أكاذيب بلير !! ( بقلم جون بلجر )

13 آذار 2003
لقد كانت حكومة (بلير) ، و منذ اليوم الأول لوصولها للسلطة عام 1997 ، تعلم أن أسلحة الدمار الشامل العراقية قد دمرت بشكل شبه قاطع بعد حرب الخليج في عام 1991.

من بين كل الأكاذيب التي يروجها بوش و بلير لدفع الرأي العام باتجاه الحرب ، و اعطائهما صدام حسين مهلة أخيرة لنزع السلاح ، تبرز الكذبة الكبرى التي يعدانها للعالم و التي سنكشفها في هذا المقال!

فقبل اسبوعين ، حصلت الـ (نيوزويك) و (غلين رانكوالا Glen Rangwala ) المحلل في جامعة كامبردج - الذي كشف فضيحة "ملف الإستخبارات" الذي سرقه بلير من أحد طلاب الجامعة – حصلوا جميعاً على وثيقة تابعة للأمم المتحدة فيها التصريحات التي أدلى بها (حسين كامل) لها بعد هروبه من العراق عام 1995.

لقد كان (حسين كامل) بمثابة "الشاهد الاساسي" بالنسبة للغرب لدعم قضيتهم ضد صدام حسين، فـ (حسين كامل) لم يكن هارباً عادياً، فهو زوج ابنة الدكتاتور ، و كان يتمتع بسلطات واسعة جداً في العراق ، و قد جلب معه عند هروبه كميات كبيرة من الوثائق السرية حول برنامج التسليح العراقي ليضعها في خدمة الغرب.

هذه الوثائق السرية استُشهد بها عدة مرات من قبل (جورج بوش) و إدارته بأنها تحوي "أدلة" قاطعة على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ، وأن الحرب هي الطريق الوحيد لنزع هذه الأسلحة! و طالما أشاد (بوش ) و إدارته و المعلقين الأميركان بشهادة (حسين كامل) و شدة وثاقتها كدليل على دعواهم حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ، و نفس الإدعاءات رددتها حكومة بلير أيضاً.

في عام 1995 ، أدلى حسين كامل بشهادته أمام مسؤولين في فرق التفتيش (اليونسكوم آنذاك) و أمام مسؤولين في منظمة الطاقة الذرية الدولية. هذه التصريحات تم الإعلان عنها الآن لأول مرة ، و إذا بها تناقض بشكل صريح كل ادعاءات بوش و بلير حول خطر برنامج الأسلحة العراقي!

فقد أكد (حسين كامل) في تقريره ذلك على ما يلي: " لقد أمرت بإتلاف كل الأسلحة الكيميائية. كل الأسلحة - بايولوجية ، كيميائية أو نووية – تم تدميرها. و كل ما بقي هو المخططات و برامج الكومبيوتر و المكايكروفيلم" !!!!

النيوزويك تقول أن المخابرات الأميركية و الإستخبارات البريطانية M16 تعلم بهذا ، و لابد أنهما أعلما بوش و بلير بالحقيقة. و بكلمات أخرى ، لابد و أن تكون أسلحة العراق المحظورة قد دمرت على مدى ثمان سنوات.

و باختفاء ( حسين كامل ) إلى غير رجعة – حيث قتل بعيد عودته الى العراق 1996- فإن قسماً معيناً فقط من تصريحاته تلك قد عرضت على الرأي العام من قبل واشنطون و لندن. ففي العرض الدراماتيكي الذي قدمه (كولن باول) أمام مجلس الأمن في 5 شباط الماضي ، قال (باول) بالحرف الواحد " أن المعلومات الحقيقية التي حصلنا عليها حول أسلحة غاز الأعصاب العراقية كلها جاءت بعد أن جمع المفتشون وثائق و ملفات سلمها اليهم حسين كامل ، زوج ابنة الرئيس صدام حسين"... لكن ما أهمل (باول) ذكره هو أن "شاهدهم الرئيسي" قد أخبرهم أن كل هذه الأسلحة قد تم تدميرها!

إن اعترافات (حسين كامل) المثيرة حول تدمير تلك الأسلحة تعضدها شهادة كبير مفتشي الاسلحة السابق (سكوت رايتر) الذي غادر العراق عام 1998 ، حيث قال أنه "تم نزع ما بين 90 الى 95 من أسلحة العراق" .! و أكدت هذا أيضاً لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة كان مجلس الأمن قد شكلها ، حيث أكدت أنه " تم تدمير معظم ترسانة العراق من الأسلحة" .

بالتأكيد ، فإن أي من هذه الحقائق سوف لن تمنع أفراد المخابرات الأميركية و البريطانية من اختلاق أو زرع "أدلة" حول "أسلحة صدام السرية" حالما تستولي القوات الأنجلو-أميركية على بغداد!

عندما تسحق القوات الأميركية و البريطانية العراق ، فستبدأ مرحلة جديدة من البروباغندا السوداء ، و التي يجب أن يتهيأ لها المجتمع البريطاني. حيث سيتم تصميم سلسلة من الأكاذيب لتبرير الهجوم على دولة مستقلة و قتل الأبرياء ! و هي جريمة حسب القانون الدولي ، سواء أقر المجلس ذلك أم لم يقره!

بروباغندا سوداء كهذه لها تأريخ طويل. ففي تجربتي الخاصة كانت في الغزو الأميركي لفييتنام. ففي عام 1964، نشرت وزارة الخارجية الأميركية وثيقة تسمى "الوثيقة البيضاء" تجوي "أدلة موثوقة" حول استعدادات فييتنام الشمالية لغزو فييتنام الجنوبية. هذه "الأدلة" مفادها أن سفينة شراعية محملة بالأسلحة وجدت قريباً من سواحل فييتنام الجنوبية. الوثيقة البيضاء هذه ، و التي حوت تبريراً هزيلاً لغزو أميركي لفييتنام ، عرفت فيما بعد بـ "سيدة الخداع" ... فكل شيء كان عبارة عن كذبة ، عبارة عن فخ !

"سيدة الخداع" هذه لم تكن سوى تعبير الـ CIA عن الكذبة الكبرى. ففي عام 1982 قابلت (رالف مغكيهي ) ، مسؤول في المخابرات الأميركية الذي وثق عملية زرع الأدلة الكاذبة هذه. لقد قال لي: " لقد قامت الـ CIA بتحميل سفينة، سفينة من فييتنام الشمالية ، بأسلحة من مصادر شيوعية ... و أطلقت السفينة في سواحل فييتنام الوسطى ، ثم أطلقوا النار عليها لتبدوا أن معركة ما قد حدثت فيها. بعد ذلك جاؤوا بالصحافة الأميركية و العالمية و قالوا لهم : "هذا الدليل على أن فييتنام الشمالية تعد لغزو فييتنام الجنوبية!" و بالإعتماد على هذا "الدليل" غزت قوات المارينز فييتنام الشمالية ، و بدأت الطائرات الأميركية بقصف البلاد بصورة مستمرة !

و كنتيجة لهذه الخدعة ، و التي تضمنت كذبة الأخرى مفادها أن القوات الفييتنامية قد هاجمت مدمرة أميركية بواسطة زورق! أرسلت الولايات المتحدة جيشها العرمرم لغزو فييتنام براً ، و ألقت بأكثر أحمال القنابل في تأريخ الحروب ، و أرغمت الملايين على ترك منازلهم ، و ألقت بالأسلحة الكيميائية التي دمرت البيئة و جينات الإنسان، مدمرة ما كانت تعد من أجمل بقاع الأرض. لقد قتلوا ما لا يقل عن مليوني فييتنامي ، و أكثر من هذا تشوه أو دمرت حياته.

استبدل فييتنام بالعراق الآن و تخيل سلسلة الأكاذيب هذه ، و ستبرز عندك مبررات جريمة مروعة أخرى!

راقب بدقة كيف ستبدأ البروباغندا حالما ينتهي القصف الجوي لتدير القوات الأميركية دفة الأمور في بغداد. سيكون هناك "أكتشاف ترسانة صدام السرية"، ربما في أقبية أحد قصوره. و الذي سيكون مترافقاً مع اكتشاف "أدلة" آخرى للقمع الذي كان يمارسه صدام. هذه الأخبار سوف لن تفاجيء الكثير من النشطاء ضد الحرب، الذين قضوا سنين طويلة يطالبون بها الولايات المتحدة و بريطانيا بأن توقفا دعمهما لدكتاتور العراق و تزويده بأدوات القمع!

و هؤلاء النشطاء يشملون العديد من العراقيين في المهجر وفي بريطانيا، مثل (خالد ساهي)، الذي تعرض للتعذيب من قبل نظام صدام لكنه يعارض الهجوم على بلده "لأنه سيسفك المزيد من الدماء ، و سيجلب المزيد من الشقاء"، و لن تخدع عضو البرلمان (جيرمي كوربن) المعارض للحرب والذي طالب الحكومة البريطانية و منذ عشرين عاماً بملاحقة الشركات البريطانية التي عملت على ديمومة قمع و تعذيب العراقيين!

قبل عامين ، عمل (بيتر هين ) – وزير في الخارجية – على منع إجراء تحقيق طالب به البرلمان ضد الشركات البريطانية التي كانت تتعامل بنشاطات تجارية محظورة مع صدام حسين.

السبب في هذا المنع اصبح واضحاً الأسبوع الفائت عندما نشرت صحيفة الغارديان تقريراً بينت فيه أن حكومة بلير دفعت و بصورة سرية أكثر من 33 مليون جنيه من أموال دافعي الضرائب الى شركات بريطانية ادعت أنها لم تستلم عوائدها من الأسلحة التي باعوها لصدام حسين خلال الثمانينات! هذا يجعل مجموع الخسائر التي لحقت بدافعي الضرائب بسبب مبيعات العراق تبلغ المليار جنيه استرليني ، أضف الى هذا الـ 3.5 مليار جنيه التي عزلها (جورج براون) كمصارف للهجوم على العراق! أضف الى هذا المليار جنيه التي تكلف بها قصف المنشآت و المراكز العراقية ، هذا القصف اليومي بواسطة الطائرات الأميركية و البريطانية لما يسمى بـ "منطقتي حظر الطيران" و الذي يدعي بلير أنها لحماية "الأقليات العراقية" ، والتي نادراً ما تشير اليه وسائل الإعلام ، فمن يصدق هذا بعد الآن ؟

هذا الأسبوع ، صرحت وزارة الدفاع بـ " أننا لا نستهدف المدنيين في منطقتي حظر الطيران ، ولا توجد أدلة على إصابة مدنيين هناك" .!

الجرأة على الكذب في هذا التصريح تثير العجب!!

ففي كردستان العراقية، قابلت أفراداً من عائلة واحدة فقدت الجد ، والأب و أربعة أطفال عندما قصفتهم طائرة تحالف ( أميركية أو بريطانية) و من ارتفاع منخفض جداً بينما كانوا يرعون أغنامهم في منطقة صحراوية مكشوفة لا وجود لأية آلة عسكرية فيها!

لقد أجرى التحقيق في هذا الهجوم و أكده ممثل الأمم المتحدة في العراق في ذلك الوقت ( هانز فون سبونك) الذي ذهب بنفسه خصيصاً الى هناك. و أكد هذه الحادثة بالإضافة الى عشرات الحوادث الأخرى المماثلة في قصف مزارعين و صيادين و رعاة الماشية في كل أنحاء العراق و كلها موثقة في الملحق الأمني للأمم المتحدة!

و من ثم ، في مقبرة تعصف بها الرياح قريباً من مدينة الموصل ، وجدت أرملة الراعي و هي تنوح بقرب قبر زوجها و أبنائها الأربعة ، وقد صرخت "أريد أن أرى الطيار الذي فعل هذا !!"

في الأسبوع الماضي قتلت طائرات "التحالف" ستة مدنيين آخرين في مدينة البصرة الجنوبية ، كما أنه روتين طبيعي! ففي آخر مرة كنت فيها في مدينة البصرة ، "ضل" صاروخ أميركي "طريقه" ليضرب "حي الجمهورية" الفقير في المنطقة السكنية و يقتل ستة أطفال!

لقد سرت في الشارع الذي ضربه الصاروخ في ساعات الصباح الأولى ، حيث دمر سلسلة من المنازل ، ثم التقيت بأبي طفلتين صغيرتين ، 8 و 10 سنوات ، لقيتا حتفهما في الحادث. كانت جثتاهما تختلف عن باقي الأطفال الأربعة الذين تطايرت أشلائهما على أسلاك خطوط الكهرباء! فقد دفنتا تماماً تحت أنقاض منزلهما!

لو نظرت قريباً لوجهيهما لرأيت فيهما وجوهاً لأمة منكوبة تبلغ نسبة الأطفال فيها 42%! عندما يتحدث (بلير) عن "القضية الأخلاقية" في أرسال مئات الصواريخ على رأس شعب فيه هذا العدد الكبير من الأطفال! بالإضافة إلى أنواع أسلحة الفتك الجديدة من قبيل قنابل الإبادة الأرضية و قنابل المستودعات و قنابل المايكروويف، و قنابل اليورانيوم المنضب – نوع آخر من القنابل الذرية – إن صورتي الطفلتين تمثلان تعليقاً بليغاً "للقيم و الأخلاق المسيحية" التي يتمتع بها رئيس الوزراء البريطاني!

و تذكروا جيدا ًعندما ترون صور العراقيين المنهوكين و هم يحيون "محرريهم" و هي تنقل عبر شاشات التلفزيون في العالم ، تذكروا جيداً الوجوه التي ستكون مفقودة من بين هؤلاء! ليست فقط وجوه أؤلئك الأطفال الذين ستقتلهم صواريخ "التحالف" و سيلغى وجودهم كـ "خسائر جانبية" ، بل تذكروا وجوه أكثر من مليون طفل عراقي الذين قتلوا تحت وطأة الحصار الإقتصادي!

تذكروا المواد الطبية الضرورية التي طلبها العراق و و افق عليها مجلس الأمن ، من مثل اللقاحات ، و وسائل معالجة السرطان ، و مخففات الالام ، و أكياس البلازما ، و وسائل المعالجة الغذائية مما بلغت قيمته 4.5 مليار دولار و التي منعت وصولها الولايات المتحدة و حكومة بريطانيا لأكثر من 12 عاماً!

تذكروا ما قالته (مادلين أولبرايت) ممثلة الرئيس كلنتون لدى الأمم المتحدة عندما سئلت إن كان قتل نصف مليون طفل عراقي ثمناً مبرراً لإستمرار الحصار ، حيث ردت بالحرف الواحد: " نعم ، نعتقد أنه ثمن يبرر استمرار الحصار " !!

و عندما تسمع (بوش) أو (بلير) أو (جاك سترو) أو (هون ) – استقال الآن – و هم يتحدثون عن "الطاغية الذي قتل أبناء شعبه بالغاز الكيميائي" ، تذكر أؤلئك المسؤولين الأميركيين و الوزراء البريطانيين الذين تسابقوا مع بعضهم البعض للدفاع عن صدام حسين و مكافأته لقتل أكثر من 5000 كردي في قرى حلبجة!

فلم يمض شهر على مجزرة خلبجة في عام 1988 ، سافر (توني نيوتن) وزير التجارة البريطاني في حكومة (مارغريت تاتشر) الى بغداد ليعرض على صدام حسين 340 مليون من أموال دافعي الضرائب كضمانات تصدير! بعد ذلك بثلاثة أشهر ، عاد نيوتن "المبتسم" الى بغداد ، هذه المرة ليحتفل مع صدام بالأخبار "المفرحة " من أن العراق أصبح ثالث أكبر سوق في العالم لتصدير المكائن و الأدوات الإنتاجية ، و منها صنعت بعض الأسلحة العراقية التي استخدم قسم منها ضد القوات البريطانية في حرب الخليج!

رحلات (نيوتن) تبعتها رحلات مساعد وزير الخارجية الأميركية ( جون كيلي) الذي سافر الى بغداد ليقول لصدام حسين بأنه "مصدر الإعتدال في الشرق الأوسط، و الولايات المتحدة ترغب في توسيع علاقاتها معه" !

تذكروا جيداً عندما تقرأوا عبارات "تحرير العراق" على الصفحات الأولى في الصحف ، تذكروا صحف الحربجية الذين دافع محرورها عن صدام حسين خلال الثمانينات مروجين للكذبة التي تقول أن صدام حسين استخدم الغازات السامة ضد الإيرانيين من مبدأ الدفاع عن النفس!

تذكروا أيضاً صمت (بلير) الطويل حول القضية العراقية ، حيث لم يصرح بأي شيء حول "تجاوزات" صدام حسين ( حيث كان هذا هو المصطلح الذي يصف فيه وزراء بريطانيا جرائم صدام عندما كان "واحداً منا" ! ) حتى أحداث 11 سبتمبر ، عندما دفع فشل الولايات المتحدة في القبض على بن لادن أن تعلن أن دكتاتور العراق هو العدو الأول!

لم يبق من يكذب عليه (بلير) سوى حكومات أوروبا الشرقية عديمة الأهمية و القيمة , حيث أنه أدعى أخيراً أنه لم يخرج و لا عراقي واحد في المسيرات العالمية التي حدثت في الخامس عشر من فبراير الماضي ، في الوقت الذي خرج فيه ما لا يقل عن سبعة آلاف عراقي و كردي ، و وقفت العوائل العراقية على حافة الطريق تحيي المتظاهرين و ترفع لاغتات كتب عليها "شكراً لأنكم تدعمون شعبنا" !

لايوجد أحد يرغب ببقاء صدام حسين الدكتاتور للحظة واحدة في السلطة ، لكن لا يوجد أحد يرضى بأن ينتهك وطنه ، ويهاجم و يدمرو و يحتل من قبل دكتاتور آخر!