مرجعيات ناطقة ....مرجعيات ساكتة
كتابات - راسم المرواني
المرجعية الناطقة ، والمرجعية الساكتة ، تسميتان أطلقهما السيد الخميني ( قده ) في فترة من الفترات المظلمة التي كانت وما زالت تكتنف أفق المذهب الشيعي ، ورسخهما السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر ، وتحمل وزرهما ، وقد أطلقهما – رحمه الله – ليقول للناس بأن ثمة فارق موضوعي بين الحوزتين ، وثمة مساحة شاسعة بين العدالة والعلمية أو الأعلمية .
فالأعلمية هي نتاج البحث والدراسة ، وهي ليست حصراً على شخص معين ، أو فئة معينة ، بل يمكن لأي فرد أن يضطلع بها ، ويستنزف وقته وجهده للوصول إليها عبر العلم الحصولي ، وقد يتمكن من لا دين له أن يتحصل هذه العلوم وينبغ فيها .
أما مسألة العدالة ، فهي مسألة أخرى ، لا تمت للأعلمية أو العلمية بصلة ، وهي لا تأتي نتيجة للبحث والدراسة إلا بالقدر الذي يمنح الوعي والقدرات الذهنية ، فالعدالة منطلق نفسي أولاً ، وبناء يتعلق بتركيبة الإنسان وقدرته على التكامل ، ولو كانت الأعلمية تعني العدالة لكنا اعتبرنا العديد من علماء الفيزياء أو العلوم الإنسانية الأخرى من العدول ، ولكن ثمة قاعدة تقول :- أن ليس كل عالم عادل ، ولا كل عادل عالم .
وقبل أن أنتهي من هذه الديباجة ، أحب أن أشير الى نقطة مهمة ، وهي أنني حين أسترسل – في هذه المقالة – فليس معناه أنني أعني شخصاً معيناً أو عالماً محدداً ، ولكن البحث قد يعطي انطباعاً خاصاً لدى البعض ، وقد يُحدث إسقاطات معينة لدى القراء ، ولست مسئولا عن إسقاطات الآخرين .
المعروف أن التصدي للمرجعية لا يعني التصدي للعمل الفتوائي فقط ، فلو كان المضان في المرجعية هو الانحسار في زاية الفقه والعبادات والمعاملات وحدها ، لكان لدينا في تراثنا ما يكفينا ، وقد استغنينا بكتب العبادات والمعاملات التي أصدرها المراجع من قبل ، وبذلك نكون بموقع الإكتفاء فقهياً إلا في بعض جوانب مستحدثات الأمور .
ولكن من المنطقي أن تكون المرجعية ذات دلالات مهمة تتعلق بالمستوى القيادي الذي يتمتع به المرجع ، وأسلوبيته في انتشال مجتمعه من براثن التخلف ، وقدرته على التأثير في زوايا المجتمع وتحريكه بالشكل الذي يضمن التطور والفهم ، ومن هنا نعرف السبب الذي يكمن وراء ( موت ) البعض من المراجع ، وتحولهم الى رفوف النسيان ، بينما نجد أن البعض الآخر منهم ، ما زال يعيش معنا منذ استشهاده عبر مئات السنين ، وهذا في الحقيقة يذكرني بأنموذج من نماذج الانطلاق في عالم الخلود ، فقد قيل أن في زمن الشاعر المتنبي كان هناك أربعة آلاف من الشعراء ، ولكن الذي خلص منهم الينا هو المتنبي ، والذي أطبق صيته في الآفاق هو المتنبي ، والذي سلطت عليه الأضواء هو المتنبي ، مع وجود محاولات من بعض البلاطات والقصور لتزويق صور الشعراء الذين ينتمون لهذه القصور ، وتشديد بعض المنتفعين من الساسة والأمراء على نشر الأشعار التي قيلت بحقهم من بقية الشعراء ، وربما دفعتهم مصالحهم ونزواتهم الى كتابة القصائد التي تخدم مصالحهم بماء الذهب ، وأسبغوا على شعراء قصورهم أسماء وصفات كبيرة ، كشاعر البلاط الأكبر ، أو زعيم الشعراء الأعلى ، ولكن التاريخ لا يرحم ، فقد استخدم ( غرباله ) ولم يلتفت الى آليات البعض ورغباته ، وقال كلمته ، وأفرز الأسماء والأشعار ، ولم يقبل رشوة من أحد ، فتساقط الكثير من الشعراء وأشعارهم ولم يكلف نفسه الإلتفات إليهم .
فإذاً ..المسألة تتعلق بمصداقية الطرح والقدرة على الإبداع ، هذا فيما يتعلق بالشعر ، أو فيما يتعلق بالفنون ، أما فيما يتعلق بالمرجعية ، فمضان الخلود والإنتشار هو المتعلقة السببية بين المرجع والمحيط ، ومواقفه التي تتعلق بمصلحة الأمة ، ودفاعه عن مبادئه التي ينبغي عليه – أولاً – أن يؤمن بها ، ثم يصدرها للآخرين ، محاولاً أن يصل بمتبناه إلى نفوس أتباعه ، واستقطاب جهدهم في ترسيخ هذه المتبنيات .
الذي يحصل الآن ، أن هناك البعض ممن اكتفوا بطباعة كتبهم الفقهية ( رسائلهم العملية ) التي تتضمن العبادات والمعاملات ، والتفوا بعباءاتهم المغزولة من الصوف ( الناعم ) كي لا يخدش جلودهم الرقيقة ، وكي لا يمنعهم لذة القيلولة المقدسة ، في وقت أصبح فيه كل شئ غال وثمين في العراق إلا أرواح العراقيين ، وفي وقت تزف فيه أجساد الفتية والشباب الى حياض المنون ، وتنتهك فيه أعراض الناس بالمجان ، ولا مصيخ لمن يصيح ، بل الأغرب من ذلك ، أن بعض هؤلاء اكتفوا بالحيض والنفاس والخرطات التسعة ، وأكثر ما يشغلهم هو البحث عن مخرج فقهي لمن ينسى إحدى الخرطات ، هل يعيدها كاملة ؟؟ أم يأتي بخرطتي السهو ؟ مغمضين عن واقع العراق المر ، وانتهاك المحتل لمقدساتنا ، وغير آبهين لهذا الكم من أبناء جلدتهم من الذين يُدفنون بغير رؤوس ، أو تتطاير أشلائهم بفعل المفخخات التي يزرعها الأمريكان بعد منع التجوال ليلاً في العراق ، أو يزرعها أعوانهم من المرتزقة ، ولا تعنيهم – البتة – هذه الأعداد من المعتقلين المظلومين في سجون الإحتلال ، وكما قال الشاعر المعاصر يصف حالهم :-
تناسوا أن إسرائيل طالــــــــت لنا بنــــــــتاً ووالدةً وأُختا
وما شاست حواجبهم لعرض ٍ وما أولوا ضياع الدين لفتا
ولكن الحياء وليدُ طبع ٍ ، وأطباع الرجـــــــال اليوم شتّى
إن أخطر ما يمكن تصوره ، هو أن تزوق صور هؤلاء ، وتتعالى أصوات الناعقين منادية بأسمائهم ، بل الأشد نكاية أن يتحول هؤلاء – بقدرة قادر – الى رموز شيعية ، وتتخذ وسائل الإعلام من نفسها منبراً للترويج لهم .
فقد نجد أحد المسؤولين يزور أحد العلماء ، ويلتقي بهذا العالم لمدة ثوان معدودة ، لا تعدو كونها أسئلة وحوار بسيط مثل ( شلونكم سيدنا ؟؟؟ ) فيجيب سماحته على الفور ، وبصوت هادئ مقدس ناعم :- الهمد لله رب الآلمين ، ثم يلح المسؤول – تملقاً – بالسؤال (شلون صحتكم مولانا ؟ إن شاء الله تكونون بخير ؟؟؟ ) فيجيب سماحته بصوت منخفض ، كي يضطر المتحدث معه أن ينحني متقرباً منه ليسمعه :- (بخير ، نهمد الله ألى كل شئ ) ، ويصمت الطرفان ، فسماحته مشغول بالتسبيح وذكر الله ، ومسبحته لا تفارق يده ، وهذه آلية من آليات التهرب من الأسئلة والأجوبة ، فحين يتمتم سماحته بكلمات لا يعدو صوتها شفاهه ، فهو إنما يريد أن يقول للشخص المتحدث معه ( كافي لغوة ..واتفضل اطلع ..ترة آني مشغول بذكر الله ) ، وهكذا ينتهي اللقاء بدقيقة واحدة أو أقل ربما ، ولكن المسؤول يخرج علينا بتصريحات طويلة وعريضة ، ويحدثنا عن قرارات وتوجيهات أصدرها سماحته قد لا تتسع لها صفحة كاملة من صفحات الصحف ، أعني بها الصحف التي تصر على الخسارة ، ولا يعنيها أمر عائداتها المادية لأنها ( .............) .
المشكلة أن ساكناً لم يتحرك منذ سقوط السلطة المقبورة وحتى الآن ، حتى بتنا نعجز عن إجابة من يسألنا عن فعاليات هذه المرجعيات ، فقد كنا ننسب سكوت الساكتين الى التقية ، والخوف من سطوة الهدام ، ولكننا الآن نعجز عن إيجاد ذريعة لسكوتهم ، ولا يمكننا أن نلتمس لهم عذراً ولو حاولنا ، حتى أنه ليخيل إلينا أن المسألة لا تتعلق بأمور التقية ، ولكنها تتعلق بأمور نفسية .
الشيعة الآن يُقتلون بشكل ربما أكثر من عمليات القتل التي مارستها السلطة المقبورة تجاههم ، وأموالهم وحرماتهم تنتهك كل يوم من قبل عصابات الإحتلال ، والعصابات المقنعة بقناع الوطنية الزائف ، وشركات المسؤولين تضج بالعملة الصعبة المكتنزة في بنوك ما وراء البحار ، في وقت يعيش فيه العراقي أدنى مستويات المعيشة في العالم ، ويتحسس الهلع والرعب في كل لحظة من لحظات يومه ، وهو محروم من أبسط متطلبات الحياة الكريمة بشكل يحرم الشرفاء النوم ، وحين أذكر الشيعة فليس معناه أنني طائفي ، وليس معناه أنني أهتم لمذهبي فقط ، بل من حق كل إنسان أن يحرص على أبناء جلدته حين يسطو الظلم عليهم ، مشيراً الى أن العراق كله بيتي ، ومختلف طوائفه عائلتي ، هكذا تعلمت من المولى المقدس ( عليه صلوات من ربه ورحمة ) وهكذا شربت من منهل ولده الأخ مقتدى الصدر ، وهكذا ترسخ في ذهني من أدبيات أهل البيت عليهم السلام .
أنا لا أدعي أن الخلل موجود في بعض المرجعيات الشيعية حصراً ، ولا أقول أن الطرف الآخر خال من النقوصات ، ولكن ما يفعلة الطرف الآخر لا يعنيني ، فلهم دينهم ولي ديني ، ولن يتعرض التاريخ لشتمي وشتم مذهبي بسبب أفعالهم ، ولن يحرجني المتخرصون بما يفعله هؤلاء كما يحرجني البعض حين يذكرون موقف ( كاظم اليزدي ) من ثورة العشرين – وما أشبه اليوم بالغد - ، ولكن ما يحرجني أن يسألني سائل :- ما هي حدود تقيتكم أيها الشيعة ؟؟؟ فلا يبقى لدي سوى أن أستل له نماذج من التاريخ المعاصر ، فأشيره الى مواقف البطولة لدى الصدرين الشهيدين ، وألفت انتباهه الى مواقف الرجولة لدى الأخ مقتدى الصدر ، وانبهه الى مقولة سماحة السيد السيستاني ( أعلى الله مكانه ) حين اعتبر أن الأماكن (المقدسة) مناطق ذات خطوط حمراء ، ولكن الذي يحاورني خبيث ، فيسألني بلؤم :- وهل الخطوط خارج كربلاء والنجف خضراء ؟؟؟
[email protected]