صحّة «السّيد» والنموذج
نادر المتروك

قبل قرابة الشّهر، دخل السّيد محمد حسين فضل الله المستشفى للعلاج بعد إصابته بأزمة صحّية. سرعان ما نشرت بعضُ المواقع خبرَ وفاة الرّجل، وكأنّ ثمّة منْ ينتظر رحيله بفارغ الصّبر! لم تكن أكثر تلك المواقع محسوبة على تلك القائمة السّوداء المتمثلة في جماعات التكفير والتضليل سيئة الصّيت ''وهي بالمناسبة ''الجماعات'' المنتشية هذه الأيّام بعناوين الجهاد والقتال في سبيل الله، وكأنها اكتشفت الجهاد توّاً''، كما لم يذع إشاعة وفاة ''السّيد'' أولئك الذين يجاهدون من دون كلَل لإثبات ضلاله وخروجه عن ''مذهب الحقّ''.. لقد اشتغل على الإشاعة منْ يُحْسب على خطوط ليبراليّة معيّنة، ولكنها لا تجد نفاذها الطبيعي إلاّ في ظلّ تلك الرّزمة من اللّيبراليّة ''المذهبيّة'' المؤدلجة. يجد كثير من الليبراليين ودعاة التنوير والعقلانيّة ارتياحاً من فكر فضل الله وخطابه، ولكن الليبراليين المنخرطين في المشاريع الضّيقة، والشّعارات المخنوقة والخانقة.. ينزعجون بشدّةٍ من ذلك الفكر وصاحبه، وذلك لأنّهم يرون فيما يطرح ويُمارس تفضيحاً لهم وإنزالاً للأقنعة السّميكة التي تُخفي زيْف شعار الحياد والموضوعيّة واستقلاليّة الرأي والتفكير. للأسف الشديد؛ أولئك الذين لن يحزنوا - لا سمح الله - لوفاة السّيد فضل الله ليسوا قلّة، والدّليل على ذلك زيادة ''أحجام'' الطفيليات الطائفيّة، وانتشار الاعتقادات الموروثة وتحريم نقدها ومراجعتها، وتضخّم العلاقات المصلحيّة بين القوى الدينيّة والقوى ''الليبراليّة'' من جهة، والنّظم والسلطات السّائدة في العالم العربي والإسلامي.
من المُخيف أنّ نموذج السّيد فضل الله عربي ليس مكتملاً بعد. فليس هناك منْ يبلغ مرتبته المرجعيّة ممن يُعبّر عن نفس المدرسة والاتجاه الفكري والفقهي. قد يكون هناك الكثيرون في إيران، ولكن بعد رحيل السيد محمد باقر الصّدر ''''1980 والشّيخ محمد مهدي شمس الدّين ''..''2002 قد يكون فضل الله هو المرجع الوحيد من العالم العربي الذي يُعبّر عن المدرسة الإصلاحيّة ''الشّيعيّة'' بكلّ وضوح وجرأة وشموليّة. هناك علماء عرب كُثر على هذا المسار، في لبنان والعراق والخليج العربي والمغرب.. ولكن العُرف الشّيعي يقضي بأن يكون المرء متحصّلاً على أعلى المراتب العلميّة ''الاجتهاد الفقهي.. فمرجعية التقليد'' لكي يحظى بتلك القوّة المعنوية والاجتماعيّة، وبتلك الخاصيّة الرّمزيّة الموصولة بخط الإمام المعصوم. لا مجال هنا لزرْع اليأس، فالوضع حتى الآن شبه طبيعي من الناحية التاريخيّة، ولم تكن أمور الإصلاحيين في يومٍ من الأيّام بأفضل حال من واقع اليوم.
يعاني الإصلاحيّون دائماً من عقبتين، الأولى تأتي من الأتباع السّذج، والثانية يتسبّب بها الأعداءُ الأذكياء. وإضافة إلى هاتين العقبتين، واجَهت السّيد فضل الله عقبة ثالثة، قد لا يتحمّل هو شخصياً مسؤوليتها وإنْ حمِل جزءاً من تبعاتها، وهي عقبة الطلبة المروّجين. الفكر الإصلاحي يحتاج دوماً إلى عقل نقدي، وقدرة خلاّقة على مواجهة القديم بالجديد، والخروج بأنساق ومرجعيّات وآليات مبتكرة، وكلّ ذلك يترهّل فيما لو تلقّف التلميذ إبداعات أستاذه وإصلاحاته بروح الترويج. الترويج غيرُ الترحيب والتأييد والقبول. الترويجُ يُرسّخ ذهنية الاستلاب، وتجميد الفكر، والانغماس في الدّعاية بدلاً من التمحيص والترميم وإعادة البناء. الترويج يسحب المرء رويداً رويدا إلى حيث الشّعارات والألقاب الكبيرة، إلى أن يصبح الانتقال إلى عتبةٍ أخرى أمراً عسيراً عليه، وقد يكون منبوذاَ بالنسبة إليه. في الخلاصة، الترويج لا يتناسب مع الإصلاح، وهو ضدّه، وكلّ المصلحين الذين رُوّجت أفكارهم وأعمالهم لم يُخدَموا الخدمة الصّحيحة، بل قد يكون ذلك أكبر ظلم يقع عليهم، أحياء كانوا أم أمواتاً.