الحراسة الليلية



منذ ان استوطن الانسان ارض الرافدين حاول تنظيم الحياة والمحافظة على استقرارها ، ولما كانت حماية المناطق السكنية من الامور الهامة لذا لجأ العراقي القديم الى حراستها ووضع القوانين لضبطها ، ولم تغفل الشرائع القديمة المعروفة في وادي الرافدين ذكر الحراسة الليلية ومهامها. واشرس فترات التاريخ وامرها بالنسبة لبلادنا هي الفترة المصطلح عليها تاريخيا بـ(الفترة المظلمة) والتي عاشت فيها البلاد في ليل دامس لاترى فيه الانامل و لايسمع فيه صوت الثقافة ولايشع اليه نور العلم الذي ملأ اوربا انذاك ، فضلا عن الفقر الذي ضرب بطول البلاد وعرضها فتهافت السراق وكثر اللصوص وغدا شرهم لايؤمن حتى داخل المدن والحواضر .. فكيف لايحافظ السكان على بيوتهم وممتلكاتهم وخاصة ليلا .. لذا نضجت الحراسة الليلية في القرى والارياف وكانت تسمى شعبيا (الوحاشة) والحارس الليلي يدعى(الوحاش) والجمع (الوحاحيش)، اما حراسة البساتين فتسمى( النطارة) وحارس البستان (ناطور) والجميع نواطير. نامت نواطير مصر على ثعالبها فقد بشمن وماتغنى العناقيد ونظام الحراسة وكما كان يسمى(وحاشة رمح) يؤدى من قبل شخص له صولة وبطش يلتزم بحراسة قرية ما ربما لايقوم بحراستها وانما تبقى القرية بحمايته لايستطيع احد السراق من سرقتها لعلمه انها بحماية فلان، وهذا الحارس يجبي من كل اسرة مبلغا زهيدا من المال كان يتراوح ما بين (50- 150) فلسا شهريا او قد يأخذ مقابل حراسته شعيرا او حنطة او تمور تبعا لطبيعة منتوجات المنطقة الزراعية وهنالك نظام اخر من انظمة الحراسة لايختلف كثيرا عن الاول وانما تكون هنالك مجموعة كانت تسمى نفر عددهم من (2-6) حراس يتزعمهم رجل بينهم وكان يسمى(الملتزم) وهذا يجب ان يكون رجلا كفوءا تتوفر فيه شروط اهمها الشجاعة والخبرة ويتعهد لاهل القرية بخسارة السرقة فيما لو حصلت في في فترة ممارسته ويكون ذلك قد ثبت بموجب (سند) محرر بنسختين وهو عبارة عن روقة مكتوبة توقع من قبل الملتزم والمختار وتكون مدة السند او التعهد سنة من الممكن تجديدها وفي الليلة التي تكتب فيها الورقة المذكورة يرسل الحراس احد ابناء القرية لينادي بين دورها وعرصاتها قائلا(اسمعوا يهل الولاية اليوم تنطر الوحاحيش). ومعناه يا سكان القرية اليوم تحرسكم الحراس فكونوا على اطمئنان.

ويأتي دور الملتزم ليقسم الخفارة ومناطقها على جماعة الحرس بالتساوي وجرت العادة ان يقوم بها نصفهم في الشطر الاول من الليل ونصفهم الاخر في الشطر الثاني منه وتستعمل اثناء الخفارة صفارة لتجمع الحراس عند الحاجة الملحة .. ومن الطريف حقا هو اعتماد بعضهم على نباح الكلاب ،فهم يعرفون تماما بان الكلب العائد لفلان لايطلق نباحه الى على رجل لذلك يسارعون الى المنطقة التي سمع فيها النباح

وتعتبر فترة الفجر هي وقت هجعة الحراس:

اقبلت وقت رقدة الحراس

بالرحيقين ريقها والكأس

لذا على الدوام تحدث في هذه الفترة السرقات أي وقت هجعة الحراس في الفجر وعندما يقال للحرس(نطارة العكروك)ومعناه يحرسون طوال الليل حتى اذا داهمهم الفجر رقدوا فسرقت القرية ويعود ذلك الى ان الضفدع (العكروك) يحرس نفسه من الافعى لئلا تمتص دمه من اول الليل حتى الفجر فينام فتمتصه ولهذا يضرب به المثل. واسلحة الحراس غالبا ما تكون (بندقية او مسدس او الخنجر) او قد يكون عصا غليظة(توثية) او كما كان يسمى (الجراز) وعادة ماكان يغلف بالجلد الحيواني.

ومن المفارقات التي كانت تحصل هو ان يضطر الحارس احيانا الى سرقة البيت الذي صاحبه يابى دفع الاجور ولايرجع له مسروقه مالم يدفع المبالغ المتراكمة عليه وعند ذلك يصح القول فيه(حاميها حراميها) وفي نظر اهل القرية بان الحارس هو الذي يحاسب ويصون ذمار القرية ليلا، وما ان يسمعوا صوت عيارات نارية حتى يسارعو نحوها للدفاع عنه ومساعدته، وبالاضافة الى محافظة الحراس على ممتلكات القرية فأنهم يأدون خدمات للدولة مثل القبض على (الكرفتية) وهم المجرمون الذين تكثر دعاواهم ويكونوا مطلوبين من الدولة - واللصوص او الهاربين من الخدمة العسكرية اذا اجبر من قبل رئيس الوحدة الادارية اذ ان في الغالب ما يتم تسليم الحراس بالاسلحة من قبل الوحدة الادارية في المنطقة. ولما كان عمل الحارس ضربا من ضروب الشجاعة فكيف لايدخل حبه الى قلوب الريفيات اللواتي يعبرن عن شعورهن باغنيتين التي تركت حقلا رائعا في ماثورنا الشعبي ولنمعن النظر في هذه الاغنية الشعبية التي تتمنى فيه الحبيبة ان تحمل (المكوار) لتلزم الخفارة بدلا من حبيبها الذي يحمل خنجرا قبضته مصنوعة من قرن الغزال

ياخنجر الوحاش كرن الغزالة

وارد الكف المكوار وانطر بدالة

اما اغلب المحبين الذين يودون ملاقاة حبيباتهم تحت جناح الليل مما يضطرهم الى مرافقة ومصاحبة الحراس في عملهم كي يتمكن من ملاقاة حبيبته

وارد ارفج الوحاش وانطر عكدهم

بلكت توالي الليل تطلعلي بتهم

ولما كان الحارس يتحمل خسارة السرقة كما نصت ورقة التعهد فقد قالت احداهن عندما سرق منزلهم

صبحنا يمه اليوم وامعزلينه

غصبن على الوحاش يخسرها لينه

وعند انتهاء مدة التعهد ولم يرغب الحراس غي الاستمرار بعملهم يجب عليهم ان يبعثوا مناديا في القرية معلنا انتهاء مدة الحراسة قائلا: (يهل الولاية حاضركم ينبه غايبكم انطروا اليوم يطلوا الوحاحيش