رغم أن مملكة السويد دولة مستقلة ولها تأريخ عريق، وشعب وحضارة موغلة في القدم، ورغم أن السويد تعتبر من أشد البيئات قساوة من حيث قسوة الشتاء وبرودته، وتطرف ساعات الليل والنهار، وقلة الموارد الطبيعية، إلا أن السويديين نجحوا في أن يحولوا هذه البيئة القاسية إلى مناطق مسكونة تتوفر بها الإنارة والتدفئة وتطويع البيئة القاسية. ورغم أن السويد كبلد ونظام لديها ألوف الأسباب التي تفخر بها كونها بلداً متطوراً على كافة الأصعدة، إلا أنها لم تحتفل بعيدها الوطني الذي يصادف السادس من حزيران في كل عام إلا هذه السنة. وقد جاء الإحتفال على شكل عطلة رسمية لأول مرة في هذا اليوم، مع إستعراض شرفي لحرس الملك في العاصمة. الغريب أيضاً أن السويد لم تعرف الإحتفال الرسمي باليوم الوطني. ويعود تاريخ تحديد يوم السادس من حزيران كيوم وطني للسويد رسمياً إلى سنة 1983.
تستغرب كثيراً عندما تلاحظ أن كلمتي وطني ووطنية تحملان معنى سلبياً على مستوى المصطلح والفهم عند السويدي لا لأن السويدي يشعر بازمة هوية (رغم أن هذه الأزمة تمر بها كل الشعوب في هذه المرحلة)، ولا لأن السويدي يكره بلده ويحتقره، ولكن السبب يكمن في تصوري في أن الإنسان السويدي يعيش وطنيته من خلال مواطنته. ويعيش حب بلده ومدينته من خلال تعامله اليومي ومن خلال تصرفاته التي يعتبرها طبيعية دون صخب أو صياح. وهو بهذا الشكل لا يهمه كثيراً ما فعله ملكهم الشرس غوستاف فاسا عندما وحد بلدهم، ولا يهتم كثيراً أن يقرأ تاريخ صراع السويد المرير والدامي مع الجار الصغير الدانمارك أو القريب النرويج. ولا يبحث دوماً عن عدد المخترعين السويديين أو الإختراعات السويدية التي قدمت الكثير للعالم. كما أنه لا يسأل دائماً عن الشركات والماركات العالمية التي خرجت من السويد كإيكيا وإركسون وفولفو وساب وأي بي بي. ولا يفخر دائماً بنظامه السياسي الذي اسس ارقى أنظمة الرفاهية والعدالة الإجتماعية في العالم. ولا يهمه كثيراً ما إذا تقاربت دولته مع هذه الدولة أو تلك القوة العظمى، أو ما إذا أصبح أحد الأجانب وزيراً أو عضواً بالبرلمان.
فالسويدي يرى هذه الأمور شيئاً طبيعياً لا يستحق أن يشغل فكره كثيراً فالمهم عنده أن يرى بلده يتماشى مع معيشته الهادئة، وأن يرى نفسه يتطور ويواكب التطور الذي يحصل في العالم. السلبية السويدية في التعامل مع مصطلح الوطنية له علاقة مع الأطراف التي تتعامل مع هذه الكلمة، أو بالأحرى التي تسيئ إستخدامها. فالمدلول اللفظي لهذه الكلمة يحمل في السويد معان تحمل في طياتها التمييز، والكراهية، والحنين إلى الإستعباد والإستبداد والتفوق، وهي قيم تستبطنها قوى سياسية وإجتماعية حملت وتعاملت وتحالفت مع الفكر النازي العنصري في الثلاثينيات وما تلتها في القرن الماضي. ولهذا لن يأخذك التعجب إذا لاحظت أن العنصريين الجدد هم في الأغلب الذين يحملون العلم السويدي ، وينادون بالوطنية، ويحتفلون بإحتفالات تمجد الحس الوطني المتطرف، وإحتفالات تحيي اسماء طغاة من ملوك السويد الغابرين.
الوطنية كما قلت عند السويدي واقع معاش لا يحتاج معه أن يعلن في كل الظروف أنه وطني يحب وطنه ويفخر بإنجازاته. والسويدي يرفع علم بلاده في أيام الصيف الحارة، معبراً عن إرتياحه، ويضع ألوان علم بلاده عندما يحتفل بتخرجه أو بتخرج إبنه أو إبنته من المدرسة أو الجامعة، وهي أمور خاصة وشخصية جداً. أتذكر صديقاً سويدياً لي إسمه كلاس، ورغم أن كلاس لا يهمه الإحتفال بيوم السويد الوطني، ولا يهمه كثيراً العلم السويدي، إلا أنه قرر أن ينزل في النهر الذي يمر بالمدينة التي يقيم بها وأن يشارك في تنظيف النهر من الأوساخ الملقاة به، وقد أخرج ما مقداره خمسين قنينة زجاجية ودراجتين هوائيتين، وقطع معدنية أخرى رغم برودة الطقس، ورغم أن المدينة التي يقيم بها ليست هي المدينة التي ولد بها. تحدث كلاس عن تجربته هذه بتواضع، مبيناً أنه إنما كان يقضي وقت فراغه في يوم عطلة خريفي كئيب وملبد بالغيوم.
السويدي يقدم لنا معنىً استطيع أن اسميه رائعاً من معاني الوطنية، التي يرددها الكثيرون عندنا دون أن يقفوا عند معانيها المتعددة. فليس مهماً أن يردد المرء أنه وطني وغيره غير وطني. الوطنية عند السويدي مستقرة، ناضجة، وهادئة. وهي لا تعبر عن قيم مزدوجة وعقد تحاول توظيف هذه اللفظة للوصول إلى أهداف تخرب الواقع والحاضر والمستقبل (نلاحظ أن الذين يوظفون هذه اللفظة ويستخدمونها في كل الظروف هم النازيون الجدد والتنظيمات المنبوذة سياسياً وإجتماعياً). الوطنية عند السويدي تحمل وعياً، وعياً يدخل في الممارسة الشخصية والفردية، ووعياً لا يبالي ببعض التفاصيل الغير مهمة عنده لأنها لا تمس وطنه الذي هو اساس وطنيته برخائه وإستقراره، وبالتالي رخاء المواطن وإستقراره. والسويدي يعيش وطنيته بإمتياز، لأنه يعرف أنه هو الذي يصنع وطناً يصون له حقوقه ويحدد له واجباته.