النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    4,251

    افتراضي على أكتاف سور الصين العظيم

    مركز النور




    على أكتاف سور الصين العظيم




    عدنان جبار الربيعي



    " مات الآلاف من شدة البرد والجوع والتعب والأمراض،

    فدفنت جثثهم داخل الأسوار،

    وعرف السور العظيم بعدها بجدار الدموع ..."





    ها أنذا أقف أخيرا على سور الصين العظيم الذي طالما حلمت بأن تطأ قدماي أحجاره

    أفرك عينيّ جيدا لأصدق ما أرى أمامي من بناء يمتد عبر سلاسل الجبال على إمتداد البصر

    أقف مذهولا وأفكر .. كيف بني هذا السور ؟ ولماذا ؟

    أي قوة عظيمة جعلت من تلك الجموع صانعة لتلك العجيبة من عجائب الدنيا السبع ؟



    في صباح يوم من أيام شهر تموز خرجنا مبكرين قاصدين سور الصين العظيم .. قال لي أخي الأكبر أن الطريق إلى أحد أهم المواقع الشهيرة في السور يستغرق ساعتين إنطلاقا من الحي الدبلوماسي في العاصمة بكين ..

    كنت مرتبكا وأنا أجلس في السيارة مفكرا بأهمية ذلك الحدث الذي سيجعلني في عداد من زار ذلك السور .. سأقف حيث وقف أبرز الشخصيات التي زارته من قبل .. سألتقط العديد من الصور هناك وسأصيخ السمع لوقع أقدام المحاربين القدامى ناظرا حبات العرق النازلة على وجوه من ساهم في بنائه ليظل خالدا هكذا ممتدا مع تعرجات الجبال وعلى قممها الشامخة ...

    كانت السيارة تقطع الشوارع بإتجاه قطاع ( بادلينغ ) أكثر قطاعات السور متانة والأفضل حفظا .. بدأت العمارات الشاهقة تختفي ولم يتبق أخيرا سوى الشوارع العريضة ومساحات شاسعة من الأراضي التي تمتد حتى سلاسل جبال خضراء بعيدة

    كنت قد إستيقضت مبكرا قبل الجميع لأقرأ بعض المعلومات عن السور ووددت في البدء معرفة الرجل الذي أمر ببنائه فإذا بي أتعرف على َمنْ سميت الصين بإسمه ، وفي السيارة بدأت أروي الحكاية كاملة لمن كان معي في الرحلة ...

    تقول القصة أنه في القرن الثالث قبل الميلاد كانت الأراضي التي تعرف بـ( كل ما تحت السماء ) منطقة حروب دائمة فقد كانت الممالك السبعة تخوض حربا طاحنة فيما بينها بلا كلل على السلطة .. نشرت جيوش النهب والسلب الدمار في جميع الأرياف ، وكانت مواسم الفلاحين المكافحين في سبيل البقاء على قيد الحياة تصادر بكاملها و كثيرًا ما كان يحدث ما هو أسوأ إذ كانت زوجاتهم تسلب وبناتهم ويجبر أبنائهم على الخدمة في الجيوش الغازية ذلك الحين .. لجأ بعضهم إلى كهوف الجبال ولكن لا مفر، فقد كان قدرهم الموت كمشاة في ساحات المعارك ..

    دامت حرب الممالك المتحاربة أكثر من 250 عاما حتى برز إسم الإمبراطور ( تشين شي هوانغ ) الذي إستطاع ، عبر مزيج من القسوة والدبلوماسية ، وقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره أن يهزم الملوك الستة الآخرين ويضع الدول الصينية جميعا تحت إمرته جاعلا من هذه الممالك المتحاربة مملكة متحدة متعددة القوميات تحمل إسمه ، وهكذا ولدت ( الصين ) ، ثم قرر أن يحمي إمبراطوريته الجديدة بتشييد أضخم بناء صنعه الإنسان في العالم ( سور الصين العظيم ) ...

    كان ( تشين ) إبنا غير شرعي ، إعتلى العرش حين بلغ الثالثة عشرة من عمره ، وصفه أحد معاونيه بأنه : ( كان عديم الرحمة ، في صدره قلب نمر أو ذئب ، من السهل عليه حين يواجه المشاكل أن يكون متواضعا بسيطا ، أما وهو يحقق النجاحات فكان من السهل عليه أن يأكل لحوم البشر ! )

    كان الإمبراطور الأول يعلم أن عليه إجراء بعض التعديلات الجذرية ، تغيرات لا تترك المجال لمنافسيه بالتمرد عليه...أراد أن يغير سبل الحياة على طول الصين وعرضها ، كان مزارعو الشمال يعيشون دائماً حياة الرحل فأجبرهم ( تشين ) على الإستقرار، وهكذا أصبح من السهل فرض الضرائب عليهم ، ثم ربط الأنهر والجداول الكبيرة عبر بعض القنوات ليؤسس بذلك أدق نظام إتصالات مائية عبر الأنهر في العالم

    أنشأ ( تشين ) الطرق لمرور جيوشه وأسلحته إلى جميع أنحاء الإمبراطورية ، ووضع الضرائب على العربات بحيث يمكن جمعها بسهولة، كانت العربات تمر عبر تلك الشوارع ما جعل عملية التنقل أسرع ، وهكذا أحكمت الإمبراطورية سيطرتها على إنتاج المزارع وتجارة الأسلحة على طول الإمبراطورية وعرضها وكانت كل الشوارع تنطلق من عاصمة الإمبراطورية...

    في الطريق سارت السيارة بنا داخل نفق طويل ، أنير سقفه المقوس بصفين من المصابيح الكبيرة ، مخترقا أحد الجبال الهائلة .. أشارت لوحة عند مدخل النفق أن طوله يبلغ 120 مترا.. أحسست بشعور غريب وأنا أمر مرورا سريعا من تحت جبل !

    كنت أنظر إلى الشوارع الحديثة المنطلقة من العاصمة بكين بينما كان ذهني ينصرف لرؤية شوارع الإمبراطور القديمة وأنا أكمل بقية الحكاية ..

    كان الإمبراطور ( تشين ) يؤمن بـ ( أن الإنسان كائن شيطاني في طبعه وأنه يحتاج إلى سلطة شيطانية تفرض النظام عليه) ، بخلاف ما كان يؤمن به أكثر رجال البلاط حكمة ممن يتبعون مباديء ( كونفشيوس ) الذي كان يقول: ( إن على الإنسان أن يصنع الخير وإن على الحاكم أن يكون المثل الأعلى في الحكمة وعمل الخير) ما كان للمبدأين أن يتعايشا معا ، فحدثت المواجهة بين الإمبراطور والحكماء الذين بدأوا بمساءلته أمام العامة ..

    قام ( تشين ) بانتزاع القلب الفكري من إمبراطوريته فأطلق الحرب على الماضي معلنا نهاية التاريخ من وجهة نظره وأحرق جميع الكتب ، معتقدا بأنه إذا تمكن من تدمير تاريخ الصين الرسمي فسيكون بإمكانه تأليف نظريته الخاصة عن الماضي و هكذا بدأ الإمبراطور بالتدمير المنهجي بكل ما يتعلق بالتقاليد القديمة لكونفشيوس ثم حاصر الحكماء متهما إياهم بتشويه الماضي وتزييفه ولكي يقدم نموذجا لما تبقى من حاشيته ، أمر بدفن أربعمائة وستين مفكرًا وهم أحياء ، هادفا من وراء هذا الإرهاب قمع كل أشكال المعارضة ..

    علم تشين أن قتل المفكرين لن يمنحه سوى مزيد من الوقت فأعداؤه في الشمال ( المنغول ) كانوا يشكلون تهديدًا مستمرًا فألهمه ذلك للقيام بإنجازه الذي نتوجه إليه ، قاصدين زيارته ، ( السور العظيم )

    في العام الرابع عشر بعد المائتين قبل الميلاد وجه ( تشين ) أمرًا لـ( مين تين ) أكثر جنرالاته ثقة بأن يوسع ويوحد الأسوار التي بنتها كل مملكة سابقة حول الحدود الشمالية لإمبراطوريته فيحولها إلى خطوط دفاعية واحدة..

    أجبر مئات الآلاف شخص من الأيدي العاملة بين فلاحين ومفكرين وحكماء وجنود فارين وأسرى حرب على العمل المتواصل في بناء السور العظيم الذي إمتد عبر الجبال والتلال والصحارى ..

    مات الآلاف من شدة البرد والجوع والتعب والأمراض، فدفنت جثثهم داخل الأسوار، يعتقد الصينيون أن أرواحهم ستعمل حراسًا ضد أعداء الشمال ، فعرف السور العظيم بعدها بجدار الدموع ..

    تم أولاً بناء إثني عشر برجًا كدست فيها المؤن لتقاوم حصارًا يدوم أربعة أشهر، وقد تم ربطها باستحكامات يبلغ إرتفاعها ستة أمتار.. أصبح بالإمكان إرسال الأوامر والرسائل عبر مئات الأميال لأن الأبراج كانت مترابطة ببعضها بحيث يمكن أن تغطيها أسهم الرماة ، وقد ثبت البناءون منارات فوق أبراج إرشاد عبر مسافات تقارب الأحد عشر ميلاً تشتعل على مدار أربع وعشرين ساعة

    شكل السور العظيم نظام إتصالات ممتاز بحيث كانت الوحدات العسكرية تتحرك بسهولة بين جهة من الإمبراطورية وأخرى، وتمكن الإمبراطور ( تشين ) ببراعة تامة من وضع أول جيش له لحماية السور ليؤكد بقاءها بعيدًا جدًا عن عاصمة الإمبراطورية وهي قادرة على سحق أي تمرد شعبي ..

    كان بناء السور ضربة عبقرية تمكنت على الأقل من إحكام سيطرة ( تشين ) على إمبراطوريته وقد أثبتت أنها حدود نفسية ومادية حاسمة ..

    بعد أن تمكن تشين من هزيمة أعدائه عاش أسير هواجسه بتحقيق الخلود الذي ظن أنه قادر على إحرازه ، في بحثه المستميت عن إكسير الحياة ... كان يجرب دائمًا الجرعات التي يحملها إليه الكيميائيون والسحرة العاملون لديه ، وكان بعض هذه الجرعات يحتوي على مواد سامة جدًا كالزئبق والفوسفات وقد مات أثناء جولة كان يقوم بها داخل إمبراطوريته ...

    كان الإمبراطور قد أمر ببناء مقبرته الشهيرة الكبيرة ، وهو على قيد الحياة ، معتقدا بأن جيوشا من الطين سوف تتولى حمايته بعد موته فكان آلاف الجنود بحجمهم الطبيعي ينتصبون هناك بثيابهم القتالية وخيولهم وعرباتهم وقد أجبر أكثر من سبعمائة ألف عامل وحرفي على العمل في بنائها ..

    تذكرت وأنا أصل إلى ذلك الفصل المهم من الحكاية ، ذلك اليوم ، في ووهان ، حين أخبرني أحد الأصدقاء العراقيين بزيارته لمقبرة الإمبراطور( تشين ) في مدينة ( شيآن ) عاصمة إقليم ( شنشي ) شمال غرب الصين حيث وصف لي المقبرة وأراني صورا إلتقطها لها هناك ..

    وتابع صديقي روايته لي ، حينها ، موضحا أنه ذات يوم من شهر آذار 1974 إكتشفت المقبرة التي هزت العالم ، مصادفة ، من قبل مزارع كان يقوم بحفر بئر في الحقل ! ولقبت الـ8000 تمثال ، التي وجدت ، من الجنود والخيول والعربات الحربية الصلصالية بالحجم الواقعي بـ( الإعجوبة الثامنة في العالم )

    وفي العام 2007 أعلن علماء الآثار إكتشافهم لوجود مبنى ترابي في المقبرة ، بإستخدام تقنية الإستشعار من بعد ، شبيه بالهرم إرتفاعه 30 متر يقع فوق الهيكل الرئيسي للقبر تحت الأرض بمسافة 51 متر محاط بأربعة جدران شبيهة بالسلالم ، وإعتقد العلماء أنه بني لخروج روح الإمبراطور !

    ثم ذكر لي صديقي بأنه شاهد رجلا مسنا قد أحاط به الناس وإتضح فيما بعد أنه ذلك المزارع الذي إكتشف المقبرة .. كان الرجل مشغولا بإمضاء توقيعه على الكتب التي تتحدث عن المقبرة لقاء مبلغ باهض !

    وقال لي صديقي ضاحكا أنه ومنذ إفتتاح المقبرة عام 1979 أصبح ذلك المزارع الفقير من الأثرياء بفضل تلك المصادفة وتلك الإمضاءة النادرة !

    من بعيد لاحت لنا جبال خضراء إنتصبت على قممها أجزاء من سور الصين .. أبهرني ذلك المنظر كثيرا ، وحين وصلنا أحد المداخل الرئيسية للسور بدأت رحلتنا المثيرة التي ستكون مادة لحديثنا القادم ، إن شاء الله ، لنرى ما أبدع ذلك الشعب من بناء عظيم ....


    الصين ـ بكين

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    4,251

    افتراضي

    مركز النور - ثقافات




    على أكتاف سور الصين العظيم ــ الجزء 2 من يوميات عراقي في الصين




    عدنان جبار الربيعي


    " إن كل صخرة في السور تنطق بالنوايا السلمية للأمة الصينية "

    دونغ ياو هوي

    الأمين العام لجمعية سور الصين العظيم



    لا يوجد دليل على كون الشعب الصيني من أكبر الشعوب حبا للسلام من ذلك السور الذي يمتد أمامي مرتفعا هابطا مع تضاريس الجبال مثل تنين ضخم ..

    لا يوجد مؤشر يدل على قوة صبر ذلك الشعب وتحمله وصلابته أوضح من صلابة صخوره التي أقف عليها منذهلا ..

    كما لا يوجد دليل على حب هذا الشعب لوطنه ولتراثه الحضاري أكثر من حفاظه على أحجار سور بني منذ أكثر من 2500 عام ...

    عند المدخل الرئيسي لإحدى بوابات السور العظيم وقفت لأتأمل ذلك البناء المذهل المبني على حافة الجبال والهضاب والذي يرتفع ويهبط مع تضاريسها الممتدة مع الأفق.. كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة والنصف صباحا .. هبت نسمات تموزية خفيفة لطفت من حرارة الجو التي تحل ضيفا على بكين الباردة طيلة أغلب شهور السنة .. إنتشر عدد قليل من الأكشاك التي كانت تبيع التحف والأغذية والعصائر على حد سواء وبينما مثلت أغلب التحف نموذجا مصغرا لسور الصين العظيم لفت إنتباهي أن الأكشاك صممت أيضا على شكل منصات سور الصين التي تشبه القلاع .. ومن حول المدخل ، والذي هو عبارة عن منطقة عسكرية قديمة كانت تعتبر نقطة تحكم لمنطقة بادلنغ ، شاهدنا أبنية متعددة إنتصبت عليها مظلات الخشب والرخام والتي أعطت للمكان جمالا وسط المساحات الخضراء التي تطل على أجزاء السور ..

    كنا مخيرين بين أن نتسلق السور مشيا أو الركوب بالعربات المعلقة ( التلفريك ) التي تصل بنا إلى مكان مرتفع توسط المسافة بين الأرض و إحدى قمم السور الشهيرة بواسطة حبال متينة .. فضلنا الطريقة الثانية إختصارا للوقت على أن نتسلق الجزء العلوي من السور بإتجاه القمة البعيدة ..

    بدأت الأرض تبتعد عنا رويدا رويدا ونحن جالسين بداخل العربة التي حملتنا حبالها إلى الأعلى ببطء.. شعرت بالرهبة وأنا أنظر إلى الهوة السحيقة التي أصبحت تحتنا ، وبينما أغمضت طفلتي عينيها تحاشيا لرؤية المشهد المثير كانت زوجتي تحبس أنفاسها حتى الوصول إلى المدخل بسلام ...

    أوصلتنا العربة إلى مدخل السور.. قطعنا تذاكر الدخول التي إحتوت على طوابع بريدية تحكي مناظر للسور في الفصول الأربعة ونبذة قصيرة عنه ..

    أخيرا لامست أقدامنا سطح السور ، وقفت أنظر مندهشا إلى سطح السور الذي رصف بالآجر المثبَّت بالإسمنت الجيري ..

    تراوح عرض السور بين 7.5 م في القاعدة وحتى 4,6 م في القمة وقد صمم ليتسع لخمسة خيول تعدو جنبا إلى جنب أو عشرة أشخاص يمشون كتفا إلى كتف كما قرأت فيما بعد ...

    على جانب السور الأيمن ( من جهة المدينة ) إمتد حائط بني من الصخر المستطيل الكبير تراوح إرتفاعه من 1 ــ 1.5 متر دون فتحات بينما إمتد إلى اليسار ( على الجانب الخارجي المواجه للعدو ) حائط بإرتفاع تراوح بين 1.5 ـ 2 متر إحتوى على فتحات للمراقبة وفتحات لإطلاق النار و تراوح إرتفاع السور بالكامل من 5 إلى 17 مترا ...

    كنت قد قرأت الكثير عن ذلك السور قبل زيارته كثيرا لكن أغرب ما قرأته عنه أنه إذا أستخدم الطابوق والحجر المبني به في تشييد سور ، سمكه متر وارتفاعه خمسة أمتار ، يمكن أن يطوق الكرة الأرضية أكثر من مرة !

    تكون سور الصين العظيم من الحيطان الدفاعية وأبراج المراقبة والممرات الإستراتيجية وثكنات الجنود وأبراج الإنذار، وغيرها من المنشآت الدفاعية. كما قسم السور ، في القدم ، إلى مناطق إدارية عسكرية و كان هناك ، لكل منطقة ، رئيس مستقل ومسؤول عن إصلاح السور داخل منطقته وترميمه ، وعن الشؤون الدفاعية في المنطقة أو مساعدة المناطق العسكرية المجاورة وقد بلغ عدد الجنود المرابطين على خط السور في عهد أسرة ( مينغ ) مثلا حوالي مليون جندي ..

    وتعتبر الممرات الإستراتيجية أهم مواقع دفاعية على خط السور، وتقع تلك الممرات عادة في مواقع صالحة للدفاع بغية مقاومة المعتدين وقد قرأت أن هناك مثل صيني قديم يقول ( لو كان هناك جندي واحد يدافع عند الممر الإستراتيجي في السور العظيم فلا يمكن أن يخترقه عشرة آلاف من الجنود ) !

    لكن وظيفة السور لم تقتصر على الدفاع والإغلاق فقط بل قدم على مر العصور وظيفة حماية المواصلات والإتصالات التجارية والإنفتاح على الخارج .. ففي فترة إمبراطور ( تشين شيهوانغ ) لأسرة تشين، كان يوجد طريق واسع يربط اثنتي عشرة ولاية واقعة بمحاذاة السور لنقل الوثائق الرسمية، وسيل لا ينقطع من التجار..

    كما إنه يفصل بشكل طبيعي بين المناخ شبه الرطب والمناخ الجاف في الصين. وقد صار على هذا الأساس فاصلا طبيعيا بين المناطق الزراعية والمناطق البدوية..

    إمتد الطريق أمامنا بإتجاه القمة .. مع كل خطوة أخطوها بين حشود الزوار المتجهين إلى الأعلى كنت أسمع لهاث وآهات عشرات الألوف التي ساهمت في رصف تلك الأحجار لتكون معلما خالدا على مر العصور ..

    وقع نظري فجأة على ثلاثة رجال حملت وجوههم سحنة عربية .. تقدمت منهم ملقيا عليهم السلام وإتضح أنهم قدموا إلى الصين من مصر لغرض السياحة .. كنت سعيدا بالتحدث إليهم عن إنطباعي الأول عن السور وختمت حديثي القصير معهم بأن من الجميل أن نلتقي معا على سطح إحدى عجائب الدنيا السبع ونحن نحمل بداخلنا إرث أعجوبتين من تلك العجائب ، فبينما كنت أحمل تراث جنائن بابل المعلقة التي بناها ( نبوخذ نصر ) لزوجته الملكة ( أمييهيا ) قبل 600 عام من التاريخ الميلادي ، كانت أرواحهم تحمل فخر بناء إهرامات الجيزة الخالدة التي بنيت كمقابر ملكية في الفترة 2480 - 2550 ق. م !

    تطلب الوصول إلى القمة حيث تنتصب منصة السور جهدا كبيرا .. كنا نقف بين الحين والآخر لإلتقاط الصور التذكارية وكان العديد من الصينيين يسارعون إلى طلب التقاط الصور معهم للذكرى .. لم تختف شارة النصر من أيديهم أبدا ، ربما هي إشارة إنتصار إرادتهم كأمة مسالمة يمثل سكانها ربع الكرة الأرضية وها هي تحتل الآن موقع رابع قوة إقتصادية في العالم وتطمح لتكون الأولى دائما في كل شيء ...

    كنت أتأمل المنصة التي تشبه القلعة الصغيرة بينما تجمهر عدد كبير من الناس عندها حول أكشاك صغيرة .. أثارني الفضول لمعرفة سبب التجمهر وتبين أن تلك الأكشاك مختصة بمنح شهادات الوصول إلى قمة السور مقابل مبلغ من المال وما على الزائر سوى الوقوف لإلتقاط صورة فورية وإنتظار عدة دقائق حتى يحصل على جدارية تثبت قوة تحمله وصلابته وقد ثبتت صورته إلى اليسار ...

    في كشك مجاور آخر وقف عدة أشخاص لتسجيل اسم كل زائر وصل إلى القمة ومن ثم نقش تلك الأسماء على مداليات كتب عليها ( لقد تسلقت السور العظيم !!) مقابل مبلغ مناسب ولم يفتني نقش اسمي واسم زوجتي وإبنتي على مداليات نحاسية علقت بشرائط حمراء ..

    توجد منصات السور على مسافات تتراوح بين 300 إلى 500 على السور، وتتكون من طابقين، في الطابق العلوي توجد فتحات للمراقبة وفتحات لإطلاق النار، ويسكن جنود الدفاع عن المدينة في الطابق السفلي وتخزن الحبوب والأجهزة العسكرية فيه أيضا ..

    في القمة وقفت لأتامل السور بالكامل لاحظت وجود حصون وأبراج الإنذار و المراقبة ، على مسافات تتراوح بين 90 و180م في الأماكن الإستراتيجية الواقعة على طول السور ، لنقل المعلومات والأخبار وإصدار الأوامر والتوجيهات عن طريق رفع الدخان من إشعال روث الذئاب ، الذي يتميز بكثافته ولونه الأسود الداكن ، نهارا وإشعال النار ليلا ، كما قرأت ، وتميز هذا الأسلوب بسرعة نقل المعلومات كما يُمَكن من معرفة جهة الأعداء من عدد المواقع التي انطلق منها الدخان أو أشعلت فيها النار. وقد كسرت هذه المضائق وأبراج الإنذار رتابة أسوار المدينة ، وزادتها سحرا فنيا ....

    لم أكن مستوعبا ، من قبل ، لفكرة أن السور يمكن أن يرى من سطح القمر كما هو متعارف عليه حتى قرأت تصريحا لأول رائد فضاء صيني ( يانغ لي وي ) أكد إستحالة ذلك حين أعلن عام 2003 عدم تمكنه من رؤية السور من على سطح القمر ، بسبب سمكه والغطاء النباتي الكثيف المحيط به ..

    يقع سور الصين الكبير شمال الصين بطول يسميه الصينيون ،( وانلي تشانغتشنغ ) ( السور ذي العشرة آلاف لي ) ، واللي وحدة قياس صينية تساوي 500 متر تقريبا ، وعلى هذا يكون طول السور خمسة آلاف كيلومتر تقريبا .. لكن الأرقام الرسمية تشير إلى 6400 كم بما يجعله أطول بناء في التاريخ على الإطلاق ... بدأ العمل به خلال القرن الخامس قبل الميلاد ، واستمر حتى بداية القرن السابع عشر الميلادي قام ببناء وترميم السور أكثر من عشرين مملكة وأسرة ، إذ بدأت مملكة تشو في عصر الممالك المتحاربة (475 - 221 ق.م) بجنوب الصين تبني سورا دفاعيا لها بغرض التصدي لهجمات القبائل البدوية الشمالية والأعداء من خارج الحدود ، بعد ذلك بنت مملكة تشي ومملكة يان ومملكة وي ومملكة تشاو ومملكة تشين أسوارا لنفس الغرض حتى وحد الإمبراطور ( تشين شيهوانغ ) الصين ووصل الأسوار التي بنتها كل مملكة سابقة ، فتشكل سور الصين العظيم الذي يبدأ من شاطئ نهر يالو بمقاطعة ( لياونينغ) في الشرق، إلى جيايويقوان بمقاطعة ( قانسو ) غربا واستمر العمل في السور العظيم خلال حقبة هان (202ق.م 220 - م) وحقبة سوي (581 - 618 م). وقد دمرت أجزاء كبيرة من السور عبر القرون ، ولكن بناؤه أعيد خلال حقبة مينج (1368 - 1644م) وترجع غالبية البناء الحالي للسور العظيم إلى فترة مينج هذه وقد عد بذلك أكبر مشروع دفاعي في الصين وفي العالم من حيث وقت الإنشاء ومجهود العمل ..

    كانت حشود الناس كثيرة على السور .. علمت فيما بعد أن عدد الزوار الذين يأتون الى بكين لزيارة ذلك القطاع من السور يتراوح بين خمسة ملايين إلى ستة ملايين نسمة سنويا وفي إحصائية رسمية يبلغ دخل التذاكر لقطاع بادالينغ أكثر من مائة مليون يوان سنويا ( حوالي 15 مليون دولار ) ، ولكن ذلك يساهم في زيادة تخريبه ولذا وضعت الحكومة الصينية (قانون إدارة وحماية سور الصين العظيم ببكين) عام 2003 الذي يضع قيودا صارمة على تصوير الأفلام والبرامج التلفزيونية وإقامة النشاطات الكبيرة في موقع السور كما ينص على حظر البناء في المنطقة القريبة من السور بمسافة 500 متر وفي العام 2004 بدأت مدينة بكين مشروع ترميم سور الصين العظيم التي إلتزمت بالحفاظ على الشكل الأصلي بمعالجة الحالات الطارئة والتقوية والتمتين ، وإعطاء أولوية لاستخدام الطوب القديم في أعمال الترميم ..

    نزلنا بعد فترة تأمل طويلة تاركين المنصة المدهشة .. قمنا بجولة طويلة في أجزاء السور المترامية الأطراف .. كنا نقف بين حين وآخر لإلتقاط المزيد من الصور التذكارية .. في الإتجاه المقابل للمنصة وصلنا إلى صخرة عملاقة مثلت قمة جبل جديد وعلى مسافة مرتفعة منها إنتصبت منصة أخرى على شكل قلعة صغيرة ...

    كنت مندهشا لرؤية السور وعظمته لكن دهشتي زادت حين علمت بأن سور الصين العظيم الحالي هو ثلث الأصلي القديم، أما الثلث الثاني فقد أصبح أطلالا، والثلث الأخير اختفى تماما !!

    بنى الصينيون السُّور لحماية حدودهم الشمالية من الغزاة لكن الغريب أن السور حمى الصين من الهجمات الصغيرة ، لكنه لم يقم بسوى دفاع بسيط ضد الغزو الأكبر، فعلى سبيل المثال، اجتاحت قوات القائد المغولي جنكيز خان السور في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي ، وغزت الكثير من أراضي الصين !

    في طريق عودتنا من السور العظيم إقتنيت خريطة لمدينة بكين وضعت عليها أهم المناطق السياحية و تعددت أمامي الخيارات لكن خياري وقع على ثاني أهم منطقة سياحية في بكين ، بعد السور ، و فيها ستكون رحلتنا الجديدة القادمة إن شاء الله ......


    الصين ـ بكين

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني