بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
‏28 ذو القعدة 1423 هـ/ 31 كانون الثاني ـ يناير 2003م.‏

لأن الله حمّلنا مسؤولية أن نكون الصادقين في أداء الرسالة: ‏
لن أجامل الاستكبار والخرافيين والمتخلّفين ‏

الخطبة الأولى:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {قل إن كنتُم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ‏ذنوبكم والله غفور رحيم}.‏
ويقول تعالى: {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله ولو ‏يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب}.‏
التوحيد في الحب
في كل ما جاء به رسول الله والأنبياء من قبله وسار عليه الأولياء، هو هذه العلاقة الصادقة المخلصة ‏الحميمة بين عباد الله وبين الله، أن يحب الإنسان ربه حباً يملك عليه كل عقله، ليكون الله في داخل عقله ‏عندما يفكّر، وأن يملك عليه كل قلبه، ليكون الله في داخل قلبه عندما يحب، ويكون الله في داخل حياته، ‏فلا يكون لغير الله أية شراكة في كل جوانب حياته, وقد كان رسول الله(ص) يمثّل هذا الحب الكبير لله ‏سبحانه وتعالى، ولذلك أوذي كما لم يؤذَ رسولٌ من قبله، وعندما تحركت الأحقاد ضده رفع طرفه إلى ‏السماء وقال: "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي"، ما دمت يا رب تحبني وما دمتُ أحبك فلا مشكلة ‏أمام كل الناس، في كل ما يقومون به. هذا التوحيد في الحب هو الذي جعل هذه الآية الكريمة تؤكد، من ‏خلال الله، أن العلاقة القائمة على محبة الله تعني أن تتبعوا حبيب الله، الرسول(ص)، لأن رسول ‏الله(ص) {لا ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى}، فهو يحدثكم عن الله في كل ما قاله، وفي كل ‏ما أراده منكم. وقد تحدّث الله عن الناس الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، هؤلاء ‏الذين استغرقوا في حبهم للناس، بحيث أنهم أخذوا بأسباب الغلو، فساووا بين الله وبين خلقه، والله يقول ‏لهم، إنه مهما كانت عظمة المخلوق، ليكن نبياً ليكن إماماً، ليكن ولياً، فهو عبد لله، لا تساووا الله بأحدٍ ‏من خلقه، لا تقتربوا بأحد من خلقه إلى مقامه {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}. هذا التوحيد في ‏الحب هو التوحيد في العقيدة، هو التوحيد الذي يعيش في الإنسان التوازن ليعطي كل ذي حقٍّ حقه، فلا ‏ينـزل أحداً عن حق، ولا يرفع أحداً عن حقه.‏
حياتي في خط الرسالة
أيها الأحبة، في هذا الخط الإسلامي والإنساني، خط الحب لله، الذي نشأت عليه منذ طفولتي الأولى، ‏حين كنت في جوار علي(ع)، هذا الحب لله الذي عاش في عقلي وقلبي وحياتي، هو الذي جعلني أشعر ‏بأن حياتي لا بد أن تكون في خطِّ الرسالة، في خط رسالة الإسلام، لأنها أمانة الله ورسوله في أعناقنا، ‏ولذلك حاولتُ منذ أكثر من خمسين سنة، أن أدرس ما يعرّفني بالله وما يقرّبني إليه، وما يطلُّ بي على ‏أسرار الإسلام في القرآن، وفي السنّة، وفي كل المفاهيم، في كل الحياة والواقع، وقد عشتُ الصراع ‏المرير منذ ذلك الوقت مع كل الذين يعيشون الكفر بالله، ويعيشون الشرك بالله، ويعيشون التخلّف ‏والغلوّ، كانت المسألة عندي هي أن الله علّمنا من خلال رسوله(ص) أن نحب الناس، وكنتُ منذ ‏الطفولة أحبّ كل الناس، ولم يدخل في قلبي ـ والله شاهد على ذلك ـ الحقد على إنسان، ولا العداوة، كنت ‏ولا أزال أحب الذين أتفق معهم على تأكيد الرسالة، وأحب الذين أختلف معهم، لأتحاور معهم لأفتح ‏قلوبهم على الحق، كنت أشعر أن الإنسان الذي يعمل ويحمل الرسالة، لا يمكن أن يعيش في قلبه الحقد، ‏ولا العداوة أو البغضاء، لأن الحقد على الناس يغلق القلوب، ولقد كان النبي(ص) يعيش القلب المفتوح ‏والعقل المفتوح واللسان المفتوح {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من ‏حولك} {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم}.‏
لذلك، أيها الأحبة، عشت هذه الحياة، وأنا أشعر بأن الحقيقة أمانة الله عندي، وكان الناس الذين ‏يلومونني يقولون، لماذا تتحدث بشيء لا يعجب الناس؟ ولماذا تفتي ببعض الفتاوى التي يستغربها ‏الناس؟ لماذا تثير الناس من حولك؟ جاملهم ولا تقل الحقيقة، ولكني كنت أقول: إنّ حساباتي ليست ‏معكم، بل هي مع الله، إن الله هو الذي حمّلنا مسؤولية أن نكون الصادقين في أداء الرسالة، وأن لا ‏تأخذنا في الله لومة لائم، كانت المسألة عندي، أن موقعي واسمي لا يمثّلان عندي شيئاً، ليسبّني من ‏يسبّ، وليشهّر من يشهّر، وليكذب من يكذب، وليحرف الكلام عن موضعه من يريد أن يحرّف، لكن ‏الله وحده هو الذي يدافع عن الذين آمنوا، والذي كنت أرجوه من الله هو أن يرزقني الإخلاص في ‏عملي، وليس لديَّ مشكلة، وإني أتمثّل بقول الإمام الحسين(ع): "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله". ولذلك ‏فما دام الله ينظر إليَّ فلا مشكلة.‏
أيّها الأحبة، لقد انفتح قلبي لكل مشاعركم الطيبة الصادقة ولكل عواطفكم، ولكل إخلاصكم، رجالاً ‏ونساءً، لقد شعرتُ بأنني في قلوبكم كما أنتم في قلبي.. سأقول لكم كلمة، ما دامت في العمر بقية، سوف ‏أبقى مخلصاً لكم بأن أكون الصادق معكم، لن أجامل استكباراً عالمياً حتى لو كان في حجم أميركا، لن ‏أجامل استكباراً إقليمياً، حتى لو كان في حجم الصهيونية، لن أجامل الخرافيين، لن أجامل المتخلّفين..‏
البقاء في خط الوحدة
القضية عندي هي أن أقول الحقيقة التي أعتقد أنها بيني وبين الله، لقد حمّلتموني أمانة كل هذه الثقة وكل ‏هذا الإخلاص، سوف أكون إن شاء الله أميناً على هذه الثقة، وسوف أعمل على أن أقدم لكم صغيراً ‏وكبيراً، رجلاً وامرأة، حياتي كلها، في ما أرجوه لله، في خدمة الله، وفي خدمة الإسلام، وخدمة خط ‏أهل البيت(ع)، لأنني أريد ـ أيها الأحبة ـ أن أقدّم خط أهل البيت للعالم بطريقة حضارية، لا بطريقة ‏خرافية، ولا بطريقة المتخلّفين، أريد أن أقدم تراث أهل البيت(ع)، وهو التراث الإسلامي الأصيل، ‏للغرب والشرق، ليعرفوا أن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع) هم الذين يصنعون الحضارة بعيداً عن ‏كل الذين يركزون على الخرافة والتخلّف والعصبية والحقد والبغضاء، سأبقى مع خط الوحدة في ‏داخلنا، ومع خط الإسلام في خط الواقع الإسلامي، ومع خط الوحدة ضد المستكبرين والظالمين، وأقول ‏ما قاله جدي رسول الله(ص) في مواجهة الذين كانوا يكيدون له، وكانوا يستهزئون به: "اللهم اغفر ‏لقومي فإنهم لا يعلمون".‏
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..‏


الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله في الوقوف مع الحق، وفي خطِّ العدل، وفي مواجهة الكفر كله، والاستكبار كله، فقد ‏برز الكفر كله والاستكبار كله إلى الإيمان كله، وإلى الاستضعاف كله، وعلينا أن نعد العدة في وحدتنا ‏التي هي أساس القوة، وفي النصح لبعضنا البعض، وفي الانفتاح على الواقع بكل مسؤولية..‏
اليمين الأمريكي... تضليل إعلامي
اليمين الأمريكي ممثَّلاً بالإدارة الأمريكية يتحدّى العالم بالحرب، ويقوم بحملة تضليلية إعلامية لتسويق ‏أكاذيبه المنسوجة بطريقة استخباراتية لخدمة مصالحه، في حركة تستهدف العرب والمسلمين تحت ‏أكثر من شعار، وتصل إلى مستوى الضغط على المواطنين الأمريكيين من العرب والمسلمين، ‏بالوسائل القانونية الجاهزة لدى وزارة العدل يومياً، حتى صار كل عربي أو مسلم أمريكي مُداناً حتى ‏تثبت براءته.‏
أما الواقع الدولي، حتى في مجلس الأمن فيتحرّك وفق حسابات المصالح، في الوقت الذي تقوم أمريكا ‏بعملية ابتزازه التي تبدأ بسياسة المهادنة والمجاملة، لتصل إلى مستوى القرار الأمريكي الذي يحاول ‏الحصول على الشرعية الدولية لحربه ضد المنطقة..‏
أمّا العرب، فإنّهم يلتقون ويجتمعون في مستويات مختلفة ولا قرار، ثمّ يسافرون إلى مواقع قيادة القرار، ‏ويتوسّلون.. ولا نتيجة.. ويبقى الضعف والاستضعاف والعجز الاختياري هو طابع السياسة العربية ‏أمام الهجمة الأمريكية حتى الآن.‏
اليمين الإسرائيلي تجسيد للعنصرية
أمّا اليمين الإسرائيلي، فقد فاز بالانتخابات ليجسّد الحقيقة اليهودية التي تفيد أن اليهود في فلسطين ‏يمنحون تأييدهم لمن يقتل الفلسطينيين أكثر، ولمن يجسّد العنصرية الصهيونية ضد العرب والمسلمين ‏أكثر، ولمن يمنع الشعب الفلسطيني، الذي قدّم قادتُه التنازل عن أكثر أرض فلسطين، من تقرير ‏مصيره، إلا على هامش الدولة العبرية، ما يجعل القضية في نطاقها العنصري قضيّة الحقد اليهودي ‏الصهيوني ضدّ كل ما هو عربي وإسلامي، لا قضيّة حزب هنا أو حزب هناك.. ولتكون النتيجة ‏الحاسمة، هي أنّه لا فرق بين يمين ويسار ووسط في إسرائيل إلا بالتفاصيل.‏
ولا يزال الحديث السياسي في الحوار الفلسطيني حول هدنة فلسطينية من جانب واحد، من دون أن تقدّم ‏الدولة الصهيونية أيّ التزام بالانسحاب من الأراضي المحتلة في مقابل ذلك، تماماً كما لو كانت القضية ‏هي إثبات الفلسطينيين حُسن سلوكهم أمام سلام اليهود الذين يرفضون السلام إلا بشروطهم العنصرية.‏
العرب والمسلمون في غيبوبة
إن المسألة تعود الآن إلى نقطة الصفر، لأن العرب لا يملكون أيّ دور في أيّ حل شرعي للمسألة ‏الفلسطينية، فهم ينتظرون القرار الأمريكي الخاضع للقرار الإسرائيلي في "خطّة الطريق" التي لن ‏ترى النور إلا من النافذة الشارونية.‏
إنّنا نتساءل: ما معنى أن يقف 300 مليون عربي بلا دور فاعل في قضاياهم المرتبطة باللحم الحيّ؟ ‏وما معنى أن يصمت مليار مسلم عن القضايا الإسلامية المصيرية، وفي مقدّمتها قضيّة فلسطين ‏والمنطقة؟
إن البابا وحدَه هو الذي حذّر أمريكا من كراهية مليار مسلم لها.. ولم ينطلق صوتٌ إسلامي واحد بمثل ‏هذا التحذير.‏
إنّنا نتساءل عن هذا المصير البائس للمسلمين.. هل هناك غيبوبة إسلامية على مستوى الشعوب للموقف ‏الحاسم القوي، بحيث تهتز الأرض تحت أقدام المستكبرين والصهاينة، أم أن بعض الأنظمة الخاضعة ‏للاستكبار صادرت شعوبها؟!‏
لقد انطلق أكثر من بلد غربي محذّراً ومستنكراً.. فمتى نسمع صوت البلاد الإسلامية والعربية؟؟
المواجهة: الخيار الوحيد
إن المسلمين يلتقون في هذه الأيام في مؤتمرهم العبادي السنوي في موسم الحجّ، فهل نأمل بلقاءات على ‏مستوى القيادات الإسلامية الفاعلة، حكوماتٍ وشعوباً، لإصدار القرار الإسلامي الموحّد، لتجميد ‏الخلافات والتأكيد على الوحدة، والوقوف بقوة أمام الأخطار الكبرى الصاعقة، ولإيجاد علاقات ميثاقية ‏صادقة حادّة، من أجل الدفاع عن المصير المشترك؟؟
ويبقى للانتفاضة دورها الريادي في إطلاق الضوء الكبير في هذا العالم، وللمقاومة ضدّ الاستكبار ‏والصهيونية موقفها القوي في خط المواجهة. فهذا هو الخيار الوحيد، ونريد للبنان وسوريا وإيران ‏الموقف الواعي الحذر الذي يرصد الموقف الأمريكي الإسرائيلي بكل دقّة، لأن العواصف التي يخطط ‏لانطلاقها في المنطقة قد تربك الأوضاع كلها على جميع المستويات، ما يفرض علينا جميعاً الاستعداد ‏لكل طارئٍ أمني أو سياسي على كل صعيد.‏
أمّا في لبنان الداخل، فإننا نريد لهذه الهدنة الرسمية المتوازنة أن تأخذ بالمناخ العاقل الهادئ الذي لا ‏يستهلك الملفات الاقتصادية والسياسية في سياق تسجيل النقاط، بل يحرّكها في دراسة دقيقة واقعيّة في ‏نطاق الإمكانات المعقولة، على مستوى الإيجابيات والسلبيات، لينطلق لبنان، الحكم الواحد والحكومة ‏الواحدة والمجلس الواحد والوطن والمواطن الواحد..‏
الفساد بحاجة إلى صدمة
وتبقى كلمة أخيرة.. منذ الخمسينات صدر قانون: "من أين لك هذا؟".. والسؤال: ما هو السرّ الذي يدفع ‏كل مرحلة إلى تجميده؟.. ومنذ زمن بعيد يتحدّث الجميع عن الهدر والفساد والسرقات، حتى أن أكثر ‏المسؤولين يشكون من ذلك في وزاراتهم وإداراتهم.‏
إن لبنان يبحث عن بطل قائد حكيم مستعد ليكون كبش فداء للإنسان في وطنه.. إن وحش الفساد بحاجة ‏إلى صدمة قويّة رساليّة، فكيف نحقّق ذلك؟؟.. إنّه خشبة الخلاص للبلد كلّه.‏