الكاتب: حسن كامل الفضلي


المستضعفين



في آخر الزمان حيث تمتلئ الأرض ظلما وجورا، يمشي المستضعف في عرصات الظالمين بالمخافة! فإن تكلم أكلوه، وإن سكت عن حقه مات بغيظه! يذوب قلبه من جوفه كما يذوب الملحُ في الماء! مما يرى من الظلم والإجحاف بحقه فلا يستطيع أن يغيره..

أهل ذلك الزمان ذئاب، وسلاطينه سباع، وأوساطه أُكّالٌ للسحت، وفقراؤه المستضعفون أموات! يُمنع الرجل منهم عن حقه لذنب أبيه! فإن لم يكن له أب فلذنب زوجته! وإن لم يكن له زوجة فلذنب قرابته وجيرانه!

الفقير بينهم ذليل حقير، والمؤمن ضعيف صغير! الظالم عندهم معظم، والضعيف عندهم هالك! خالط الشيطان أبدانهم، ونفخ في منخرهم، ووسوس لهم بالظلم والعدوان، حتى ينادي المستضعف المسكين ربه نداء خفيا: ربّ إني من المستضعفين، فأخرجني من هذه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجعل لي من لدنك وليا واجعل لي من لدنك نصيرا...


كم يحزن الإنسان لرؤية الظالمين وهم معلنين بالإثم والطغيان ولا يستطيع أن يذودهم عن غياهب التيه وكواذب الآمال!

وليت شعري كيف يغصب الظالم شيئا من الحطام ويظلم أحدا من الناس وهو العالِم بأن أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة منتنة! مكتوم الأجل، محفوظ العمل، تؤلمه البقّة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة!

ألا يتفكر كل ظالم في عاقبة من كان قبله!

أين الذين قالوا: مَن أشَدُّ مِنّا قُوّةً وأعظَمُ جمعاً ؟! أين الفراعنة وأبناءُ الفراعنة ؟! أين مَن كان أطولَ أعماراً، وأعظمَ آثاراً؟! أين الملوكُ والأكاسرة ؟! أين العمالقة وأبناءُ العمالقة ؟!...

لا... بل أين المنصفون الذين قطعوا عنهم علائق الدنيا؟! أين الذين طلقوا الدنيا ثلاثا لا رجعة لهم فيها؟!

أين المتبرئون من الظلم عن ابن أبي طالب المنادي" وَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً ، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ ، وَ غَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ!"...

" وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا ، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ ، وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا!"..

" مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى"...

فأين العقول عن هذا؟! وأين يوجد مثل هذا؟!


فيا يَا دَهْرُ أفٍّ لك مِنْ خَليلْ.. كم أنت بخيل! هل عجزت أصلاب رجالك وأرحام نسائك من أن تهب للبؤساء الرازحين تحت الظلام علَماً يستضيئون بنوره يُظهر فيهم الحق، ويُخمد نيران الباطل بعدله كعلي؟!

أم أنك أيتها الدنيا أردت مجازاة علي لتطليقه إياك طلقة بائنة لا رجعة فيها فعمدت إلى المجهولين في الأرض والمعروفين في السماء فصببت عليهم جام غضبك وسلطت عليهم عبيدك فجعلوا عيشهم نكدا حقيرا!


أما والله لقد تعدى الظالمون الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون! راموا ترسيخ أركان عروشهم بأكل حقوق الفقراء وامتهان الكرامات، فلم يزدادوا إلا بعدا!

ولو علموا بما في قلوب هؤلاء المستضعفين من الخير والبركة لم يفعلوا بهم ذلك.. فصار مثلهم – أي المستضعفين – كمثل النحل في الطير ليس شيء من الطير إلا وهو يستضعفها، ولو علمت الطير بما في أجوافها من خالص رحيق الأزهار لم تفعل بها ذلك...

ولم تُخلّف أفعال الظالمين في قلوب الفقراء المستضعفين إلا الصبر على الشدة وطول المدة.. حتى ترسخت أشجار الشوق إلى تحقق وعد الله في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبة لقاء الأمل بمجامع قلوبهم، فهم إلى أنوار الخلاص يأوون، وفي رياض الانتظار يرتعون...

وشكواهم إلى الله... ونعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر الظالمون، ولا ينفعهم إذ يندمون...

وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ...