العالم الذي خسره النجف
٭ إن قلت: إنه التجسيد الحقيقي لشرف النسب الطاهر، فإنك لن تكون قد جانبت الحقيقة.
٭ وان قلت: إنه الوعي الكامل، لما يعنيه الانتساب إلى شجرة النبوة، وأي تكليف يضعه هذا النسب على كاهل صاحبه، فإنك تكون قد أصبت كبد الحقيقة.
٭ وان قلت: إنه النموذج للعالِم المسلم الذي نقرأ عنه في بطون الكتب ونستحضره من بطن التاريخ محيطاً باختصاصه، ملماً بشيء من كل علم، فإنك لا تكون قد بالغت في شيء.
٭ إنه سماحة العلامة المرجع آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، الذي يرتفع به نسبه الشريف الى العترة النبوية الطاهرة، ويرتقي به علمه إلى ورثة الأنبياء. لذلك يحبه عارفوه ويحترمه حتى خصومه والذين يختلفون معه.
٭ عمامته الشريفة تذكرك بدوْر علماء أمتنا من السلف الصالح، الذين جمعوا السيف والقلم معاً. فلا أحد ينكر دوْر سماحة السيد في نشر روح المقاومة والجهاد وثقافتهما. ولا في رعاية المقاومين والمجاهدين. وهي الرعاية التي كان حصادها حركة مقاومة إسلامية أثمرت تحرير الأرض، لكنها أثمرت ما هو أهم، عندما ساهمت في بناء وعي الأمة على رفض الخنوع والاستكانة. وهذا هو الدور الحقيقي للعالم المجاهد من أمثال العلامة السيد محمد حسين فضل الله، فهذا الصنف من العلماء يؤمن بأنه كي يرفض الشعب الخنوع والاستكانة، فإنه لا بد للعالم من أن يقوم بدوره النهضوي التنويري وهذا ما كان على يدي سماحته.
٭ سعي سماحته إلى نشر روح المقاومة والجهاد في نفوس أبناء الأمة له أكثر من سبب؛ ففوق أن الجهاد فريضة إسلامية، فإن سماحته مهموم من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه بفلسطين والقدس تاجها ودرتها. وبقاؤها في يد الغاصب المحتل يسبب لسماحته أرقاً دائماً. لذلك لا تكاد تخلو خطبة من خطبه، أو درس من دروسه، أو محاضرة من محاضراته من ذكر فلسطين، والقدس، وضرورة السعي إلى تحريرها؛ لذلك صار على قائمة المطلوبين للعدو الإسرائيلي. ولم يكن غريباً أو مستغرباً أن يستهدفه العدو الإسرائيلي في عدوان 2006، مثلما استهدفه قبل ذلك أكثر من مرة تعرض فيها سماحته لمحاولة الاغتيال.
٭ مثلما يؤمن سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، بأن المقاومة والجهاد هما سبيل الأمة لتحرير مقدساتها، وحماية وجودها وكرامتها وعزتها، فإنه يؤمن أيضاً بأن وحدة الأمة هي اللبنة الأساسية لذلك كله. فصارت وحدة الأمة شغله الشاغل، ودعوته الدائمة وعمله المتواصل.
٭ علمه الواسع والعميق، ولَّد لديه ثقة كبيرة بالنفس ،استمدها من الثقة بالله عز وجل. وهذه الثقة هي التي جعلت منه رجل حوار من الطراز الأول. سواء داخل المذهب الواحد، أو بين اتباع المذاهب المتعددة. بل ومع أتباع الطوائف والأديان والحضارات الأخرى. فلا شيء لدى المسلم يخاف أو يخجل منه أو يخفيه. لذلك لم يتردد سماحة السيد في الحوار مع أي طرف كان سنياً أو شيعياً، ماركسياً أو قومياً، مسلماً أو مسيحياً، فسماحته لا يحس بوجود حاجز بينه وبين أي إنسان مهما يكن فكره، ومهما تكن اتجاهاته. لذلك لا يمانع في حوار أي كان للوصول إلى الحقيقة، مع احترامه الشديد لخصوصيات الآخرين، واحترام الرأي الآخر مع جرأة تجعله لا يتردد في طرح أفكاره حتى لو تسبب له ذلك بالكثير من المشاكل.
بل إن سماحته يحاور حتى النصّ، ولو من موقع الشك -فهو يؤمن بأن الشك سر المعرفة، والذين لا يشكّون يجمّدون كل ذلك -دون أن يتنازل عن الثوابت.
٭ مثلما يؤمن سماحته بالحوار، فإنه يقبل الخطأ، ويتقبل الانتقاد، بل إنه يؤمن بأنه ليس من حق رجل الدين ان يستغل موقعه، ليفرض رأيه السياسي على الناس، ليعطيه قداسة لا يملكها. ويذهب سماحته إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما يقول: حتى في الدين فإن رجال الدين لا يملكون الحقيقة المطلقة، هم يعطون وجهة نظر.
بإيمانه بالخطأ فإن سماحة السيد يجسد واحدة من أهم الخصائص التي ميزت الإسلام وحضارته. فهو الدين الوحيد الذي يعترف بالخطأ، بل ويثيب عليه «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»، «فمن أخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران».
٭ يحتار المرء عن أي جانب من جوانب شخصية سماحته يكتب، هل يكتب عن العالم الذي فهم عصره، فصار يقرأ النصوص وفق معطيات هذا العصر، انطلاقاً من فهم سماحته للإسلام الذي يحترم العقل البشري وسنن التطور؟.
- أم يكتب عن العالم الموسوعي في شخصية سماحته المتابع للتفاصيل والتطورات اليومية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد صار هؤلاء العلماء عُمْلَةً نادرة في زمننا هذا، وسماحته واحد منهم؟.
- أم يكتب عن الجانب المؤسساتي في حياته؟ فسماحته لا يؤمن بالعمل الفردي، لذلك تراه يكثر من إقامة المؤسسات التي تخدم الفكرة والدعوة، ومن ثمار عمله المؤسسي المبارك جمعية المبرّات الخيرية وغيرها من المؤسسات التي تقدم الخدمة للناس من خلال البديل الحضاري الإسلامي الذي يحتاج إليه الناس.
- أم يكتب عن الجانب الحركي في شخصية سماحته وقدرته على الحركة والعطاء الدائم والشباب المتجدد؟.
- أم يكتب عن أخذ سماحته بأساليب العصر وأدواته؟ ويكفي هنا أن نشير إلى إيمانه بالإعلام ودوره في هذا العصر؛ لذلك أنشأ إذاعة البشائر، ونشرة بيّنات الصحفية وموقع بيّنات الإلكتروني وغيرها من وسائل الإعلام التي يسخرها سماحته لخدمة الإسلام والمسلمين.
- أم يكتب عن تنوع معارفه واهتماماته الإبداعية؟ فعلاوة على درجته الفقهية المتقدمة، التي جعلته من المراجع العظام، فإن سماحته شاعر له أكثر من ديوان، وأديب اطلع على آداب الأمم الأخرى، إضافة إلى أدب أمته. فقرأ لمارتين مثلما قرأ «كاتب» طه حسين و«رسالة» أحمد حسين الزيات، وغير ذلك كثير من أمهات كتب الأدب والشعر؛ إضافة إلى سائر العلوم والمعارف. وذلك كله لم يلهه عن تخصصه الأول في علوم الفقه والشريعة والفكر الإسلامي، منذ أن التحق بالحوزة وهو في التاسعة من عمره فصار من طلبتها المبرزين. وبعد أن تتلمذ على يد والده تتلمذ على يد المراجع العظام من أمثال أبي القاسم الخوئي، ومحسن الحكيم وغيرهما. وقد درس دروس الخارج وهو بعد في السادسة عشرة من عمره، قبل أن يصبح أستاذاً للفقه والأصول في حوزة النجف. قبل أن يغادرها ليؤسس حوزته في لبنان، ويومها قال العلامة الشهيد محمد باقر الصدر«كل من خرج من النجف خسر النجف إلا السيد فضل الله فعندما خرج من النجف خسره النجف».
التاريخ : 2010/04/27
صحيفة اللواء الأردنية:
http://al-liwa.net/News.aspx?id=85729&sid=10