الإستهداف الإجتماعي للرسالة (1)

يظن الكثيرون أن الرسالة الإسلامية أو غيرها من الرسالات التي أرسلها الله للبشر إنما كانت في بدايات نشأتها تستهدف الطبقة الفقيرة المعدمة دون غيرها من الطبقات في المجتمعات. وقد حسب كثيرون أن الرسالة عندما تنهض في مجتمع من المجتمعات كحركة تغيير من واقع الجهل والتخلف والخرافة إلى حقيقة العلم والوعي والتحضر فإنها كانت تستقطب الطبقات التي تقبع في أسفل السلم الإجتماعي في تلك المجتمعات من فقراء، وعبيد، مغلوب على أمرهم وما إلى ذلك. محاولة منهم بعد وصولهم إلى مرحلة اليأس القفز على حركة الرسالة كي يتخلصوا من الحال الذي يعيشون فيه إلى حال أحسن.

مع صحة هذه الفرضيات التي تستند على تحليل تأريخي للأحداث والوقائع التاريخية التي صاحبت نشأة ونهوض الرسالات، وتعاملها إجتماعياً، ومع إحتمالية صحة الفرضيات التي تقول أن الكثيرين ممن آمنوا بالرسالة الإسلامية في بداية ظهورها إنما هم أولئك الذين ينتمون إلى أسفل السلم الإجتماعي، ممن كانوا يتطلعون إلى الخلاص. إلا أن هذا التحليل الذي إستندت عليه هذه الفرضيات قد يكون ناقصاً، أو غير دقيق لأنه حلل الظاهرة بشكل سطحي دون النظر بعمق في مظاهر وفلسفة الإستهداف الذي تمارسه الرسالة تجاه أفراد المجتمع.

محاولة هذه المقاربة البحثية المقتضبة هي إستنتاج تفسير أكثر شمولية لطبيعة هذا الإستهداف الذي تمارسه الرسالة منذ نشأتها إلى مراحل تكاملها للمجتمع، وماهي الطبقة الإجتماعية، أو الفئات التي تتواجد في المجتمعات التي تركز عليها الرسالة كي تدخلها في هداها. بمعنى آخر ستحاول هذه المحاولة الإجابة على التساؤل الإجتماعي: ما هي الفئة أو الفئات التي تستهدفها الرسالة أول ما تستهدفها، وعلى اي أساس.

ومن خلال هذه المحاولة التحليلية لإستهداف الرسالة الإجتماعي للمجتمع سنخرج بنظرية تقول أن إستهداف الرسالة لأعضاء المجتمع لا يستند على مدى فقر أو غنى الفرد، كما لا يستند على الوضع الإجتماعي أو الإقتصادي للأفراد، ولا يستند على طبيعة ديموغرافية من درجة ما في هذا المجتمع. لأننا نلاحظ أن الذين آمنوا يالرسالة في لحظة نشأتها وبروزها يمثلون تنوعاً أثنياً وإجتماعياً وعشائرياً وحتى دينياً، يجعلنا نعتقد –عكس ما نشر وبحث- أن هذا التنوع يشمل فئة ذات طبيعة خاصة، فئة تكون مؤهلة لحمل هذه الرسالة، والمضي بها قدماً. هذه الطبيعة الخاصة بين أفراد هذه الفئة تجمع بينهم على أساسين، الإنسانية بمفهومها الواسع، والعقل بمفهومه المميز لهذا الإنسان.

الرسالة عندما تنشأ وعندما تنهض وحتى عندما تكتمل، فإنها تستبطن تفاهماً تاماً بين المدلول أو المداليل الإعتقادية التي تحملها وتريد إيصالها إلى المجتمع الذي تتحرك فيه بداية نشاتها، وبين الإستقطاب الذي تمارسه تجاه أفراد المجتمع، وبين الفئة التي تقرر الإنضمام إليها بإرادتها. إذ أن الفئة التي تنتمي إلى هذه الرسالة في مراحل تطورها المختلفة، ستكون مؤهلة لفهم هذه الرسالة، وحملها ، ودفعها إلى الأمام بشكل لا يخلق تعارضاً بين قيم الرسالة وبين أداء حاملي الرسالة (إن تحقق النجاح الكلي للتجربة). هذا التفاهم يعطينا فهماً واضحاً أن الرسالة سينضم إليها ذلك النوع من الناس الذين يتصفون بصفة الإحساس بإنسانيتهم أو يبحثون عنها من جهة ،وبصفة الإستخدام للعقل بدرجة مقبولة في نظرتهم للحياة وفهمها من جهة أخرى.

بكلمة أخرى فإن الرسالة عندما تنشأ، فإنها تنشأ في أغلب الأحيان كموقع تغييري هام في المجتمع، محاولاً إنتشاله من مواقع الجهل والخرافة والتخلف وإلغاء العقل والممارسات الشاذة التي تحيط بهذه المواقع إلى موقع أعلى وأسمى يعطي قيمة أعلى للعقل والتحضر والممارسات الحميدة التي تحيط بهذا الموقع، موقع إنسانية الإنسان من خلال إحترامه لعقله.

والرسالة عندما تنطلق في مجتمع، أو في قرية، أو في مدينة، فإنها تستهدف الإنسان كمحور رئيس للتغيير، الإنسان كفرد، وكعائلة، وكمجتمع، وكأمة. وسيكون هذا الإنسان بكيانه وتركيبته السيكولوجية، وبإنتمائه الإجتماعي، وبمنظومة قيمه، وعاداته وتقاليده المادة التي ستعمل الرسالة على إعادة صقلها، وتحويلها إلى كيان يضع هذا الإنسان (المرسل إليه) في موقعه الطبيعي الذي يحقق له التكامل مع الوجود الذي وجد فيه، يعيش إنسانيته من جديد، وربما يكتشف إنسانيته مر أخرى بعد أن يكتشف دور عقله في فهمه للوجود من خلال الرسالة. إذ أن الإنسان قد يفقد إنسانيته أو أجزاء مهمة منها عندما يدخل في مرحلة إلغاء العقل في النظرة والتعامل مع الحياة.

الرسالة دين العقل
نلاحظ تلازماً شديداً بين العقل والرسالة، فالرسالات السماوية تخاطب العقل البشري، تتحداه، تستجوبه، تحثه، تستثيره، وتوصله إلى حدوده القصوى في منحه فرصة التفكيرفي الوجود، والكون، والخلق. في معنى وجود هذا المخلوق البشري في هذا الوجود، وفي إكتشاف حقيقة نفسه، وطبيعة علاقته مع الخالق والمخلوقين. تتحرك الرسالة في إعطاء الفرصة لهذا العقل البشري ان يسبر أغوار الطبيعة والوجود، وأن يحاول أن يكتشف، كي يفهم سر وجوده، وكي يفهم معنى حياته في هذا الوجود المتعب. وكما تعلم الإنسان بعلمه كيف يطبق علمه في تغيير ظروف الطبيعة وتحسينها لمعيشته كإنسان، فإن هذا العلم يحتاج العقل، العقل الذي تحركه الرسالة مهيئة له ظروف تتكامل فيها الطبيعة الإنسانية السوية مع كده وكدحه في مقاومة تبعات الحياة. العقل إذن هو شيئ آخر غير العلم، وقد يمتلك الإنسان العلم، لكنه قد لا يمتلك العقل الذي يؤهله أن يكون إنساناً رغم إمتلاكه العلم. العقل إذن مرتكز أساسي في الرسالة، مرتكز يتفاعل مع العلم ومع الفطرة ومع الأخلاق، يهدي إن ترك يتفاعل بشكل طبيعي دون تدخل خارجي إلى الإيمان بالله، وإلى الإقتناع بالرسالة التي يرسلها الله إلى الإنسان، حامل هذا العقل.