د .موسى الحسيني*

منذ هزيمة حزيران 1967 ، ضاع فرحي ، بل تبلد الاحساس ، حتى اني لم افهم ما يتداوله الناس عن مفاهيم كانت غامضة بالنسبة لي ، كالفرح والبهجة والسعادة ، بل حتى الحزن . سافرت حول العالم من الفلبين الى بريطانيا ، عشت حياة رفاهية وترف ، حسدني الكثير عليها ، كما عشت الكثير من لحظات العوز والضيق ، لاتلك افرحتني ، ولا هذه غمتني .

ربحت وخسرت ، اكملت دراستي وحصلت على اعلى الدرجات العلمية من ارقى الجامعات ، دخلت صراعات ، انتصرت وانهزمت ، سجنت ، وعذبت في العراق وسوريا وبريطانيا ، تزوجت مرتين ورزقني الله اطفالا ، وانا اواجه ذلك كله باحساس متبلد ، يفرح الناس من حولي ويحزنوا ، ويعجبوا ، ان لا الفرح يشدني ولا الحزن يهدني . لعل اصعب موقفين واجهتهما يوم ولد ابني الاول حيدر ، وما اصاب زوجتي من صدمة وهي ترى اني لم افرح كما يفرح عادة الرجال عندما يرزقهم الناس اطفالا، خاصة الطفل الاول . ولعلها تصورت بل هي تصورت فعلا ان هناك امراة اخرى ، او سببا اخر غير مفهوم . ومرة اخرى يوم توفي والدي ، وهو رجل معروف جدا في بيئته ، ولاحظ الناس واهلي اني لم اتفاعل بالامر كما تفاعل الاخرين حتى اولئك الغرباء الذين لاتربطهم بالوالد صلة قرابة . وزعل مني بعض من اهلي ، وتقول الاخرون كثيرا عني . الاحساس الوحيد الذي اشعر به هو الشعور بالذنب كلما نظرت لواحد من ابنائي ، واقول لماذا جنيتهم أليكونوا حطبا للطائرات الاميركية والصهيونية .


انها حالة تبلد في الاحساس . بل حالة كآبة مرضية حادة تظهر عادة كنتيجة طبيعية عند تعرض الانسان للاحباطات الكبيرة والصدمات الشديدة . وانا اعرف انها حالة كآبة لو عرضها علي اي انسان اخر لنصحته بالذهاب الى طبيب نفسي . الا ان معرفتي واختصاصي بعلم النفس ، علمني ما انا به وما اعانيه ، واعرف اسبابه . لذلك لم اراجع طبيب رغم معاناتي القاسية .


ولا اعتقد ان حالتي فريدة ، بقدر ما انا واثق من انها حالة عامة اصابت جيلنا ، يمكن ان البعض عانى منها ، دون ان يشخصها ، او شخصها ولم يحدد اسبابها ، وهرب البعض في الجري وراء الاغراءات المادية ، وكفر الاخر بالعروبة والعرب وتصور ان العجز يشكل حالة طبيعية تكون واحدة من مقومات الشخصية العربية ، فياس واستسلم للسقوط .


ضخم احتلال العراق من هذه الحالة من تبلد الاحساس . وانكسار الذات العربية .شخصيا حاولت ان اتمرد على احباطاتي وكآبتي ، وانتفض ، مساهماً بشكل او اخر في عملية التحرير والمقاومة ، ولو بقلمي وذلك اضعف الايمان ، فكنت انتفض مرة واحطم بلادتي ، وتشدني احباطاتي وكابتي في الكثير من المرات .


حتى جاء العيد لاكتشف انكم ورغم مرور ستة ايام على الهجوم البري الذي جاء بعد قصف جوي ومدفعي مكثف استمر اكثر من اربع اسابيع ، لاجد ان دماءكم الزكية احيت مشاعر الشموخ والعزة بل وحتى الرجولة في دمي ، وازاحت كابتي ، وكل اثار الاحباط ومشاعر العجز التي عشعشت في قلوبنا وروحنا ودمائنا ، كرقية سحر اعادة لنا الاحساس بمعاني الفرح والحزن ، ولاول مرة ارى على العربي ان يرفع راسه ، يلبس احلى ما عنده ويتعطر ويمشى بكل خيلاء وفخر . ليقول انا من نفس ذلك الشعب الذي قاوم في الفلوجة والرمادي والموصل والنجف وبعقوبة ، وكل مدن المقاومة والثورة .


وانا ضابط خريج مدرسة الابطال – الكلية العسكرية العراقية – ومقاوم خدمت اكثر من 15 سنة مع اخواني الفلسطينيين ، واعرف جيدا حجم الفرق بين تسليحكم وما عند العدو من اسلحة تغطي جبن جنوده ، واعرف ايضا أن ما عندكم من اسلحة بسيطة لاتساوي امام دباباتهم وطيرانهم اكثر ما يساويه المقوار امام المدفع ، وادرك حجم التضحيات والبطولات والايمان الذي يملأ قلوبكم فتتفوق قاذفاتكم على دباباتهم وبنادقكم على طائراتهم .


بالامس زارني الاخ زهير لطيف – الاعلامي المعروف – كنت ارى على وجهه تساؤلات وعلامات دهشة لم اعرف معناها ، حتى جاءتني مكالمة تلفونية من احد الاصدقاء وسمعني اتكلم عن بطولاتكم ، التي تثير الفخر، وترفع الراس شامخا ، فقال لي الاخ زهير بعد الانتهاء من المكالمة : كنت مستغربا وانا ارى وجهك يطفح بالفرح ومشاعر السعادة بشكل لم اراه من قبل ، الا اني الان عرفت السبب . أنها الفلوجة .


واليوم اتصلت بالاخ الاستاذ منذر الاعظمي لأهنئه بالعيد ، وكان تلفونه مشغولا ، فتركت له رسالة تلفونية ، اتصل بي بعد نصف ساعة بصوت مكسور ، اجش مستفسراً عن الاحساس بالسعادة التي لمسها في صوتي ولهجتي وهو يعرف حجم التزاماتي الوطنية واعتزازي بالمقاومة ورفضي للاحتلال ، بما يفترض ان يثير الحزن لدي امام محنتكم ، وعندما شرحت معاني الاباء والبطولة التي جسدتموها بمقاومتكم ، وكيف انها اعادت لذاكرتنا بطولات عنترة بن شداد ، وسيف علي ، وشجاعة العباس ، وخالد بن الوليد ، وابو عبيدة الجراح وامثالهم من ابطالنا العظام . وكيف علينا ان نطمئن الان على مستقبل اطفالنا وانتم ترسمون لهم طريق المستقبل الزاخر بالامل والحرية والاستقلال والكرامة . شكرني لانه لم ينتبه للمعاني التي ادركتها في مقاومتكم ، بعد اقل من نصف ساعة اخرى جاءتني منه رسالة الكترونية ( انقل نصها في اسفل هذه الرسالة ) هي عبارة عن بطاقة تهنئة كتبها لاصدقائه ،الذين تخلف عن تهنئتهم بالعيد ليقول لهم كيف علينا ان نحتفل ونفرح ببطولاتكم ومواقفكم الشجاعة .
مقارنة بنكسة حزيران ، كان هناك ثلاثة جيوش عربية ، انهارت مقاومتها خلال اقل من يومين امام دولة لايمكن بكل المقاييس ان تقارن بامكانات اميركا العسكرية ، وها انتم صامدون باسلحتكم الخفيفة . انها ارادة الحياة ، والايمان بقيم العدل والحق والخير والحرية . ما تجعل قذائفكم تثير الخوف والفزع عن جنود الضلالة والغدر.
ووجدتني مثل المراهقين اغير نغمة صوت تلفوني النقال ، واستبدلها بالانشودة الرائعة :


حيا اهل الفلوجة اللي كلهم شجعان
حيا الله اهل الفلوجة اللي ما دنوا راس وذلوا للامريكان .
لكي اعيد كل يوم متعة اللذة والبهجة والنشوة ببطولاتكم .
شكرا لكم سادتي الابطال .


والمجد والخلود للشهداء الابطال الذين رسموا بدمائهم طريق مستقبلنا وصولا للتحرير والخير والاستقلال والحرية .

تحية لكم لاطفالكم ، لنسائكم ، شبابكم ، وكهولكم .

تحية لاحجار منازلكم ومساجدكم التي تهدمت ، لتبني لنا عراقنا الحبيب ، وتعيده لأصله عربيا شامخا ، يساهم بصنع تاريخ العرب والعالم . وتخرس اصوات الذل الماجرة لاشباه الرجال ولا رجال ، وحلوم الاطفال .
وتهاني لكل العراقيين بهذه الصفحة الجديدة من صفحات المجد والشمم.


* من مواليد الخضر – من عائلة من اهالي الناصرية


أدناه رسالة الاخ الاستاذ منذر الاعظمي :


خابرت* ‬الحجيَّة* ‬في* ‬الأعظمية* ‬صباح* ‬اليوم،* ‬وسألتها* ‬بحذر* ‬عن* ‬صحة* ‬افراد* ‬العائلة*. ‬فقالت* ‬بقوة*: ‬لماذا* ‬لا* ‬تعيِّدنا* ‬بالعيد؟* ‬فقلت* : ‬بأي* ‬حال* ‬نحن؟* ‬فقالت* : ‬لا*. ‬انه* ‬عيدنا* ‬ولن* ‬نتخلى* ‬عنه* ‬لبوش . السفلة استخدموا الكيماوي* ‬والأعصاب، ‬انشاء* ‬الله* ‬سنطردهم* ‬شر* ‬طردة*.‬


كان* ‬هناك* ‬رسالة* ‬تلفونية* ‬من* ‬صديق* ‬على* ‬هاتف* ‬نقَّال* ‬ببغداد،* ‬يهنئنا* ‬بالعيد* ‬بصوت* ‬قوي* ‬معتد* ‬بنفسه* ‬بأقوى* ‬مما* ‬يبدو* ‬قائلها* ‬في* ‬المقابلات* ‬على* ‬الفضائيات*. ‬بدأتُ* ‬انتبه* ‬ان* ‬نفسيتنا* ‬هنا* ‬تختلف* ‬عما* ‬هم* ‬عليه* ‬قريبا* ‬من* ‬المعركة*. ‬هل* ‬اضعفتنا* ‬الغربة* ‬بهذه* ‬الدرجة؟* ‬لم* ‬انجح* ‬في* ‬رد* ‬المخابرة* ‬اليوم*.‬


ثم* ‬كانت* ‬هناك* ‬الرسالة* ‬التلفونية* ‬من* ‬د*. ‬موسى* ‬الحسيني،* ‬وقد* ‬استعاد* ‬قوة* ‬صوته* ‬بعد* ‬فترة* ‬مرض،* ‬معيّدا* ‬وذاكراً* "‬الأفراح* ‬والخير*". ‬خابرته* ‬مستفسرا* ‬عن* "‬الأفراح* ‬والخير؛* ‬هذه* ‬فقال* ‬انه* ‬لم* ‬يشعر* ‬بمثل* ‬هذه* ‬السعادة* ‬منذ* ‬حرب* ‬السبعة* ‬وستين*. ‬وقتها* ‬ثلاثة* ‬دول* ‬بعدّها* ‬وعديدها* ‬تنهارفي* ‬ستة* ‬أيام،* ‬بل* ‬منذ* ‬اليوم* ‬الواحد،* ‬وبدون* ‬قصف* ‬الشهر* ‬والشهرين* ‬السابق* ‬له* . ‬قال* ‬انه* ‬لأول* ‬مرة* ‬يشعر* ‬ان* ‬أنف* ‬العربي* ‬شامخ* ‬في* ‬السماء،* ‬حتى* ‬اذا* ‬خسرنا* ‬معركة* ‬الفلوجة*. ‬طبعا* ‬هناك* ‬الضحايا* ‬والأشلاء* ‬لكننا* ‬نعاني* ‬من* ‬هذه* المجازر ‬لسنين* ‬وسنين* ‬بدون* ‬ان* ‬نرد*. ‬فما* ‬أثبتته* ‬هذه* ‬المدينة* ‬الصغيرة* ‬لهو* ‬أكثر* ‬مما* ‬يجري* ‬فيها*. ‬آعتقد* ‬انه* ‬كان* ‬يتحدث* ‬عن* ‬النسغ* ‬الصاعد* ‬الذي* ‬عاد* ‬متدفقا* ‬في* ‬شرايين* ‬شباب* ‬الأمة* ‬وشيوخها*. ‬فتياتها* ‬وامهاتها*. ‬ومضينا* ‬كالعادة* ‬نقلب* ‬السيناريوهات* ‬المتوقعة* . ‬مثل* ‬ما* ‬اذا* ‬هوجمت* ‬الموصل* ‬وهي* ‬اكبر* ‬من* ‬بيروت* ‬ولا* ‬تحمل* ‬خبث* ‬الكتائب* ‬الخ


أعدت* ‬ذكر* ‬ما* ‬قاله* ‬موسى* ‬عن* ‬العائلة* ‬المتجمعة* ‬حول* ‬المائدة،* ‬وإذا* ‬بأكتافهم* ‬ترتفع* ‬رويدا* ‬رويدا،* " ‬واللهِ* ‬حقّه،* ‬واللهِ* ‬صدق*"‬ويعد* ‬دقائق* ‬استبدل* ‬بعضنا* ‬قمصانه* ‬السود* ‬والداكنة* ‬بقمصان* ‬مشرقة* . ‬آستمرينا* ‬في* ‬الحديث* ‬عن* ‬الشهداء،* ‬ولكن* ‬ايضا* ‬عن* ‬هذا* ‬النسغ* ‬الجديد* ‬في* ‬شرايين* ‬العرب* ‬والمسلمين*.‬


تقبلوا* ‬مني* ‬أطيب* ‬التحيات* ‬بعيد* ‬الفطر* ‬المبارك،* ‬آعاده* ‬الله* ‬علينا* ‬وعلي* ‬كل* ‬العراقيين* ‬بما* ‬هو* ‬ابهى* ‬وأروع* ‬وبالسعدة* ‬والخير*.‬

منذر* ‬