انه من السعادة بمكان ان تلتئم هذه الثلة الجادةلتتحاور ثم لتبدع ولتنقذ ابداعها بكل جدية وطموح نحو التغيير وثمة امر خطير في مثل هذا اللقاء، امر خطير يحمله العنوان المعنون.. الجواهري.. والشعر.. او لنعيد بناء الصيغة فتكون الشعر... والجواهري لا فرق.
فالشعر ما عاد كما اراده (ابن قدامة) تعبيراً مخيلاً موزونا، والشعر ما عاد ابيات متناثرة تنطلق من ذلك الخباء او تلك الخيمة عشقاً وشوقاً حد الموت.
الشعر ما عاد كما اريد ان يكون مديحاً مبحوحاً وغزلا مبتذلا ووصفا بسيطا ورثاء مكفنا اصفر وهجاء جبان مملا.
لم يعد بيت القصيد بت القصيد
ولم تعد القبيلة تحتفل بشاعرها وهو ينشد اولى ابياته، ولم يعد الرواة يحفظون وينشدون ويحرفون ايضا.
من الذي اعطى للشعر مهمة جديدة الشعر ام السلطة؟
ومن الذي نهض حاملاً صليب الشعر للتصلب عليه او ليحطمه؟
من ذلك المشاغب الذي يرمقه رجال السلطة بحذر وترقب؟
ومن ذلك المجنون الذي يساوي بين حبر دواته ودم شرايينه اللاهب؟
ومن ذلك المجهول الذي اعطى للشاعر سلطة النقد والتأشير على الاشياء.. من ذلك الغامض الذي وهب الشعر الوضوح كله؟
انه يرى في الظلام ويغوص في الصخر ويمشي على الماء ويكتب على الرماد ويولد بعد الموت ويبدأ بالحياة عندما يبدأ بالكتابة.
هذه حدود الشاعر اما حدود الشعر.. عفوا الشعر لا حدود له. لانه نبوءات متجددة لا تحتاج الى ملك كريم وربما تحتاج الى شيطان او شيطانه ذكية متمردة كي تحدد ملامحه وتخط خرائط نموه وتفوقه بعيداً عن الشد الايدولوجي او الضبط القانوني الصارم فلمن ينتمي الشعر اذن؟ هل هو كائن لا منتم اصلاً؟
ادعي وبكل صراحة ان الشعر ينتمي الى قضايا الانسان وقضايا الشاعر في آن واحد، فلا هو موضوعي بحت ولا هو ذاتي مطلق، انه صيغة تبني كيانها بتجرد كامل، لتعود عملاً ذاتيا يعالج قضايا موضوعية تهم الانسان، أي انسان.
فلست أدري هل يستطيع الشاعر ان يتغزل بفتاته غير مبال بسلاسل الاسر في معصمها؟
ام يقدر الشاعر ان يتغنى بالورد دون ان تخطر بباله كف الفلاح المعروفة الخشنة؟
وهل يتمكن الشاعر من ان يمدح الملك وهو يلمح السياف بين يديه؟
أوكد ان جدلية خفية تحكم طرفي المعادلة، الشعر والانسان.. جدلية رهيبة جعلتكم ايها الشعراء تألفون السجون والمنافي والعزلة.
كل ذلك على مقربة من شفرة الجلاد.
هذه اذا ما اضيفت لها ثنائية الثقافي والسياسي، تلك الثنائية البشعة التي نقلت الازمة الى فضاء اوسع من التناقض المألوف.
فالسياسي المتخلف يرى ديمومة وجوده باطفاء تأثير الثقافي، فيما يرى الثقافي الواهم ان ابداعه يكمن في امتهان السياسي، وكم يمتنى الفرد العربي ان يرى سياسي يتبنى مناهج ثقافية، او يرى المثقفين يشغلون مربعات مهمة في الواقع السياسي.
اما الجواهري فلا اراني مبالغاً اذا قلت اننا حتى الان لم نقرأ مقاساته الفنية والابداعية، نعم اخفقنا، الا ان ذلك لم يخف شعورنا اللذيذ بالفشل، فمثلنا معه مثل الذي لا يمكنه الوصول الى قمة الجبر، لكن ذلك يم يمنعه متعة التسلق ولا دهشة المغامرة الاولى ولا التطلع الى محاولات جدية وجريئة.
ولازلت معتقداً اننا امام هذا الرجل المتعب بحاجة ماسة الى الكثير من التأمل والقليل من الكتابة، لاننا امام كينونة فريدة لم تخضع لسطوة تجربة بعينها ولا ظرف محدد الملامح ولا زمن واضح الابعاد.
ومن المؤكد ان حديثنا عن هذا العملاق الادبي لم يتوقف او ينته، الا اننا سنتوقف طبعاً كما تتوقف شهرزاد عن الكلام المباح، ولو ان الدقائق المحددة لهذا الموضوع في هذه الجمهرة الضخمة من الشعراء والادباء والفنانين والنقاد تتسع قليلاً لبسطت المقالة في ما ينبغي ان يسجله السياسيون في ذكرى الثقافة والادب ذكرى الجواهري والشعر.
فالجواهري موضوعة ادبية ثقافية حية جديرة بالنقاش والمتابعة والاستكشفا، فضلا عن كونه خطى مهمة في سلم النهوض العراقي والعربي. اما انتم يا حملة الفكرة واليراع والحضارة فانتم الصلة التاريخية بين التأثير والتأثر، بين التفوق والاستسلام بين الماضي والحضر وبين السائد والابداع. وانتم من يتحمل مسؤولية التعبير في صراع الصور والدلالات والرؤى والافكار، ولعلني وانتم لا نؤمن بنظريات (أوين الدرج) بان تطور الابداع يؤسس لنهاية الادب، لاننا نؤمن ان الانسان كائن شاعر مثلما هو كائن حي واكاد اجزم انه لا وجود لانسان لم يجرب محاولة الشعر ولو لمرة واحدة في حياته لانه انسان.
ان عليكم من خلال نظريات النقد والمثاقفة تأسيس حاضر ادبي جديد يتناسب والوضع الجديد الذي يعيشه العراق، ولا ادعوكم الى الحذر من التناقضات او المقاربات.. انماادعوكم الى الانتماء الى جمهوركم الذي قد يرى فيكم مجتمعاً فلسفيا نخبويا صغيرا لكنه يمثله من دون استفتاء ويهرع اليه من دون تحفظ لانه يدرك مهمة الادب ويؤكد قيمومته على كل مساحات الادراك واؤشر هنا الى سببية متبادلة بين الادب والمجتمع، فالاديب يدرج جيداً مناخات الابداع واجوائه بنزعته التوقعية وحساسيته المفرضة تجاه الحياة ويكون الانسان، فيصبح المجتمع تبعا لذلك مادة اولية لنشاطه الابداعي، فيما يفتح الاخر ذراعيه اقصى ما يستطيع ليسمع ويناقش ويتلذذ ثم ليتبنى الابداع ليش شكلاً فقط بكل شكلاً ومضموناً.
انها علاقة خلق وسببيه ايجاد، فالقصيدة ليست ردة فعلا لازمة محددة، انما هي فعل يكشف ملامح الازمة ويرفع مستوى الوعي لمواجهتها.
اما دور المجتمع في حماية الاديب والمثقف فهو دور حماية الذات ورعاية الانجازات وهنا اخرج عن اطار هذه الورقة لاتحدث كمسؤول في الدولة، ما الذي يمنع مؤسساتنا من ان تصوغ قوانين تحفظ حقوق الادباء والشعراء بمنحهم الطمأنينة وتوفر لهم ظروف الابداع حال تقدم السن بهم؟ لماذا على الشاعر ان يكون معلماً او طبيباً او صحفياً او مزراعاً او غير ذلك؟ ألم يحن الوقت بعد لنعرف جميعاً قيمة الابداع ودوره الريادي في الحياة، انني اتمنى من الجمعية الوطنية بان تسارع في اعداد مسودة قانون عراقي يمنح الادباء حقوقاً تقاعدية اسوة بالدول المتحضرة التي تحترم الادب والفن والثقافة كما أطالب أمانة العاصمة باطلاق اسم الجواهري على احدى ساحات بغداد المهمة ونصب تمثال برونزي تخليداً لذكرى هذا الشاعر العربي الكبير.
وفي الختام اؤكد دعمي شخصياً ودعم مجلس الوزراء للحركة الثقافية والادبية في العراق الجديد من اجل بناء الانسان وارساء دعائم مجتمع اخلاقي متطور.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.