أفضل ما قرأت عن الموقف الشرعي من مجلس الحكم الانتقالي في العراق
الموقف الشرعي من مجلس الحكم الانتقالي ، للفقيه الكبير الشيخ فيصل مولوي
بعد ثلاثة أسابيع من القتال دخلت قوات الاحتلال الأمريكي إلى بغداد. كان ذلك نهاية مأساوية لحرب توقع الكثيرون لها أن تطول على مشارف بغداد. لكن النظام انهار، والشعب لم يقاتل فسقط العراق. وارتبك الأمريكان، وصدم العراقيون بما حدث، لكنّهم لم يلبثوا أن اكتشفوا وجود الاحتلال في بلادهم، فبدأت أعمال المقاومة وتطورت بسرعة مذهلة. وكان الأمريكان ينوون حكم العراق مباشرة لسنوات لكنّهم غيّروا بسرعة، وعيّنوا مجلس الحكم الانتقالي في محاولة للخروج من المأزق العراقي قبل فوات الأوان، ولكن بعد تحويل انتصارهم العسكري إلى إنجاز سياسي.
أولاً: مجلس الحكم الانتقالي :
مجلس الحكم الإنتقالي في العراق عينته القوات الأمريكية الغازية، فهو لا يتمتع بأية مشروعية لأنه ببساطة ليس منتخباً من قبل الشعب العراقي، بل هو نتيجة طبيعية لاحتلال العراق، ولانهيار النظام السابق. ومن المعروف أنّ الاحتلال كان يريد ادارة أمريكية مباشرة مع مستشارين عراقيين، لكن المقاومة المسلحة من جهة، والرفض السياسي من جهة أخرى، اضطره لاستحداث (مجلس الحكم الإنتقالي). ومن الواضح أنّ المحتلّ الأمريكي اختار أكثر أعضاء المجلس ممّن لا يمثّلون شيئاً على الساحة العراقية، وقد تمّ اختيارهم لتأكيد النفوذ الأمريكي داخل المجلس، لكن هناك بعض الأعضاء يمثّلون مراكز ثقل حقيقية على الخارطة السياسية الحالية للعراق، ويتفاوتون في رفضهم للاحتلال الأمريكي وهم: زعماء الأحزاب الكردية الثلاثة، وممثّل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة، والحزب الإسلامي. فهؤلاء عيّنوا في المجلس لأنه لا يمكن تجاوزهم إذا أراد المحتلّ الأمريكي أن يعطي شيئاً من المصداقية لمجلس الحكم الانتقالي.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: هل يمكن إيجاد سلطة حاكمة تتمتّع بالمشروعية في ظلّ الأوضاع الحاضرة؟ والجواب الواضح: أنه لا يمكن ذلك لسببين اثنين: الأول: أنّ أي صيغة يفرضها الاحتلال تعتبر غير مشروعة. والثاني: أنّ الشعب العراقي بعد انهيار نظامه السابق ليست عنده آلية لاختيار سلطة مشروعة، فليس عنده دستور ولا قانون انتخاب ولا سلطة لإجراء الانتخابات. ولا يستطيع إبراز سلطة وطنية في ظلّ الاحتلال، فضلاً عن أنّ المجتمع العراقي خرج من النظام السابق منهكاً بسبب حروب ثلاثة متتالية، وقد شلّت أكثر قواه الحزبية والسياسية والدينية.
من الواضح أنّ مشروعية السلطة لا تأتي إلاّ من اختيار الشعب لها. وأنه لا بدّ من وضع آليات تمكّن الشعب من هذا الاختيار، لكن الواقع القائم هو أنّ القوات الأمريكية والبريطانية تحتلّ العراق الآن، وهي التي تشرف على وضع هذه الآليات من خلال مجلس الحكم الانتقالي. حتى مجلس الأمن الدولي وإن لم يكن موافقاً على غزو العراق إلاّ أنه اعترف بالنتيجة بهذا الاحتلال، وهو يطلب اليوم وكذلك الأمم المتحدة الإسراع في تسليم السلطة للعراقيين. والدستور الذي سيضعه مجلس الحكم سيحكم العراق فترة من الزمن إلى أن يمكن تعديله من قبل الشعب العراقي، حتى لو نجحت المقاومة في تسريع خروج المحتلين، إلاّ أنها لا تستطيع أن تمسك السلطة الفعلية في البلاد، خاصة أنها لا تزال محصورة في المثلث السنّي، ولم تشارك فيها المناطق الشيعية والكردية وهي تمثّل أكثرية الشعب العراقي.
من الناحية الموضوعية: لا بدّ إذاً من مرحلة انتقالية يتمّ من خلالها العبور من حالة اللامشروعية التي خلفها الاحتلال الأجنبي وانهيار النظام السابق، إلى مشروعية تتمثّل باختيار الشعب العراقي للسلطة السياسية التي تحكمه.
هذه المرحلة الانتقالية القائمة الآن هي– بحكم الواقع- من إفرازات الاحتلال. لكن التعامل معها قد يؤدي لتحقيق بعض المصالح أو درء بعض المفاسد، مما يتعلّق بصياغة النظام السياسي الجديد للعراق، أو بالخدمات المدنية التي يحتاجها المواطنون في هذه المرحلة. وإذا كانت السياسة في نظر السياسيين هي (فنّ الممكن)، فإنّ الحكم الشرعي الذي يتّفق عليه العلماء هو أنّ المسلم مكلّف بما يستطيع، والله تعالى يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم).
ثانياً: أصول الفتوى الشرعية :
1- الفتوى حسب اصطلاح الفقهاء هي (الإخبار بحكم الله تعالى عن الوقائع بدليل شرعي).
فهي إذاً حكم الله المتعلّق بواقعة معيّنة.
هذا الحكم قد يختلف عن الحكم الشرعي الأساسي الثابت في القرآن الكريم أو في السنّة المطهرة أو باجتهاد المجتهدين؛ لأنّ الواقعة الحادثة قد تتعلّق بها ظروف تنقل حكم الله من النصّ المذكور إلى نصّ آخر، أو من الاجتهاد إلى اجتهاد آخر، أو تضطرّ المفتي إلى الموازنة بين حكمين شرعيين واختيار أحدهما في حال التزاحم. فالفتوى هي الحكم الشرعي المتعلّق بواقعة معينة، وهو قد يختلف عن الحكم الشرعي المطلق، إذا كانت في الواقعة ظروف تقتضي ذلك. ولهذا اتّفق العلماء على أنّ من أهمّ شروط الفتوى معرفة واقعة الاستفتاء أولاً، حتى يمكن معرفة الحكم الشرعي المتعلّق بها. كما ذكر كثير من علماء أصول الفقه ضرورة معرفة مدى أثر الفتوى سلباً أو إيجاباً؛ لأنّ معرفة المآل قد تغير الحكم الشرعي إلى حكم شرعي آخر. يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً... ذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تُستجلَب أو لمفسدة تنشأ عنه، لكن له مآل – نتيجة- على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه، إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصحّ إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلاّ أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة؛ ولذلك يعتبر الشاطبي أنّ من خصائص المجتهد الرباني الحكيم الراسخ في العلم الفقيه العامل (أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، وغيره يجيب على السؤال وهو لا يبالي بالمآل..)[1].
ومعنى ذلك:
أنّ الواجب من حيث الحكم الشرعي الأصلي، قد يصبح حراماً في ظرف معيّن إذا كان يؤدي إلى حرام.
وأنّ المباح المشروع من حيث الحكم الأصلي الشرعي، قد يصبح حراماً في ظرف معيّن بسبب النتيجة التي قد تحصل منه.
بل إنّ الحرام من حيث الحكم الشرعي الأصلي، قد يصبح جائزاً أو واجباً إذا كان يؤدي في ظرف معيّن إلى درء ضرر أكبر أو حرام أشد.
وقد ذكر الشاطبي لتأييد هذا الرأي الكثير من الأمثلة يمكن الرجوع إليها.
ومعنى ذلك أنّ الحكم الشرعي الأصلي هو حكم مطلق يتناول جميع الظروف بالإجمال. أما الفتوى فهي تتناول الحكم الشرعي في ظرف معين أو واقعة محددة، وقد يختلفان.
2- الفتوى للفرد غير الفتوى للأمّة: من الطبيعي أن يقال للمسلم إذا احتلّت بلاده أنّ الجهاد فرض عين عليه طالما كان يستطيع ذلك. أما الأمّة فلا بد لها من فتوى شاملة تراعي كلّ حاجاتها، ولا تكتفي بالإجابة عن مسألة واحدة، ولا بدّ لها من خطّة لطرد الاحتلال، وقد تحتاج إلى قدر من التعامل مع المحتلّ ريثما يتمّ إخراجه، ولا بدّ لها من استعمال كلّ طاقاتها في سبيل دحر المحتلّ. فالذي لا يستطيع الجهاد لا بدّ أن يتحرّك في مجالات أخرى. والجهاد موكول أمره إلى الإمام واجتهاده كما هو معلوم، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك. هذا ما صرّح به جمهور الفقهاء؛ لأنّ أمر الحرب موكول إلى الأمير، وهو أعلم بكثرة العدو وقلّتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع أن يرجع إلى رأيه لأنه أحوط للمسلمين[2]. وعند عدم وجود الأمير العام، وإذا دهم العدو بلاد المسلمين، فإنّ أمير كلّ مجموعة يحلّ مكان الأمير العام في ممارسة هذه الصلاحية.
إنّ الواقع القائم اليوم في العراق شديد التعقيد، وله جوانب كثيرة، كلّ منها له حكمه الشرعي. واختزال كلّ هذه الظروف والتعقيدات بمسألة المقاومة تبسيط مخلّ. فلا بدّ من معرفة الحكم الشرعي لكلّ جانب من جوانب هذا الواقع. وعند تزاحم هذه الأحكام، بمعنى أنك إذا التزمت بأحدها فقد فرّطت بالآخر، فمن الواجب إعمال فقه الموازنات، وهو يقوم على الترجيح والاختيار.
والفتوى الأصح في مثل هذه الظروف هي التي تراعي كلّ جوانب الواقع، وتسعى إلى تحقيق مصالح المسلمين الممكنة ودرء المفاسد عنهم، وليس بالضرورة أن تكون هي الأحوط أو الأكثر تشدداً. يقول سفيان الثوري رحمه الله: (إنما الفتوى الرخصة من ثقة، وإلاّ فإن التشدد يحسنه كلّ الناس).
ثالثاً: أسباب تحريم المشاركة في مجلس الحكم الانتقالي ومناقشتها :
لقد صدرت عدّة فتاوى تحرّم المشاركة في مجلس الحكم الانتقالي العراقي، أهمّها الفتوى الصادرة عن هيئة العلماء للرابطة العراقية. وسأحصر مناقشتي فيها باعتبارها الأكثر تفصيلاً وتأصيلاً.
وفيما يلي أسباب التحريم حسب الفتوى مع مناقشتها:
أ-إن هذا المجلس تم اختيار أعضائه من قبل الكافر المحتل، وإن المسلم يرفض ولاية الكافر عليه فيجب عليه رفض هذا التعين.
قد يكون هذا القول صحيحاً فيما لو قبل المسلم التعيين من الكافر لتحقيق مصلحة شخصية له. أما إذا كان يرى في قبول هذا التعيين تحقيق مصلحة للمسلمين أو درء الضرر عنهم، فهذا الأمر يخضع لفقه الموازنات الذي يتمثّل بقواعد شرعية كثيرة منها (الضرر الأشدّ يزال بالضرر الأخفّ) (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً) (يختار أهون الشرين)؛ ولذلك فقد يقبل المسلم التعيين من كافر، إذا ترجحت لديه المصلحة. وهذا الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام) ينص على ذلك بوضوح فيقول: (ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله، جلباً للمصالح العامة، ودفعاً للمفاسد الشاملة. إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة...)[3] بل إنّ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول مثل هذا الكلام في حديثه عن الولاية غير الواجبة كما هو الحال مع الاحتلال في العراق، حيث تأتي الولاية على أمور المسلمين من قبل المحتلّ فلا يكون قبولها واجباً كما هو الحال في ظلّ دولة إسلامية. يقول ابن تيمية: (بل لو كانت الولاية غير واجبة، وهي مشتملة على ظلم. ومن تولاها أقام الظلم، حتى تولاها شخص، قصده بذلك تخفيف الظلم فيها، ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً)[4] .
ب-القول بأن أعضاء هذا المجلس لا يحملون موازين إسلامية، ولا يقبلون بمرجعية الشريعة الإسلامية بدليل مدح أحدهم للاحتلال دون إنكار من غيره، وقرار المجلس باعتبار 9 نيسان عيداً وطنياً وهو يوم احتلال العراق، وسكوت أعضائه على ذلك واستمرارهم في الاشتراك بمثل هذه المجالس رغم قوله تعالى: (وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره..).
أقول: قد يكون هذا الكلام صحيحاً أيضاً لو كان البديل الممكن هو مجلس يحمل أعضاؤه موازين إسلامية. أما وأن البديل – في ظل الاحتلال الأمريكي- حكم أمريكي مباشر، أو مجلس آخر يكون أعضاؤه أكثر خضوعاً لإرادة المحتلّ، فإنّ رفض المشاركة في المجلس لهذا السبب يؤدي عملياً إلى قيام مجلس آخر أكثر سوءًا، فمن الواجب النظر إلى مآل الفتوى كما يقول العلماء حتى تكون محققة للمصالح، خاصة أن إخراج المحتل لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، بل قد يستغرق سنوات، ولا يمكن تعطيل مصالح الشعب العراقي حتى يتم إخراج المحتل. كما أن هذا المجلس – أو غيره – هو الذي يحدد مستقبل العراق، فيضع الدستور ويشرف على الانتخابات، وقد يكون من المصلحة أن يشارك فيه بعض الوطنيين والإسلاميين لتحقيق ما أمكن من المصالح ودرء ما أمكن من المفاسد. لذلك نرى أن الحكم الشرعي في هذه الواقعة يبنى على الموازنة بين أحكام شرعية متعددة لمسألة واحدة تتعدد زوايا النظر إليها. ولا يعقل أن تعتمد حكماً شرعياً متعلقاً بأحد جوانب هذه المسألة، وتضرب به كل الأحكام الشرعية التي تتناول جوانب أخرى. بل لا بد من الموازنة والاختيار إذا لم يكن الجمع ممكناً. فالمقاومة اليوم أحد جوانب المسألة العراقية، وهي أهمّها. لكنّها لا تلغي جانباً آخر هو الاضطرار للتعامل مع المحتلّ. وإذا كان المطلوب من الفرد المسلم أحد الأمرين، فإنّ المطلوب من الأمّة الجمع بينهما. لذلك فنحن نرجح جواز المشاركة، إذا كانت نية المشارك جلب المصالح ودرء المفاسد ما أمكن، وترجح لديه أنه يستطيع ذلك.
ج-القول إن مجلس الحكم الانتقالي هو أداة لتنفيذ قرار المحتل، وتحرم معاونة الكافر المحتل، بل يجب السعي لاخراجه. هذا كلام عام يمثل جانباً من الحقيقة ويغفل جوانب أهم:
أما أن مجلس الحكم الانتقالي أداة لتنفيذ قرار المحتل فهو قول صحيح بالإجمال لكن ليس بالمطلق. فممّا لا شك فيه أن الاحتلال يترك لهذا المجلس أغلب مسائل الخدمة المدنية لأنها لا تهمه، وهي لها تأثير كبير في تأمين مستوى معيشي مقبول يساعد في صمود الشعب العراقي ومقاومته. ومثل هذا الأمر يكتوي بناره العراقيون الذين يعانون مصاعب هائلة في تأمين ضروريات الحياة، ولا يشعر بذلك من يعيش حياته الطبيعية خارج العراق. كما أن هذا المجلس يمكنه إن أراد أن ينازع في قرارات المحتل الأمريكي، وقد يستطيع رفض بعضها أو تعديله، إذا كان بين أعضائه أصحاب عقيدة صحيحة ووطنية صادقة، كما يمكنه أن يصوغ دستوراً للبلاد يراعي ثوابت الأمة، وأن يعجل في إجراء الإنتخابات العامة، وأن يساعد على إبراز سلطة عراقية منتخبة تعجل – إلى جانب المقاومة – في إخراج المحتل.
ومعاونة الكافر المحتل لتثبيت احتلاله حرام بلا جدال، أما التعامل معه لتسريع عملية إخراجه، وخدمة الشعب العراقي أثناء احتلاله، فهذه من المباح على أقل تقدير، وقد يكون واجباً في بعض الحالات. يقول العزّ بن عبد السلام: (ولكن قد تجوز الإعانة على المعصية، لا لكونها معصية بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة، أو لكونها وسيلة لمنع معصية أكبر)[5]. ويقول ابن تيمية(والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم، والفرق بين الأمرين يظهر بالنية)[6].
أما السعي لإخراج المحتلّ فهو واجب بلا جدال. والمشاركون في مجلس الحكم الانتقالي من الإسلاميين يقولون: إنّ المشاركة هي الوسيلة الممكنة أو النافعة في هذه الظروف لإخراج المحتلّ. فالخلاف هنا على الوسيلة المناسبة أما الهدف فهو متّفق عليه.
د-القول بأن الأعضاء الإسلاميين في المجلس قلة، والأمور تؤخذ بالأكثرية. قول صحيح لكنه لا يبرر المقاطعة، وهو إذا صحّ ينطبق على المشاركة الإسلامية في المجالس الوطنية التي تكون فيها أكثرية غير إسلامية، ويناقض مسار الحركات الإسلامية المعاصرة التي اعتمدت المشاركة في أكثر البلاد الإسلامية ولو كانت أقلّية. بل إنّ هذا الأمر في الحقيقة يبرر المشاركة والدليل ما يلي:
إن انسحاب الإسلاميين من المجلس يؤدي إلى أن جميع قراراته لا تراعي الإسلام أو مصالح المسلمين. وبقاؤهم فيه قد يؤدي إلى إقناع الآخرين بوجهة نظرهم وتعديل بعض القرارات بما ينسجم مع الإسلام ويحقق المصلحة العامة. فالمشاركة قد تحقق بعض المصالح وتدرأ بعض المفاسد. وعدمها يجعل المفاسد أكثر، ويضيع من المصالح الكثير.
والواقع المطروح اليوم – في ظل الاحتلال كأمر واقع – أن المسلم ليس مخيراً بين مجلس فيه قلة من الإسلاميين، ومجلس آخر فيه أكثرية منهم. بل هو مخير بين مجلس فيه قلة من الإسلاميين، ومجلس ليس فيه أحد منهم إذا أخذنا بفتوى التحريم، ورفض الأول يعني اختيار الثاني، حتى ولو كان الرافضون يمارسون المقاومة، فإنّ مجلس الحكم سيمارس حكمه على بقية أبناء الشعب العراقي وهم الأكثرية، بل حتى على أبناء المقاومة نفسها فهم كغيرهم يستفيدون أو يتضررون من أعمال هذا المجلس. إن رفض المشاركة يؤدي إلى قيام مجلس يخلو من وجهة النظر الإسلامية، وهو مجلس سيحكمنا شئنا أم أبينا، مما يؤدي إلى إضاعة مصالح المسلمين.
هـ- أنّ ما قاله بعض أعضاء المجلس لا يجوز السكوت عنه صحيح. وقد رد عليهم الأعضاء الإسلاميون في المجلس وخارجه وفي الفضائيات، خاصة في موضوع اعتبار 9 نيسان عيداً وطنياً. لكن من المعروف أن المسلم ليس مكلفاً بإزالة المنكر إلاّ عند الاستطاعة، وهو مكلّف دائماً بإنكار المنكر باللسان أو بالقلب. وقد أنكر الإسلاميون هذا المنكر علناً كما هو معروف. وحتى لو سكتوا عن ذلك فهم مخطئون. لكن المشاركة في المجلس لا يمكن أن تتوقف على مثل هذا الخطأ لو وقع. فإنها من حيث الأصل تتضمن كثيراً من الأخطاء. وإجازتها من الناحية الشرعية ليس تبريراً لهذه الأخطاء، ولكنه مبني على احتمال تحقيق مصالح أكبر من هذه الأخطاء.
رابعاً: توصيف واقع العراق، وواجب الأمّة تجاهه، وموقع مجلس الحكم الانتقالي :
أ-واقع العراق اليوم يتميّز بما يلي:
1-أنه يرزح تحت براثن الاحتلال الأجنبي الذي يستهدف السيطرة على مخزونه النفطي المقدّر بثلاثمائة مليار برميل (وهو احتياط يكفي لتغطية الحاجة الأمريكية لمائة عام قادمة). كما يستهدف تحويل العراق إلى قاعدة ارتكاز للمصالح الاستعمارية الأمريكية والضغط من خلاله على دول المنطقة، ومنعه من القيام بأي دور في دعم القضية الفلسطينية، وانتزاع عناصر القوة من الدولة العراقية. معنى ذلك أنّ قرار العراق هو بالنتيجة بيد الاحتلال.
2-انهيار الدولة بشكل شبه كامل، وغياب الخدمات الأساسية واستفحال الجرائم.
3-حرص المحتلّ على تمزيق النسيج الاجتماعي التعددي الموحد، وذلك باستثارة عناصر الخلاف وإبعاد عناصر التوحيد. وقد جاءت تركيبة مجلس الحكم معبرة عن ذلك، عندما حرص المحتلّ على تقسيمه بين سنّة وشيعة وعرب وأكراد وتركمان وأشوريين، كما جاء إبراز دور العشائر دليلاً على حرص الاحتلال على إعادة المجتمع العراقي إلى أجواء الصراع العشائري التي تجاوزتها المجتمعات المعاصرة.
ب- ما هي واجبات الأمّة الاستراتيجية الإسلاميّة والوطنية في ضوء هذا الواقع؟
يمكننا تلخيص هذه الواجبات بما يلي:
-دحر الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة، وإحباط الخطط المعادية.
-المحافظة على وحدة المجتمع العراقي وانتمائه إلى أمّته العربية الإسلامية، وتجاوز محاولات التمزيق، والتأكيد على الثوابت الوطنية: الإسلام – العروبة – التعددية.
-استعادة هيكلية الدولة عن طريق وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات حرّة، واختيار مؤسسات السلطة الجديدة.
-إعادة بناء العراق، وإنماؤه في جميع المجالات.
ج- موقع مجلس الحكم الانتقالي، وهل له دور في خدمة أهداف الأمّة؟
إنّ الواجب الأول الذي يجب أن تتضافر له كلّ الجهود هو دحر الاحتلال بلا جدال. وكلّ الواجبات الأخرى يجب أن تكون لها مساهمة في تحقيق هذا الهدف الكبير.
مما لا شكّ فيه أنّ المقاومة هي السبيل لإخراج المحتلّ. قد يتوهّم بعض العراقيين ويظنون أنّ الاحتلال الأمريكي سيخرج من العراق تلقائياً خلال مدّة معيّنة. لكن التاريخ الحديث يثبت أنّ القوات الأمريكية لم تدخل بلداً إلاّ بقيت فيه، وهي حتى الآن موجودة في ألمانيا والكثير من دول أوروبا، وفي اليابان وغيرها. إنها لا تخرج إلاّ بالمقاومة كما حصل في فيتنام والصومال ولبنان. وقد بدأت المقاومة تقوم بواجبها رغم الظروف الصعبة للشعب العراقي، لكنها لا تزال اندفاعات محلية محصورة فيما يسمى المثلث السني، وتحتاج إلى تعبئة شعبية شاملة يشارك فيها الجميع، وإلى محيط مشجّع عربياً وإسلامياً ودولياً، وإلى قيادة سياسية تعرف كيف تستثمر الأعمال الجهادية لتحقيق الأهداف المطلوبة.
لكن هل يمكن أن يكون لمجلس الحكم الانتقالي دور في إخراج الاحتلال؟
من الواضح أنّ هذا المجلس لا يمكن أن يقود المقاومة ولا أن يساهم فيها بل ولا يستطيع أن يتبناها. لقد أنشأه المحتلّ الأمريكي لينوب عنه في إدارة الشأن العراقي بما يتوافق مع مصالحه، وهو يريد منه أن يكون أداة بيده لتحقيق أهدافه وأهمّها ضرب المقاومة.
في المقابل فإنّ مصلحة الشعب العراقي أن يكون مجلس الحكم الانتقالي معبّراً عن مطالبه وأهدافه بشكل كامل، وهذا ما لا يمكن أن يكون في ظلّ الاحتلال طالما أنّ هذا المجلس معيَّن من قبل المحتلّ.
لكن الأمور المهمّة في العمل السياسي لا تكون عادة على طريقة (أسود وأبيض) أو على طريقة (إما كلّ شيء أو لا شيء). وإذا كان مجلس الحكم أمراً واقعاً في ظلّ الاحتلال إلى أن يتمّ إخراجه من البلاد، وإذا لم يكن ممكناً تحويله بالكامل ليكون معبّراً عن مصالح وآمال العراقيين، فقد يكون ممكناً تحييده في الصراع ضدّ الاحتلال، أو الاستفادة منه في تحقيق بعض المصالح ودرء بعض المفاسد التي قد لا تهمّ الاحتلال أصلاً، أو أنه يمكنه أن يتنازل عنها عند حصول الممانعة. ومن هنا تأتي فائدة المشاركة كما يتصورها الكثير من العراقيين. وهي فائدة قد يناقش في جدواها ومداها الكثيرون من غير العراقيين. لكنها موجودة ولو بنسبة قليلة، وقد تزداد بازدياد عدد المشاركين في المجلس من الإسلاميين أو الوطنيين. إنّ مقاطعة المجلس تعني زيادة ارتمائه في أحضان المحتلّ، وإعطاءه قوة إضافية في صراعه مع المقاومة. بينما مشاركة بعض الإسلاميين والوطنيين فيه قد تجعله أكثر تعبيراً عن مصالح العراقيين، وأكثر التزاماً مع شعبه، وأكثر ممانعة في تطبيق إرادة المحتلّ.
إنّ الحكمة في إدارة الصراع مع الاحتلال من أجل إخراجه من البلاد، تقتضي انتزاع عناصر القوة منه أو إضعافها، ومجلس الحكم الانتقالي أراده المحتلّ عنصر قوة يستعمله لتبرير احتلاله وإطالة مدّته، لكن مصلحة الشعب العراقي أن لا يمكّن الاحتلال من ذلك، وأن يمنع استعمال هذا المجلس ضدّ مطالب الشعب العراقي في الاستقلال ودحر الاحتلال، طالما أنه لا يمكن إلغاؤه. وقد تكون المشاركة مفيدة في هذا المجال.
إذا كان مجلس الحكم الانتقالي يهدف إلى إخراج الاحتلال بالطرق السلمية كما يصرّح بعض أعضائه، فمن مصلحة الشعب العراقي أن يكون هذا الهدف صادقاً وأن يتبناه المجلس كلّه، وهو عند ذلك يتكامل مع المقاومة، وإن لم يكن بينهما تفاهم أو تنسيق. أما إذا قام هذا المجلس بدور حماية الاحتلال وتبرير وجوده وتغطية جرائمه، فهو يكرّس نفسه مجلساً عميلاً للمحتلّ، بأعماله وليس بقرار تعيينه.
خامساً: خلاصة الحكم الشرعي للمشاركة :
من الناحية الشرعية إنّ المشاركة في هذا المجلس لها زاويتان:
-الأولى: أنه مجلس معيّن من قبل المحتلّ، ويعمل في النهاية ضمن توجهاته. وطالما أنّ الاحتلال مرفوض فمن الطبيعي رفض جميع إفرازاته ومنها هذا المجلس.
-الثانية: أنه مجلس يتولى فعلاً إدارة الشأن العراقي لمدّة معيّنة، ومن الطبيعي أن يترك له الأمريكان صلاحيات واسعة في مجال الخدمات، بينما يبقى قراره السياسي خاضعاً لهم. ليس ممكناً الآن استبداله بمجلس منتخب من العراقيين. ومن هذه الزاوية فإنّ المشاركة في هذا المجلس قد تساهم في تسريع تأمين الخدمات، وقد يكون لها دور في تقوية الموقف السياسي الاستقلالي للمجلس، وفي تسريع خروج المحتلّ عن طريق الإسراع في وضع الدستور وإجراء الانتخابات.
لذلك نقول إذا كانت المشاركة في هذا المجلس تنطلق من الموالاة للقوات الأمريكية ضد مصالح الشعب العراقي، ومن الرغبة في بقاء الاحتلال، فهي غير مشروعة يقيناً، ولا أظنّ أنّ أحداً يخالف في هذا الموقف.
أما إذا كان قصد المشاركين أن ينوبوا عن شعبهم في انتزاع حقوقه من المحتل، وأن يخففوا من الأضرار الناتجة عن الاحتلال، وأن يقوموا بالخدمات التي يحتاجها الناس، وأن يشاركوا في وضع الدستور الجديد ليكون أكثر تعبيراً عن عقيدة الشعب العراقي وخصوصياته، فمشاركتهم جائزة بهذه النية، وهذا مقتضى كلام ابن تيمية في الذي (يتوسط بين الظالم والمظلوم ليخفف عن المظلوم ما يستطيع) وهو مقتضى كلام العز بن عبد السلام في (تولي الولايات تحت حكم الأعداء المحتلين) حرصاً على انتظام حياة المسلمين ومنعاً للفوضى بينهم، وهو مقتضى السياسة الشرعية التي تقوم أساساً على (درء المفاسد وتقليلها، وتحصيل المصالح وتكميلها) كما يقول ابن تيمية.
ولا أظنّ أنّ جواز المشاركة بهذه النية يمكن أن يعترض عليه أحد. لكن الاعتراض يرد عند الكثيرين لاعتقادهم أنّ هذه المشاركة إن وجدت فهي لن تؤدي إلى تحقيق المصالح المذكورة أو درء المفاسد المشار إليها. ولو تحقق شيء من ذلك فسيكون أقلّ بكثير من المفاسد الناتجة عن المشاركة. بينما يظن المشاركون ومؤيدوهم أنّ المشاركة يمكن أن تحقق كثيراً من المصالح وتدرأ كثيراً من المفاسد، وهذه في نظرهم أكبر بكثير من المفاسد الناتجة عن المشاركة.
عندما يكون الخلاف حول جدوى المشاركة، فمن الطبيعي أن يكون تقدير الإخوة العراقيين لظروفهم، هو الذي يملي عليهم مواقفهم، فأهل مكّة أدرى بشعابها، لكن ليس ضرورياً أن يكون تقديرهم صواباً، فقد يكونون متأثرين بنكبة الشعب العراقي غير المحتملة، أو بتسلط الطغمة الأمريكية الحاكمة على العالم بما فيه البلاد العربية والإسلامية. وثقتنا بعلمهم وإخلاصهم هي التي تجعلنا نفهم مبررات مشاركتهم في مجلس الحكم الانتقالي.
لكن انطلاقاً من هذه المبررات نفسها نجد من واجبنا أن نطالبهم بالانسحاب من هذا المجلس إذا لم يستطيعوا تحقيق مكاسب حقيقية للشعب العراقي. أو إذا أراد الاحتلال أن يتدخّل في صياغة النظام السياسي الجديد، أو في تقديم الخدمات المدنية للشعب العراقي، أو أراد أن يفرض على العراق نوعاً من أنواع التطبيع مع العدو الصهيوني أو الاعتراف بإسرائيل. أو مثل ذلك من المسائل الهامة التي تجعل المشاركة في هذا المجلس تبريراً لهذه الأعمال.
إنّ المشاركة في مجلس الحكم الانتقالي إذا حصلت من قبل بعض الإسلاميين لا يجوز أن تؤثر على الواجب الشرعي في مقاومة المحتل والسعي لإخراجه بكل الوسائل الممكنة، وهو فرض عين على جميع أبناء الشعب العراقي، كلّ بقدر استطاعته.
سادساً: إنشاء هيئة وطنية لحكم العراق :
وأخيراً فإنني أجد من المفيد أن أتقدم إلى جميع فعاليات وقيادات الشعب العراقي باقتراح تشكيل (هيئة وطنية لحكم العراق) تمثّل جميع القوى السياسية والدينية والقبائل والمناطق. إنه إذا أمكن إيجاد هذه الهيئة بمبادرة شعبية، فإنها ستفرض نفسها على الاحتلال، ويمكن أن يكون لها تأثير مهم في مسار المرحلة الانتقالية، وهي البديل الأفضل من مجلس الحكم الانتقالي.
الهوامش :
[1] الموافقات للشاطبي – الجزء الرابع – كتاب الاجتهاد– ص 140 وما بعدها/ دار الكتب العلمية – بيروت.
[2] الموسوعة الفقهية الكويتية نقلاً عن (حاشية الدسوقي 2/175 وجواهر الإكليل 1/252 والمغني 8/352 والمحلى 7/291).
[3] قواعد الأحكام للعزّ بن عبد السلام – مؤسسة الريان – بيروت – جـ1 ص 66.
[4] الفتاوى لابن تيمية: فصل تعارض الحسنات والسيئات.
[5] قواعد الأحكام للعزّ بن عبد السلام جـ1 ص 67.
[6] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 53.
--------------------------------------------------------------------------------
* المصدر: إسلام أون لاين.نت
أحب في الله من يبغضني في الله