 |
-
حــــــــــــب شــــــــــرقـــي
و بهدوء شهي, شهي جداً, تراخت تلك الجفون الزنبقية ببطء, ثم أطبقت الرموش الطويلة على مرفأ العين البحرية. لقد فعلت ذلك كله بإنسيابية دفعته إلى أحراش ذكريات أبعد من فيض الخيال, و كانت قد أسكرته تماما حينما فتحتهما من جديد لتلتمعان كأشعة قمر تنام فوق بحيرة حزينة. عيناها حجران مقدسان يعودان لحقبة منسية من الخوف, الحب, الأمل, الجنون, الحرب, الشعر, الفلسفة و ربما الأحلام الأشد غرابة في الكون كله! عيناها موج متلاطم من كل شيء, و لكن دكنة البحر هي الأوضح حقا, حتى أنه يجد صعوبة مضنية بتجنب ذكرى رائحته المائية الثقيلة. تابعت الإنصات صامتة حتى القفلة الختامية لسنوتة البيانو المتوحد, و الذي كانت تموجات أنغامه الخيالية تحرك الستائر مع الريح. حتى الستائر الصيفية تبدو, تحت شمس حزيران, أقل بياضا من بشرتها اللامعة!
أنتهت المقطوعة دون أن ينهي ذكراه للبحر, و قد ساد صمت من نوع لذيذ يذكر ببرودة ترافق أشهى أحلامنا عادة. تمتمت هي بخفوت لم يبدو بأنه قد ثلّم شيئا من زجاجية الصمت الرقيق:
- ضوء القمر... كيف توصلت قريحة هذا الرجل لشيء كهذا؟
بدد الصمت كلماتها و حولها لركام ريش أبيض, سرعان ما تطاير مع رياح الأطلسي الغاط بقيلولة هادئة, حيث تبعث أمواجه الكسولة على الرغبة بالتأمل. لم تحاول التحدث إليه من جديد, بل فضلت تأمل تقاطيع وجهه الساهم بدنيا الصمت. صمته هو. "إنه يحب الصمت على نحو غريب.. هل يستحسن أن أصف صمته بالغرابة حقا؟.. أنه غريب في كل شيء, و لو لم يكن غريبا لكان هذا هو الغريب بعينه.. هل أنا أهذي؟ ... أكره الهذيان بسببه, و لكنه يجبرني بقسوته الغريبة هي الأخرى". كانت تحدث ذاتها فيما تتجه للنافذة و تزيح ستارتها, و ذلك كي تتأمل العالم مخبأ خلف أثواب الأطلسي الذي لا تقل غرابة عنه. (يالصلته بالبحر), صعد الخاطر من وديانها و هي تعود لهذيانه المحموم دون أن تعلم. أبتلعت ريقها مستسلمة له ثم أغمضت عينيها ملتذة بالنسيم البحري, الذي يحرك شعرها الليلي بل سكينة, و قد أكتشفت بأن للنسيم طعم أنامله على عنقها بالضبط! كانت ماتزال مغمضة العينين حينما أدركت أن أصابع الهواء ليست دافئة و مرتجفة لهذه الدرجة, و أنها لا تستطيع أن ترسم على عنقها تلك الخوط السومرية التي تعذبها على نحو شهي. إن أنامله بالكاد لتلمس زغب عنقها الحريري, و هذا ما دفعها لحد الإنفجار و الإستدارة نحوه بعد أن نفدت أسلحة صبرها الأنثوي. لقد رأته واجما حقا و مخدرا برائحة الليل الرطب التي تفوح من مسامها, و تفضح خجلها الشرقي الساحر. حدثها و هو يشيح بوجهه عنها نحو الأطلسي و سمائه ذات الغيوم المتناثرة حول الأفق المحدَب:
- لا أفهم كيف بقيتي زوجتي رغم ماحدث؟! كان حريا بك أن تطلبي الطلاق, فكل شيء خاطيء و ...
لم يستطع أن يكمل جملته بعد أن وضعت باطن سبابتها الطرية على شفتيه, و همست بعد أن قاومت حرارة بشرته الرجالية اللاسعة:
= مازلت أحبك.. أيها القاسي كالبحر.
- ليس البحر قاسيا..
قالها بعد أن قبّلَ سبابتها بصمت. أما هي, و رغم رعدة قبلته التي سرت من سبابتها لأخمص قدميها, فقد فركت جبينها بحزن و صوبت عينيها لعينيه البنيتين:
= ربما.. لكنه يخيفني أحياناً... كان يجب أن تتصل بي حينما سجنوك.. أنا زوجتك.. هل نسيت؟
قالت ذلك بصوت خطفته الرغبة بالبكاء, ثم أخفضت رأسها بأسى, و لم تشعر بشيء سوى أنامله ترفعها من ذقنها الصغير. كانت تبكي بعذاب متشرب بالصمت كي لا تؤذيه. لقد فهم كل شيء و بحدس الرجل وحده, و سرعان ما مسحت أنامله خطوط دموعها اللامعة على وجنتيها و تأمل عينيها تحت ضوء لرابعة عصرا:
- عيناك أجمل من ذي قبل.
حاولت الإبتسام و لكنها أنفجرت باكية بصوت عصافير جريحة, الأمر الذي أرعد ركبتيه و أشعره بحالة غرق برمالٍ متحركة. ضمها إلى صدره و تمتم فيما أنامله تمشط شعرها ببطء مخدّر (لا تخافي مني مرة أخرى.. لن أؤذيك). أما هي, و رغم سعادتها بالبكاء أخيرا, فقد أرتاعت من خوف خضّ دمائها بأوردتها. كانت رغبة عنيفة بالموت على صدره, ذاك الذي يحمل رائحة عطر أقرب ماتكون لرائحة شعور متفائل. (هل للمشاعر رائحة ياترى؟) قالت ذلك و هي تستعد للنوم على صدره. أجابها بعد أن أسند بخده على رأسها ببطء و تمتم بفم النعاس: ربما... ففي أحيان كثيرة, يراودني شعور بأنني أتنفسك.
لقد بث صوته راحة ركبيتيها و أمدها بالشجاعة لتسأله بعد أن رفعت وجهها ذو الثلاثون عاما عن صدره:
- لقد أجرت هذه الغرفة بمبلغ طائل لتقابلني و لبحر معا.. هل تركت دراستك و تفرغت للعمل؟
= مؤقتاً..
قالها و هو يقودها نحو الشرفة حيث دعاها للجلوس على كرسيين قبالة الأطلسي, بينما أمسكت هي براحته دونما مقدمات و قالت بعد جلوسها:
- كيف صبرت على فراقي لستة أشهر؟
= هراء, لم نفترقك أبداً.
ضغطت على يده القمحية شاكرة, ثم أمسكت إبهامه بكل راحتها الصغيرة و تنهدت:
- هل آذوك هناك؟
= ليس كثيرا, و لكني سأرحل.
- الى هناك؟
لم يجبها بل ركز عينيه بوجهها الذي تهشم على بعضه حزنا, و قالت بصوت متوسل:
- إبقى أرجوك.. بضع سنوات و سنرحل معا
= محال فهذا ليس وطني
- و هل تظنه موطني؟ أنا عربية مثلك
= لا يهم.. بقائنا خاطيء رغم كل شيء
وجمت للحظة أسى محتار, ثم مسحت دمعة قد فارت من ميناء العين و قالت بلهجة متهدجة:
- أمازلت تعاني من فارق العمر؟ .. تبا لك .. تبا .. أنها ست سنوات فقط
هذا كل ما قالته ثم أنفجرت بعويل طفولي عنيد, و لقد بدى له نتيجة لقسوته الجليدية. حاول أن يمسح دموعها بوجه منكوب كعاشقين مراهقين و لكنه توقف, تأملها من الجانب الآخر و أتى صوته باردا:
= ربما أبدو لك طفلا..
- أبدا, من قال هذا؟ من؟
قالتها بلهجة متفجعة و هي تضرب براحتها على صدرها. تأمل أنفها المحمر بسبب البكاء و عاد للهجته الباردة:
= أنا قلت..
- لا, لا أصدق.. هل ابدو لك قبيحة؟
قالت ذلك و شبكت اصابعها الرفيعة بأصابعه ذات الشعر السبط.
= كفاك سخفا.. القضية بالعمر لا الشكل. أنها..
و لم يكمل إثر مقاطعتها الغاضبة:
- أنها أفكارك التي تنبع من جانب السيء اللعين.. لم تتغير ..
= كل ما أريده هو الرحيل
تأملته بجفون ملتهبة و قالت بغضب حقيقي هذه المرة:
- تبا لك.. لن ترحل وحدك
و نهضت على الفور لتلتقط الحجاب و قالت و هي لا ترى معالم وجهه جراء الغضب: سأحجز تذكرة معك. حاولت السير قدما بخطواتها الصغيرة المنفعلة إلا أنه جذبها من راحتها بهدوء, و قال كلماته التي لن يعيدها أبداك
= وطني ليس ككل الأوطان يا ليلى, فهناك يشنق الإنسان للتسلية و يحرق إن هو آمن برب العباد أو أنه رفض الرذيلة و الهوان. هناك, في أرض النفط و الدماء, تحطم الأقلام لكي لا تكتب عن وحدانية الله و جمال الفضيلة و عزة النفس. و هناك أيضا, يحتكر السلطان الدين و الرجال و النساء بمخابره الحكومية, ثم يبخر الجميع في دوارق ذات أنظمة حامضية دخيلة علينا, فيستعمرنا برصاصنا ذاته و يستعبدنا باسم الحرية و التطور. أنه يقبل حذاء الشيطان متذللا كي يبقيه حارسا للموت, و يستقوي بزناة الليل و ملاحدة الظلام كي ينال منا كل مناله.
- رباه أنه الجحيم..هل ستعود لمكان كهذا؟ أنها خطيئة
= بل يجب أن أعود, فلن يشنق الطاغوت مالم ندمي أكفنا بصنع المشنقة. و لذا أفضل أن ننفصل .. آسف لتخييب آمالك.
- أنت تحلم, قالتها ببسمة خفيفة و أوضحت: منذ طفولتي و أنا أحلم بالزواج من رجل يقطن غابة وحشية و هناك أكون حورائه, في الوقت الذي يكون لي فقط.. سأحتكره
ضحكت هي على كلمتها الأخيرة, أما هو فقد تأمل أسنانها الزنبقية و لثتها الوردية بشيء من الشهوة و قال:
= سنكون غرباء في الوطن عندها
- بلى, و لكن ليس إلى وقت طويل. سنبعث حضارتنا نحن و سيولد الإنسان الذي يؤمن بذاته هو و ليس بما يمليه الغزاة عليه.. لن نكون غرباء حينها
= ليلى
- روح ليلى
أجابته و هي تسند بخدها على كتفه, و كانت تخفي سحابة القلق التي فارت في عينيها و هي تنتظر قرارا صارما من قراراته المفاجئة. و لكنه تحدث بأغرب ما سمعته منه حتى ذلك الحين:
= أرغب بشرب دمك..
- ماذا؟
= أظن بأنه لذيذو و كل ما أخشى أن يحولني حبك لمخلوق يشرب دماء النساء
ضحكت كطفلة في الخامسة من عمرها و قالت بغنج و هي تقرصه من خده:
- النساء أم دمائي أنا وحدي؟ ثم أنني لم أعلم بأن البحر دموي كذلك؟
غمز بعينه بمهارة و همس بنبرته الباردة:
= أنك تجهلين الكثير إذن
- موافقة و لكن ليس الآن
= متى؟
- حينما نعود إلى الشرق
= أيتها الإنتهازية
قالها و هجم عليها يدغدها بخاصرتها و قد غصت من الضحك, و لم تعد تطيق أكثر فصرخت من شدة الضحك حتى أنه قفز مبتعدا عنها بخوف, و هذا ما ولد نوبة ضحك أخرى لها.
--------
22-10-2003
الثانية فجرا
أغمض عينيّ لأخلق واقعا جديدا, فيخطف الحزن بصري.
أحمد العربي
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |