مؤشر خطر في تلويح غلاة الأكراد بالانفصال
فهمي هويدي
من أين لمسعود البرزاني هذا الاستقواء الذي جعله يضع شروطاً لمستقبل العراق، ومنذراً بأنه ما لم يستجب لشروطه، فإن الأكراد سوف يتجهون إلى الانفصال «في الوقت المناسب»؟
هذا التساؤل يفرض نفسه بقوة بعد الخطاب الذي ألقاه رئيس إقليم كردستان أمام الجلسة الاستثنائية للبرلمان الكردي، التي عقدت في اربيل يوم السبت الماضي 6/8 وأعلن فيه صراحة «أننا لن نقبل بفرض هوية إسلامية على العراق... وليكن الجزء العربي من العراق جزءا من الأمة العربية، ولكننا لسنا جزءاً منها». وحدد خطوطاً حمراء من وجهة النظر الكردية، محذراً من التسويف أو المماطلة فيها، هي، إلى جانب موضوع الهوية، الحدود الجغرافية لكردستان، وقضية البيشمركة والموارد الطبيعية، والمادة 58 من قانون إدارة الدولة. وقد اعتبر هذه الخطوط الحمر بمثابة مطالب يتعين الاستجابة لها، وكلها تصب في هدف واحد هو التمهيد لانفصال كردستان، لأن تلك الخطوط الحمر، تعني في حقيقة الأمر الاستيلاء على كركوك المعروفة بثرائها النفطي، والاحتفاظ بجيش مستقل (تعداد البيشمركة الآن 80 ألفاً، وثمة خطة لزيادتها لتضم 300 ألف مقاتل)، وإقرار الفيدرالية بما تستصحبه من حق الاعتراض الكردي على أي تشريع يصدره البرلمان، حتى وإن كان بالأغلبية.
هذه الأفكار ليست مفاجئة، فالعراق «الجديد» قدمه لنا البعض من البداية باعتباره منخلعاً من هويته الإسلامية والعربية، وهي «البشارة» التي أطلقها نفر من العراقيين الذين أقاموا في الولايات المتحدة وجندتهم واشنطن لحسابها منذ وقت مبكر. والإضافات التي أعلنها مسعود البرزاني ترددت من قبل على لسانه، وعلى ألسنة بعض القيادات الكردية. أما ما أكسب ذلك كله إيقاعاً خاصاً فهو لهجة الخطاب ومناسبته. فقد أجمعت التقارير التي خرجت من العراق في أعقاب خطاب برزاني على أن كلامه اتسم بالتشدد، الذي أوصله إلى حد «الإنذار والتلويح بورقة الانفصال»، ذلك أنه كان واضحاً في أنه أراد أن يوجه من خلال جلسة البرلمان الكردي رسالة إلى القيادات العراقية في بغداد، خلاصتها: إما أن تستجيبوا لمطالبنا (أسماها حقوقاً أساسية)، وإما أن تفترق بنا السبل!
ولم يكن خافياً أن الجلسة الاستثنائية انعقدت في اربيل أساساً لتوجيه ذلك الخطاب الإنذاري. كما كان واضحاً أن البرزاني أراد أن يوصل الرسالة إلى عنوان بذاته في بغداد، بحيث يتسلمها ممثلو الكتل والأحزاب السياسية وهم يناقشون اللمسات الأخيرة للدستور العراقي، بعدما تسربت معلومات عن وجود نصوص في مشروع الدستور تتعارض مع المطالب الكردية، فيما يخص القضايا التي تناولها مسعود البرزاني في خطابه، واعتبرها «خطوطاً حمراء».
إن أحد الأسئلة الأولية التي يطرحها هذا الخطاب هي: إلى أي مدى يعبر مضمونه عن وجهة نظر المجتمع الكردي، وهل ذلك المضمون محل تأييد الأغلبية، أم أن تلك مطالب شريحة الغلاة بين النخبة الكردية، التي أسقطت خصومتها مع صدام حسين ونظامه البعثي على المجتمع العراقي بأسره، وعلى كل علاقة بالعروبة والإسلام، علماً بأن عناصر تلك النخبة استثمرت رصيد المشاعر القومية، ورصيد المرارة، والحزن المتراكم في الأعماق الكردية، لتأجيج الخصومة مع الإسلام والمسلمين والعرب كافة. ولا أستبعد أن تكون هناك أطراف خارجية حرصت على تأجيج تلك العلاقة، وإحداث المفاصلة مع محيطهم العربي والإسلامي بحيث تصبح كردستان العراق قاعدة تستثمرها تلك القوى الخارجية، الأميركية والإسرائيلية تحديداً، لتصفية الحساب مع العرب والمسلمين.
ولا مفر من الاعتراف بأن دعوات المفاصلة والخصومة لقيت آذاناً صاغية لدى بعض الأوساط، وساعدت معاناة الأكراد ومظلوميتهم على توفير أجواء الاستجابة لها، بل ذهب نفر من الغلاة الأكراد إلى شحن الأجيال الجديدة بمشاعر السخط والرفض لكل ما هو عربي وإسلامي. والتقارير التي خرجت من المناطق الكردية العراقية تحفل بالمعلومات التي تعبر عن ذلك السخط، حتى أن وجود العرب في تلك المناطق أصبح يستقبل باستياء مشهود. أما اللغة العربية فقد تراجع حضورها حتى أصبحت تحتل المرتبة الثالثة بعد الكردية والإنجليزية. وكان طبيعياً في ظل ذلك التراجع أن تظهر أجيال جديدة لا تتكلم العربية، وتتعامل مع العرب بحساسية مفرطة، وكأنهم مسؤولون عما حل بالأكراد من مظالم، وغير مدركة أن العرب كانوا بدورهم ضحايا للنظام البعثي، ولم تكن معاناتهم منه بأقل من معاناة الأكراد.
ليس سراً أن استقواء القيادات الكردية ما كان له أن يحدث لولا توفر أسباب ثلاثة، أولها الدعم الأميركي لها، وثانيها انهيار الدولة العراقية وضعفها، وثالثها هشاشة الوضع العربي وسقوط نظامه. غير أن هذه الظروف، إذا كانت مواتية للاستقواء، إلا أنها تظل مؤقتة وليست مؤبدة، بالتالي فإن خطاب التحذير والإملاء الذي تتبناه القيادات الكردية الراهنة له ضرره البالغ على المدى البعيد، لسبب جوهري هو أنه ليس من المتصور أن يتعايش الأكراد في سلام واستقرار مع محيط عربي وإسلامي يرفضونه أو يعادونه. ناهيك عن أن مسألة الاستقلال هذه لعبة خطرة في ظل الخرائط الإقليمية الراهنة، من شأنها أن يفتح الأبواب لفتن وحرائق في المنطقة لا يعرف مداها إلا الله.
غلاة الأكراد، الذين جاء خطاب مسعود برزاني معبراً عنهم، يبدون استعداداً مؤرقاً لممارسة اللعبة الخطرة التي تخوف منها، والتي لا نستبعد في ظلها أن يصبح الضرر الذي قد يلحق بالأكراد أكثر جسامة مما يمكن أن يصيب غيرهم، لذلك فمن المهم للغاية أن يحسبها عقلاء الأكراد جميعاً، قبل أن يدفع بهم الغلاة إلى دائرة الخطر، من جراء تهورهم واعتمادهم على عوامل تظل طارئة في كل أحوالها.
مع ظهور تلك العوامل المقلقة في الأفق العراقي، نلمح مؤشراً إيجابياً يتمثل في توافق الشيعة والسنة العرب على تأييد مواد الدستور التي تعزز وحدة الوطن العراقي، وهي ذاتها التي اعترضت عليها القيادات الكردية لأنها تقطع الطريق على احتمال انفصالهم في المستقبل، وإذ نتمنى أن يتسع نطاق التوافق بحيث يمكن التوصل إلى حل وسط يرضي كل الأطراف، بمن فيهم الأكراد، ويبعد عن البلاد شبح التقسيم ويجنبها ويلاته، إلا من أهم دلالات التفاهم الشيعي السني في موضوع الدستور، أن الطرفين أدركا أن ثمة خطراً يهدد وحدة الوطن (وهو ما لم يتحسب له غلاة الأكراد)، ومن ثم فمن الضروري أن يهب الغيورون والمخلصون لذلك الوطن لأجل الدفاع عن تماسكه وقوة لحمته.
لقد بدا حيناً من الدهر أن الحرص على المكاسب الطائفية صار شاغلا للقوى السياسية التي ظهرت على المسرح العراقي بعد سقوط النظام البعثي، وكانت هناك دلائل على أن البعض قدم الطائفة على الوطن، الأمر الذي شوه إلى حد كبير مسيرة العمل الوطني في العراق، وغذى بذات القدر النزعات العرقية والطائفية، لكن معطيات الاختيار الأخير، صوبت هذا الانحراف بصورة نسبية ونبهت الجميع إلى أهمية تقديم مصالح الوطن على مصالح الطائفة، وهو تحول مهم نرجو له أن يصبح بداية لتصويبات مماثلة يحتذيها كافة الفرقاء في الساحة العراقية، متجاوزين في ذلك الشقوق التي عمقها الاحتلال، بإلغائه في ممارساته (منذ ابتدأ بتشكيل مجلس الحكم) فكرة المواطنة العراقية، واستبدالها بالنزعات العرقية والطائفية.
ليس مطلوباً من أحد في العراق أن يتنازل عن هويته العرقية أو المذهبية، ولكن المطلوب أن يقتنع كل أحد بأن الهوية مركبة من عدة طبقات، وهذه الطبقات يثري بعضها بعضاً وتكتسب لحمتها القوية حين يقتنع كل إنسان بأنه مواطن له حق الكرامة، وأنه يستوي في ذلك مع غيره ممن يخهاتف معه في العرق أو الدين أو المذهب.
http://www.asharqalawsat.com/leader....921&issue=9752