هوامش نقل السلطة ـ تأملات في مواقف المرجعية الدينية بالعراق
د. عبد الزهرة البندر*
أكدت الوقائع والاحداث التي اعقبت سقوط النظام البعثي في العراق على يد قوات التحالف الدور الفاعل والمتميز الذي مارسته المرجعية الدينية الاسلامية، السنية والشيعية على مستوى الواقع الاجتماعي، وما اعقب ذلك الدور من افرازات مهمة ساهمت في تماسك الواقع الاجتماعي العراقي في مواجهة التحديات التي رافقت التغيير السياسي في العراق. ولقد خيب موقف المرجعية الدينية جميع الرهانات التي نظرت لمستقبل عراقي ممزق في حال غياب النظام السياسي السابق الذي اعتبره البعض الضمانة لوحدة العراق ارضا وشعبا.
وليس غريبا ان تؤدي المرجعية ذلك الاثر الايجابي على عموم الساحة الاجتماعية في العراق، فإن ذلك تأكيد على مدى ثقة الأمة بقيادتها الاسلامية، وبأنها صمام الامان في مواجهة التحديات المختلفة، وان هذا الاحساس يعتبر من الانجازات الاسلامية التي بلورتها العقيدة الاسلامية في علاقة الامة بالمرجعية والتي تمثل الامتداد الحقيقي لارتباط الجمهور الاسلامي بقيادته على خط طويل.

المرجعية والأمة

من الطبيعي القول ان علاقة الامة بمرجعياتها الدينية تتناسب طرديا مع الواقع الذي تجسده هذه المرجعية على المستوى الاسلامي وطبيعة التلاحم على مستوى الواقع الاجتماعي، ففي الوقت الذي تؤكد فيه المرجعية عنوانها الاسلامي وتعيش لمبدئها ورسالتها، وتحمل اهداف الأمة، فتعيش آلامها وآمالها وتضع الحلول لمشاكلها من وحي عقيدتها ورسالتها الاسلامية فان الأمة تبادلها ذلك الموقف بالمزيد من الالتفاف والتأييد والتحرك باتجاه تحقيق الاهداف المرسومة من قبل قيادتها الاسلامية. وقد عاشت امتنا هذه التجربة الرائدة في حياتها السياسية ابان الغزو البريطاني للعراق، فتحركت المرجعيات الدينية لمواجهة هذا الاحتلال واستطاعت دحره في ثورة العشرين من القرن الماضي التي أكدت فيها الأمة مدى التفافها حول القيادة الاسلامية التي نازلت القوة الهائلة للجيوش البريطانية بامكانات متواضعة جدا فاستطاعت ان تفشل المشروع العسكري البريطاني الذي جاءت من اجله، على الرغم من ان الثورة توقفت عند حدودها العسكرية ولم تستثمر نتائجها، الامر الذي ادى الى ضياع ثمرتها، وان تسير الامور في غير وجهتها وفق ظروف موضوعية لا مجال للخوض فيها.
كما ان التجربة ذاتها تكررت على يد المرجعية الاسلامية الشيعية في ايران اخريات القرن الماضي، واستطاعت قيادة الامام الراحل السيد الخميني ان تقود الامة في اكبر حدث اسلامي مثل زلزالا في المنطقة، كما صرح بذلك احد قادة اسرائيل.
ومهما يكن من امر فان المرجعية الاسلامية في العراق وبمختلف مؤسساتها مدعوة الى المراجعة المستمرة في تقويم علاقتها بالأمة، فالمنظور الاسلامي يؤكد ان موقع المرجعية ينبغي ان يكون في قلب الحدث وان تقود جماهيرها بمستوى الاحداث لا على هامشها، وان شبه الغياب الذي تعيشه المرجعية في بعض الاحداث والمواقف والقرارات قد يؤثر سلبا، ويعمل على توهين العلاقة بينها وبين الأمة، الامر الذي يشكل منفذا لاعداء الأمة في تأزيم العلاقة وبذلك خسارة حقيقية وتراجع كبير للواقع الاسلامي في حركة المجتمع.
بقيت هناك قضية اخرى يمكن اثارتها في هذا المجال تلك هي قضية الخطاب التربوي التوجيهي من قبل المرجعيات الاسلامية لجماهيرها في سبيل تحقيق اواصر الوحدة الاسلامية بين عموم ابناء الأمة وقد برهن الواقع الى الآن ان الخطاب المطروح في هذا المجال ما زال يحقق دوره في اوساط المجتمع، لكننا نخشى ان يعيش البعض حالة من الازدواجية في الخطاب، خطاب عام يحمل في بصماته دعوات الوحدة والتوحد بغية التواصل مع الآلاف على اساس الاستهلاك والمجاملة، وخطاب تربوي خاص ينمي مشاعر التباعد مع الآخر ويعمل على احياء المشروع الطائفي، وهو ما تسعى العديد من القوى في المنطقة على تحقيقه في واقع الساحة العراقية وهذا الامر سيجعل المؤسسة المرجعية الاسلامية في العراق على محك الاختبار.

المرجعية والاحتلال

احتلال العراق ـ كما يراه قادة الدول المحتلة ـ ليس من النوع الدائم المتعارف ـ فهو مرتبط بظروف طارئة مرهون بزوالها. هذان العاملان اديا الى التزام موقف من قبل المرجعية الاسلامية في العراق وتمثل في اصدار عدة بيانات ومواقف تمثلت في اعطاء الفرصة لقوات الاحتلال للتدليل على صدق نواياها، بشرط الالتزام الجاد بالعمل على نقل السيادة الحقيقية والعملية لسلطة عراقية تتمكن من تذليل الاعم الاغلب من الظروف التي تتذرع بها قوات الاحتلال في استمرار وجودها.
وقد تقدمت المرجعية الدينية في العراق بجملة مطالب مساهمة منها في تعجيل تحسين الواقع وازالة مظاهر الاحتلال من قبيل المشاركة الفعلية لجميع الفعاليات السياسية العاملة في العراق على اساس القدرة والكفاءة لبناء سلطة كفوءة قادرة على تجاوز التحديات وصياغة دستور دائم للبلاد يضمن الحقوق المشروعة لابناء الامة على اساس من الانتخاب الحر، النزيه.
لقد مثلت تلك المطالب مواقف جدية ازاء حالة الاحتلال فهي نوع من المقاومة وفق ظروفها الموضوعية القائمة، الا ان هناك اشكالية تطرح نفسها بقوة بين موقف المرجعية وظاهرة المواجهة المسلحة التي يمارسها البعض تحت شعار مقاومة الاحتلال. ونحن نعتقد بأن المقاومة المسلحة هي الرد الوحيد لانهاء حالة الاحتلال في حال تنصله عن التزاماته المعلنة التي قطعها على نفسه، وعليه فان الاختلاف مع الذين يمارسون المواجهة المسلحة لا يكمن في مشروعيتها الا اننا نختلف معهم في توقيتها وهو امر اشارت اليه المرجعية في العراق ونوهت على ضرورة ترحيل المشروع العسكري لحين التحقق من النوايا الاميركية ومن حالفها.
اضف الى ذلك فان المقاومة المسلحة لم تقتصر على مواجهة الاحتلال بما هو احتلال وانما امتدت لتطال ارواح الابرياء من ابناء الامة ورموزها والمؤسسات المدنية والحكومية، بحيث يمكن القول ان ما لحق بشعبنا من اذى وقتل ودمار على ايدي هؤلاء اكثر مما اضر بالمحتلين انفسهم.
صحيح ان القيادات الاسلامية استنكرت وادانت هذه الممارسات ورفضتها، الا ان من الصحيح القول ايضا ان ذلك الرفض جاء بطريقة خجولة من البعض مع صمت من البعض الآخر.
ان المطلوب في هذه الحال طرح الرأي الحازم في مواجهة مثل هذه الاساليب، كما يتطلب الامر الموقف الصريح والخطاب الشرعي الموحد من قبل المرجعية الاسلامية السنية والشيعية لقطع الطريق امام كل الاجتهادات الفردية والاهواء المتباينة. ان المرجعية اليوم مدعوة الى ممارسة موقف يؤدي الى كشف «مشاريع تصفية الحسابات» التي تمارس في ساحتنا العراقية والتي دفع ثمنها وما زال يدفع استحقاقاتها شعبنا المظلوم.

المرجعية والسلطة

ليست السلطة والحكم من الحالات الطارئة على مهام المرجعية الدينية، بل هي في صلب وظيفتها الشرعية وباعتبار الاسلام هو المكون الاساسي لعموم شعبنا العراقي فإن المرجعية معنية بالعمل على تحقيق الاهداف الاسلامية في واقع الامة، وفق نهج سياسي ومشروع حكم يأخذ بنظر الاعتبار الظروف الموضوعية التي تمر بها الامة. ومن الملاحظ هنا ان القيادات الاسلامية لا تريد فرض النظام الاسلامي بالقوة والاكراه وبطريقة الفتوى. فان ذلك خلاف النهج والخطاب الاسلامي، وانما تعمل المرجعية بالامكانات المتاحة لتهيئة الامة لاختيار ـ الاسلام بالطرق الديمقراطية وعلى اساس احترام رأي الامة في اختيار نظامها السياسي.
وبناء على هذه الرؤية فإن المرجعية الدينية في العراق تتعاطى مع الواقع السياسي والسلطة الحكومية على اساس تحقيق الاهداف التي تنشدها الامة في الواقع وقد لخص آية الله السيد السيستاني في بيانه الموجه الى السلطة في مرحلتها المؤقتة الثانية بضرورة العمل على تحقيق اربعة مطالب اساسية، هي السيادة الكاملة، الامن، الخدمات واجراء الانتخابات وهي امور تتوقف عليها مصداقية السلطة القائمة.. وقد يرى البعض ان التحرك والحوار مع النظام الحكومي قد يؤديان الى منحه الشرعية من الناحية الاسلامية، الا ان هذا التصور غير دقيق لأن التعامل مع الكيانات السياسية غير الاسلامية لا يعني شرعية تلك الكيانات، فإن الوقائع الشرعية والدراسة التاريخية لمواقف القيادة الاسلامية من الكيانات السياسية لا تساعد على انتزاع هذا المفهوم وينطبق هذا على اتباع مدرسة اهل البيت (ع) بشكل خاص، ويشاركهم في ذلك البعض من اتباع المذاهب الاخرى وفق تفاصيل لا مجال للخوض فيها هنا.
وبالجملة فإن تعامل المرجعية مع الكيان السياسي القائم لا يؤدي الى اضفاء الشرعية بقدر ما يحاول تحريك مؤسساته من اجل تغييره لصالح الحالة الاسلامية المطلوبة.
ومن هنا فلا بد للمؤسسة الاسلامية المتمثلة بالمرجعية في العراق من العمل على التوحد وفق طرح سياسي وبناء المشروع السياسي الاسلامي القادر على مواكبة التغييرات الاجتماعية في واقعنا المعاصر.

* باحث عراقي في الشؤون الإسلامية