السلفية المرحلية في تكوين المجتمع الوهابي

د. محمد بنيعيش - 6 / 10 / 2009م - 5:37 م


يبدو أن طرح موضوع الوهابية على مستوى دراسة اجتماعية تلحظ الممارسة العلمية في الزمان والمكان للمتمذهبين بها ليس بالأمر الهين واليسير، لأنه يتطلب بحثاً ميدانياً وواقعياً لرصد آثار هذه المذهبية التي لم تكن مجرد مذهبية شخص أو عالم فقيه فقط، وإنما هي مذهبية شعب ومجتمع يكرّسها عقيدة وسلوكاً وسياسة في الداخل والخارج، وبذلك أصبحت تمثل حركة يساهم في تأسيس برامجها ومناهجها رجال الفقه والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك، ولهذا فهي عند دراستها تعرف تداخلاً وتشابكا موضوعيا يصعب فصل عناصرها عن بعضها البعض لأنها تعرف وصلة هامة بين التنظير والممارسة وبين فتاوى الفقه والسياسة.
ولقد كان الغالب على الباحثين ومازال الأمر على ما كان عليه أن تدرس الوهابية في حقل ضيق لا يخص سوى مؤسسها محمد بن عبد الوهاب النجدي وآرائه في دعوته إلى تصحيح العقيدة والالتزام بالسلفية حسب منظوره الخاص، ومن هنا فالأبحاث جلها تركزت على دور محمد بن عبد الوهاب، بتحليل موقفه العقدي ومحاربته لما يصطلح عليه بأهل البدع وتهديمه للأضرحة ومنع التوسل بالأولياء... وما إلى ذلك مما أصبح في عداد الابتذال النقدي والاصلاحي إن صح التعبير- بسبب تكرار هذا الموضوع في كل محفل وخطاب ومؤتمر بأسلوب سطحي وتقليدي إنتقادي معروف، ومن هنا فقد كان الرد على هذه الحركة أيضا من جنس طرحها المشهور، وتوالت الـآليف ما بين مؤيد للوهابيين وناقد لغيرهم، وما بين رافض للوهابيين ومؤيد لغيرهم وخاصة في هذا الباب الفقهي العقدي.
لكن هؤلاء وأولئك قد نسوا أو تناسوا أن الوهابية لم تكن مذهباً فكرياً أوعقدياً محض، وإنما هي حركة جعلت من توجهها العقدي والفقهي قاعدة للحكم والتصرف السلطوي، فأصبحت بهذا تتحمل مسؤولية مجتمعها في كل تصرفاته النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وذلك من خلال الاتفاق التأسيسي للدولة الوهابية الذي تم بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن مسعود، وهو اتفاق بين سلطة اللسان وسلطان السنان على صورة مشبوهة وذات خلفيات غامضة

أولا: الأسرة الوهابية بين التماسك ومؤشرات التفكك

في الواقع لا يمكن القول بأن هيكل الأسرة وبناءها في المجتمع الوهابي قد طرأ عليه تغيير جذري عام، كما أنه يجوز لنا القول بأن المدرسة الوهابية قد أدخلت عوائد هي قديمة في مصدرها، ولكنها بالنسبة للمجتمع الذي تولت أموره قد تبدو فيها بعض مظاهر الجدة، وذلك أن الوهابية لم تفرض نظرية جديدة أو تشريعا جديدا في مسألة الأحوال الشخصية والبناء الأسري، لأنها التزمت المذهب الحنبلي السني في اجتهاداته وهو بالتالي التزام بما ينص عليه ظاهرا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وحول هذا الموضوع يقول محمد بن عبد الوهاب في كتابه الهدية السنية ص 99 : " وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة في الفروع ولا ندعي الاجتهاد وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها ولا نقدم عليها قول أحد كائنا من كان" . فإذا لا شيء جديد أضيف إلى الساحة الاجتماعية المتعارف عليها، إلا أنه يبقى الأمر متعلقا بمدى الحفاظ على سلامة هذه الرابطة، ومدى الالتزام بتطبيق قواعد بنائها تطبيقا سليما وإدخال الثقة في نفوس الأفراد اتجاه عائلاتهم وزوجاتهم وأولادهم، وذلك بإقامة عقوبة الحدود على المخالفين للصراط القويم الذي تنص على اتباعه الشريعة الإسلامية كما استعرضته بإيجاز من قبل. إلا أن أهم ما يمكن تسجيله بصفته الظاهرة البارزة في الوسط الاجتماعي الوهابي هو موضوع علاقة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية ومدى تطبيق مبدأ الفصل بينهما في باب المعاملات العامة.
فلقد درجت الوهابية في بادىء أمرها على تحريم أي اتصال بين الجنسين - الرجل والمرأة - غير ذوي المحارم وكان تطبيقها لهذا المبدأ صارما لا هوادة فيه، بحيث لم يعد أثر يسجل في الاختلاط بين الرجال والنساء، لغاية أنه كانت تقام مواسيم تجارية في الدرعية وغيرها كان يفرق فيها بين الرجال والنساء، فكان كل جنس يأخذ حيزه الخاص بالسوق لا يلتقي هؤلاء بأولئك. فيقول ابن بشر في هذا الموضوع :
" ولقد نظرت إلى موسمها - الدرعية - وأنا في مكان مرتفع - وهو في الموضع المعروف بالباطن، بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود، والمعروفة بالطريق وبين منازلها الشرقية المعروفة بالبحيري التي فيها أبناء الشيخ، ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب وما فيه من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام وكثرة ما يسمع من صفقة البيع والشراء" .
تلكم كانت حالة المرأة والرجل في المجتمع الوهابي آنذاك وهو الشيء الذي يكفل الأمان التام للعلاقات الأسرية ويبعدها عما يشوبها من ريب وشك بسبب الاختلاط والتبرج سبق وبينا سلبياته وخلفياته في كتابنا "حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي" وذلك بأسلوب علمي وموضوعي وبأبعاده النفسية والروحية، ومع ذلك فالوهابية أخذت موضوع الحجاب بشكل متشدد واعتمدت النقاب على عمومه كنموذج الطالبان فيما قبل بأفغانستان. وهذا ما ينقلب عكسا كليا حيث تواتي الفرصة للتغيير سواء الاجتماعي أو السياسي والمذهبي، لكن هذا الإطلاق في منع اتصال الرجل بالمرأة الأجنبية أيا كان نوع هذا الاتصال قد تغير بشكل مثير ومضطرب، وذلك بسبب إدخال المرأة في كثير من المرافق العامة وخاصة في ميدان التعليم، الذي اضطرت بموجبه المرأة أن تقابل الرجل وتتحادث معه، ولكن في إطار محدد لا يخرج بها عن الصفة الشرعية ظاهريا، والشيء الذي يمكن إدراجه في موضوع التغير الذي يهم الجانب الأسري هو العادات التي طرأت على بعض المظاهر التي يتم بموجبها الزواج والتغير الذي حصل في الوظائف التي كان ينبغي أن يقوم بها كل عضو في الأسرة.
فالزواج كان وقد بقي أغلبه يتم في سن مبكرة، وهذا السن الغالب فيه يكون بالنسبة للبنت 13-14 من العمر وبالنسبة للولد 15-16 سنة، كان كل ذلك بعد ظهور الحركة الوهابية طبعا. ولقد كان هذا الزواج يتم دون أن يرى الزوج زوجته ولا أن يلحظها اللحظة المنصوص عليها شرعا، وهذه الحالة كان الغالب سريانها في الحاضرة أما في البوادي فقد كانت هناك بعض الظروف ميسرة للرجل في أن يسترق النظر إلى من يريد التزوج بها نظرا لأن الفتيات كن يقمن بعمل الزرع والحطب وكذلك الرعي خارج منازلهن . وهذا الحاجز الذي كان يحول بين رؤية الشاب أو الراغب في الزواج لمن يريد التزوج بها هو في حد ذاته تغيير أحدثته المدرسة الوهابية في مجتمعها بسبب منع الاختلاط منعا كليا، وكان من نتيجته أن برز دور الوسيط في تحقيق الزواج، وأصبح تدخل الأبوين جوهريا في اختيار الزوجة لابنهما، فكان يقوم بهذا الدور طبعا، النساء فيما بينهن .
ولقد استمر هذا الوقار الاجتماعي في الوسط الوهابي بنسبة لا بأس بها، من أهم مظاهره على سبيل المثال، أنه يوجد في كل منزل من منازل العائلات عندهم في القديم وحتى الآن بيت خاص للحريم وآخر للرجال .
أما فيما يتعلق بالمهور، فإن الأمر أصبح عسيرا ومعقدا، وذلك لارتفاع أثمانها بنسب عالية قد ترهق كاهل الطبقة الوسطى أو الضعيفة، وتعجزها عن الزواج بمن ترغب، ففي أول الأمر من ظهور الحركة الوهابية كانت المهور تسير سيرا عاديا . ولم تكن هناك عقبات في الزواج من هذه الناحية، إلا العادات التي كانت رائجة آنذاك، ولم تستطع المدرسة الوهابية إزاحتها لحد الآن ألا وهي عقبة الحسب أو الطبقة الاجتماعية التي ينتسب إليها كل من الزوج أو الزوجة ويبرز هذا قول إخباري من "سيت تنومة" وهي قرية سعودية "إذا كانت عائلة الفتاة كبيرة عريقة فهي تختار من يناسبها. ولا يستطيع كل شاب خطبتها إلا شاب مساو لها في المكانة والمنزلة أو يعلو عنها في ذلك" .
ولقد برزت ظاهرة ارتفاع المهور بوضوح في عهد الملك عبد العزيز مما دعاه إلى تحديدها في نجد، بمائة ريال حتى يسهل الزواج لكل الناس. وهذا يدخل ضمن أعماله الإصلاحية الاجتماعية. إلا أن المجتمع آنذاك لم يلتزم هذا التحديد فبقي التضارب على أثمان المهور قائما سواء من طرف الموجب أو القابل، باستثناء المنطقة البدوية التي بقيت نوعا ما محتفظة بالنسبة العادية لأثمان المهور .
وهذا الارتفاع في المهور كان بمثابة رد فعل قوي على التلاعب بالعلاقات الزوجية، الذي بدأ صدوره عمن يغرهم المال ويؤثر في أخلاقهم البذخ والترف. فكان هذا الرد من طرف الأولياء يهدف للحفاظ على مستقبل بناتهم أو مولياتهم وردع كل من تسول له نفسه الإسراع بالطلاق أو إحراج زوجته الأولى بالتزوج عليها.
وفعلا لوحظ بروز ظاهرة الطلاق بكثرة في المجتمع الوهابي وعزي سببه حسب ما افترضه الإخباريون الاجتماعيون - إلى ازدياد موجة الثراء الذي سببه البترول. والنزوع إلى تعدد الزوجات بسبب هذا الثراء لغاية أن اعتبر كثير من علمائهم كتبرير أو تقرير بأن التعدد هو الأصل في الزواج والواحدة هي الاستثناء، وعلى هذا فالطلاق الجاري هناك ملاحظ كثيرا بين الأمراء والأغنياء وشيوخ البوادي. كما يلاحظ نقصه عند الفقراء بالضرورة نظرا لعدم تمكنهم من استبدال زوج بآخر!.
وحول هذه المسألة فقد كان لي سجال مع علماء الوهابية عبر جريدة المسلمون قبيل حرب الخليج الثانية ،إذ طلعت عليهم بموقف واضح حول التعدد وهو اعتبار أن الأصل في الزواج هو الواحدة والتعدد استثناء من لدن آدم وحواء حتى سيرة نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وزواج السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه،وذلك من غير إلغاء لحكم جواز التعدد شرعا، على عكس ما كانوا يروجون له في جرائدهم ومنابرهم باعتبارهم أن الأصل هو التعدد والواحدة هو الاستثناء.وقد كنت فاجأتهم بأدلة من القرآن الكريم ومن عمق السنة النبوية الشريفة وتطبيقاتها، حتى وصل الأمر بطرح المسألة على مؤتمر وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية بجدة و الذين خرجوا بموقف وهو :أن الأصل في الزواج هو جواز التعدد.وبهذا فلم يقدموا أي حل للمشكلة التي طرحها علماء الخليج ودافع عنها أغلبهم من بينهم العلامة سيد سابق ودرويش جنينة ولم لا محمد الغزالي وغيره لا أتذكر أسماءهم،بل ضمنيا بقي موقفي هو المطروح والذي سيؤيده بعض علماء المغرب باحتشام فيما بعد حمي السجال وطول مدة بروز الجدل الفقهي عبر الجرائد،في حين كانت ردود المعلقين كما هو الشأن في الجرائد الإلكترونية من أسوأ الردود والانتقال من المسألة العلمية إلى الشخص كتعبير عن ضعق المستوى الأخلاقي والسلوكي عند الشريحة العامة من المتسلفة تجاه من يخالفهم الرأي.
فمسألة التركيز على تعدد الزوجات واستخراج الفتاوى الشاذة لتكريس توجه ذوي الثراء فيما يتعلق بموضوع الشهوات لهي المفارقة بعينها والتناقض بين مزاعم السلفية وزعمائها التاريخيين كما أنها قد تلتقي بوجه أو آخر مع تركيز الشيعة على زواج المتعة بعدما حرمته الشريعة الإسلامية بالنص الناسخ والواضح الدلالة.
تتجلى المفارقة في أن زعيم السلفية التاريخية وهو ابن تيمية نفسه لم يكن متزوجا ،وهذه نقطة سوداء في سيرته الذاتية ومخالفة لمنهج السلف الصالح في اقتدائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم عند قوله :"سنتي النكاح ومن رغب عن سنتي فليس مني"،وبهذا فقد كان ابن تيمية ناقص الدين وناقص العاطفة والمودة وهو ما سينعكس على أتباعه وذلك بالنص الشرعي أيضا حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من تزوج فقد أكمل نصف دينه فليتق الله في نصفه الآخر".إذن فابن تيمية من هذا الجانب محجوج ومدخول وقد أتى شذوذا اجتماعيا انعكس على أتباعه إما بالإفراط أو التفريط ، والناس بحسب قدوتهم وشيوخهم وأساتذتهم وخاصة العامة.ولقد توفيت زوجة أحد أقاربي وتركت له بناتا وبقي مدة من غير زواج .فقلت له، رحمة به، لم لا تتزوج بامرأة تجمعك وتجمع عليك بناتك؟فأجابني للتو بالرفض ومعللا موقفه بأن ابن تيمية لم يتزوج !فقلت له :هل أنت تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم أم بابن تيمية،وما دخل ابن تيمية في هذه المسألة ولربما قد كان يعاني من مرض نفسي أو جسمي وغيره فتتبعه أنت فتهلك.حينئذ وبعد إصرار تزوج وحسنت أحواله...أريد أن أقول بأن متسلفة عصرنا لا هم تابعون لابن تيمية ولا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا لأخلاق العشرة الزوجية وحرمة الزواج في تصورهم للتعدد وحكم الطلاق .بحيث قد تصلنا أخبار مسيئة لمفهوم الزواج في الإسلام عن مثل هؤلاء الشهويين الملتحين، لغاية أن بعضهم قد أصبح شغله الشاغل هو إجراء العمليات الحسابية في حياته الأسرية : يتزوج أربعة نسوة كتعدد وهو ينوي تطليق الرابعة ليجدد العدد المشروع بعدما أقصى الخامسة وهكذا ،وتحت مبرر شرعية التعدد حسب تصوره،حتى لقد أصبحت حياته اليومية كلها تتمحور بين الجمع والطرح والضرب للنساء حينما لا يتم الامتثال ، فهو قد يجمع الأربعة ثم يطرح الرابعة ثم يضيف الخامسة وفي الأخير يضربهن جميعا إذا لم يمتثلوا لأوامره ونزواته .حتى قد وصل الأمر بالبعض إلى دفع إحدى زوجاته أو كلتيهما لكي تخطبان له زوجة أخرى حتى يرضى عنها أو عنهما وتدخل أو تدخلان الجنة بهذا العمل، كما قد يلجـأون إلى ما يسمى بالزواج العرفي وتحت إشهاد زائف خارج الجماعة والقانون والدولة وتحت مزاعم الأخوة في الدين(يا أخي ويا أختاه) وتوهم عدالة الرجال الكثيفي اللحية وذوي البقعة السوداء على الجباه لإظهار أثر السجود المصنوع والمراءى به...وذلك لتخليص مكبوتاتهم بعدما قيدهم القانون ومدونات الأسرة بالتزام ما يجب التزامه شرعا، وهذا ما تفطنت له الدولة المغربية وأصدرت ضده قرارا بعدم الاعتراف بشرعية هذا الزواج وما يترتب عنه من ولادة بعد انتهاء مهلة التسجيل في سجل القضاء ودفتر الحالة المدنية ،وفي هذا الإجراء قد يلتقي هؤلاء بالشيعة في مسلكهم الشهوي الآخر من خلال زواج المتعة والتبديل المستمر للزوجات كبضاعة مزجاة وغير منضبطة روحيا وسلوكيا.
وبين هؤلاء وأولئك فقد يبقى الموقف الصوفي هو الأرقى والأجمل في صياغة البناء الأسري والوعي بمسؤولية الزواج واعتبار المرأة مرآة الوجود ومسرحا للتأمل واعتبار التوحيد وتزكية النفس .بحيث أن الصوفي في زواجه حينما يتزوج لا يتزوج إلا لله وحينما يبقى عزبا أو يعدد فهو للسبب نفسه ،ومن مبادئه أنه لا يتزوج حتى يكون رجلا بمفهوم الرجولة الحقيقية والسلوكية وليس فحولة البهائم كما يصور الكثير علاقة الرجل بالمرأة عند الزواج. فقد قيل لصوفي لماذا لم تتزوج فقال :لا أتزوج حتى أكون رجلا والمرأة تحتاج إلى رجل !.ومن مظاهر الرجولة عندهم هو عدم الطلاق لأتفه الأسباب ولمجرد كراهية شهوية ونحوها وذلك لوعيهم بأن الطلاق مما يبغضه الله ومن حام حول ما يبغضه الله وقع بنفسه في بغض الله له،فقد ذكر الغزالي في كتاب الإحياء أن صوفيا تزوج امرأة فمرضت بالجدري بمجرد ما دخل بها فتظاهر هذا الصوفي حينئذ بالعمى لمدة عشرين سنة حتى توفيت ثم أظهر بصره فقيل له في ذلك فأجابهم بأنه فعل هذا حتى لا يشعر زوجته بأنها عالة عليه وأن عشرته لها قائمة على مجرد الشفقة !إنها أخلاق عالية ينبغي أن تتربى عليها البشرية في تحديد تعاملها الأسري وسعادتها الزوجية...








ثانيا:النمط الـتعـليمي وواقع المرأة المتأرجح

إن أهم ميدان حدث فيه التغير الواضح وبصورة مفتعلة هو ميدان التعليم في الحركة الوهابية، ولئن كانت سرعة هذا التغير قد تباطأت شيئا ما في الأساليب المتبعة في التعليم، إلا أنه كان من أوله تغيرا جذريا عميقا سواء في أهدافه ومواده.
فقد كان التعليم قبل الحركة الوهابية يسير على أسلوب قديم متوارث على نحو ما كان سائدا في باقي أرجاء الجزيرة العربية وعلى ما كانت عليه أغلب القرى العربية آنذاك ينحصر في تلقين العلوم الشرعية واللغوية، كالنحو والصرف...الخ. ولقد بقي هذا الأسلوب أو هذا المنهج متبعا حتى بعد التواجد الوهابي، لغاية منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، بحيث أخذت تظهر نماذج ومناهج جديدة على الساحة التعليمية . غير أن الشيء الذي طرأ جديدا بظهور الحركة الوهابية واستقرارها كان يتمثل في الإقبال الكبير على تعليم العلوم الشرعية في كل المناطق التي تنتمي للنفوذ الوهابي، بحيث كانت في كل واحة مدرسة تقريبا، وفي كل قرية بدوية عدد من المعلمين ، وكان المسجد هو المدرسة المركزية للتعليم والتدريس، فكان الإمام للصلاة هو الذي يتولى هذه المهمة، فبعدما ينتهي من الصلاة يجتمع إليه الناس فيلقنهم دروسا في التفسير والحديث...الخ، وكان الطلاب يقسمون إلى أفواج حسب السن، ومن المسجد كان يتخرج الدعاة والقضاة وأهل العلم المفتون...الخ .
فالدعوة الوهابية أحدثت حركة علمية مذهبية بارزة بمنطقة نجد وخارجها، بحيث نشرت المذهب الحنبلي بقوة وساهمت في القضاء حسب زعم الوهابية على البدع والانحرافات التي أصابت بعض الناس في عقائدهم كما رأينا قبل، فكانت بهذا قد قامت بعملين متكاملين ومتمازجين، هما الإصلاح الديني بالأسلوب التعليمي الهادف .
هذا، ولم يكن للمرأة نصيب يذكر من التعليم في المجتمع الوهابي، بحيث بقي دورها ونشاطها مقتصرا على التفرغ للأعمال المنزلية وخدمة الأسرة ومحاولة إتقان الطبخ والتأثيث، وتربية الأطفال كما كان الشأن في باقي أنحاء الجزيرة العربية، وهذا داخل في زاوية التشدد المبالغ فيه اتجاه المرأة، فكانت على العموم لا تملك تعلما منظما أو معمقا. وإنما كان يكفيها أن تحفظ بعض الآيات القرآنية بمعزل عن الكتابة، وهذه الصفة كانت هي الغالب الأغلب على المرأة آنذاك، بل بقي الأمر هكذا حتى عهود متأخرة جدا ، وهو ما شخصته حركة طالبان في أفغانستان باعتبارها نسخة أصلية للوهابية!.
وبقيام الدولة السعودية في القرن العشرين عرف قطاع التعليم تطورا هاما، تزداد نسبه بازدياد السنين بقدر اهتمام المسؤولين بهذا القطاع وعلى رأسهم الملك فيصل بن عبد العزيز، يليه بعد ذلك خلفه في حكم البلاد بحيث برزت مظاهر هذا التطور في شتى المجالات كما وكيفا.
فبعدما كان عدد الطلبة سنة 1925م يساوي صفرا، أصبح في بداية السبعينات يتجاوز النصف مليونا يليه عدد المدارس التي أنشئت، والذي بلغ 2500 مدرسة، وأبرز حادث يسجل في ميدان تطور التعليم وتغير نظرة المجتمع إليه، هو افتتاح معاهد للبنات لتعليمهن، بلغ عددها نحو 400 مدرسة ومعهد لا تقتصر بهن على تعلم القراءة والكتابة كما كان قبل، وإنما ييسر لهن الترقي لغاية الدراسات العليا في الجامعات .
وهكذا أخذنا نرى تراجعا في فقه علماء نجد، وتعقلا أكثر وليونة في النظر إلى الأمور الشائكة، والتي تحتاج إلى نوع من التؤدة للحكم بإجازتها أو منعها، بحيث أخذنا نرى اجتماعات يقيمها العلماء والشيوخ الوهابيون يتطرقون فيها إلى مشاكل الحياة الاجتماعية ويصدرون الفتاوى في أمورها؛ أنقل نصا عن مجلة العربي جاء فيه على لسان العلماء الوهابيين :
" إن تعليم الفتاة أصبح أمرا ضروريا لأن الظروف تتطلب ذلك، وتعليم الفتاة في حد ذاته أمر طيب وجميل إذا تحرر من قيود العادات الغربية أو حافظ على عاداتنا وتقاليدنا الدينية " .
وهذه الرخصة التي أعطيت للفتاة من أجل التعليم والنهل من المعرفة، كان الغالب على اتجاهها دراسة العلوم الدينية والتعرف على الحضارة الإسلامية والتكوين النظري الذي يتماشى مع العقيدة الإسلامية ويقف عند حدود الشريعة بحسب الفهم الوهابي ومذهبيته.
فكانت الحيطة دائمة في أمر تعليم البنات والمراقبة جد شديدة لما يلقن من علوم. وهذا ما يعبر عنه أحد العلماء الوهابيين وهو الشيخ عبد العزيز المسند في رابطة العالم الإسلامي بقوله :
" وإذا كانت الحاجة قد دعت المملكة إلى اتساع نطاق تعليم البنات، فإن اللجنة تؤكد ضرورة اهتمام المسؤولين عن هذا التعليم بمراقبة سيره، مراقبة دقيقة وأخذ كل بادرة من بوادر الشر في صفوف الطالبات والمعلمات بحزم وشدة حتى يظل سير التعليم في نهجه المستقيم، وأهدافه المرسومة"
وهكذا أدخلت الفتاة الوهابية المختبر، وأخذت تجري التحليلات والدراسات العلمية التجريبية، على النمط الحديث، خاصة في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز .
وقد أثيرت مسألة عدم تعميم الشعب عند البنات، وأسباب الإنضباط السلوكي الذي تمتاز به الفتاة السعودية المتعلمة في سؤال وجهه أحد الطلاب المتتبعين للدراسة في الخارج إلى الملك فهد منذ عهد قريب فكان جوابه :
أن العبرة في ذلك هو التحفظ الذي اتخذته الفتيات في اختيار بعض الشعب دون بعض إدراكا منهن بعدم ضرورة بعضها بالنسبة للمرأة وعدم لياقتها بها، مثل لذلك بهندسة الطرقات والمباني وهندسة الزراعة وغيرها من المهن التي تعرض بالضرورة المرأة إلى مخالطة الرجال والاحتكاك بهم ومشاكستهم .
وعلى هذا، فالمرأة في المجتمع الوهابي لم تعد عليها قيود حول تعلمها إلا بما تفرضه عليها بنيتها الأنثوية، والتي لا تسمح لها باقتحام بعض الميادين.
وعموما، فإن التعليم في المجتمع الوهابي لم يعد يقتصر على تدريس المذهب الحنبلي أو الفقه التيمي والجوزي كما كان قبل، وإنما أخذ طورا أوسع وتعددت شعبه بفعل النهضة التي أحدثها الأمراء السعوديون في مجال التعليم، بغية السير بالبلاد لمواكبة القافلة العالمية من حيث التطور المدني. فدخل في برامجه التعليم الصناعي والتجاري والزراعي كما أدخلت مواد الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلم النفس... ولم يقص من الدراسة إلا علم الكلام وعلم التصوف وذلك لما للوهابية من خصومة باطنية ومذهبية رافضة لهذين العلمين الجوهريين من العلوم الإسلامية الرفيعة. لغاية أنهم يقبلون التحاور في منتدياتهم وقنواتهم مع جميع الفئات وأهل الملل والنحل سواء كانوا مسلمين أو حتى علمانيين وغير متدينين إلا أن يحاوروا ويستضيفوا أهل التصوف وعلماء التوحيد على المذهب الأشعري أو مذهب أهل السنة كما كان يصطلح عليه فيما قبل وهذا ما يعبر عن سوء نوايا الوهابية وفرارها من مراجعة الذات وتصفية الباطن وإحياء الوجدان! لغاية أنهم قد يسعون إلى حجب بعض المواقع الصوفية في الأنترنيت عن البث في المناطق التي يحكمون فيها!الخ . كما قدم أضيف تعليم الوقاية المدنية للبنات بعد كارثة الحريق الذي ذهب ضحيته مؤخرا عدد من بنات مدرسة لم يستطع الرجال إنقاذهن بزعم عدم جواز ذلك حسب فهم الوهابية! وضيق أفق فهمهم للحجاب وشروطه وضروراته وأحواله!، رغم أنه يوجد في صحيح البخاري باب مداواة النساء للرجال. وقد يكون العكس عند الضرورة والتعين كما فصلناه في كتاب "حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي"، ولقد كثرت الاختصاصات بنسبة مثيرة فأصبح عدد الكليات بالبلاد 60 كلية تضم 400 تخصص ويدرس فيها حوالي 75000 طالب وطالبة كما أن عدد المدارس الثانوية والإبتدائية قد عرف تطورا كبيرا بحيث أصبح عددها حاليا يصل إلى أكثر من 13900 مدرسة، يدرس فيها مليون وثمانمائة ألف طالب وطالبة ، ومما يبرز بشكل أكثر عمق هذا التطور الحاصل في مجال التعليم هو المعدلات المالية المخصصة من أجله وتفاوتها صعدا :
فبينما كانت ميزانية التعليم سنة 1960 تساوي 15800100 ريال أصبحت في سنة 1970 تبلغ 587442207 ريال ثم قفزت قفزة كبرى سنة 1981 - 1982 إلى 25823289000 ريال أما في سنة 1984 - 1985 ارتفع مقدار الميزانية المخصصة للتعليم إلى (30460) مليون ريال .
كان هذا هو أهم ما وصل إليه التعليم في المجتمع الوهابي باطراد متفاوت كما ونوعا وهو كما نرى يبين لنا عن تغير هائل في مجاله، وطرقه ومواده وبالتالي هو تغير المرتكز الأساسي للحياة الاجتماعية ألا وهو الثقافة والتربية والتعليم.