المسرح الشوارعي الشيعي
نواة حقيقية في تأسيس المسرح العراقي
فاضل الشعيراوي

كانت النشأة الأولى للمسرح هي نشأة دينية محضة، فهو وليد المعبد والكنيسة، فقد تمظهرت بداياته عند الأغريق أثناء إقامة احتفالات (باخسوس) في المعبد وفي القرون الوسطى ظهر فن التمثيل عند الرومان والفرنسيين في الكنيسة بتمثيل (مأساة) صلب السيد المسيح (ع) وتجسيد آلام أنصاره وحوارييه الذين أوذوا وقتلوا.
ثم انتشر هذا الفن بالتقليد في سائر الأمم إلى أن خرج من حومة المعبد والكنيسة وأصبح ما هو عليه الآن، لكنه وصل إلى العرب متأخرا جدا بالنظر لظروف حياتهم المعيشية، فهم في ترحال دائم، وحتى حين استقروا بعد الإسلام واتسعت حضارتهم لم يولوا التمثيل أهمية تذكر، وذلك نابع من طبيعة تركيبتهم النفسية وطريقتهم السلوكية، فالعرب أشد الناس اختصارا للقول وأهل بديهية وارتجال ولم يكن التمثيل في طبعهم أبدا.
ونتيجة للظروف السياسية في العصر الحديث حصلت ولادات مسرحية عربية مبكرة في مصر وبلاد الشام والمغرب، تلبية لحاجات إنساننا العربي المعاصر.
إلا أن العراق بقي في معزل عن هذا الاتجاه حتى عام 1926م حين زارت فرقة جورج أبيض (المصرية) العراق وقدمت عروضا مسرحية في بغداد والبصرة. وقد اعتبرت هذه العروض النواة التي تبلورت حولها حركة مسرحية في العراق، إذ كان الفنان حقي الشبلي هو المحرك الفعلي لهذا النشاط حيث اشترك مع فرقة جورج أبيض في تمثيل مسرحية ((أوديب ملكا)) وشكل هذا العمل محفزا ودافعا قويا عنده لمواصلة المشوار الفني. فأسس أول فرقة مسرحية عراقية محترفة في مطلع عام 1927م، وقد استطاعت هذه الفرقة أن تقدم عروضا مسرحية للجمهور العراقي من خلال تجوالها في المحافظات، فقد كانت أولى رحالاتها الفنية إلى جنوب العراق عام 1928م، بعدها استطاع الشبلي بعد سفره إلى مصر وتلقيه التدريبات هناك لمدة تقرب من السنة أن يؤسس فرقة مسرحية في بغداد عرفت باسم (فرقة حقي الشبلي) قدمت عروضها حتى عام 1935م حيث سافر الشبلي إلى فرنسا للدراسة، عاد منها عام 1939 وأسس قسما للتمثيل في معهد الفنون الجميلة تكفل بإعداد الممثلين والمخرجين وتقديم المواسم المسرحية.
بيد أن التاريخ الحقيقي للتأسيس المسرحي العراقي هو أبعد بكثير من فترة الثلاثينات، لكنه أغفل عن قصد كونه استمد مقوماته من الموروث الديني الشيعي، فإن التمثيل الشوارعي ـ أو ما يسميه الناس في العراق (التشابيه) أي التمثيل أو (التعزية) أي المأساة ـ كان يقام في بغداد والمحافظات الأخرى قبل فترة الثلاثينات بكثير، حيث تُمثل مأساة كربلاء وما جرى فيها من أحداث ووقائع أليمة على الإمام الحسين(ع) وآل بيته عليهم السلام وأنصاره رضوان الله عليهم، ويعد هذا التمثيل كما يقول الأستاذ الدكتور على الراعي (ضربا من ضروب تمثيل الشوارع الذي تشترك فيه الجماهير، وتؤدي فيه قصة درامية واضحة تحمل معاني مختلفة لمن يشتركون فيها).
حيث يشتمل تمثيل واقعة كربلاء على القصة والشخوص والحوار والازياء والوقائع والموسيقى و..الخ، فهي إذن (مأساة) كاملة حسب تعريفات المسرح، فقد كانت تنصب الخيام في الساحة العامة بشكل متقابل والجمهور يتحلق حولها وتجري الوقائع في الوسط. ويرتدي الجيش الأموي (الممثلين) الملابس الحمراء ويحملون رايات حمراء أيضا، بينما يرتدي الحسين وأصحابه (الممثلين) الملابس الخضراء، ويظهر الطرفان بكامل العدة الحربية كالسيوف والدروع والرماح والأقواس والسهام، وتشخص المعارك والمبارزات خصوصا بين الشخصيات الرئيسية، ولا يقتصر المشهد على الحركات التشخيصية الصامتة كإدارة المعارك فقط، بل يكون هناك حوار وكلام وخطب بين الشخصيات الرئيسة، فعلى سبيل المثال يبدأ المشهد بحوارية بين ما يقوم بتمثيل دور الحسين (ع) وبين من يؤدي دور الحر الرياحي يتضح من خلالها إصرار الحر على إجبار الحسين (ع) وأصحابه على النزول في كربلاء، وحين ينزل الحسين في المخيم أو الفسطاط المعهد (سلفا) في الساحة تكون هناك حوارات بين الحسين وعمر بن سعد في وسط الميدان يقطعها دخول الشمر ومجموعة من الجنود إلى الميدان. وكذلك هناك حوارات وأراجيز لأصحاب الحسين تطلق قبل الشروع بالهجوم على معسكر ابن سعد، وهذه الحوارات والأراجيز مأخوذة بدقة عن أرباب المقاتل.
وتُبرز (المأساة) بشكل رائع, بشاعة الطريقة التي قتل بها الحسين وآل بيته وأصحابه النجباء.. وآلام وفجيعة النساء والأطفال من جهة وقساوة ووحشية الأمويين ورجالهم من جهة أخرى، فهي عملية مسرحية متكاملة ومما يعضد قولنا بأن هذا التمثيل هو البذرة الاولى لنشأة المسرح في العراق ما قاله الكاتب المصري الأستاذ أحمد حسن الزيات (بذرت الشيعة في إيران والعراق بذور المسرحية بتمثيلهم في يوم عاشوراء ما أصاب أهل البيت(ع) من الخطوب والمحن). ولم تنته العملية المسرحية في يوم العاشر من المحرم، بل يقام حفل تمثيلي آخر يوم الثالث عشر من المحرم.
يبدأ المشهد فيه بوجود جثث بلا رؤوس، ومخضبة بالدماء، متناثرة في الميدان (تُعمل من قماش محشو بالتبن) على هيئة رجال، وخروج نسوة متلفعات بالسواد (نسوة بني أسد) يحملن جرار الماء، يتفاجأن بوجود هذه الأجساد فيرجعن صارخات إلى رجال القبيلة ويتنامى الحدث بوصول الشخصية الرئيسية (الإمام زين العابدين) عليه السلام حيث يؤدي دوره شخص نحيف جدا يظهر الإنحناء في ظهره.. وتعبر قسمات وجهه عن حزن عميق وألم ومرارة.. وتجري حوارات بينه وبين تلك الشخصيات تنتهي بدفن الجثث وخروج هذه الشخصية من الميدان بعد إتمام المراسيم إعلانا بانتهاء العمل المسرحي ومن الجدير بالذكر إن العراقيين في المخيمات وخصوصا في مخيم (أنصار) في أنديمشك الإيرانية لا زالوا يقدمون (المأساة) سنويا في موعدها المحدد. فيما تكفلت عشيرة بني أسد في قم المقدسة بتمثيل عملية الدفن في موعدها سنويا أيضا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ

قتل الأمل في مسرح اللا معقول "في إنتظار غودرو" نموذجا



في البدء لا بد لنا وقبل الولوج إلى عوالم مسرحية (في انتظار غودرو) لساموئيل بيكيت، أن نسلط الضوء على مسرح اللامعقول لمعرفة بعض معالمه وأبعاده، وما حققه في إلغاء صفة المتلقي الاعتيادي الذي يستل المتعة فقط من مشاهدة اللعبة المسرحية.
فقد دأب اللامعقول أو العبث على إشراك المتلقي في العمل المسرحي وجعله عنصرا مساهما بإيجابيّة وجدية في مرافقة الفنان أثناء رحلته في سبر أغوار الفكر والنفس البشريين، إذا نأى بنفسه بعيدا عن دائرة الوظيفة التعليمية، ولم يجعل لنفسه صفة (المعلم) أو المرشد الذي يحتكر العملية الإرشادية فقد رفض ممارسة القيمومية على بيئة التلقي من خلال عدم التكفل بالإنابة عنها في عملية الغوص في أعماق الذات الإنسانية. بل حدد مسؤوليته وحصرها في إصدار الإشارات وتحديد العلامات فحسب. تاركا للمشاهد القيام بمهمة (الكشف). ولعمري إن هذا لا يقل متعة عن العملية الإبداعية ذاتها.
بيد أن هذا المسرح قد حدم بيئة التلقي بأعمال فنية أثارت الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام والاستغراب.. فعلى سبيل المثال المسرحية التي نحن بصددها الآن حينما عرضت في بغداد أثارت نقاشا مستفيضا داخل الوسط الثقافي والمؤسسات الفنية تمخض عن أصوات رافضة لهذا النوع من المسرح. ولم يكن الرفض لجانبه التكتيكي إنما لخطة الفكري الذي يتبنى إقامة الأسوار بين الإنسان والحياة من خلال نظرته السوداوية للكون. ومما تجدر الإشارة إليه إن هذا العمل المسرحي لم يعالج نقديا وفق رؤية إسلامية آنذاك بسبب ممنوعية مثل هذه المعالجات في العراق. الأمر الذي حدا بنا أن نكتب هذه القراءة وفق رؤيتنا الإسلامية.
ولكي تتشكل لدينا الصورة التي من خلالها نستطيع امتلاك رؤية قادرة على فهم معطيات الفعل الدرامي وتحديد ملامحه واتجاهاته. فلا مناص من (محاكمة) فكرة المسرحية عبر مسار الفهم الموضوعي لخلفية الفكر الفلسفي أو القيمة الفكرية الجوهرية التي طرحتها هذه المسرحية والتي تعني خلاصة ما سعى ((بيكيت)) إلى إيصاله للجمهور وهو (الانتظار) غير المبدي فالمنقذ لا يأتي ويعد دوما بالمجيء. هذه هي الفكرة الرئيسية التي تتجلى في العمل عبر تصعيد المعاناة الإنسانية (معاناة الانتظار) حتى تبلغ ذرى مأساوية مفجعة تطرح من خلالها أكثر من فكرة جوهرية من بينها شعور الإنسان بالعجز والتقزم أمام القوى الطاغوتية المرعبة التي ساهم هو بخلقها ووقف حيالها مشلول الإرادة..).
فأزاء هذه الطوفان من القهر والاستلاب لم يجد إنسان المدينة المتحضرة ,بدا من الهروب نحو كوة الأمل، الانتظار يترقب الخلاص الذي يمنحه له الآخرون. وبذا قد أكد تنصله عن ممارسة دوره الإنساني الفاعل، فبات يمزقه شعوره المر, بلا وجدانية الحياة.
ومن الجدير بالذكر أن هذه النظرة التشاؤمية لبيكيت هي أنولاد طبيعي لرؤيته الساخطة على منظومة المفاهيم الدينية في بيئته والتي استشعر عجزها في معالجة مشكلات الإنسان وانشغاله...، من هنا نلحظ تقاطعا قراءاتيا حادا بين مفهومنا الإسلامي ومفهوم بيكيت الذي يسهم بتأصيل حالة (الضياع) لدى الإنسان... فإن قراءتنا الإسلامية (الشيعية) تخصيصا لموضوعه الانتظار هي قراءة واقعية تكشف عن حقائق الأشياء والأحداث بشكل تحليلي، فالانتظار بالنسبة لنا هو مفهوم حركي يؤكد على ضرورة العمل والجهاد ويعمق شعور الإنسان بمسؤولية في تحقيق العدل. وقد ورد عن الرسول الأعظم (ص) (أفضل العبادة انتظار الفرج) هزة الكلمة الرائعة تعطينا فكرة واضحة عن المنهجية التي يجب أن نسلكها على مدى التاريخ كمسلمين.. فهي تعني لابدّية الالتزام بالخط النوراني المتمثل بأهل البيت عليهم السلام فهم القيادة الأمنية الصالحة التي ترعى حركة القرآن في حياة الناس.
فنحن نعتقد ونؤمن بخروج الإمام المهدي (عج) ونترقب هذا الظهور، ولكن لم يذكر التاريخ أبدا أن الشيعة ركنوا إلى الظلم بانتظار الفرج، بل على العكس فقد كانت البيئة الشيعية هي رحم الثورات الكبيرة كثورة القراء وثورة زيد وواقعة الحرّة و.. و..، ولم ينطفئ هذا النهج الثوري إلى الآن في انتفاضة الشعب العرافي في صفر وشعبان المبارك إلا توكيد واعي لمفهوم الانتظار. من هنا وجبت الإشارة لخطورة مثل هذه المفاهيم الغربية التي انتشرت في إطار مشاريع العولمة.