أن هذه الذكرى تعيد إنتاج جيل إسلامي حي متحرك، بدلاً من إسلامٍ أراد له البعض من خلال سلوكهم أن يبقى خاضعاً لأهوائهم، بعيداً عن ساحات الحياة وميادين الوعي.
وهذا ما تؤكده الذكرى في كل عام عندما تشير إلى شخصية أتباع يزيد وأفراد جيشه، فبعضهم كانوا يصلون ويصومون دون أن يكون للعبادة أثر في حياتهم، لأنهم افتقدوا للدين في واقعهم العملي والأخلاقي والإنساني.
فالمناسبة الأليمة التي تتجدد في كل سنة، تشد الأمة إلى إسلام حيّ تتحرك عباداته في خط الفعل والتأثير، فيستفيد من عبادة الصلاة لينهى الناس عن الفحشاء والمنكر، ومن عبادة الصوم ليدفع المؤمنين للتواجد في كل المواقع التي يريدها الله وخصوصاً مواقع التحدي للظالمين، ومن فريضة ليمنع الطواف والسعي إلا إلى الله تعالى، كما يدعو إلى رجم شياطين الحياة الدنيا وشياطين الواقع والتضيحة في طريق الحق والاستجابة له.
لذلك نستعيد عاشوراء في كل عام، لكي نكون أكثر وعياً وأكثر مسؤولية وأكثر حضوراً تحت راية الإسلام وفي ظل تعاليمه ورسالته.