العلاقات التركية العراقية
العلاقات التركية العراقية عبر التاريخ وآخر التطورات
تقييم البروفيسور رمضان جوزان رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جانقايا
تتحقق اللقاءات الرفيعة المستوى والمتعددة الأطراف بازدياد كبير خلال العامين الأخيرين بين تركيا والعراق. فالى جانب تحقيق الزيارات الرسمية المتبادلة على مستوى رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء ووزراء الخارجية والدولة والاقتصاد والدبلوماسيين، تقوم الشركات الخاصة والمؤسسات التربوية ورجال الأعمال والعديد من ممثلي القطاع المدني أيضا بتطوير العلاقات فيما بينها. ومن الممكن ضم المباحثات الجارية بين موظفي وزارة الخارجية التركية والآخرين من الدولة وبين المجموعات العربية والسنية والشيعية والكردية في العراق الى هذه المسيرة. وتُعد خصوصا الاتصالات التي جرت خلال العام الأخير أي بدءا بزيارة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في شهر تموز/يوليو 2008 وامتدادا لزيارة كل من وزير الخارجية احمد داووداوغلو ووزير الدولة ظفر جاغلايان في شهر آب/أغسطس 2009 لبغداد هامة جدا. ان المباحثات التي أجراها كل من أردوغان وداوود اوغلو وجاغلايان مع المسؤولين العراقيين تمخضت عن نتائج ايجابية بشأن مستقبل العلاقات التركية- العراقية. هذا وان مجلس التعاون الاستراتيجي الأعلى الذي سيتشكل بهدف تطوير العلاقات وايجاد الحل للمشاكل القائمة بين البلدين يُعد من أحد هذه النتائج.
ان هذه التطورات تُظهر ان هناك مسيرة تسير باتجاه تطبيع العلاقات التركية – العراقية. حسنا ما الذي نقصده من التطبيع؟ لأجل الاجابة على هذا السؤال يتعين قبل كل شئ إلقاء نظرة على تاريخ العلاقات التركية – العراقية وطرح العوامل الرئيسية التي تلعب دورا في هذه العلاقات أمام الأنظار. ان هذه العوامل ستساعدنا على معرفة الماضي ورؤية المشاكل الحالية وتأسيس المستقبل من جديد.
عندما نلقى نظرة على تاريخ تركيا والعراق، نرى ان الدولتين أقامتا تعاونا وثيقا بشأن ثلاثة مواضيع منذ نيلهما استقلالهما ولغاية التسعينات. ان الموضوع الأول النابع من التاريخ المشترك ومن الجغرافيا والتشابه الاجتماعي ، هو التعاون ضد المجموعات الانفصالية الارهابية التي تهدد البلدين. والموضوع الثاني هو تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية. وقد تطورت العلاقات التجارية بين تركيا والعراق اعتبارا من السبعينات بشكل سريع للغاية. وأما الموضوع الثالث فهو حاجة البلدين لبعضهما البعض بشأن المصادر الطبيعية التي تمتلكانهما وهما النفط بالنسبة للعراق والمياه بالنسبة لتركيا. قامت تركيا من خلال خط أنابيب النفط الذي أُنشأ بين كركوك ويومورتاليك بمساعدة العراق بشأن تصدير نفطه من جهة ولبّت من جهة اخرى حاجتها للنفط. كما ان العراق يقوم بتلبية احتياجاته الحيوية والزراعية من خلال استخدام مياه نهري دجلة والفرات النابعين من تركيا.
انقطعت العلاقات بين تركيا والعراق المرتبطتان ببعضهما الى هذا الحد بعد احتلال العراق للكويت عام 1990 وقيام تركيا بتطبيق الحظر على العراق في إطار قرارات مجلس الأمن الدولي. ان السياسة الخاطئة لنظام صدام حسين، لم تتسبب في خلق المصاعب بالنسبة للشعب العراقي فحسب، بل انها تسببت في خلق الصعوبات بالنسبة لعلاقات التعاون للعراق مع العالم برمته وبضمن ذلك تركيا أيضا.
وبناءا على ذلك سارت العلاقات التركية – العراقية في الفترة بين 1990-2001 في إطار قرارات مجلس الأمن الدولي. وبنتيجة الفراغ الحاصل في السلطة في شمال العراق، ازدادت المشاكل الأمنية التي تُقلق تركيا والعراق وقامت منظمة ب ك ك الارهابية بتكثيف اعتداءاتها ضد تركيا عبر شمال العراق. في غضون ذلك قام الأكراد العراقيون بفضل قوة المطرقة المتمركزة في تركيا بتعزيز حكمهم الذاتي. هذا ولم تمتلك أنقرة وبغداد خلال هذه المسيرة الصلاحية والقوة والفرصة من أجل مواصلة التعاون السابق. ان هذه البيئة التي كانت قد ساءت في التسعينات، ازدادت سوءا بعد قيام ادارة الرئيس الامريكي جورج بوش باحتلال العراق خلال شهر مارس/آذار 2003 والاطاحة بنظام صدام حسين، لأن الفراغ في السلطة ازداد بعد احتلال العراق بالاضافة الى ازدياد الصراعات بين المجموعات العراقية. في غضون ذلك تم طرح مشاريع بشأن تجزأة العراق وتأسيس دولة كردية في شمال العراق. وتكبدت المصالح التركية خلال هذه الفترة خسائر جسيمة. ولاسيما ان كلا من بوش والادارة الكردية غضا من جهة النظر عن العمليات التي تقوم بها منظمة ب ك ك الارهابية في العراق ولم تكافحا ضدها ، ومن جهة اخرى قاما بمنع العمليات التركية الموجهة ضد مخيمات هذه المنظمة الارهابية.
ان تركيا لم تكن الدولة الوحيدة التي شعرت بالقلق جراء الظروف السيئة بالعراق، بل ان كافة دول المنطقة كانت تحمل نفس القلق وانها سعت بين الحين والآخر للتدخل في هذا الأمر. وبينما ساءت الاوضاع في العراق خلال الفترة مابين 2005-2006، فان امريكا تكبدت خسائر عسكرية واقتصادية كبيرة ومُنيت بالفشل مثلما يشيرالى ذلك العديد من الخبراء أيضا.
وفي هذه النقطة، اضطرت ادارة بوش ومنظمات المجتمع المدني الامريكية الى القيام بتغيير سياستها بصدد موضوع العراق. وان احدى هذه التغييرات تتجسد في القرار المتخذ بشأن إعادة إعمار العراق وتطهير البلاد من كافة المنظمات الارهابية. وفي الحقيقة فان هذا القرار كان يدعم وجهة النظر التي تطرحها تركيا منذ أعوام. ولهذا السبب فان الرئيس بوش ورئيس الوزراء أردوغان وقعا في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2007 على اتفاقية الدعم الاستخباراتي ضد منظمة الارهاب ب ك ك. وكان هذا القرار يتضمن تكوين آلية ثلاثية تضم كلا من تركيا والعراق وامريكا من أجل تحقيق وحدة البلاد السياسية والوطنية وتحويل العراق الى بلد طبيعي. وبهذه الوسيلة بدأت فترة التطبيع في السياسة الامريكية ازاء العراق من جهة وفي العلاقات التركية – الامريكية من جهة اخرى.
وفي هذا الاطار اقتنعت واشنطن بشأن وجوب تقوية العلاقات التركية – العراقية من أجل تحقيق إعادة اعمار العراق. ان هذا الوضع وإن لم يكن مثلما كانت عليه الاوضاع قبل التسعينات، فانه جعل التعاون القريب منه أمرا لامفر منه بالنسبة للدولتين. فعلى سبيل المثال وعلى الرغم من حدوث تغيرات هامة مثل تولي الطالباني الكردي الأصل لمنصب الرئاسة في العراق، فان المصالح المشتركة بين البلدين متواصلة الى حد كبير. هذا وان تصفية منظمتي الارهاب ب ك ك وبيجاك والمنظمات الارهابية الاخرى التي تلحق الضرر بوحدة اراضي تركيا والعراق وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية لزيادة مستوى الرفاه واستخدام النفط والغاز الطبيعي والمياه لصالح البلدين هي التي تشكل صلب المسيرة المتجهة للتعاون والتطبيع في كافة المجالات.
يتعين في البدء الأخذ بنظر الاعتبار بهذه العوامل من أجل تطبيع العلاقات التركية – العراقية خلال الفترة الجديدة ومن ثم تخطي الخطوات المشتركة في هذا الصدد. وترد بين هذه الخطوات مواضيع تعزيز الديمقراطية في تركيا والعراق، وتحقيق الاستقرار في العراق بعد انسحاب القوات الامريكية وبلورة موقف العراق داخل التوازن في الشرق الاوسط. مستمعونا الاعزاء سنقيم هذه المواضيع والمواضيع الشبيهة الاخرى خلال برامجنا المقبلة.
المصدر