طرابيشي مستأنفاً مجادلة الجابري[align=center]

العقل المستقيل في الإسلام ـ نقد نقد العقل العربي.
[/align]


طرابيشي مستأنفاً مجادلة الجابري

محمود حيدر - « الإنتقاد » - 7 / 5 / 2005م - 4:48 م



د.جورج طرابيشي


ـ المؤلف: جورج طرابيشي
ـ الكتاب: العقل المستقيل في الإسلام ـ نقد نقد العقل العربي.
ـ دار الساقي ـ لندن ـ بيروت 2004
ـ عدد الصفحات: 424 صفحة قطع وسط



منذ بضعة أعوام أخذ المفكر والباحث العربي السوري جورج طرابيشي بطريق البحث في أنساق وآليات تشكُّل العقل العربي ـ الإسلامي. لكن دخوله على هذا الخط لم يكن ليظهر على الملأ من دون "ذريعة معرفية" تحمله حملاً على الكتابة. لذا سيجد في أطروحات المفكر المغربي محمد عابد الجابري المنشورة تحت عنوان "نقد العقل العربي" ضالّته المنشودة. الكتاب الذي بين أيدينا جاء معنوناً بـ"العقل المستقيل في الإسلام"، وهو حلقة ضمن سلسلة طويلة وضعها طرابيشي لينقد أفكار الجابري، شاء أن يعرِّفها بـ"نقد نقد العقل العربي".



وقد سبق أن ألّف طرابيشي في هذا السياق ثلاثة كتب ضمن هذه السلسلة هي على التوالي: نظرية العقل العربي، إشكاليات العقل العربي، وحدة العقل العربي، ناهيك عن كتابه الأخير المشار إليه "العقل المستقيل في الإسلام".


في هذا الكتاب أيضاً يسلك طرابيشي مسلك النقد لأطروحات الجابري، لكنه يذهب أبعد مما تحرِّضه عليه الردود المباشرة، وهو ما يندرج في سياق ملء الفراغ الذي تنبَّه اليه الباحث بعد أن جاءته طائفة من الملاحظات حول مشروعه النقدي الذي استهلك أكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة في قراءة وتفكيك ونقد مشروع الجابري.


في تقديمه لكتابه الأخير، وهو الرابع ضمن السلسلة النقدية، يشرح جورج طرابيشي مسوِّغات عمله هذا في معرض الرد على تنبيهات وانتقادات أصدقائه وقرّائه! يقول: "لامني أكثر من صديق وقارئ على كوني وضعت نفسي في مأزق عندما كرَّست كل هذا الوقت (نحواً من خمسة عشر عاماً) وكل هذا المجهود (أربعة مجلدات حتى الآن) لأرد على مشروع الجابري في "نقد العقل العربي"، بدلاً من أنصرف إلى إنجاز مشروع شخصي في قراءة التراث العربي الإسلامي (...) هذا المأخذ صحيح وغير صحيح في آن ـ يقول طرابيشي ـ فهو صحيح ما دام كل "مشروعي" قد انحصر بنقد للنقد، ولكن هل فعلاً أنني ما فعلت شيئاً سوى أن "رددت" على الجابري؟.. لا أعتقد ـ يستطرد طرابيشي ـ فالواقع أن الجابري قدّم لي المناسبة ونقطة الانطلاق، وليس محطة الوصول. فقد كفَّ مشروعي عن أن يكون مشروعاً لنقد النقد، ليتحول أيضاً إلى إعادة قراءة، وإعادة حفر وإعادة تأسيس. وحسبي دليلاً على ما أقول أن الجابري لم يكتب مثلاً سوى نصف صفحة لا أكثر لـ"يهرمس" كتاب "الفلاحة النبطية" لابن وحشية، ولينسبه إلى علوم "العقل المستقيل"، وها أنا ذا أكتب نحواً من تسعين صفحة لأعيد بناء هذا الأثر النادر من الموروث القديم في عقلانيته العلمية السابقة لأوانها تاريخياً.


والأمر بالمثل في ما يتعلق برسائل إخوان الصفا، فما كتبه الجابري ضدهم وتنديداً بدورهم المزعوم في "تكريس وتعميق الاتجاه اللاّعقلاني في الثقافة العربية الإسلامية" لم يتعدَّ صفحتين ـ كما يبيِّن المؤلف ـ الذي سيكتب ـ كما يقول ـ مئة صفحة ونيِّفاً ليردّ إليهم اعتبارهم الفكري بوصفهم بناة أول "يوتوبيا" في الثقافة العربية الإسلامية.


يبيّن المؤلف أن سعيه إلى نقد النقد ليس مجرد تفنيد وهدم.. ومع ما يقتضيه من تفكيك، فإنه لا يؤتي مفعوله ما لم يُرسِ رؤية بديلة، أي في المجال الذي يشتغل عليه بوصفه قراءة نقدية وعقلانية مغايرة ومجدِّدة معاً للتراث العربي الإسلامي. ولئن بدا للقارئ أن رحلة المؤلف النقد ـ نقدية قد طالت أكثر مما ينبغي، فهذا عائد ـ كما يقول ـ أولاً لأن قارة التراث العربي الإسلامي شاسعة للغاية، وثانياً لأن القراءة الجابرية السائدة اليوم لهذا التراث قد تحولت إلى ما يشبه الحقل الملغوم الذي يسدُّ المنافذ المعرفية إلى قارئه. ومعلوم أن تفكيك الألغام لا سيما إذا كانت معرفية، يقتضي مجهوداً وأناةً وصبراً.. ولكن الأمر يستحق العناء، فما لم ننفذ إلى تلك القارة ـ والكلام للمؤلف ـ والآليات التي أدّت إلى أفول العقلانية العربية الإسلامية، فسنظل أسرى لهذا الأفول، وفي قطيعة بالتالي مع العصر..


الأبستمولوجيا الجغرافية:
لا يمثل الغرب والشرق في مشروع الجابري مقولتين جغرافيتين، بل هما مرفوعتان عنده إلى مقولتين أبستمولوجيتين، أي مقولتين تحددان النظام المعرفي للعقل بما هو كذلك. فما ينتمي إلى الغرب يمثل مبدأ المعقولية في أعلى أشكاله: البرهان.. أما ما ينتمي إلى الشرق فنصيبه من مبدأ المعقولية مخفوض إلى مرتبة البيان، هذا إن لم يتردَّ إلى مرتبة أكثر تدنياً، هي مرتبة العرفان ـ المملكة السفلية اللامعقولية ـ في حال إيغاله في التشريق صدوراً عما يمكن اعتباره "شرق الشرق".


على هذا النحو يحاول الجابري تبرير موقفه الإعدامي من ابن سينا ومن شريكيه في "الثالوث غير المقدس" الذي شكله معه "العرفانيان" الرازي والغزالي بقوله: "إن ابن سينا الذي قلت، وأعود فأقول إن ابن رشد (الغربي) قد أحدث قطيعة مع فلسفته هو، أي ابن سينا، من الشرق البعيد، من بخارى ومن بلاد العجم.. إنه هو والرازي الطبيب الغنوصي والغزالي، ينتمون جميعاً إلى "مشرق" يقع بعيداً عن الرقعة التي تمتد من المحيط إلى الخليج.


مساجلة كلامية :
تبدو محاولة جورج طرابيشي في مساجلته لأفكار الجابري تكريساً لنوع من الكلام الجديد. فبصرف النظر عما إذا كان المساجل قد برع في التفكيك النقدي لمنظورات الجابري، فإن المحاولة بحد عينها مهمة، وهي تنطوي على آمال إيجابية في إمكان نشوء وتطور ذهنية انتقادية عربية من شأنها أن تمنع نشوء وتحول دون تحوّله إلى تقنيات مغلقة.
في هذا المعنى سنجيز القول لأنفسنا بأن ما فعله طرابيشي هو أنه فتح بوابات الكلام الجديد على نقد من شأنه نزع المزيد من الأوهام التي تراكمت على امتداد زمن طويل والتي قصدت نقد الذات ، لكنها لم تفلح في جعل النقد الذاتي محطة للتجاوز وتحقيق النهضة المنشودة. إن ما يوحي به السجال في "نظرية العقل" هو هذا الشيء الذي افتقر إليه الفكر العربي منذ عصر النهضة في بدايات القرن، عنينا نقد العقل النقدي العربي الذي راح يؤسس لنظريات معرفية غايتها وضع استراتيجيات فكرية وثقافية لتحقيق النهوض القومي والحضاري.


لعل أبرز المآخذ المنهجية على الجابري هي تلك التي كان أشار إليها جورج طرابيشي في معرض تبريره لدراسته النقدية. ففي اعتقاده أن مكمن القوة والخطورة معاً في خطاب الجابري أنه يعرض نفسه ـ أو يفرضها بالأحرى ـ على متلقيه من خلال شبكة من الإشكاليات. والحال أن كل نقد يكتفي بمناقشة نتائج الإشكاليات يبقى أسيراً لها. فالمطلوب قبل دحض النتائج، تفكيك الإشكاليات نفسها. فأسئلة الجابري لا أجوبته هي الملغومة ـ برأي طرابيشي ـ ومن هذه الإشكاليات والأسئلة على سبيل المثال لا الحصر، إشكالية العقل المكوِّن والعقل المكوَّن، إشكالية التفكير بالعقل والتفكير في العقل، إلى برهان وبيان وعرفان ـ إشكالية التكوين والتدوين ـ إشكالية عقلانية التراث المغربي وعدم عقلانية التراث المشرقي، إشكالية الضدية الأبستمولوجية ما بين العقل العربي والعقل اليوناني ـ الأوروبي ـ .. وفي اعتقاد طرابيشي أن تفكيك الإشكاليات يتطلب من الناقد جهداً ومن القارئ صبراً، ومن كليهما معاً أناة..



فالتقدم في حقل الإشكاليات تماماً كما في حقل الألغام يقتضي حذراً وطول مداورة. وما يزرع في ليلة واحدة يحتاج تفكيكه إلى شهور طوال.. ومع أن مشروع نقد "نقد العقل العربي" الذي سبق لطرابيشي أن نقده، يحصر نفسه عمداً بتفكيك إشكاليات "تكوين العقل العربي"، فإنه مقيَّض له أن يمتد ليتناول موقع العقل العربي بين العقل اليوناني القديم والعقل الغربي الحديث. ولقد كان هذا هو فاتحة نقد طرابيشي للجابري، ولا سيما في مقولته الشهيرة التي تكثَّف إشكالية أطروحاته في كتابه الأول "تكوّن العقل العربي"، والتي تقول: "إنه عندما نتحدث عن "العقل العربي"، فإننا نصدر ـ سواء صرَّحنا بذلك أم لم نصرِّح ـ عن موقف يسلِّم بوجود "عقل" أو "ثقافات" أخرى يتحدَّد بالمقارنة معها العقل والثقافة اللذان نتحدث عنهما. وهذا شيء لا حذر منه، إذ "بضدها تتميز الأشياء". ومن دون الدخول في تفاصيل قد تجرّنا بعيداً، نرى من الضروري اختصار الطريق والكشف صراحة عن "الضد" أو "الأضداد" التي سنستعين بها في تحديد هوية "العقل العربي".. إننا عندما نتحدث عن "العقل العربي" فنحن نميزه في الوقت نفسه عن "العقل اليوناني" و"العقل الأوروبي"..
لعل أول وأبرز ملاحظات طرابيشي المنهجية على الجابري هي أنه أسس نظرياً لمشروعه على التمييز المشهود الذي أجراه أندريه "لالاند"، الفيلسوف العقلاني الفرنسي بين "العقل المكوِّن" Raison Constituante والعقل المكوَّنRaison Constituee. ومع أن يوسف كرم كان أدخل هذا التمييز إلى الحقل الفلسفي للثقافة العربية الحديثة من خلال العرض الذي قدمه عن مذهب "لالاند" العقلي في كتابه التدريسي "تاريخ الفلسفة الحديثة"، فقد كان على "لالاند" أن ينتظر توظيف الجابري التطبيقي له في كتابه "تكوين العقل العربي"، حتى يعرف الرواج الذي بات يتمتع به حالياً في المجال التداولي للثقافة العربية المعاصرة.


والحال أن تجاهل الجابري للوظيفة التوحيدية للعقل المكوَّن قد جعله يبني تحليله للعقل العربي على أساس قسمه هذا العقل، لا على أساس وحدته. وبدلاً من أن يرد مختلف تجليات هذا العقل في مجالات الفقه وعلم الكلام والتصوّف والفلسفة إلى البنية العضوية الواحدة التي تصدر عنها، فإنه سيعمد إلى تشطير هذا العقل تشطيراً ثلاثياً وقطعياً: إلى عقل بياني وعرفاني وبرهاني.


ربما كانت النقطة الأهم في مؤاخذات طرابيشي على الجابري تلك التي يقول فيها صاحب "نقد العقل العربي": "إن زمن الفكر العربي الحديث والمعاصر هو زمن ميت أو قابل لأن يعامل كزمن ميت". بينما يصدر الجابري في ختام تحليله لـ"بنية العقل العربي" حكماً مبرماً على هذا العقل بأنه منذ لحظة الغزالي إلى اليوم "عقل ميت أو هو بالميت شبيه". إن هذا الحكم بدا كأنه القاعدة الأساسية للنقاش المستفيض الذي استغرق مجمل صفحات كتاب طرابيشي. والغاية من ورائه دحض المقولات التي عمل الجابري على تسويقها، لأنها باتت تمثل في نظر الكاتب "عقبة أبستمولوجية"، الأمر الذي يولِّد عقبات تاريخية وسياسية في التحليل الأخير أمام إمكانيات النهوض الثقافي العربي وامتلاك النخب العربية لهويتها وإرادتها.


على كل حال، سوف يكون لهذه المناظرة مناسبة لسجال جديد لا يُعرف منذ الآن أين سينتهي.. أما لماذا وكيف استقال العقل في الثقافة العربية الإسلامية، فذلك ما يبدو طرابيشي على يقين من أنه وفَّاه الجواب المطلوب في هذا الكتاب. فهو على ما يبيِّن، أن هذا المجلد الرابع من نقد نقد العقل العربي لم يتوصل إلى أن يحسم أكثر من نصف الإشكالية. فالشيء الذي أفلحت صفحات هذا المجلد في إثباته ـ أو على الأقل هذا هو المأمول ـ هو أن استقالة العقل في الإسلام لم تكن بعامل خارجي ونتيجة لاكتساح ساحته من قبل جحافل "اللامعقولية" المندفعة من مكامن "الموروث القديم" في الإسكندرية وأفامية وحران.. إلخ.