القهوة من المضايف إلى الحدائق العامة


تتميز أغلب مضايف جنوبي العراق بتقديمها القهوة للضيف كجزء من تقليد قديم، لسكان المنطقة.. وفي كل مضيف يوجد رجل مختص بإعداد وتوزيع القهوة ومن يقصد أحد الوجهاء ولا يشرب قهوته.. هذا يعني أنه يبغي شيئاً ما منه .. فعلى هذا الوجيه .. أن يترجى ضيفه من أجل شرب القهوة ويقول له : (اشرب كهوتك وكلشي يهون).

قهوة المضايف
العاملون على إعداد القهوة وتوزيعها ، أغلبهم يرثون هذه المهنة عن آبائهم وأجدادهم فهي تعتمد على الكثير من الحذر والدقة، فالرجل الذي يقدم القهوة في المضيف يجب أن يعرف أغلب الجالسين ويقدم الفنجان الأول إلى أكبر الرجال عمراً ، أو من له وجاهة اجتماعية .
يعمل القهوجي في أحد أركان المضيف من دون أن تلاحظه نظرات الجالسين يفاجئ الضيف وهو يمسك (الدلة) بيده اليسرى ويضع الفناجين واحداً فوق الآخر ويقدم الفنجان باليد اليمنى وعلى الضيف أن يأخذ الفنجان باليد اليمنى أيضاً .. لأن اليد اليمنى في تصورهم هي مصدر قوة الرجل ويجب أن تتعامل بها مع مضيفك من اللحظة الأولى ومن يمسك الفنجان باليد اليسرى ربما يطرد أمام الرجال .. وهنالك عادات متفق عليها فمن لا يريد أن يشرب فنجان قهوة آخر يجب عليه بعد الانتهاء من شرب الفنجان أن يحرك حركة متموجة أمام أنظار القهوجي .. أما من يعيد الفنجان من دون أي حركة .. فهذا يعني أن الضيف يرغب في شرب فنجان آخر ومن التقاليد أن سكان العراق القدامى .. حيث يقتل أحد أفراد عوائلهم .. يطفئون موقد القهوة وينكسون (الدلة) .. حتى يأخذوا بثأرهم وسابقاً ربما ما زالت مستمرة كانت تجلب القهوة على شكل حبوب وتحمص بعد ذلك على نار هادئة ... ثم تدق بالهاون.. هذه المهام هي من اختصاص القهوجي ، الذي يرتدي الثياب العربية ويضع حزاماً فوق دشداشته ... ولكن مع اختفاء الأهوار وهجرة الكثير من سكانها اختفت الكثير من الأحاديث التي توحي بأهمية القهوة وبدأ يستعاض عنها بالشاي .

في حديقة عامة
الياس خضير 25 عاماً وهو من سكنة منطقة الأهوار سابقاً .. عمل في عدة مهن ولكنه لم يتقنها وفي النهاية رجع إلى المهنة، التي يمتهنها أجداده ولكن هذه المرة بطريقة معاصرة.. فهو لا يوزع القهوة على الضيوف ولكنه يتجول في الحدائق العامة في مدينة العمارة ويبيع فنجان القهوة بـ250 ديناراً .. فهو لا ينادي من أجل بيع بضاعته ولكن في الأغلب رواد الحدائق هم الذين ينادون ، لأن أغلب الكازينوهات لا تقدم القهوة وبمرور الأيام أصبح الياس لديه (معاميل) يعرفهم جيداً ويقول الآن لا يهم أن يمسك الفنجان باليد اليسرى أو اليمنى لم تعد لهذه التقاليد أهمية وحين سألته عن (هزة) الفنجان أجاب مبتسماً : (لم يعد هذا موجوداً) على رأسه يشماغ ويقول عنه : هذا ضمن مستلزمات العمل ، لأن أغلب (المعاميل) هم من كبار السن، الذين يرتدون اليشاميغ .. هكذا تحسسهم بالانتماء إليهم كذلك يضع الياس حول خصره نطاقاً عسكرياً وهو يساعده على حمل عدة العمل والتي تتكون من قنينة صغيرة مملوءة بالماء ، لغسل الفناجين وقنينة أخرى من الجهة الأخرى يحمل قهوة محلولة يضع منها في (الدلة) في حالة نفاد ما فيها وحين سألته عن الطريقة التي تجعل القهوة ساخنة أجاب : إن الدلة التي أحملها يوجد في منتصفها مكان أشبه بمخزن صغير موضوع في داخله الجمرات وهو كفيل بالمحافظة على درجة الحرارة التي تحتاجها القهوة .. ولكن هل الياس يستخدم ذات الحبوب المحمصة ، التي كان يستخدمها الأجداد في إعداد قهوتهم أجاب قائلاً : إنني استخدم القهوة المعلبة المطحونة وهي في الأغلب تأتي من الخارج وأضاف : لا تحتاج إلى جهود كبيرة في إعدادها وهي مصدر رزق عائلتي الوحيد.

رزمة من الدنانير
الياس خضير ، ليس هو الوحيد الذي يبيع القهوة بهذه الطريقة، فهناك أكثر من عشرة أشخاص من مركز العمارة يتجولون من الصباح إلى المساء .. في الأزقة والأسواق يبيعون قهوتهم بلا قيود لا يميزون بين كبير وصغير وبين وجيه وفقير كل ما يعنيهم هو أن يعودوا إلى بيوتهم وفي جيوبهم رزمة من الدنانير من خلالها تعرف عوائلهم بأن مهنة القهوجي .. ما زالت مطلوبة ومرغوبة برغم كل التحولات ، التي حصلت في نسيج المجتمع العراقي.

محمد الحمراني


تعليق

في سفرتي ألأخيرة للعراق وجدت بالعكس إن بعض العادات قد عادت من جديد للمضايف العراقية ألأصيلة ولكن وللأسف بعدد محدود ومثال على ذلك في قرية الهاشميات ... وقرية السادةفي الحلة .. ولولا ألأرهاب والقحط الذي أصاب العراق وأهله لما أفتقدنا كرم المضيف العراقي ... ولما زادت مقاهي بيع القهوة والشاي ...
أدعو الله أن يمن على العراق وأهله بالأمن وألأمان وأن لايجعلهم يحتاجون الى شرار خلقه .. حتى يعود المضيف العراقي الى كرمه وشموخه الذي تعودنا عليه أيام زمان وحتى لانحتاج الى الياس خضير ومهنته .. وإن كانت مهنته هذه تدر عليه وعلى عياله بالرزق الحلال .