طلب مني أحد الأخوة الأفاضل أن أنشر هذه المداخلة في موضوع مستقل.
(( الصحفي البريطاني المخضرم "روبرت فيسك" مراسل صحيفة "الإندبندنت" ))


كان منظراً وحشياً و فظيعاً، رؤية تلك اليد الممزقة و هي معلقة بمقبض الباب الحديدي .. خليط الدم الممزوج بالطين على قارعة الطريق ... بقايا دماغ أحد الضحايا في إحدى زوايا المرآب هناك .. بقايا هيكل عظمي متفحم حتى الرماد لأم و أطفالها الثلاثة في سيارتهم التي لا تزال تنفث الدخان!

هؤلاء قتلهم صاروخان من طائرة نفاثة ... خمسة عشر قتيلاً و أكثر من ثلاثين جريحاً هم ضحايا المجزرة الأخيرة التي تسبب بها الصاروخان اللذان ألقتهما إحدى الطائرات النفاثة على حي الشعب في شمال العاصمة العراقية بغداد ، حيث تمزقت جثث العراقيين قبل أن "تحررهم" نفس الدولة التي دمرت حياتهم!

إني أتسائل ..! من يجرؤ على أن يطلق على هؤلاء الضحايا "خسائر جانبية Colateral Damage” ؟!

لقد كان شارع "أبو طالب" في حي الشعب مكتضاً بالمارة و سائقي السيارات عندما اقترب منه الطيار الأميركي بطائرته من خلال العاصفة الرملية الكثيفة التي غطت شمال العاصمة بطبقة حمراء صفراء ممطرة ... هذا الحي الفقير جداً تسكنه أغلبية شيعية من الذين يأمل منهم (بوش) و (بلير) بشغف أن ينتفضوا ضد نظام صدام ! حي تكثر فيه كراجات تصليح السيارات المسودة بفعل الزيوت و الشقق السكنية المكتضة بالسكان و زرائب بيع الخراف و الماعز!

كل من تحدثت معه هنا أخبرني أنه سمع هدير الطائرة و هي تقترب من الحي قبل أن تلقي بحمولتها. أحدهم ، و بفعل الصدمة التي أصابته من رؤية هذه الجثث بدون رؤوس ، لم يستطع أن ينطق سوى كلمتين:
"هدير ، برق!" ظل يرددها ، ثم أغمض عينيه بشدة !
كيف يتسنى للمرء أن يوثق حدثاً رهيباً كهذا ؟ ربما تقرير الطب العدلي هو خير من يصور هذه الأحداث! العراقيون الآن يشهدون هذه المآسي يومياً ، و لذلك لا يوجد ما يبرر اخفاء حقيقة ما يمرون به من هذه الفضائع.

ثم تسائلت و أنا أسير في موقع هذه المجزرة يوم أمس : إن كان هذا ما نشاهده يحصل في بغداد ، فما حقيقة ما يجري في البصرة و الناصرية و كربلاء ؟ كم من المدينيين يقتلون هناك أيضاً ، ممن لا نعرف هوياتهم و لا أسمائهم ، و لا تصلهم وسائل الإعلام و لا يوجد صحفيون يسجلون معاناتهم ؟

لقد كان (أبو حسن) و (مالك حمود) يعدان طعام الغداء في مطعم (النصر) في الجانب الشمالي من شارع "أبو طالب" عندما قتلهما الصاروخ الأول الذي سقط في جانب الشارع الأيمن ، حيث أدى عصف الإنفجار إلى تهشيم واجهة المطعم و ممزقاً الرجلين إلى أشلاء مبعثرة – (أبو حسن) 48 عاماً و مالك 18 عاماً .

أحد زملائهما قادني إلى ركام المطعم قائلاً "هذا كل ما تبقى منهما" و هو يحمل بيده مقلاة للطبخ و هي ملطخة بدمائهما.

لقد أحرق الإنفجار ما لا يقل عن 15 سيارة ، و احترق معها أغلب ركابها حتى الموت. لقد حاول مجموعة من الرجال يائسين قلع باب إحدى السيارات و هي تلتهب ناراً بركابها بعد أن عصف بها الإنفجار و قلبها على ظهرها في وسط الشارع .. عبثاً حاولوا انقاذ المرأة و أطفالها الثلاثة الذين كانوا داخل السيارة و هم يحترقون أحياء حتى تفحموا أمام أعينهم !!

الصاروخ الثاني سقط على الجانب الأيسر من الشارع مرسلاً شظاياه المعدنية القاتلة إلى ثلاثة رجال كانوا يقفون بجانب بناية كونكريتية كتب عليها عبارة "وقف لله" ! لقد هرع مدير البناية (هاشم دعنون) إلى بوابة العمارة عندما سمع الإنفجار ، يقول " لقد رأيت ثائر ممزقاً هنا ، لقد انفجر رأسه ، و تلك يده" ! و هو يشير الى الشارع ..

فهناك في وسط الشارع ، مشهد كأنه فيلم رعب ، تلك هي يد "ثائر" مقطوعة من المعصم ، و أصابعه الأربع و ابهامه يمسكون بقطعة معدن!

أما صديقه الشاب "سرمد" ، فقد قتل في نفس البقعة ، فقد تكوم دماغه على بعد بضعة أمتار ، حيث تتكدس كتلة من الأنسجة الوردية و الرمادية خلف إحدى السيارات المتفحمة..

لقد تحدث الناجون عن الذين قتلوا و عرفوا بهم ..!

كان هناك صاحب محل للمواد الكهربائية قتل في داخل محله بنفس الصاروخ الذي مزق "ثائر" و "سرمد" و و بواب العمارة السكنية و الطفلة التي كانت تقف على الجزرة الوسطية تنتظر عبور الشارع ، وسائق الشاحنة الذي كان على مسافة أمتار من موقع الضربة ، و الشحاذ الذي كان معتاداً أن يطلب الخبز من "دعنون" و كان يهم بالمغادرة عندما هبط عليه الصاروخ من بين ضباب العاصفة الرملية ليقضي عليه!

في قطر ، أعلنت القوات الإنجلواـأميركية – دعونا ننسى كذبة "قوات التحالف" هذه! – أعلن هذه القوات أنها ستجري "تحقيقاً" في الموضوع ! أما الحكومة العراقية ، المستفيد الوحيد من حمام الدم هذا لأغراض الدعاية ، أدانت بطبيعة الحال هذه المذبحة التي حددتها بـ 14 ضحية..

ماذا كان هدف الهجوم الحقيقي؟ بعض العراقيين يقولون أنه كانت هناك نقطة عسكرية على بعد كيلومتر واحد من الشارع ، علماً بأني لم أر شيئاً من هذا القبيل. البعض الآخر قال أنه يوجد هنا مركز لإطفاء الحريق ، لكن هذا لا يمكن اعتباره هدفاً عسكرياً [اي حال من الأحوال.

لكن من المؤكد بأنه كان هناك هجوماً على قاعدة عسكرية إلى الشمال خارج العاصمة ( معسكر التاجي) ، لقد كنت أقود سيارتي متجاوزاً القاعدة عندما دوى انفجار قذيفتين على المعسكر و رأيت الجنود العراقيين يهربون بأرواحهم من بوابات المعسكر و على جانبي الطريق السريع ، ثم بعدها سمعت دوي انفجارين للصاروخين اللذين ضربا شارع "أبو طالب".

طبعاً الطيار الذي قتل الأبرياء يوم أمس لم يكن ليرى ضحاياه ، لأن الطيارين يطلقون صواريخهم على اهداف يحددها لهم الكومبيوتر ، و لأن العاصفة الرملية تحجب رؤية الشارع عنهم! لكن عندما سألني أحد أصدقاء (مالك حمود) كيف يتسنى لهؤلاء الأميركان أن يفرحوا بقتل الإبرياء الذين يزعمون أنهم يرومون "تحريرهم" فإنه بالتأكيد لم يكن معنياً بالتعرف على تقنيات الألكترون و نظام توجيه الصواريخ!

و مالذي يجعله يهتم بهذا أصلاً ما دامت هذه المجازر تحدث يومياً في بغداد ؟! فقبل ثلاثة أيام سحقت الصواريخ عائلة واحدة مكونة من تسعة أشخاص و هو في بيتهم في و سط العاصمة ! و هجوم آخر على باص محمل بالمدنيين جنوب العاصمة أودى بهم جميعاً!

لقد علم العراقيون بالأمس فقط حول هوية المدنيين الخمسة الذين قتلوا في هجوم على باص سوري قريباً من الحدود السورية في عطلة نهاية الأسبوع.

في الحقيقة ، لا يوجد مكان آمن في بغداد الآن ، و كلما أحكم الأميركان و البريطانيين حصارهم حول المدينة كلما ازدادت هذه الحقيقة وضوحاً .. و دموية!

ربما نرتدي رداء "الأخلاق و القيم" و نحن نبين لماذا كان على هؤلاء العراقيين أن يموتوا !
كان عليهم أن يموتوا بسبب أحداث 11 سبتمبر ! أو ربما نقول كان عليهم أن يموتوا بسبب "أسلحة الدمار الشامل العراقية" ! أو بسبب خروقات النظام لحقوق الإنسان ! أو بسبب رغبتنا اليائسة من أجل "تحريرهم"

و في جميع الحالات ، أراهن بأنهم سيقولون لنا بأن "صدام حسين" هو المسؤول عن قتل كل هؤلاء! و طبعاً ، سوف لن يتعرض أحد للطيار الذي ألقى بصواريخه عليهم!