موقف الدين من العالم يتلخّص في حمايته له مادياً وفي تكريمه له بمختلف أنواع التكريم.

الحماية المادية

أما الحماية المادية فنجدها في النقاط التالية:

- إن العمل يعتبر العنصر المميز في عناصر الإنتاج الثلاثة، وهي: «العمل، الآلة، رأس المال»، ويعبر الدين في تعاليمه عن هذه الميزة بالشكل التالي:

1 - تحريم الربا: يعني اعتبار منفعة ثابتة لرأس المال، سواء في حال الربح أو الخسارة)، فقد حرّم الدين الربا تحريماً مطلقاً دون استثناء.

2 - عندما يشترك رأس المال مع العمل، فلرأس المال أن يشترك في الربح وليس له أن يتجنب الخسارة، بل إنّ الفقه الإسلامي في عقد المضاربة يؤكد صيانة العمل من الخسارة واختصاص رأس المال بها.

3 - لا يمكن إشراك الآلة: (الحديثة منها كالمصنع، والقديمة كالبقر وآلات الحراثة وغيرها) في الأرباح، ويمكن تخصيص أجر لها فقط بصورة مقطوعة.

4 - يمكن للعامل أن يشترك في الأرباح بنسبة معينة، ويمكنه أن يتقاضى أجراً مقطوعاً.

من هذه النقاط الثلاث نرى أن:

للعمل ثلاثة امتيازات: المشاركة في الربح، الصيانة عن الخسارة، إمكان مقاضاة أجر مقطوع.. بينما لا يتمتع رأس المال إلا بالميزة الأولى، حيث إن صيانته عن الخسارة غير جائزة ولا يمكن مقاضاة الأجرة لأنها ربا، وهكذا الآلة تتمتع بالميزة الثالثة فقط.

ولكي لا يستغل ضعف العامل تمهيداً لفرض أجرة قليلة عليه، يقف الدين موقفاً صارماً، فيحرم حرمان الأجير أجرته تحريماً لا مثيل له، ويترك أمر اتفاق العامل مع رأس المال طوع إرادة الجانبين في رعاية السلطة العادلة تمهيداً لاختيار أفضل الحلول وأعدل الأجور.

ويؤكد الدين على الإسراع في دفع الأجرة بصورة نادرة في تعاليمه الواسعة.

العمل في التعاليم الدينية

أما التكريم لمقام العامل ولقداسة العمل فتقرّه المواد التالية:

1 - إن الأنبياء والأئمة كانوا من الطبقة العاملة. فإبراهيم وموسى كانا يرعيان الغنم، وعيسى كان نجاراً، ومحمد كان راعياً في الطفولة، ثم كان عاملاً في تجارات مكة والشام، وعلي كان يزرع.

وقد كان بعضهم، كالإمام الصادق (ع)، يعتز بهذا الأمر فيقول: إن أنا عملت بيدي فقد عمل بيده من هو خير مني ومن أبي، وهو رسول الله وأمير المؤمنين، فقد كانا يعملان بأيديهما.

2 - في كثير من التعاليم الدينية نجد اهتماماً بالغاً بالعامل والعمل، وذلك في وقت كان العمل غير متناسب مع مقام الشخصيات في عرفهم.

فقد ورد عن رسول الله (ص) أنه حينما كان يدخل عليه أحد يسأله: هل لك حرفة؟ فإذا قال لا، أعرض عنه، ويقول إن الذي لا حرفة له يعيش بدينه، وإن رسول الله كان يأخذ يد العامل المثابرة بالعمل فيقبّلها ويقول: هذه يد يحبها الله ورسوله.

3 - اعتبار العمل عبادة: ففي الآثار الدينية أن العبادة سبعون جزءاً أفضلها العمل. والتأكيد على أن الزراعة وغرس الأشجار والتجارة والبناء وغيرها من الأعمال عبادات لها جزاء عند الله.

وبصورة عامة، يحاول الإسلام أن يجعل حياة المؤمن كلها عبادة وسجوداً وتسبيحاً وصلاةً، وذلك عن طريق سلامة العمل وإتقانه، وعن طريق سلامة النية وسموّها.

وهذه القداسة تكريمٌ للعمل ومحاولةٌ لتخفيف الصعاب عن العامل، حيث إنه في عمله يعبد الله.

ثم إنها تساعد على إتقان العمل وعلى عدم الشعور بالخسارة إذا صادف الإنسان الخسارة.

وبعد ذلك، فإن المبدأ هذا يجنّد طاقات الفرد، وينسّق جهود الجماعة وجميع أفراد الشعب، حيث يجعل المبدأ والمنتهى والحظ عند الجميع واحداً، ويجعل الإنسان يشعر بأنه في انسجام تام مع الكون كله ومع كافة الموجودات التي تسجد لله وتسبح بحمده وتصلي له حسب التعبيرات القرآنية. فكل من يعمل فهو يصلي في محرابه في موكب كبير أزلي أبدي. وهذا الشعور العميق يعزيه ويشوقه ويرفع غربته ويبعث الأمل في نفسه.

وقد يُطرَح سؤال هنا:

لماذا تقولون مثل هذه الكلمات وهذه الميزات الآن، ولم تقولوها سابقاً عندما كان رب العمل يضطهد العامل ويضايقه ويمتص دمه، حتى إذا فقد العامل صبره ووعى وثار وتجمّع وأسّس الأحزاب والنقابات وسيطر على كثير من الحكومات في العالم، عند ذلك بدأتم بتشكيل منظمات دينية وإقامة محاضرات في قاعات دينية والبحث عن مواقف إيجابية للدين وأهله من العامل؟؟

وفي الجواب: أوجز بحثاً طويلاً يتصل ببحث حضاري عميق حاصله، أن الحضارة الشرقية المؤمنة في عصرها، ما كانت تضطهد العمال ولا كانت تجعل المجتمع طبقات، ولا كان العامل يعيش كعدو لرب العمل ولا رب العمل كان يستغل العامل.

ذلك لأن قواعد الحضارة كانت قائمة على أيديولوجيات روحية أخلاقية، وكانت هذه الأفكار تنظم العلاقات بين الأفراد وبين الجماعات، وأمثلة ذلك كثيرة، أذكر على سبيل المثال تسمية العامل في حضارتنا الشرقية بالصانع، حيث إن العامل كان يتعلم الصنعة عند رب العمل تمهيداً لمشاركته في المهنة أو تأسيس مهنة لحسابه، فكان العامل تلميذاً مع رب العمل.

العامل في المفهوم الغربي المادي

وعندما سيطرت الحضارة الغربية التي تعتمد على مبدأ المادة فقط، وعدم تدخل ما وراء الطبيعة في حياتنا وفي مجتمعاتنا، عندئذ سيطرت المادية دون قيد أو شرط، فبدأ صاحب العمل يرى غايته الوحيدة المزيد من الثراء دون اعتبار شرط أو ميزان، فأصبح يضغط على عامله ويغتصبه حقه ويحتال بوسائل عديدة لأجل المزيد من الربح، حتى وصل العامل إلى درجة يعطى الأجر لكي يعيش ويستمر في خدمة صاحب العمل كالحيوان.

وطبيعة هذا الطغيان أدت إلى الانفجار، فثار العامل وتكتَّل، وأخذ حقه وسيطر على ممتلكات الآخرين.

وهذا شأن كل حقل من حقول الحضارة المادية في الغرب وفي الشرق دون استثناء، ودون اختصاص بحقل العمل والعمال.

لهذا السبب، فقد أصبح الدين ورجاله أمام مسائل جديدة ما كان لهم في بلادهم نظيرها. وعلى هذا يبقى عليهم دور التوجيه وتعديل الصراع وتبني الآراء الحقة والدفاع عنها والتخفيف من الظلم الصادر من أي جانب.