[overline]الصــــــــــــــــــــــدر رؤية معكوسة[/overline]
8.06.2007

بقلم د.علي حسين فرج


[align=justify]ذات يوم وقف (غوغل) أمام الرقيب وقدّم روايته الشهيرة (النفوس الميتة) فنظر إليه الرقيب وقال (ولكن النفوس "الكبيرة" لا تموت). رغم لائحة الأسماء الطويلة لعلماء المسلمين ما زال المفكر العراقي الكبير آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) يمثل باعتراف الجميع "سدرة المنتهى" و"نقطة الانقلاب الكبيرة" في منحنى المعرفة الإسلامية ‘ولهذا فانا أدعو كل من بلغ "سن التكليف الثقافي"أن يسجد شكرا لله كلما سمع اسم الصدر لأنه "باب حطة "الذي أنقذ ملايين المسلمين من التيه في صحاري الجهل والخوف والاستحياء والاستجداء والاستحمار وحتى الكفر..

دعوتي الأخرى لكم هي التنزه باستمرار في واحة الصدر كي نرمم ما أفسده بعض (السدنة) الذين لا يفقهون كلمتين من "كتاب الصدر" سوى عبارات الإطراء والشعارات الفسفورية شديدة الانفجار التي تقتل المخالفين والمختلفين وكأن الصدر إرث ٌصرفٌ لهم يحرّم الاقتراب منه أو الانتساب إليه إلاّ بعد مراجعة (السدنة).

والغريب ألاّ احد يجرؤ على التنقيب في الاهرامات الصدرية من اجل استخراج الآثار المعرفية النافعة جدا والتي تحمل بعض الحلول لبلد لا يرغب بالحياة ولا يمتهن الكثير من أبناؤه سوى القتل والنهب والاختطاف ولا يصدّر بضاعة إلاّ الجثث مجهولة الهوية التي انتمى إليها الصدر طويلا حتى ظهر قبره بعد أكثر من عشرين عاما على رحيله.

سأحاول في هذه الورقة أن أقدّم لمحة سريعة عن رؤية المجتمع العراقي للصدر بوصفه ظاهرة صحية مهددة بالانقراض وذلك من خلال تقسيم المجتمع إلى ثلاثة طوائف (رجال الدين-المثقفين-بسطاء الناس)أو كما يقسّمهم أمير المؤمنين"ع"(عالم رباني ومتعلم في سبيل النجاة وهمج رعاع).

ذات يوم كانت الجموع محتشدة في الصحن الحيدري حيث يلقي الصدر خطابه الذي عرف فيما بعد( بخطاب المحنة )الذي اختزل الآلام الصدر وهمومه السنين فبكى وأبكى الحاضرين وهو ينظر إلى المجتمع الموبوء بالهمج الرعاع وفجأة صاح بالحاضرين (ما بال هذه المؤسسة-وكان يقصد الحوزة العلمية-التي ولدت في مدينة النجف تموت وفي نفس هذه المدينة،ربما لأننا لم نكلم الأحياء وإنما تعاملنا مع الأموات ).

تناغما مع آهات الصدر وشقشقته المخنوقة كتب الوردي مخطوطته الرائعة (وعاظ السلاطين) التي تروي حكاية الافيونيين الذين لا يتقنون شيئا سوى تنويمة الجياع وترويض الكادحين فيقول:( إن مشكلة المشاكل في مجتمعنا الراهن انه مزدوج فهو يريد زعيما ولكنه لا يملك في نفسيته نزعة التقدير اللازمة لظهور الزعماء وهنا يأتي وعاظ السلاطين فيزيدون في الطنبور نغمة... هؤلاء الواعظون صنعوا لنا أنماطا من السلوك فوق متناول البشر وتركونا نركض وراءها من غير جدوى) بهذه الكلمات تحدث الوردي عن احد مشاكل المجتمع العراقي المهمة أنها" مشكلة السلف الصالح"وتقديس الزمن الغابر الذي شكله الوعّاظ.

الواعظون بلغة الوردي هم ساحة الصدر المباشرة كونه فقيه ومرشد إلى الله كما إن "الحوزة العلمية"هي المؤسسة التي كلّفت نفسها حراسة العقيدة . ولكن رجل الدين الخارج من الحوزة و المتهم في خطاب الصدر انف الذكر يتحدث بلغة ميتة لا يمكن إن تبعث الحياة في القلوب الغلف التي لا تؤمن حتى بالله ولأجل حفظ الدين من دنس الواقع وتأويلات الرعاع الكارثية اتجه الواعظون إلى السلف الصالح حيث الفردوس ونعيم الله والزهد والتبتيل وهؤلاء "أخفى الله عيوبهم واظهر حسناتهم" وبالتالي هم خير من مثّل دين الله.

باعتقادي إن عشق القديم واستذكار التاريخ وسيرة الماضين ليست مشكلة لان( من ينسى الماضي محكوم عليه بتكرار هذا الماضي) بتعبير الفيلسوف والناقد الأسباني جورج سانتيانا ولكن وعّاظ الوردي استعملوها وسيلة للهروب من مواجهة الحاضر حيث المجتمع وهمومه وتناقضاته المعقدة والفتوحات المعرفية المدوّخة التي لاحقت الأموات في قبورهم.

الصدر ومنذ البداية حذر من (الاستنساخ الفكري) الذي تعاني منه حوزة النجف(قال التفتزاني وروى الشيخ المفيد واخبرنا الأنصاري...)هذه الأسماء الكبيرة فكريا يوما ما أصبتها الشيخوخة ولابد من أحالتها على التقاعد لأن مركبة الزمن نفاثة ولا يمكن مجاراتها دون الصيانة المستمرة لمنظومة المفاهيم التي نتحرك من خلالها صوب المجتمع ،إبدال التالف وإصلاح العاطل واستحداث الجديد على الرغم من إن (التاريخ كما يقول الوردي لا يسير على أساس التفكير المنطقي أنه بالاحرى يسير على أساس ما في طبيعة الإنسان من نزعات أصيلة لا تقبل التبديل).

وحسب فهمي أن الصدر حاول الارتقاء بأطروحات د.الوردي التي اتكأت كليا على الواقع وطبيعة البشر ولكنها أهملت النصف الأخر والمهم حسب الصدر وهو(النص بوصفه منتجا للحياة) وهذي هي علامة الصدر الفارقة عن الآخرين فيقول في المدرسة القرآنية"إن التفسير الموضوعي عملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن القيم بوصفه المصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع".

النتيجة إن الصدر والوردي على طرفي نقيض فالصدر يتحرك بالواقع صوب النص من أجل الحصول على الإجابة القرآنية لمشاكل المجتمع إما الوردي ونتيجة لسردياته الصغرى فقد غطس في وحل الواقع ولم يستطع أن يحرك الجماهير صوب الخلاص لأنه أهمل سرديات الصدر الكبرى و التي عجز عن فهمها صغار الواعظين أيضا.

كان الصدر صاحب السفر العملاق( فلسفتنا) متفقا مع د.الوردي كاتب(وعاظ السلاطين) رغم اختلاف المنهج كون الصدر آية الله العظمى رمزا إسلاميا واحّد الواعظين الكبار ولهذا فهو يترفّع عن كلام الوردي الجارح والبذيء أحيانا خصوصا وهو يتحدث عن (الجماعة القائدة).

أدرك الصدر عجز هذه الجماعة عن استيعاب مشروعه الإصلاحي الذي يهدف إلى إعادة بناء المحتوى الداخلي للإنسان أخلاقيا ومعرفيا وحتى دينيا فكان البديل هو تأسيس حزب الدعوة الإسلامي عام1957على الرغم من الرفض الديني لفكرة التحزب لأنه( صيغة غربية للعمل) وان (التنظيم الحزبي الإسلامي وغيره لا يتمتع بعوامل الصيانة ضد الانحرافات المسيرية) وقد تسعى التنظيمات الحزبية لأن تكون بديلة عن القيادة المرجعية.

وعلى الرغم من الأداء الصدري ألمذهل إذ انه وخلال ثلاثة سنوات- بإلاضافة إلى عمله السياسي- أصدر كتابيّ (فلسفتنا عام1959) و(اقتصادنا عام1961) وأعلن عن انتهاء عقدة الخطاب الفكري النظري ونقل الخطاب الإسلامي الكلاسيكي لأول مرة إلى خطاب فكري معاصر، فإن أزمة العلاقة بين المرجعية والحزبية مثّلت واحدة من الأزمات المهمة والخطيرة التي أثّرت ولا زالت تؤثّر في حركة وواقع العمل الإسلامي في العراق خصوصا في أواخر عقد الخمسينات الذي شهد تأسيس أول تجربة حزبية إسلامية "ناضجة" في العراق . وقد تحدّث عادل رؤوف عن هذه الإشكالية في كتابه الرائع (العمل الإسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية ).

إننا لا ننكر قدرة المرجع على القيادة ولا نتكبر عن طاعته لأنها من ثوابتنا كإسلاميين ولكنّ المشكلة في(الجماعة القائدة)أو(الحاشية) بتعبير الوعّاظ واليكم أخر الروايات:قبل مدة قريبة سئل أحد مراجع النجف عن السبب في ضعف الأداء المرجعي وعدم قدرته على التمفصل مع المجتمع وهمومه فأجاب :(نحن كمرجعية طرحنا عدة مشاريع يمكن أن تساهم في حل بعض مشاكل المجتمع ولكن الخلل في (الحلقة الوسطية) التي لم تفهم مشروع المرجعية وبالتأكيد إن هذا ينعكس سلبا على العمل المرجعي مع العلم إن مشكلة (الحلقة الوسطية) قديمة جدا وقد عانى منها الأئمة"ع" كثيراً).

إن عدم أهلية الجهاز المرجعي التقليدي لقيادة الأمة يجبر المرجع القائد على البحث عن أوساط ناقلة جديدة خصوصا وان المجتمع العراقي لا يتحرك إلا بعد مراجعة الحوزة/المرجع والتنظيم الحزبي هو المرشح لاستبدال( الحاشية )وهذا ما فعله الصدر بتأسيس حزب الدعوة الإسلامي.

إن أشراف الفقيه "الكفوء" على العمل الحزبي أمر ضروري جداً خصوصا مع تعدد المرجعيات وغياب الولي الفقيه وضعف(الجماعة القائدة) كما هو حالنا في العراق مع الأخذ بنظر الاعتبار إن (المرجعية- كما يبيّن السيد فضل الله- لن تكون بديلة عن التنظيم عندما تشرف عليه ... بل تتحرك من أجل أن تفتح له الأبواب المغلقة وتنظم له بعض خطواته وطريقة مساره وتوجهه في الاتجاه السليم إذا انحرفت به الأوضاع في غير الاتجاه الصحيح).

لقد اقترن اسم الشهيد الصدر مع حزب الدعوة الإسلامي وتداخلا بحيث بات الفصل بينهما أمرا صعبا للغاية .دافع الصدر بقوة عن مشروعه التكاملي الذي زاوج بين المرجعية والتنظيم الحزبي ولم يتخل عن الدعوة أبدا حتى أبعدته الظروف قهراً فاضطر إلى إصدار كلمته المعروفة في10/شعبان/1314 التي ذكر فيها (وجوب فصل الحوزة العلمية عن العمل الحزبي) درءا للخطر ألبعثي الخبيث عنهم وليس لأمر غيره وإما التأويلات الأخرى فغير صحيحة أو هامشية برأي الصدر.

وقد ذكر الأستاذ غالب حسن في كتابه (الشهيد الصدر رائد الثورة الإسلامية في العراق) خمسة أسباب أدت إلى صدور فتوى تحريم الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية دار معظمها حول سبب "التقية" وضرورة حماية الحزب من جهة وحماية المؤسسة الدينية من جهة أخرى،وفي عام1972 ألغى السيد الشهيد فتوى التحريم .هذا ما أفصحت به رسالته للسيد الحائري وبقي الصدر مع الدعاة ولم يتخل عنهم رغم الاعتقالات والملاحقة وقبل إعدامه بأيام أطلق الصدر وصيته المشهورة (أوصيكم بالدعوة خيرا فأنها أمل الأمة).

ويمكن تفسير سلوك الصدر هذا بمعنيين احدهما معلن ويعني إن الشهيد الصدر لم يتحرّج من وجود التنظيمات الحزبية خصوصا إذا كانت تحت أشراف الفقيه و إما الجانب الأخر المسكوت عنه والذي لم يصرح به الصدر فانه تمكن أخيرا من خلق البديل (للجماعة القائدة) من خلال تشكيل تنظيم حزبي يضم النخب الثقافية للمجتمع الذين يؤمنون بقدرة الإسلام على قيادة الحياة سياسيا واقتصاديا ومعرفيا .

استغل الدعاة دعم الصدر الكبير لهم ومع مرور الزمن بزغت (ألانا الحزبية) وشعر الدعاة بان الصدر اخذ يزاحمهم في محل اشتغالهم البعيد عن اختصاص الفقيه خصوصا وان اغلب كوادر الدعوة هي من النخب الثقافية التي أصابها زكام (المسخ الفكري) المستشري في أوساط الثقافة العربية وهذا هو احد الأخطاء القاتلة للدعاة .

فالصدر (زعيم الدعوة) فقيه وداعية ومثقف إسلامي يحترم الواقع ومتغيراته ولكنّ (الوحي) مرجعيته الأولى وباعتقادي إن الشهيد الصدر ما زال المثقف الإسلامي الوحيد الذي أتقن ذلك بامتياز.

الحقيقة الأخرى التي يجب أن أبوح بها إن اغلب مثقفي العراق هم من أهل اليسار أو من التيارات العلمانية أو من الليبراليين الجدد وهؤلاء يمقتون (سرديات الصدر الكبرى) ويسبّحون بحمد الحداثة ويعشقون أوهامهم التي فضحها المفكّر اللبناني د. علي حرب ويتكلمون بلغة (الاوباخ)- يروى إن احد اللغات القوقازية تسمى لغة الاوباخ ولم يتبق من الناطقين بها سوى شخص واحد - وقد تحدث عنهم د. الوردي في كتابه الممتع(أسطورة الأدب الرفيع)الذي يهديه(إلى "أدباء الفقاقيع" الذين يخاطبون بأدبهم أهل العصور الذهبية الماضية عسى أن يحفّزهم الكتاب على إن يهتموا قليلا بأهل هذا العصر الذي يعيشون فيه ويخاطبوهم بما يفهمون..).

المثقف حسب فوكو "يجسد ضمير الإنسان ويوقظ فيه الوعي ويبشر المجتمع بالحقيقة" ولكن مثقفنا بلا هوية و في أحسن حالاته يمتلك "هوية مركبة أو هوية مرقعة أو هوية بأربعين وجها"بلغة داريوش شيغان.

وبكلمة واحدة إن الوعاظ أو( أهل الدين) كما يسميهم السيد القمني أصيبوا بداء الاستنساخ الفكري وإما( أهل الديمقراطية) فقد مسخت أفكارهم وكلاهما ابتعد عن الصدر ولكنهم في النهاية أنتجوا( الدينقراطية) أو(الديمقراطية المتدينة) على غرار(الرأسمالية الاشتراكية).

النتيجة المؤلمة إن مثقفي العراق ايضا لم يتفاعلوا مع طروحات الصدر رغم تمجيدهم المستمر له وبذلك فهم يشتركون مع البسطاء الذين يتقنون الشعارات الكبرى التي تمجد الصدر(عاش عاش عاش الصدر ... والدين دومة منتصر) بالمناسبة فان المقصود بالصدر هنا هو الرمز وليس الاسم لان الجماهير هي الأخرى لم تتفاعل مع الصدر الأول بدرجة كبيرة كما حصل مع الصدر الثاني وسبب ذلك هو اعتماد الأول على النخب التي قتلها الطاغية ونسيها رفاق الدرب،إما الثاني فقد هيج صفات( التغالب) التي يعشقها القطيع "وفي ميدان العواطف لا يتميز الواقع من الخيال"بتعبير اندريه جيد.

نحن لا ننكر قسوة الزمن وكابوس الدكتاتورية الذي أرعب الجميع ومنهم المثقف لان صدام اعتاد على إدارة الحياة من خلال الحرب والقهر والإذلال و"في ظل ثقافة قائمة على تدمير الضمير يكون التعبير الفني ضربا من ملاعبة الأفاعي السامة " ولكن( مهمة الفكر هي الرفض أي كسر حدة الواقع والسيطرة عليه )كما يعبر "ماركوز" والاّ( سيقوم كل الذين خرجوا من دائرة الشر بمعاودة تكرار لعبة الشر. فالشر لا يعرف الخجل ولا يعترف بالندم طريقا لتصحيح الخطأ)وقد فعلها الصدر بامتياز وقدم نفسه قربا للعراق بعد أن طال عذاب المجتمع وانعدمت سبل الحل.وظل الصدر الملهم الكبير ودلالة الخلاص البارزة و"حتى ألان تجري اللعبة ببراعة "كما يقول المسرحي العربي الكبير سعد الله ونوس ولكن رحيل الدكتاتور أبطل كل الأحجيات وأزال جميع الأغطية فما زالت النخب تزايد الرعية على شعاراتها وما زال الصدر مغيّب كفقيه ومثقف وداعية وكقائد للجماهير .

هذا هو المشهد باختصار وهذي هي رؤية المجتمع العراقي للشهيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

[/align]