سليم الحسني
تتمتع المرجعية الدينية بموقع اجتماعي وسياسي بالغ الأهمية. ولقد مارست ادوار خطيرة في حركة الاُمّة وصناعة الاحداث والمواقف، حيث شهدت الحياة السياسية تحولات كبيرة على مستوى الاُمّة والدولة صنعتها المرجعية القائدة، عبر توجيهاتها وفتواها التي اصدرتها في اوقات حساسة فكانت القول الفصل والحكم القاطع في مجريات الأحداث.
ان المكانة الإسلامية الكبيرة للمرجعية الدينية وموقعها الشرعي جعلها تتجاوز الأطر الرسمية للحكومات، وتتخطى الحواجز الاقليمية للدو، على اساس ان المقلدين في الغالب يتوزعون على اقاليم مختلفة. ويندر ان يكون هناك مرجع ديني اعلى لا يتجاوز مقلدوه حدود الجغرافية الاقليمية التي يعيش فيها.
وعلى هذا فان اتساع دائرة التقليد، تساهم في الغاء الفواصل الاقليمية من خلال ربط المسلمين بمراجع الدين. وهذا ما يتضح عملياً في المواقف الكبيرة التي يحدد فيها المراجع الموقف الجماهيري المطلوب عبر الفتوى أو الحكم. كما حدث مثلاً في فتوى الجهاد التي صدرت عن مراجع الدين في العراق عام 1914. فقد شملت العراق، مثلما شملت المناطق الاخرى التي تدخل ضمن دائرة محاربة الانكليز وحرمة التعاون معهم.
ان قدرة المرجعية على تخطي الحدود وفر لها امكانية قيادة حركات مهمة، وتوجيه احداث خطيرة خارج وسطها الاجتماعي، كما حدث في ثورة التنباك في ايران عام 1891م والتي فجرتها فتوى السيد محمد حسن الشيرازي من سامراء، وعلى اثرها اضطر ناصر الدين شاه إلى الغاء اتفاقه مع بريطانيا حول التبغ.
ومن هنا يمكن القول ان قوّة المرجعية انما هي متأتية من جانبها الشرعي الذي يفرض على المقلدين العمل وفقها.
ان المكانة التي تحتلها المرجعية في واقع الاُمّة، جعلها حقيقة كبيرة، فرضت نفسها على الواقع السياسي بكل قوّة. وراحت الحكومات تتعامل معها بحسابات دقيقة. وقد تحاشت السلطة في البلاد الإسلامية ـ وخاصة ذات الاغلبية الشيعية ـ ان تصطدم معها قدر الامكان خوفاً من تعرضها لثورة جماهيرية، رغم ان السلطات كانت تعمل على اضعافها وتقليل مكانتها السياسية. فالحكومات تنظر إلى المرجعية على انها سلطة ذات نفوذ على المسلمين اكثر من نفوذها الرسمي عليهم، بل ان سلطة الحكومة قد تتعطل إذا ما تعارضت مع موقف المرجعية. ولذلك شواهده التاريخية الكثيرة.
وتأسيساً على ذلك فان المرجعية اكتسبت تأثيرها الاجتماعي من موقعها الديني اولاً، واخذت اهميتها السياسية من قوّة الاُمّة بوصفها الرصيد الكبير للمرجعية ثانياً، على ان هذه الصورة تظهر وكان قوّة المرجعية محصلة اجتماع عنصرين اساسيين هما الدين والأمة، دون ان يكون لها دور ذاتي في صناعة قدرتها، فهل هي الحقيقة ام ان هناك تفسيراً آخر؟
لا شك ا ن الاجابة على هذا السؤال ذات اهمية خاصة، لانها تتولى مهمة تحديد عناصر القوة في المرجعية الدينية ومنشأ هذه القوة، ومن ثم طبيعة التحرك الذي تضطلع به، ومقوماتها في صناعته، وهي مسائل دقيقة في هذا الخصوص. ومن هنا فلابد من الاستناد إلى الارشيف التاريخي للحوزة العلمية في النجف وقم وغيرها من الجامعات الكبرى للدراسات الإسلامية عبر مراحله المختلفة، في محاولة الاجابة على السؤال الآنف، وفي المواقع التي تستلزم الحاجة العلمية الرجوع إلى التاريخ والاستشهاد بوقائعه.