 |
-
"المقاومة" في العراق... بديل عربي لتصدع النظام الأقليمي- حازم صاغية
"المقاومة" في العراق... بديل عربي لتصدع النظام الأقليمي
حازم الأمين الحياة 2004/08/9
الكلام على ان النظام العراقي السابق كان أقام نظام حماية اقليمي اهلي وسياسي يجد اليوم ما يؤكده, مع تعديلات طفيفة تتمثل في ان نظام الحماية هذا لا يستمد قوته وفاعليته من انواع الدعم المادي التي كان يقدمها النظام فحسب, وإنما ايضاً من تلك المعادلة الدقيقة والهشة التي على اساسها توازن النظام العربي بأكمله. فالاخلال الذي احدثه الأميركيون بهذه المعادلة من خلال إسقاطهم صدام واحتلالهم العراق اصاب بالفعل مجمل المعادلة. ومن الممكن تعداد عشرات الروابط والقنوات التي كانت تمسك بالنظام العراقي البائد وتؤكد حقيقة كونه جزءاً من كيمياء السياسة في المنطقة, فتحت سقف العلاقات المتوترة بالأنظمة والدول المجاورة, كان نفط كثير يسيل وكان دعم مادي لأحزاب, والأهم من هذا كله كان شرط الأستقرار والحفاظ على شروط المعادلة.
بغداد كانت ملجأ منظمة "مجاهدين خلق" المعارضة للنظام في ايران. لكن هؤلاء لم يشكلوا خطراً فعلياً على طهران, وربما كان وجودهم في بغداد ضبط ايقاع عملهم ضمن طموحات النظام العراقي المحدودة والمقتصرة على رسائل موجزة لطهران, خصوصاً بعد انتهاء الحرب المديدة بين الجارين. وشارع حيفا في العاصمة العراقية ما زال يضم تلك المباني الأنيقة للمعارضين السوريين الفارين من دمشق. وهؤلاء طوال فترة اقامتهم في بغداد التي امتدت لأكثر من عقدين لم يكونوا مصدر قلق فعلي للسلطات السورية, كانوا مجرد ضيوف في بغداد, وربما شكلت استضافتهم مخرجاً للنظام في سورية. وبالنسبة الى الأردن شكلت العلاقة المعقدة مع بغداد صدام حسين متنفساً لامتصاص جنوح الأردنيين باتجاه معاكس لما تمثله سياسات حكومتهم ونظامهم, ناهيك عن هبة النفط الشهرية التي خصصها صدام لـ"الشعب الأردني", والهبات اليومية لانتحاريي الانتفاضة الفلسطينية. والدورة هذه يمكن ان تشمل معظم جيران العراق.
وفي المقابل ارتبطت انظمة دول الجوار العراقي بالنظام في بغداد بمواقف مشابهة, فبادلت طهران بغداد بإيواء فيلق بدر الذي لم يكن مصدر تهديد فعلي للنظام العراقي. كذلك فعلت دمشق بإيوائها فصائل عراقية معارضة وغير خطرة, والأردن استضاف في حينه حركة الوفاق الوطني التي يتزعمها رئيس الحكومة العراقي الحالي اياد علاوي, لكنه استضاف ايضاً اكبر سفارة عراقية في العالم, وتولى السفير في عمان مهمات تتعدى الديبلوماسية, فمول نقابات وأحزاباً أردنية, واتهم معارضون عراقيون نظام صدام بتحويله السفارة في عمان الى مركز لتعقبهم أو اغتيالهم.
النظام العربي الدقيق والهش ارتبط مع "عاصمته" بغداد بأنواع اخرى من العلاقات وبقي ملتزماً سقف ما يسمى الموقف الدولي. الدوحة مثلاً الى جانب تحولها الى مطار للمقاتلات الأميركية التي كانت ترعى الحظر الجوي المفروض على العراق, اشتغلت مع بغداد صدام حسين على خط صحف قطرية "مستقلة" داعمة للنظام العراقي البائد, اضافة الى جوهرة الدوحة الثمينة, اي قناة "الجزيرة". ودمشق التي لم تكن تربطها بالعراق علاقات ديبلوماسية, والتي لا يكن النظام فيها اي مودة تذكر لصدام ولبعثه, سمحت لنخب سياسية لبنانية حديثة ومرتبطة بها بشق قناة صغيرة على طريق بغداد, فتوجه الى العاصمة العراقية اكثر من سياسي وحزبي لبناني من امثال معن بشور ونجاح واكيم وبشارة مرهج ليتضامنوا مع "القائد" المحاصر. كذلك الأمر بالنسبة الى مصر ولصحفها القومية (تمولها الحكومة), ولأعضاء في برلمانها ولنجوم سينمائيين.
لم يكن النفط العراقي وحده الحافز على استمرار العلاقة على رغم الضغائن. ثمة اشياء اخرى, فالنظام العربي الهش لا يتحمل اي تغيير جوهري, وأي إخلال في المعادلة الكبيرة لن تقتصر نتائجه على نظام صدام حسين. فعندما قام هذا الأخير بخطوة اخلت بهذا النظام باحتلاله الكويت خرجت الأنظمة من جلدها وانخرطت في تحالف دولي لا يشبهها, اذ كيف نتخيل وقوف جنود سوريين ومصريين الى جانب جنود اميركيين على جبهة واحدة من دون ان يصاحب تخيلنا هذا مفارقات مختلفة. حصل ان وقف هؤلاء الجنود على جبهة واحدة من دون ان يصاحب ذلك تبديل جوهري في معادلة النظام العربي. فقد توقف الأميركيون عند الحدود العراقية - الكويتية واطفأت انتفاضة الجنوب على نحو مأسوي. واستعاد النظام في العراق بعض انفاسه, لكن هشاشة النظام العربي تضاعفت, والنتيجة عودة الى حدود ما قبل الحرب, وفيدرالية كردية انضمت كعنصر جديد الى النظام الأقليمي الهش.
قبل نحو سنة وثلاثة اشهر حدث الخلل الكبير. سقط النظام في العراق. وطبعاً تصدع هيكل المعادلة على نحو يصعب ترميمه. الدول والأنظمة والمجتمعات المعنية لم تهيئ نفسها للتكيف مع وضع جديد كهذا. والأرجح ان من الصعب عليها في ظل الاهتراء والبطء الاجتماعي والسياسي اللذين ينتابانها ان تستوعب متغيراً كهذا. هذا الواقع هو ما يفسر ظاهرة ما يسمى بالمقاومة العراقية. انها حقاً مقاومة, لكنها مقاومة النظام العربي الهش والمنهار والقديم لواقع جديد لم تتمكن الأنظمة العربية من استيعابه بعد. انها النافذة الوحيدة والضيقة لمشروع مستحيل يتمثل في اعادة التوازن الى ما قبل سقوط النظام في العراق. هذا المشروع الذي, إضافة الى انه لا يملك افقاً ولا ارضاً, يقترح على العراقيين ان ينخرطوا مجدداً في حرب أهلية تكون وقود القطار المهشم للنظام العربي. والخطير في الموضوع ان هذه الحرب هي المخرج الوحيد لاستعادة المنطقة توازن ما قبل سقوط صدام. الأمنيات العربية المعلنة والمضمرة بفشل الأميركيين في العراق لا يمكن الا ان تضمر هذه النتيجة, وهي في المحصلة امنيات منطقية, اذ ان هذه الحرب ربما جنبت المنطقة انهيارات اخرى, وربما ايضاً أجّل وقوعها حروباً اهلية على الضفاف الأخرى لدجلة والفرات.
القول ان المقاومة في العراق هي وليدة اوهام الأنظمة بإمكان اعادة الوضع الى توازن يشبه ما كان قائماً قبل سقوط صدام حسين له ميدانياً ما يعززه. لا يقتصر الأمر على الشكاوى العراقية المتواترة المتعلقة بالمقاتلين العرب المتسربين الى العراق عبر حدوده الشاسعة, بل ايضاً بتركز اعمال المقاومة في منطقة عشائر تغلب عروبتها عراقيتها, ويمتد نفوذها الى خارج الحدود, وترتبط بمجتمعات الدول المجاورة وبسلطاتها بأكثر من رابط. وهي شكلت في سنوات الحصار احدى القنوات الرئيسة لعلاقات العراق مع الدول المحيطة به, وكانت بديلاً من القنوات السياسية والديبلوماسية المباشرة.
ثمة متغيران لا بد من التعامل معهما, وفي الوقت الذي يعني الإقرار بهما تسليماً وانتظاراً لانهيارات موازية. الأول هو ان الأميركيين يقيمون اليوم في العراق وعلى حدوده الشاسعة. والثاني هو ان الإدارة الأميركية الحالية ادارة مختلفة جذرياً عن سابقاتها, وهي باشرت بمشاريع من الصعب على ادارة جديدة في حال سقط بوش في الانتخابات ان تتراجع عنها بسرعة تتيح للتوازن القديم ان يلتئم. لكن الحيرة هنا حقيقية. فما أبقاه النظام العربي على قيد الحياة في مجتمعاتنا قليل ونادر, والانهيار لا يعني الا دماراً ودماً, في حين تعني اعادة التوازن القديم والهش تأجيلاً لهذا الأنهيار وتأجيلاً لحروب داخلية وأهلية بحكم التمديد لهذه الأنظمة. فإلى اين ننحاز؟
يقول وزير خارجية عربي في مجلس خاص: "ان التطلب الأميركي لا حدود له ولم يسبق ان تعاملنا مع ادارة طموحة وثورية الى هذا الحد, فما ان نباشر بمشاريع تحاكي مطالبهم حتى نفاجأ بمطالب جديدة". ولكن, كيف لدولنا الكسولة ان تتعامل مع ادارة من هذا النوع, وهي التي اعتادت بحسب الوزير نفسه على ادارات اميركية متفهمة للكسل العربي".
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |